الجزء الثالث

طهران، ٢٥ أكتوبر: تقول برقية من رتر، الذي كان ينتظرني، إن الفحَّامين كانوا يغادرون بيروت في يوم الحادي والعشرين. وحيث إن هذه البرقية أُرسلَت قبل أسبوع من يوم الحادي والعشرين، فما زال لا يوجد دليل على أنهم قد وصلوا إلى مارسيليا. أعتقد الآن أن عليَّ الانتظار هنا حتى يصلوا، أو حتى أسمع أنهم لن يصلوا أبدًا. لكنها مضيعة موجعة للوقت عندما يكون الشتاء وشيكًا.

إننا نعيش في كوك دور، هو نُزُل يملكه السيد والسيدة بيترو، ويعجُّ بحيواناتهما الأليفة. كان بيترو طاهيًا لدى السفير الياباني، وبدأ حياته المهنية صبيَّ طبَّاخ لدى اللورد ديربي في باريس. عائلة دي باث موجودة هنا أيضًا، برفقة كاراجوزلو، كلب الرعي الخاص بهم.

ذهب كريستوفر إلى دار الرعاية، حيث ضُمِّدت ساقاه بضِمادات جبسية. يجب عدم تحريكها لمدة عشرة أيام، وحتى حينئذٍ قد تستغرق القروح شهرًا قبل أن تلتئم. إن براغيث أذربيجان عدوٌّ مريع.

ذهبت إلى جُلِستان، حيث يعقد الشاه الجلسات العامة، في مكانٍ خيالي يحوي بلاطًا عجيبًا من القرن التاسع عشر وهوابطَ من زجاج مصقول. عرش الطاووس ملائم جدًّا لمحيط كهذا، غير أن النقش البارز المرصَّع والمطلي لأسدٍ أسفل المقعد يبدو قديمًا بما يكفي لأن يكون قد شكَّل جزءًا من العرش الأصلي الذي كان في دلهي. يوجد عرشٌ آخر، جلبه القاجاريون من شيراز، وهو محفوظ في نوع من قاعات الدُّربار (بلاط ملكي بالفارسية) المفتوحة على الحديقة. يأخذ هذا العرش شكل منصة قائمة على تماثيل، ومحفورة من رخام أو حجر صابوني شبه شفَّاف بالألوان الأصفر والرمادي والأخضر، ومُذهَّبة في بعض المواضع. على المنصة، أمام كرسي الشاه، توجد بِركة ماء صغيرة.

figure
خريطة شمال بلاد فارس.
طهران، ٦ نوفمبر: ما زلنا هنا.

لم يصل خبرٌ من الفحَّامين. غير أن آخر مرسال من بغداد جلب شائعةً تقول إن العربات قد تعطَّلت أخيرًا. بينما تقول قصاصة من صحيفة «ذا تايمز» إن الكولونيل نويل قد انطلق من لندن إلى الهند في سيارة رولز رويس تعمل بجهاز الفحم نفسه. لا بد أنه قد طالَع خبر الرحيل الأول للحملة في صحيفة «ذا تايمز»، وظن أنه إثبات كافٍ على سلامة الاختراع. حظًّا سعيدًا له!

في حالة من اليأس، كِدت أشرع وحدي في رحلتي إلى أفغانستان منذ يومين. وتخطيت ذلك بشِقِّ الأنفُس.

عرَّفني وادسورث، القائمُ بالأعمال الأمريكي، بفاركوهارسون. رأيت رجلًا ذا ملامحَ غير جذَّابة، بفكَّين بارزين هزيلين، وشعرٍ نامٍ إلى موضع على قصبة أنفه. ومن فمه صدرت نغمة أنين. ومع ذلك ارتأيت أنه يجب على المرء مسايرة الأمور. الآن بعد أن أصبح كريستوفر طريحَ الفراش، سيكون من الصعب أن أجد أحدًا آخر لأسافر معه.

أنا : «سمعت أنك تفكِّر في الذَّهاب إلى أفغانستان. ربما يمكِننا أن نترافق، إن كنتَ حقًّا …»
فاركوهارسون : «في الواقع يجب أن أوضِّح لك بادئ ذي بدء أنني هنا في رحلةٍ عاجلة «جدًّا» (بنطقه الطريف لكلمة جدًّا). لقد قضيت بالفعل يومين في طهران. يقولون لي إنني يجب أن أرى عرش الطاووس، أيًّا ما كان. لا أعرف إن كنت متحمسًا جدًّا لرؤيته. بصراحة لست مهتمًّا برؤية أشياء. أنا مهتم بالتاريخ. أنا مهتم بالحرية. حتى في أمريكا، لم تعُدِ الحرية كما كانت. أتمنَّى أن تستوعب بالطبع أن وقتي مضغوط «جدًّا». لم يكن والداي متشوقَين أن أذهب في هذه الرحلة. فقد أسَّس والدي مؤخرًا شركة إعلانات في ممفيس‎، وقال إنه يأمُل أن أعود للديار بحلول أعياد الميلاد. ربما سأبقى حتى يناير. يعتمد الأمر على الكيفية التي ستسير بها الأمور. لدينا الرحلة الجنوبية، التي تتضمَّن قضاء يوم في أصفهان، وآخر في شيراز. ولدينا تبريز. وأفغانستان. في الواقع، إن أمكن، أود أن أذهب إلى أفغانستان. خُططي ليست ثابتة. لم أكن متأكدًا حتى، عندما غادرت البلاد، أنني سآتي إلى بلاد فارس. قال لي الناس في الولايات المتحدة إنها خطِرة. ويقول الناس هنا بالأمر نفسه عن أفغانستان. ربما يكونون على حق. أشكُّ في ذلك. لقد سافرت كثيرًا. لا توجد دولة أوروبية لم أزُرها، بما في ذلك أيسلندا، وباستثناء روسيا. وقد نِمت ذات مرة في مصرف مياه في ألبانيا. بالطبع لم يكن ذلك صعبًا «جدًّا»، ومع ذلك تحدَّثت عنه بعدها في ممفيس كثيرًا. لذلك، إن أمكن، أودُّ الذهاب إلى أفغانستان. ولكن لا يسعني سوى القيام برحلة سريعة «جدًّا». ربما نصل إلى كابول، وربما لا. إنْ فعلنا ذلك، فربما أستأجر طائرةً للعودة إلى هنا. لست متشوقًا لرؤية الهند حاليًّا. إنها مكان كبير وأنا أدَّخره لخريفٍ آخر. قضيت بالفعل يومين في طهران. وقد كان هذان اليومان مشحونين في الأساس بأحداثٍ اجتماعية. لقد استمتعت بهما. غير أن هذا ليس ما أتيت من أجله. أنا هنا، كما تعلم، للقيام برحلة سريعة «جدًّا». الآن، إذا أمكن الذهاب إلى أفغانستان، أود الانطلاق غدًا. أعطاني السيد وادسورث، وهو من ممفيس أيضًا، خطابًا للسفير الأفغاني. عندما أضعته أعطاني واحدًا آخر. لقد مررتُ هذا الصباح، لكن السفير لم يتمكن من مقابلتي. فقد كان معه بعض السيدات. قابلت سكرتيرًا بدلًا منه، ولكنه لم يكن يتحدث الإنجليزية، ولغتي الفرنسية لا تتعدى ما تعلمته في الكلية؛ لذلك لم نخُض في حديث مطول «جدًّا». ربما أحصل على التأشيرة، وربما لا. أيًّا كان الأمر، أود أن ننطلق صباح الغد. فكما تعلم، أنا هنا في رحلةٍ سريعة «جدًّا».»
أنا : «كنت سأقترح أنه إذا كنت تريد صحبة، فربما آتي معك وأشاركك النفقات. سيُناسبني ذلك؛ لأنني لا أستطيع تحمُّل تكلفة استئجار سيارة وحدي.»
فاركوهارسون : «يجب أن أعترف أنني لا أعاني تحديدًا صعوبةً مالية. وفي الوقت نفسه، أعمل كشأن الجميع في الولايات المتحدة. الأمر يختلف عندكم في أوروبا. ولكن هناك، ليس لدينا طبقة مرفَّهة. فالكل يعمل، حتى إن لم يكن مضطرًّا لذلك. فستتأذى اجتماعيًّا إن لم تعمل. لقد ادخرت أربعة آلاف دولار لهذه الرحلة. ولكن هذا لا يعني أنني متلهِّف كثيرًا لإهدار المال. أتوقَّع أنه يمكنني «تحمُّل» نفقات الذهاب إلى أفغانستان إن كان بوسعي أن أوفِّر الوقت لذلك. فكما تعلم، أنا هنا في رحلة سريعة «جدًّا».»
أنا : «إذا كان بإمكانك أن تخبرني بدقةٍ كم تريد أن تقضي في الرحلة، فربما يمكننا التخطيط للأمر.»
فاركوهارسون : «حسب الظروف.» (يكرِّر كلَّ ما سبق أن قاله بإسهاب أكثر.)

في النهاية ذهبت بنفسي إلى السفارة الأفغانية، لأرى إن كنت سأستطيع مساعدة فاركوهارسون في طلبه للحصول على التأشيرة. في نفس الوقت، رتَّبنا أن نلتقي في اليوم التالي. جاء إلى كوك دور بينما كنت أنا وكريستوفر نتناول الغداء مع هِرتسفلد، الذي كان قد عاد لتوه من أوروبا.

فاركوهارسون (بأنفاسٍ لاهثة، وهو يتبختر عابرًا غرفة الطعام) : «أعتقد أن خُططي قد اتخذت منحًى أفضل. لم أحصل على التأشيرة بعد. ولكن أظن أنني سأحصل عليها. الآن، ثَمَّة أمرٌ أو أمران أنا متلهِّف «جدًّا» لأن أناقشهما معك …»
أنا : «هل لي أن أعرِّفك على البروفيسور هِرتسفلد؟»
فاركوهارسون : «… أنا سعيد «جدًّا» بمقابلتك، يا سيدي. كما تعلم، أنا هنا في رحلة سريعة «جدًّا»، وكنت سأقول …»
كريستوفر : «ألن تجلس؟»
فاركوهارسون : «كنت سأقول، بادئ ذي بدء، إنني متشوق جدًّا لأن ننطلق صباح غد إن أمكن. بالطبع لن يكون ذلك ممكنًا. ولكن إن كان كذلك، فتلك خطتي.»
هِرتسفلد (محاولًا تبديد الملل) : «أرى أن لديك ثعلبًا مروَّضًا في الفناء هنا.»
كريستوفر : «كان يوجد أيضًا خنزير بري. لكنه قُتل لأنه كان يذهب إلى أسرة الزبائن وهم نيام. لم تتمكن السيدة بيترو من استيعاب الأمر، وتساءلت عن سببِ انزعاجهم إن كان كلُّ ما يريده هو حكَّ بطنِه. لكنهم قتلوه، وكان ذلك نهاية الأمر.»
أنا : «يذهب الثعلب للأسِرَّة أيضًا ويبلِّلها.»
فاركوهارسون : «بالطبع هذا مُسلٍّ جدًّا، وإن كان يؤسفني أن أقول إنني لم أفهم المزحة. الآن، ثَمَّة أمر أو أمران أنا متلهِّف «جدًّا» لأن أناقشهما معك.»
هِرتسفلد : «لديَّ قنفذ في برسبوليس. إنه مستأنس جدًّا. يغضب إذا تأخَّر الشاي دقيقةً واحدة، وتقف أشواكه، ماذا تُسمونها، ريشاته.»
فاركوهارسون : «ثَمة أمر أو أمران أنا متلهِّف «جدًّا» …»
هِرتسفلد : «وهو أيضًا يستخدم دورة المياه كالبشر. ويكون عليَّ انتظاره كل صباح. جميعنا علينا انتظاره.»
فاركوهارسون (بفتور) : «ذلك مثير للاهتمام للغاية، مع أنه يؤسفني أن أقول إنني لم أفهم الأمر جيدًا. والآن ثَمَّة أمر أو أمران …»
أنا : «من الأفضل أن نذهب إلى غرفتي.» (نذهب بالفعل.)
فاركوهارسون : «ثَمَّة أمر أو أمران أنا متلهِّف «جدًّا» لأن أناقشهما معك. أريد أن أوضِّح أنني إذا ذهبت إلى أفغانستان، فسيكون عليَّ القيام برحلة سريعة «جدًّا». الآن، أريد الحديث بصراحة كبيرة. أنت لا تعرفني وأنا لا أعرفك. أظن أننا سنكون على وفاق. آمُل ذلك. ولكن يجب أن نحاول توضيح الأمور مسبقًا. لقد دوَّنت بعض النقاط على قصاصة، وسأقرؤها عليك فحسب. أول تلك النقاط أسميتها العلاقات الشخصية. لقد سافرت عدد مرات لا يُستهان به. ومن ثَم أعلم أن السفر يُظهر أسوأ ما في البشر. على سبيل المثال، لديَّ أخ في ممفيس. وهو مُولَع بالموسيقى جدًّا. وأنا لست مولعًا بالموسيقى. كنا معًا في باريس. بعد العشاء كان يذهب لحفل موسيقى. ولم أكن أذهب. أنا أحب أخي، ولكن مع ذلك من المرجَّح أن تنشأ بعض خلافات أكيدة جدًّا من هذا القبيل. أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني. قد نواجه صعوبات، فربما نمرض. وفي المرض، لا يمكننا أن نتوقَّع أن نكون مبتهجين. وإنما أظن أنه علينا أن نتذكَّر مسألة العلاقات الشخصية هذه. النقطة الثانية أسميتها السياسة. سأتحدَّث بصراحة كبيرة «جدًّا». وقتي مضغوط، كما تعلم، وإذا ذهبنا إلى أفغانستان معًا، كما آمُل أن نفعل، أريد أن أوضح أنه يجب أن تكون لديَّ السيطرة على هذه الرحلة. لذلك أطلقت على النقطة الثانية اسم السياسة. إذا قررتُ أنني لا أريد أن نذهب إلى أي مكان، فعندئذٍ لن نتمكَّن من الذهاب إليه. سأفعل ما في وُسعي لتلبية رغباتك. سأحاول أن أكون عادلًا. أظن أنني سأكون عادلًا. السيد وادسورث، الذي ينتمي هو الآخر إلى ممفيس، يعرف عائلتي، وأظن أنه سيخبرك أنني غالبًا ما أكون عادلًا. ولكن يجب أن أكون القائد سياسيًّا. النقطة الثالثة هي الأمور المالية. نظرًا لأن لي سلطةً كبيرة على هذه الرحلة، فأنا مستعِد لدفعِ ما يزيد قليلًا على نصف ثَمن استئجار السيارة. ولكنك تدرك أن وقتي مضغوط، وعليَّ أن أقوم برحلة سريعة «جدًّا»، ومن المحتمل أنني قد أذهب مباشرةً إلى الهند وآخذ قاربًا من هناك. الآن أعي مما قلتَ أنك تواجه صعوبةً مالية. ولا يمكنني أن أترك رفيق سفر عالقًا في الهند. لذلك، قبل أن نشرع في السفر يجب أن أضمن أن لديك المال الكافي للعودة إلى بلاد فارس، ويجب أن أرى الأوراق المالية التي بالفعل بحوزتك …»
أنا : «ماذا؟»
فاركوهارسون : «يجب أن أرى الأوراق المالية التي بالفعل بحوزتك …»
أنا : «إلى اللقاء.»
فاركوهارسون : «… قبل أن تغادر، كي يكون بوسعي أن أتأكد تمامًا من أنه يمكنك أن تتدبَّر أمرَ نفسك في حال …»
أنا : ««اخرج»، إن لم تكن أصمَّ.»

لاذَ فاركوهارسون بالفِرار. وفي طريق خروجه، هُرع إلى هِرتسفلد وكريستوفر، وصافحهما بحرارة. «أنا سعيد جدًّا بمقابلتكما. وداعًا. يجب أن أرحل. فكما تعلمان، عليَّ القيام برحلة سريعة «جدًّا» …»

فعل ذلك. وكنت في عَقِبه. ليس لأنني كنت سألمسه دون قفازاتٍ مطاطية وزجاجة مطهِّر. ولكن كان من الميسور تهديده. فقد رأيته يرتدي ثيابَه في اليوم السابق، ولاحظت ضعفًا كبيرًا «جدًّا» في النمو العضلي.

طهران، ٩ نوفمبر: ما زلت هنا.

اغتيل الملِك نادر شاه في كابول.

وصلَت البنك في الصباح إحدى شائعات البازار، وكان مفادُها أن غازي ملِك العراق قد مات. سمعت المفوضية بالحقيقة في الساعة الواحدة. وأكَّدتها وكالةُ رويترز في المساء. كانت حكومة الهند في حالةٍ هستيرية. لا توجد أنباء على الإطلاق من أفغانستان نفسها. ولكن سواءٌ حدث اضطراب أم لا، حدثٌ كهذا سيجعل رحلتي أصعب؛ هذا إن استطعت الشروع فيها من الأساس.

أتى أحد القادة البختياريين، وهو صديقٌ قديم لكريستوفر، لتناول العشاء معنا في غرفةٍ خاصة. طالبنا بالتكتُّم لأن التواصل مع الأجانب يشكِّل خطرًا على شخصٍ ورِث منصبَ خان قبيلة. في الواقع، يتحفظ مارجوريبانكس على جميع هؤلاء الزعماء في نوع من الأَسر غير الرسمي. يمكنهم العيش في طهران وتبذير الأموال هناك. ولكن لا يمكنهم الرجوع إلى منطقتهم البختيارية. مارجوريبانكس في رعب من القبائل، ويحاول كسر شوكتها بتوطينها في قرًى تحت سيطرة الشرطة وحرمانها من قادتهم. كثيرًا ما كانت تُنجِب ملوكًا في الماضي.

تحدَّث ضيفنا بتوجُّس من المستقبل. وقال إنه كان مستسلمًا للأمر. لطالما كانت بلاد فارس على هذا الحال. والشيء الوحيد الذي يمكن فِعله هو التحلي بالصبر حتى يموت الطاغية.

طهران، ١١ نوفمبر: السبت. ما زلت هنا.

قرَّرت المغادرة يوم الثلاثاء. يوم الإثنين، وجدت سيارةً من نوع موريس معروضة للبيع بسعر ٣٠ جنيهًا إسترلينيًّا. بدت صفقةً جيدة. في الواقع، تصوَّرت حقًّا أنها ستمكِّنني من المغادرة في اليوم التالي.

غير أن تسلسُل الأحداث، الذي بدأ بعد ذلك، مِن تملُّك السيارة، والحصول على رخصة لقيادتها، والحصول على إذْن بالإقامة في بلاد فارس بأي شكل من الأشكال، والحصول على إذْن بالذَّهاب إلى مدينة مشهد، والحصول على خطاب إلى حاكم مشهد، والحصول على خطاباتٍ أخرى موجَّهة إلى حكام المناطق التي سأمرُّ بها في طريقي، أضاع أربعة أيام. قيل عني إنني «متمرِّد على القانون»؛ لأنه لم يكن معي بطاقة هوية. وللحصول على واحدة، زوَّدتُ سجلات الدولة بسِر مكان ميلاد أمي، في ثلاث نسخ. في تلك الأثناء، كان مالك السيارة قد غادر طهران، مانحًا توكيلًا لمحامٍ طاعن في السن يرتدي مِعطفًا يصل إلى أسفل الركبة من التويد الوردي. أُبرِمت صفقة، وصُدِّق رسميًّا على التوقيعات، لكن الشرطة رفضت تسجيلَ المعاملة، فمع أن التوكيل الممنوح للمحامي امتدَّ ليشمل جميعَ ممتلكات موكِّله، فإنه لم يَرِد ذِكرُ سيارة موريس في قائمة تلك الممتلكات. أُبطل هذا القرار، على إثر التماس ضابطِ شرطة ذي رتبةٍ أعلى، أخبر مرءوسَه بالحقيقة عبْر الهاتف. ولكن عندما رجعنا إلى قسم الشرطة الآخر، على بُعد ٣٠٠ ياردة، لم يكن لديهم أي علم بذلك. وسئلت الأقسام المجاورة إن كانت قد وصلتها الرسالة. في النهاية، تذكَّر أحدٌ ما أن الشخص الذي لا بد أن يكون قد تلقَّى المكالمة الهاتفية قد خرج. أنعم علينا الرب؛ إذ قابلناه في الشارع وتبِعناه إلى مكتبه. أزعجه هذا. قال إنه لن يفعل شيئًا دون نسخة من التوكيل. وطلب منا أن نتركه وشأنه حتى تكون جاهزة. غادر المحامي وهو يعرج لشراء ورقة فارغة. لجأنا نحن، ابن المالك وصاحب المرأب وأنا، إلى رصيف الميدان الرئيسي، وجلسنا القرفصاء حول الكاتب المسن العبوس بينما كانت نظارته ساقطة عن أنفه، وقلمه يُخرِّم الورقة حتى بدت مثل قالب رسم. لم يكن قد انتهى من كتابةِ جملةٍ واحدة حين طلبت منا الشرطة أن نمضي من هذا المكان، ولم يكن قد شرع في جملةٍ أخرى حين طالبتنا بذلك ثانيةً. مثل مستعمرة ضفادع حائرة، تحرَّكنا مسرعِين في أنحاء الميدان، مدوِّنين كلمة خاطفة هنا وهناك، بينما كان الغسق يزداد إعتامًا. عندما قُدمت النسخة، تعيَّن نسْخها مرة أخرى، في المكتب. كان الحال في الميدان أفضل من هذا؛ فقد انقطعت الكهرباء في المكتب، وكان يجب إشعال أعواد الثقاب بكميات جعلت أناملنا تحترق. ضحكت، وضحك الآخرون، كما ضحك الشرطي كالمجنون، ولكن أصبح جادًّا فجأة، وقال إن شهادة الملكية لا يمكن مع ذلك أن تكون جاهزة إلا بعد ثلاثة أيام. ولكن ساعة من الجدال أسفرت عن وعد بأن تكون جاهزة في صباح اليوم التالي. في صباح اليوم التالي ذهبت بحثًا عنها، ومجددًا قالوا لي بعد ثلاثة أيام. ولكن حينئذٍ، نظرًا لأنني كنت وحدي، كانت لديَّ ميزة أن أتحدث الفارسية بما يكفي لأن أقول ما أريد، ولكن ليس بما يكفي لفهم الرفض. ذهبنا مرةً أخرى عبر الشارع في حشد إلى الضابط. هُرع الرجال من غرفة إلى أخرى. ودمدم الهاتف. وأُصدِر المستند. دعوني أُضِفْ أن كل هذا لم يكن سوى واحد على عشرة، مجرد عينة، مما لاقيته خلال هذه الأيام الأربعة الأخيرة.

تاريخ صنْع السيارة هو عام ١٩٢٦، وكان محرِّكها يحتاج إلى بعض العناية. بعد اختبارها أمس، اقترحت أن ننطلق في السادسة من صباح اليوم. ولكن في نهاية الاختبار، كانت البطارية قد تعطَّلت. سأغادر في منتصف اليوم، وآمُل أن أصل أميرية الليلة، حيث توجد أسوأ الممرات الجبلية لكنني سأتجاوزها.

وصلت مجموعة نويل ليلة أمس في سيارتين رولز رويس. تخلَّصوا من جهاز الفحم في دوفر. يقولون إن الفحَّامين الأصليين قضَوا خمس ليالٍ في الصحراء بين دمشق وبغداد، وكسروا طرفين كبيرين لعمودَي توصيل في المحرِّك، وجارٍ إصلاحهما الآن. ما زلت غير متأكد من مجيئهم إلى هنا. ومن المستحيل الانتظار اعتمادًا على الحظ. فقد تُغلَق الممرَّات الجبلية في أي يوم بعد اليوم الخامس عشر من الشهر.

آينه ورزان (٥٠٠٠ قدم تقريبًا)، لاحقًا في الساعة ٧:٣٠ مساءً: تعطَّل محور الدوران الخلفي للسيارة، على مسافة ستة أميال من طهران.

صاح الشرطي عند بوابة المدينة: «إلى خراسان! إلى خراسان!» شعرت ببهجةٍ رائعة والسيارة تتقدَّم عبر ممرات البُرز محدِثةً ضجةً وصخبًا. أثناء الصعود والهبوط، كان المحرِّك دائمًا على تُرس النقلة الأولى؛ فهذا وحده يمكنه أن يحمينا من الإسراع، للخلف أو للأمام كما يقتضي الحال، فوق المنعطف الحاد الأخير أو التالي.

دفع سبعة من الفلاحين، وهم ينشدون، السيارة صعودًا إلى سقيفة في هذه القرية. الخسارة فادحة. لكنني لن أعود إلى طهران.

شاهرود (٤٤٠٠ قدم)، ١٣ نوفمبر: وصلت حافلة في الصباح التالي إلى آينه ورزان، وكانت ممتلئة بحجيج من سيدات في طريقهن إلى مشهد. أيقظتني ثرثرتهن في الفناء بالأسفل. بعد خمس دقائق، كنت بجوار السائق، وكانت أمتعتي أسفل السيدات.

من الممر الجبلي فوق أميرية، نظرنا خلفنا إلى صفٍّ مرتفع من القمم، سلاسل، ونتوءات الشكل المخروطي الأبيض لجبل دماوند في عَنان السماء، وأمامنا إلى سهلٍ لا حدَّ له، حيث تتموج الجبال إلى أعلى وتنحسر كموجة مد وجزر، معتِمة هنا ومشرِقة هناك، بينما تبِعت الظلال وسطوع الشمس سادتهما السُّحب عبر ساحة اليابسة. عرَّشت أشجار الخريف صفراء الأوراق على أهل القرية المنعزلين. كل مكان آخر كان عبارة عن صحراء؛ صحراء شرق بلاد فارس الصخرية السوداء اللامعة. في مدينة سمنان، بينما كانت السيدات يشربن الشاي في خان مسافرين من القِرْميد، سمعت عن مئذنة قديمة، وعثرت عليها قبل أن تعثر عليَّ الشرطة. عندما عثرت عليَّ ذقتُ علقمًا، كما يقولون؛ لأنني لن أتمكن من المكوث أكثرَ من ذلك في مدينتهم الجميلة، ومضينا بالسيارة مبتعدين نحو الغسق. قال السائق، الذي كان زنجيًّا، عارضًا سعرًا نمَّ عن مودة: «تعالَ معنا إلى مشهد.» بعناد، ترجَّلت في مدينة دامغان.

يوجد في ذلك المكان بُرجا دفنٍ دائريان، عليهما كتابات منقوشة، ومؤرَّخان بأنهما بُنيا في القرن الحادي عشر، وهما مشيَّدان بقِرْميد رفيع بلون القهوة بالحليب لكنه ليس مُملَّطًا بإحكام. يوجد مسجد مهدَّم أقدم منهما، يُعرف باسم تاريخ خانة أو «بيت التاريخ»؛ وتستحضر أعمدته الدائرية القصيرة إلى الذاكرة كنيسةً في قريةٍ إنجليزيةٍ من حِقبة النورمان، ولا بد أن هذه المباني قد ورِثت عمارتها الرومانسكية غير المتوقعة من التراث الساساني. فقد استمدت العمارة الإسلامية كلها من هذا التراث بمجرد أن غزا الإسلام بلاد فارس. ولكن من المثير للاهتمام أن ترى العمارة وقد بدأت في تلك الصورة الأولية، قبل أن تكتسب قيمتها الفنية.

بدأ أفراد الشرطة، الودودون، يصابون بالإغماء من فرط الجوع عندما تركتهم بالخارج إلى ما بعد وقتِ غدائهم. في ساعة متأخرة من العصر، أقبلت شاحنة من الغرب، ودفعوني إليها؛ إذ كانت أملهم الوحيد في أن يحصلوا على وجبة في ذلك اليوم. وصلنا شاهرود في الساعة الثامنة، ومن المقرَّر أن نغادر في منتصف الليل.

أبى ذلك البنَّاء الباهر، خان المسافرين الفارسي، أن تطيح به وسائلُ النقل الحديثة. المرائب في كل مكان بالتأكيد. ولكنهم يعيدون إنتاج التصميم القديم. وهذا يتكوَّن من ساحةٍ رباعية الزوايا، في حجم كلية أكسفورد، ومحصَّن بأبوابٍ ضخمة. بالقرب من الأبواب، بجوار المدخل المقوَّس، توجد غرفٌ لطهي الطعام، وتناوله، والنوم الجماعي، والمعاملات التجارية. وحول الجوانب الثلاثة الأخرى، توجد صفوف من غرف صغيرة، تشبه قلايات الرهبان، وأماكن إيواء للخيل والسيارات. تختلف مستويات وسائل الراحة. فهنا، في مرأب ماسيس، لديَّ سرير بزنبرك، وسجادة، وموقد؛ وقد أكلت دجاجةً غضة، وأتبعتها ببعض العنب الحلو المذاق. لم يكن يوجد أي أثاث على الإطلاق في دامغان، وكان الطعام كُتلًا من الأرز البارد.

نيسابور (٤٠٠٠ قدم)، ١٤ نوفمبر: يمكن للمرء أن يصبح خبيرًا في أي شيء. لم يكن في بلاد فارس كلها من قبلُ شاحنة كالتي ركبتها من دامغان؛ فقد كانت من نوع ريو سبيد واجون وجديدة تمامًا، وقادرة في رحلتها الأولى على قطع خمسة وثلاثين ميلًا في الساعة على الأرض المستوية، بعجلات مزدوجة، ومبرِّد محرِّك قوي، وإنارة في مقصورة السائق. يسجِّل محمود وإسماعيل وقتًا قياسيًّا من طهران إلى الحدود الهندية. يسألونني عن صحتي كل خمس دقائق، ويريدان أن أذهب إلى دوزداب مباشرةً معهما.

اخترق الفجر الليلة العاصفة الممطرة كابتسامة مِن على حبل المشنقة. تناولت بعض الجبن، والجانب الآخر من صدر الدجاجة التي قُدِّمَت لي في شاهرود. لاحت شجرتا صفصاف قصيرتان وصالة شاي في الصحراء الكثيرة الضباب. دخل محمود وإسماعيل لإلقاء التحية على رفقاء الطريق الآخرين. غفوت حيث كنت جالسًا.

في مدينة عباس‌ آباد تجمَّعنا حول النار، بينما كان أهل المكان يحاولون أن يبيعوا لنا الخبز ومباسم السجائر والنرد المصنوع من حجر رمادي مخضَّر ناعم. كانوا يرتدون قمصانًا روسية قرمزية، وهم ينحدرون من المستعمرين الجورجيين الذين وطَّنهم هنا شاه عباس. ثم تابعنا المضي، في مواجهة الرياح والأمطار، عبر الأراضي الجبلية الرمادية القاحلة. تتحرك السُّحب الرمادية الشبيهة بمناطيد زِبلين مسرعةً على ارتفاع منخفِض. والقرى القليلة الرمادية خاوية من الناس. محتشدةً حول قلاعها الخرِبة، تتلاشى في المطر تلك الأشكال القديمة، القبَّة الشبيهة بخلية النحل والزقُّورة (الزقُّورات، التي يقع معظمها في بلاد ما بين النهرين، هي عبارة عن معابد مدرجة كانت تُبنى في سوريا والعراق ثم إيران). وهي تتلاشى على هذا النحو منذ فجر التاريخ؛ وعندما يأتي الصيف، ستنهض من جديد بقِرْميد طيني جديد حتى يغلِق كتاب التاريخ صحائفه. تمضي تيارت في سيلٍ أرجواني عبر الطرق ذات الجدران إلى الحقول، وخارجًا إلى الصحراء. المسار نفسه يصبح مجرًى مائيًّا. في إحدى الليالي، فقدت أشجار الحَوْر أوراقها، بينما احتفظت أشجار الدُّلْب بأوراقها ليومٍ آخر. تتمايل صفوف من الجِمال بمحاذاتنا، حيث يجلجل جرس الجمل وهو آتٍ، وعندما يجلجل مرة أخرى يكون قد اختفى. يمضي الرعاة بأرديتهم الفضفاضة البيضاء في طريقٍ متعرجٍ عبر العاصفة وراء القطعان التي ترعى على الحصى. تعلن الخيام السوداء وقبَّعات الصوف السوداء عن وجود التُّركمان واقتراب آسيا الوسطى. إذَن، هذا هو الطريق الذهبي. منذ ثمانية قرون، شهدت مئذنة خسروجرد رحلات التجار كما تشهد الآن مرورنا. تقع سبزوار على بُعد ميلين. يُقدِّم خان المسافرين الكباب وخُثارة اللبن والرمان وزجاجة من نبيذ الكلاريت المحلي.

بُعَيد حلول الظلام، انطفأت أنوار الشاحنة. ولم يكن مع مُحطِّمَي الرقم القياسي الضعيفَين، محمود وإسماعيل، عود ثقاب ولا فتيل. كان معي الاثنان، ولكن لم يكن من السهل إصلاح العُطل، وبدلًا من الوصول إلى مشهد، كان علينا أن ننصب خيامنا هنا.

يا للهول، إنه مسقط رأس عمر الخيَّام.

مشهد (٣١٠٠ قدم)، ١٦ نوفمبر: تبلغ المسافة من نيسابور إلى مشهد تسعين ميلًا. افترضتُ أنني سأكون هنا بحلول الظهر.

لكن شاحِنتي السبيد واجون الجميلة لن تتمكَّن من الذهاب، ولم أتمكَّن من إيجاد مقعد في حافلة حجاج بريطانية من طراز بيدفورد إلا في الساعة التاسعة. في قدم كاه، على بُعد ستة عشر ميلًا على الطريق، توقَّف السائق بلطف بينما مشيت إلى الضريح. بُني هذا المُثمَّن الصغير الجميل، الذي تعلوه قبَّة بصلية الشكل، في منتصف القرن السابع عشر، وهو يُخلِّد ذكرى مكانٍ استراح فيه الإمام الرضا. ويقوم على منصةٍ أسفل جُرف صخري، تحيط بها أشجار الصَّنَوبر المظلية الطويلة والمجاري المائية المترقرقة. سقطت أشعة الشمس على البلاطات، التي تلألأت بالألوان الأزرق والوردي والأصفر في مقابلة الاخضرار الداكن لأوراق الأشجار والسماء المكفهرَّة. سأل سيدٌ مُلتحٍ يرتدي عمامةً سوداءَ أن نعطيه مالًا. واقترب الرجل الأعرج الأعمى، وهو يتقافز ويطرق بعكازه على الأرض، بسرعة مروِّعة. ففررت عائدًا إلى الحافلة.

كانت تلك العربة تحمل ضعف العدد المناسب لها أن تحمله من الركَّاب، بالإضافة إلى أمتعتهم. مبتهجًا بفكرة اقتراب رحلته من نهايتها، اندفع السائق بالعربة ينزل التل بسرعة أربعين ميلًا في الساعة، مترنحًا عبر قاع مجرًى مائي، وبعدما كان قد ارتفع لتوه على المنحدر المقابل، أذهلني أن أرى العجلة الأمامية المخلوعة تجري للخلف تجاهي، وتسحق درجةَ الصعود الجانبية، وتهرُب إلى الصحراء. سأل السائق ممتعضًا: «هل أنت إنجليزي؟ انظر إلى ذلك.» كان ثَمَّة كسر بمقدار بوصة في الفولاذ البريطاني.

استغرق الأمر ساعةً ونصفًا لتركيب مفصلة أخرى. احتشد الحجيج وهم يولُّون ظهورهم للريح، الرجال متدثِّرون بجلود الغنم الصفراء، والنساء محتجباتٌ بستائر سوداء. نالت ثلاث دجاجات، كانت مربوطة إحداها بالأخرى من أرجلها، حريةً مؤقتةً. لكن قرقرتها دلَّت على أملٍ ضعيف. عندما انطلقنا مرةً أخرى، كان يتملك السائقَ شعورٌ بالشلل نابع من الحذر. واصل السير بالعربة بسرعة خمسة أميال في الساعة، متوقِّفًا عند كل خانِ مسافرين لإنعاش أعصابه بتناول الشاي، حتى وصلنا أخيرًا إلى ممرٍّ صغير ومشهد جديد.

أحاطت بالأفق صفوفٌ من الجبال المضاءة بالنار. وكان الليل وسُحبٌ متموِّجة يتقدمان من جهة الشرق. بالأسفل في السهل، دلَّت غشاوة من دخان وأشجار ومنازل على ظهور مشهد؛ المدينة المقدَّسة لدى الشيعة. ومضت قبَّةٌ ذهبية، ولاحت قبَّة زرقاء، من الضباب الخريفي البارد. قرنًا بعد قرن، منذ دُفِن الإمام الرضا بجوار الخليفة هارون الرشيد، كان هذا المشهد ينعِش أنظار الحجيج والتجار والجيوش والملوك والمسافرين الذين أعياهم مرأى الصحراء؛ ليصبح الأمل الأخير لعشرات من الركاب الحانقين في حافلة معطوبة.

ميَّز عدد من الركائم الموقعَ المقدَّس. نزل الحجيج الذكور للصلاة، مُولِّين ظهورهم لمشهد ووجوههم لمكة. ونزل السائق لجمعِ أُجرته، ونظرًا لأن الأزواج كانوا مشغولين، فبحكم الضرورة توجَّه نحو زوجاتهم. صدرت صيحةُ اعتراض، تعالت في غضب واستمرار حتى بلغت ذروتها، فنسفت لحظةَ تقديم الشكر. واصل الأزواج الأتقياء صلاتهم، وهم يضربون جبهاتهم في الركائم، ويجرحون أقدامهم المرتدية الجوارب، ويجيشون بالتنهُّدات رافعِين الأنظارَ تتَّجه أعينهم نحو السماء، في عزمهم على تأخير الحساب الذي لا مفرَّ منه. تقافز السائق ومساعده حول الحافلة، يصدُّهم المحتالون المُقَلنَسون في قفصهم المصنوع من الأسلاك. واحدًا تلو الآخر حاول الأزواج الإفلات عائدين إلى أماكنهم خفية. وواحدًا تلو الآخر أمسك بهم السائقون. وأبدى كلٌّ منهم اعتراضه لمدة ربع ساعة كاملة. ولكن ثلاثة فقط رفضوا في النهاية أن يدفعوا، وهؤلاء طُردوا من المجموعة باللكمات والركلات، وهم يزمجرون ويسبون. يقودهم منافق متذمِّر، أنشط المتعصبين، الذي كان يجلس بجواري في المقعد الأمامي بالحافلة، انطلقوا مبتعدين ينزلون التل في هرولة متعثِّرة.

لم تكن الحافلة قد بدأت في اتباعهم حتى بدأت النساء في الخلف تُحدِث صخبًا مضاعفًا. بقبضات أيديهن وأدواتهن المنزلية، كِدن يحطِّمن الفاصل الخشبي الرفيع الذي يفصلهن عن السائق وعني. توقَّفنا مرةً أخرى. أسقطت النساء السليطات الحانقات حجابهن، وطالبنني باستعادة رجالهن الثلاثة. بحلول ذلك الوقت، لم يكن يهمني سوى أن أصل إلى فندقٍ قبل حلول الظلام. قلت للسائق: «إما أن تُعيد الرجال أو أن تواصل السير. ستخسر أُجرتي أنا أيضًا إن بقينا هنا أكثر من ذلك.» رجحتْ هذه الحُجة. لحِق بالرجال، الذين كانوا لا يزالون يركضون على الطريق، ودعاهم للعودة. لكنهم رفضوا. متراجعين إلى الأخدود، رفضوا رفضًا قاطعًا محاباة الوحش الذي دنَّس أكثرَ لحظات حياتهم قدسية. مجددًا أخذتِ النساء يصرخن ويَطرقن. ومجددًا تصدَّع الفاصل. بل بدأت الحافلة بأكملها تصدِر صريرًا. صرخت ضاربًا بقدمي بقوة حتى علقت ألواح الأرضية بالفرامل: «امضِ!» قفز السائق خارجًا وأمسك بالفارِّين، وضربهم حتى تأوَّهوا يطلبون الرحمة، وجرَّهم عائدًا بهم إلى الحافلة. حاول المنافق العودةَ إلى مكانه القديم في المقدمة، بجواري. ولكن الآن جاء دوري كي يجنَّ جنوني. قلت إنه لن يجلس بالقرب مني. ردًّا على ذلك، أمسك بيدي وضغط عليها حتى ملأتها لِحيته الشائكة التي تقطر لعابًا برذاذ من القبلات. دفعته دفعةً جعلته يتمدَّد على الأرض، بينما وثبت إلى الناحية الأخرى، قائلًا للسائق الذي أصبح الآن مبللًا ومتعبًا وحزينًا، إنني بدلًا من المزيد من المعاناة في التواصل مع الرجل، سأسير إلى مشهد على قدميَّ وأحتفظ بما أَدين له به في جيبي. عندئذٍ، حوَّلت النساء سِبابَهن إلى المنافق. نُقِل الرجل الفظُّ المتذلل إلى الخلف. وانطلقنا إلى المدينة المقدَّسة بسرعة من شأنها تحطيم عربة مدفع.

تبادلت أنا والسائق النظرات. وضحكنا.

مشهد، ١٧ نوفمبر: استحوذ الضريح على المدينة. احتشد التُّركمان والكازاخ والأفغان والطاجيك والهزارة في الطرق المؤدية إليه، مختلطين بالحشد الكالح من الفرس المتشبِّهين بالأوروبيين. الشرطة وَجِلة من هؤلاء المتعصبين؛ ولذلك لا يزال الوصول إلى الضريح محظورًا على الكفار، على الرغم من السياسة الرسمية المناهضة لرجال الدين التي تقضي بفتح المساجد في جميع الأماكن الأخرى. قال الرجل في الفندق: «إن كنت حقًّا تريد الدخول، يمكنك استعارة قبَّعتي. ذلك كلُّ ما تحتاج إليه.» نظرت باشمئزاز إلى ذلك الرمز البالي لحكم مارجوريبانكس، الذي كان تقليدًا ممسوخًا لقبَّعة العسكرية الفرنسية، واستخلصت أنه لن يُمرَّر جمعٌ من ذوي العيون الزرقاء والشارب الفاتح اللون.

منذ وقتٍ ليس ببعيد، زار مارجوريبانكس سیستانَ‎ لأول مرة. ولإرضاء ولَعِه بالتخطيط الحديث للشوارع، بَنت السلطات المحلية المرتعِبة مدينةً جديدة بالكامل، على طراز بوتيمكين؛ حيث لا تحيط الجدران، التي تزينها الكهرباء، بشيء سوى الحقول. سبقته بيوم شاحنةٌ تحمل ملابسَ للأطفال. وفي اليوم التالي، تجمَّع أطفال المدرسة مرتدين ثيابًا كثياب رياض أطفال فرنسية. وصل الملك، وتوقَّف طويلًا بما يكفي لطرد مدير المدرسة؛ لأن الأطفال كانوا يرتدون الملابس بالمقلوب، ثم تابع مضيه؛ ولكن ليس قبل أن تُخلع الملابس عن الأطفال وتُحزم ثانيةً في الشاحنة لتسبقه إلى المكان التالي. لا تزال فارس بلاد «حاجي بابا».

وصلت مجموعة نويل أمس. حجزتُ مقعدًا إلى هِرَات في شاحنة أفغانية مرسوم عليها وُرودٌ في كل مكان. نطمح في أن تغادر بعد غد.

مشهد، ١٨ نوفمبر: كانت طوس، موطن الفردوسي، موجودةً قبل مشهد، التي نشأت حول رُفات الإمام الرضا. تقع طوس على بُعد ثمانية عشر ميلًا جهة الشمال الغربي، مباشرةً على الطريق غير الممهَّدة إلى عشق آباد على الحدود الروسية.

تشي التلال والحيود بالخطوط العريضة للمدينة القديمة. ويمتد جسرٌ عتيق من ثماني أقواس عبر النهر. وينتصب ضريح مقبَّب ضخم، قِرْميده بلون أوراق الورود الميتة، قُبالة الجبال الزرقاء. لا أحد يعرف مَن المدفون فيه وإن كان بناءً على تشابهه مع ضريح السلطان سنجر في مَرْو، يبدو أنه بُني في القرن الثاني عشر. وهو الأثر الوحيد الباقي من أمجاد طوس.

على أي حال، سيشهد العام القادم الذكرى الألفية لمولد الفردوسي. سمِع الأجانب بالفردوسي. ولا يقدِّرونه إلا بقدرِ ما يمكن لشاعر أن يُقدَّر من قِبَل أشخاص لم يقرءوا له من قبل. لذلك، فمن المتوقَّع أن إشاداتهم لن تمتدح عمله بقدرِ ما ستمتدح جنسيته. هذا على الأقل ما يأمُله الفُرس. أُعلن بالفعل عن برنامج للاحتفالات. حيث ترسل الحكومات التي تشترك في حدودها أو في مصالحَ أخرى مع بلاد فارس وفودًا لتذكرة مارجوريبانكس بأنه بينما كان مواطنوه يصنعون الملاحم كان مواطنوهم يضعون صِباغ النيلة. وسيذكرون أن هذه المقارنة غير ملائمة في وقتنا الحاضر. فالسكة الحديدية الجديدة لجلالته، وعدالته التي تتَّسم بالنزاهة والشفافية، وولعه بالبذلات اليومية، كل ذلك يعطي الأمل لعالمٍ غافل. في الواقع، لقد حافظ الشاه رضا بهلوي على مكانة الفردوسي.

ستصبح طوس، التي اعتراها صمتٌ طويل بين الجبال والصحراء، مسرح هذه الأقاويل العطرة. وسيُزاح الستار من على نصب تذكاري مقام في الموقع المحتمل تقريبًا أن يكون به قبر الشاعر. هذا الشيء، الذي انتهى بناؤه تقريبًا، كان مفاجأةً سارَّة. حيث يقف مخروطٌ مربَّع، سيُغطَّى بحجارة بيضاء، على دَرَجٍ واسع. وأمامه توجد بِركة ممتدة، تحيطها صفوفٌ من الأشجار، ويُشير إليها زوج من السرادقات الكلاسيكية. بالنظر لحدود الذوق الشرقي في مواجهة المفهوم الغربي، فإن التصميم يستحق التقدير. الجزء الغربي منه، النصب التذكاري، هو أبسط ما يمكن؛ والجزء الفارسي، الحديقة، جميل كالعادة، والاثنان مندمجان بنِسب جيدة. عندما تنتهي الاحتفالات، ولا يُسمَع سوى صوت جلجلة أجراس الماعز، ربما يجد محبُّو الفردوسي سكينةً ممتزجةً بالعرفان في هذا الضريح المتواضع.

أُقيمت حفلة شاي في القنصلية عصر اليوم، وتبِعتها ألعاب. وقدَّم رئيس الشرطة، الذي بدا كمنفِّذ أحكام الإعدام، وربما هو كذلك بالفعل، عرضًا عجيبًا وهو مربوط من ذراعه بسيدة مبشِّرة أمريكية في منافسة للعثور على شيءٍ مخفي. قابلت السيد دونالدسون، رئيس البعثة الأمريكية، الذي بدلًا من، أو ربما إلى جانب، الانشغال بأمر المتحولين عن الدِّين، نشر كتابًا عن العقيدة الشيعية.

تقول برقية من طهران إن الفحَّامين قد وصلوا، وإنهم آتون إلى هنا بمجرد أن تفرِج الجمارك عن أسلحتهم. ليس من المنطقي أن أنتظرهم. يجب أن نلتقي في مزار شریف إن كنا سنلتقي من الأساس. حتى في الوقت الحالي، ربما يكون الطريق مغلقًا بفعل الثلوج.

يرى نويل الآن أنه سيحاول أن يحصل على تأشيرات لأفغانستان أيضًا.

أفغانستان: هِرَات (٣٠٠٠ قدم)، ٢١ نوفمبر: حصل نويل على تأشيرات وأحضرني إلى هنا، أو بالأحرى أحضرته أنا. بعد أن قاد طوال الطريق من لندن، كان سعيدًا بإعطاء عجلةِ القيادة لشخصٍ آخر. وغادر عصر اليوم متخذًا الطريقَ الجنوبي المؤدي إلى قندهار.

ولكن لموظفي القنصلية الروسية، الذين يعيشون حياة السجناء، أنا الأوروبي الوحيد في المكان، وأتعامل بأفضل سلوك لديَّ؛ فتحديق العامة يتطلب ذلك. يرافقني في الفندق ثلاثة من الهنود البارسيين الذين يجوبون العالم على الدرَّاجات، وقد أتَوا من مزار شريف عبر الطريق الجديد الذي افتُتح هذا الصيف. وقد قابلوا في طريقهم العديد من الروس الذين هربوا عبر نهر أوكسوس، وكانوا يتقدَّمون تحت الحراسة إلى تركستان الصينية عبر طريق واخان-بامير. أحد هؤلاء كان صحفيًّا، أعطاهم رسالةً يصف فيها معاناته. كان حذاؤه مثقوبًا بالفعل، لكنه كان ينوي المشي إلى بكين.

هِرَات لها وزير خارجيتها الذي يُعرَف باسم مدير الخارجية، ويقول إنني إذا تمكَّنت من إيجاد وسيلة نقل، فربما أتابع طريقي إلى تركستان. أجريت أيضًا مقابلة مع الحاكم، عبد الرحمن خان، وهو رجل مسن وسيم يرتدي قبَّعة أستراخان سوداء طويلة، وله شارب رمادي يشبه شارب هيندنبرج. وهو أيضًا يمنحني إذنًا للذهاب إلى حيث أشاء، وسوف يزوِّدني برسائلَ للسلطات في الطريق.

لاحقًا زرتُ منتظم (مدير) التلغراف، الذي يتحدَّث الإنجليزية.

سأل فجأة، وهو يلقي نظرةً سريعةً من النافذة ليتأكد من أنه لا يوجد أحد في الجوار: «أين أمان الله خان؟»

«في روما، على ما أظن.»

«هل سيعود؟»

«لا بد أنك تعرف أفضل مني.»

«أنا لا أعرف شيئًا.»

«أخوه، عناية الله، في طهران الآن.»

اعتدل المنتظِم في جلسته. وقال: «متى وصل؟»

«إنه يعيش هناك.»

«وماذا يفعل؟»

«يلعب الجولف. إن لعبَه سيئ حتى إن الدبلوماسيين الأجانب يتجنَّبونه. ولكن ما إن علموا باغتيال الملك نادر خان، حتى اتصلوا جميعًا به ودعوه للعب.»

هزَّ المنتظِم رأسه ردًّا على هذه المعلومة الشريرة. وسأل: «ما هو الجولف؟»

اتصل سيدٌ من البلدية هذا المساء ليطمئنَّ على راحتي. فصرَّحت بأنني سأكون مرتاحًا إذا كان يوجد زجاج على نوافذ غرفتي. يدير الفندق السيد محمود، وهو يشبه قبيلة أفريدي في مظهره، وكان يعمل في فندق في كراتشي. أطلعني على سجل زائريه، ومنه رأيت أن جراف فون باسفيتز، القنصل الألماني في كلكتا، مكث هنا في أغسطس في طريقِ عودته من الإجازة. هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عنه منذ عام ١٩٢٩.

هِرَات، ٢٢ نوفمبر: تقع هِرَات في سهلٍ مزروعٍ طويل يمتد شرقًا وغربًا، ويبعُد ثلاثة أميال من نهر هري في الجنوب، ويبعُد نفس المسافة عن آخر نتوء صخري لجبال باروباميسوس في الشمال. وتوجد بلدتان. القديمة عبارة عن متاهة من الشوارع الضيقة المتعرِّجة المحاطة بأسوارٍ مربَّعة، ومقسَّمة قطريًّا بواسطة نفق البازار الرئيسي الذي يبلغ طوله ميلين؛ وفي الشمال توجد القلعة، وهي حصن مهيب من العصور الوسطى مَبنيٌّ على تلة، ومنها يُهيمِن على السهل المحيط. وقُبالة ذلك تقع البلدة الجديدة، التي تتألَّف من شارع واحد واسع يؤدي شمالًا من مدخل البازار، وشارع مماثل يتقاطع معه في زاوية قائمة. تصطفُّ في هذين الشارعين متاجرُ ذات واجهات مفتوحة. وتعلوها أبراج الطابق الثاني للفندق، الواقع وسط دكاكين النحَّاسين الذين يُثني صوتُ طرْقهم بين الفجر والغروب الضيوفَ عن الكسل. إذا تابعنا المضي إلى مفترق الطرق فسنجد مكتب تذاكر الشاحنات؛ حيث يتجمَّع الركَّاب يوميًّا بين حزْم البضائع وحاويات البنزين الروسي في الصناديق الخشبية.

مستغرقًا في تأمُّل التباين مع بلاد فارس، أبادل الناسَ تحديقهم. إن مظهر الفارسي العادي، الذي يرتدي ملابسه وفقًا لقوانين مارجوريبانكس الضاغطة للإنفاق، لهو وصمةٌ في حقِّ الكرامة الإنسانية؛ فالمرء يظن أنه من المستحيل أن يكون هذا السِّرب الهجين الرث هو حقًّا العِرق الذي حبَّب أعدادًا لا تُحصى من المسافرين فيه بأخلاقه وحدائقه وفروسيته وحبه للأدب. لا يزال جليًّا كيف يُحبب الأفغان الآخرين فيهم. فأولًا، تؤهِّلهم ملابسهم وطريقة سيرهم بما يكفي لذلك. يرتدي قِلةٌ، وهم المسئولون، بذلات أوروبية تعلوها قبَّعة أنيقة من جلد الحَمَل. وكذلك يرتدي سكان المدينة أحيانًا صدريةً على الطراز الفيكتوري، أو السترة المشقوقة الذيل ذات الياقة العالية في حالة الهنود المسلمين. لكن هذه الأشياء المستوردة، عندما تكون مصحوبة بعمامة كبيرة بقدرِ كومة من أغطية السرير، وعباءة من بطانية مبرقشة، وسروال أبيض فضفاض واسع عند الوَرِك وضيق بالأسفل وصولًا إلى حذاء مطرَّز بالذهب على شكل جندول، يكون لها بهجة غريبة، مثل شالٍ هندي في دار الأوبرا. هذه هي الموضة الجنوبية، التي يفضِّلها الأفغان الأصليون. أما الطاجيك، أو العنصر الفارسي، فيفضِّلون ثياب تركستان المبطَّنة. ويرتدي التركمان أحذيةً سوداء عالية، ومعاطفَ حمراء طويلة، وقبَّعاتٍ طويلة من خصلات شعر الماعز الأسود الحريري. والزي الأكثر تميزًا هو زي سكان المرتفعات المجاورة، الذين يتجوَّلون في الشوارع مرتدين معاطفَ من السيرج الأبيض المتيبِّس، بأكمام زائفة تتدلى كما لو كانت أجنحة تصل إلى الرُّكبة من الخلف، ومثقوبة بأنماط كالمرسام. بين الحين والآخر، يمرُّ عبْر المشهدِ ما يشبه خلية نحل من قماش الكاليكو بنافذة في الأعلى. هذه امرأة.

يمشي الرجال الذين أعيُنهم كأعيُن الصقور وأنوفُهم كمناقير النسور في ثيابهم المحاكة الفضفاضة الداكنة يتمايلون عبر البازار المظلم بثقةٍ غير مبالية. ويحملون البنادق في ذهابهم للتسوُّق كما يحمل اللندنيون المظلات. هذه الضراوة مصطنَعة بعض الشيء. فقد تكون البنادق معطوبة. وبنيتهم ليست مثارَ إعجاب في الزي الرسمي الضيق للجنود. حتى توهُّج العيون غالبًا ما يرجع لمواد التجميل. لكنه تقليد؛ ففي بلدٍ يسري فيه القانون سريانًا متذبذبًا، فإن مجرَّد الظهور بمظهرٍ ينمُّ عن القوة يجعل المرء يكسِب نصف المعركة في المعاملات اليومية. قد يكون تقليدًا مزعجًا من وجهةِ نظرِ الحكومة. لكنه حافظ على الأقل على رباطة جأش الناس وإيمانهم بأنفسهم. ويتوقَّعون أن يلتزم الرجل الأوروبي بمعاييرهم، لا أن يلتزموا هم بمعاييره، وهي حقيقة اتضحت لي هذا الصباح عندما حاولت شراء بعض العَرَقي؛ فلا يمكن الحصول على قطرة واحدة من الكحول في البلدة بأكملها. هنا تظهر آسيا أخيرًا دون أدنى عقدة نقص. تقول القصة إن أمان الله تفاخَر أمام مارجوريبانكس بأنه سوف يُفرنِج أفغانستان أسرع من قدرة مارجوريبانكس على أن يُفرنِج بلاد فارس. كانت هذه نهاية أمان الله، وقد تُشكِّل التصريحات المماثلة على المدى الطويل نهايةَ خلفائه.

عند الاقتراب من هِرَات، يستمر الطريق من بلاد فارس قريبًا من سفوح الجبال حتى يتلاقى مع الطريق القادم من کُشك؛ حيث ينعطف إلى أسفل التل باتجاه البلدة. وصلنا في ليلةٍ مظلِمة ولكنها مضاءة بالنجوم. هذا النوع من الليالي دائمًا ما يكون مُفعَمًا بالغموض؛ ففي منطقةٍ غير معروفة، بعد مرأى حرس الحدود الشرسين، أحدثت في داخلي حماسة لم أشعر بها إلا نادرًا. فجأة يمرُّ الطريق بمجموعة من المداخن العملاقة، التي انتظمت خطوطُها العريضة السوداء من جديد أمام النجوم أثناء مرورنا. للحظةٍ أصابني الذهول؛ فقد كنت أتوقَّع أن أرى أي شيء على وجه الأرض، إلا مصنعًا؛ حتى ظهرت، متضائلةً أمام هذه الجذوع الضخمة، صورةٌ ظليةٌ لقبَّة مكسورة، ومضلَّعة بشكل غريب، مثل شمَّامة. قلت في نفسي إنه لا توجد قبَّة مثل تلك يعرفها أيُّ أحد سوى قبَّة واحدة في العالم، وهي قبَّة قبر تيمورلنك في سمرقند. ومن ثَم، لا بد أن تكون هذه المداخن مآذن. ذهبت إلى الفراش كطفل في عشية عيد الميلاد، لا يسعه انتظار الصباح.

يأتي الصباح. وعندما أخرج إلى سطحٍ مجاور للفندق، أرى سبعة أعمدة بلونٍ أزرقَ سماوي ترتفع من الحقول الجرداء المقابلة للجبال الناعمة المزيَّنة بالخلنج. أسفل كلٍّ منها، يُلقي الفَجر ضوءًا ذهبيًّا خافتًا. وفي وسطها تلمع قبَّة زرقاء على شكل شمَّامة قُضِمَت من أعلاها. جمالها أكثر من مجرد جمال تصويري يعتمد على الضوء أو المشهد الطبيعي. وبالنظر من كَثَب، تُسهم كل بلاطة، وكل زهرة، وكل بَتلة من الفسيفساء بتميزها في المشهد ككلٍّ. حتى حينما تكون خرابًا، تنبئ تلك العمارة بعصر ذهبي. هل نسيه التاريخ؟

ليس تمامًا. اشتهرت مُنمنمات هِرَات في القرن الخامس عشر، سواء بذاتها أو باعتبارها مصدرًا للرسم الفارسي والمغولي بعد ذلك. لكن الحياة والرجال الذين صنعوها، وهذه المباني أيضًا، ليس لها مكانة عظيمة في ذاكرة العالم.

والسبب هو أن هِرَات تقع في أفغانستان؛ بينما لسمرقند، عاصمة تيمورلنك، وليس التيموريين، سكة حديدية تؤدي إليها. حتى حرفيًّا أيام قليلة ماضية، لم يكن من الممكن الوصول إلى أفغانستان. بينما اجتذبت سمرقند، على مدى الخمسين عامًا الماضية، العلماء والرسَّامين والمصوِّرين. لذلك يُنظر إلى نطاق النهضة التيمورية على أنه سمرقند وبلاد ما وراء النهر، في حين أن عاصمتها الفعلية، وهي هِرَات، لا تزال مجرد اسم وشبح. الآن، انعكس الموقف. فقد أغلق الروس تركستان. وفتح الأفغان بلادهم. وتأتي الفرصة لإصلاح التوازن. أثناء سيري في الطريق المؤدي إلى المآذن، أشعر بما قد يشعر به أي شخص يعثر مصادفةً على كتب ليفي المفقودة أو على لوحةٍ غير معروفة من لوحات بوتيتشيلي. أظن أنه من المستحيل إيصال مثل هذا الشعور. التيموريون بعيدون للغاية عن أن يفكِّر فيهم معظم الناس برومانسية. لكن هذا يمثِّل لي مكافأة رحلتي.

ومع ذلك، كان هؤلاء الميديتشيون الشرقيون عِرقًا استثنائيًّا. باستثناء شاه رُخ، ابن تيمورلنك، وباستثناء بابر‎ الذي غزا الهند، فقد ضحَّوا بالأمن العام من أجل الطموحات الخاصة؛ وبقي كلٌّ منهم، في السياسة، كما كان تيمور نفسه، قاطع طريق يبحث عن مملكة. لقد حرَّر تيمور، بتأسيسه إمبراطوريةً بهذا الدافع، أوكسيانا من البدو الرُّحَّل وأدخل أتراك آسيا الوسطى في فلك الحضارة الفارسية. وبالدافع نفسه، نقض المتحدرون منه هذا العمل ودمَّروا أنفسهم. فلم يعترفوا بأي قانون لوراثة العرش. فقتلوا أبناء عمومتهم وتفاخروا فيما بينهم بقتلهم لآبائهم. وواحدًا تلو الآخر ماتوا من السُّكْر. ولكن إذا كانت المتعة هي الهدف من حياة هؤلاء الأمراء، فقد اعتقدوا أن الفنون هي أعلى أشكال المتعة، وقد حذا رعاياهم حذوَهم؛ فلِكَي تكون رجلًا نبيلًا، يجب أن تكون على الأقل داعمًا للفنون إن لم تكن فنَّانًا. عندما يكتب الوزير الشهير علي شير النوائي أنه كثيرًا ما يقتبس من شاه رُخ مع أنه لم يكتب الشعر، فثَمَّة نبرة اندهاش في الجزء الأول من عبارته. فقد اتسم ذوقهم بالإبداع. وقد أرسلوا إلى الصين بحثًا عن أفكار جديدة في فن الرسم. ولم يكتفوا بالفارسية الكلاسيكية، فكتبوا باللغة التركية أيضًا، وهي وسيلةُ تعبير أكثر فاعلية، مثلما فعل دانتي عندما لم يكتفِ باللاتينية فكتب بالإيطالية. وكان من بين مواهب العصر تلك القدرة الغريزية على سرد تفاصيل السيرة الذاتية. مع أن التسلسل الزمني للسيرة لا أساس له، فهو سردٌ ممِلٌّ لمؤامرات وحرب أهلية، فإن الشخصيات نابضة بالحياة. إذ تتوافق شخصياتها مع ما لدينا من معلومات. فنحن نعرف في كثير من الأحيان، من وصف الشخصيات، هيئاتهم وملابسهم وكيفية جِلستهم. والآثار التي بنوها لها انطباع مماثل. إذ إن لها خاصية شخصية تُنبئنا عن تلك الظاهرة النادرة في التاريخ الإسلامي، وهي عصر الإنسانية.

إذا حكمنا عليها بالمعايير الأوروبية، نجد أنها كانت إنسانية محدودة. كنهضتنا نشأت النهضة التيمورية في القرن الخامس عشر، وتَدين في مسارها لرعاية الأمراء، وقد سبقت ظهور الدول القومية. لكنَّ الحركتين تختلفان في جانب واحد. فبينما كانت النهضة الأوروبية إلى حد كبير ردَّ فعلٍ لصالح العقل في مواجهة الإيمان، اقترنت النهضة التيمورية بترسيخٍ جديد لقوة الإيمان. كان أتراك آسيا الوسطى قد فقدوا بالفعل الاتصالَ بالمادية الصينية، وكان تيمور هو مَن قادهم نحو قبول الإسلام، ليس فقط كدين؛ لأن ذلك كان قد تحقَّق بالفعل، ولكن كأساس للمؤسسات الاجتماعية. على أي حال، لا ينساق الأتراك كثيرًا وراء التأويلات الفكرية. وقد اهتمَّ المنحدرون من سلالة تيمور، في تحويلهم لتدفُّق الثقافة الفارسية إلى متعتهم الخاصة، بمُتَع هذا العالم، وليس العالم الآخر. فقد تركوا مسألةَ الهدف من الحياة للقديسين واللاهوتيين، الذين أغدقوا عليهم في حياتهم وأحيوا ذكراهم بعد موتهم. لكنهم في تعاملهم معها، داخل إطار الدين الإسلامي كانوا يتبعون حسَّهم السليم، دون تحيُّز أو عاطفة إلا لصالح الفهم العقلاني.

وقد حُفظت جودة العقل الناتجة عن ذلك في مذكرات بابر، التي كُتبت باللغة التركية في بداية القرن السادس عشر وتُرجِمَت مرتين إلى اللغة الإنجليزية. حيث تصوِّر رجلًا منشغلًا بالمتَع اليومية، والمحادثات، والملابس، والوجوه، والحفلات، والموسيقى، والمنازل، والحدائق، بقدرِ انشغاله بفقدان إمارة في أوكسيانا والاستحواذ على إمبراطورية في الهند؛ ومهتمًّا بالطبيعة بقدرِ اهتمامه بالسياسة، وأيضًا يسجِّل ملاحظات عن حقائقَ مثل المسافة التي تسبحها الضفادع الهندية؛ وصادقًا في الحديث عن نفسه بقدرِ صِدقه في الحديث عن الآخرين، بحيث ترك في تصويره لنفسه — المتسم بالصدقِ حتى إن المرء يكاد يسمعه يتحدث في النص المترجَم — صورةً لنسله بالكامل. وإذا كان قد وُلِد في الجيل السادس بعد تيمور، فلم يغزُ الهند ويصبح أول مغولي إلا في نهاية حياته. ولكن حتى هذا لم يحتلَّ سوى المرتبة الثانية بين أفضل إنجازاته بعدما كان قد أمضى ثلاثين عامًا في محاولةِ إعادةِ توطيد نفسه في أوكسيانا. ولكن بصفته رجلًا كان يتمتَّع بحسِّ تذوُّق، فقد فعل ما في وسعه لجعل الحياة محتمَلة في بلدٍ كريه للغاية، وتُظهر تعليقاته عليه المعاييرَ التي كان يطمح إليها. كان يرى أن الهنود قبيحون، وأن محادثاتهم فارغة، وثمارهم بلا طعم، وحيواناتهم سيئة التنشئة، وقال: «في الحِرف اليدوية والأعمال هناك، ليس ثَمَّة شكل ولا تناسق ولا أسلوب ولا جودة … ففي بنائهم لمبانيهم لا يراعون الجَمَال، ولا المناخ، ولا المظهر، ولا التناسق.» وعاب على عاداتهم كما عاب ماكولاي على تعلُّمهم، أو كما عاب جيبون على البيزنطيين، في ضوء التراث الكلاسيكي. وبما أن هذا التراث قد أُبطل في أي مكان آخر، بعد غزو الأوزبك لأوكسيانا وهِرَات، فقد شرع في غرسه من جديد. لقد غيَّر هو وخلفاؤه وجْهَ الهند. إذ أعطوها لغةَ تواصُل مشترك، ومدرسة جديدة في الرسم، وعمارةً جديدة. لقد أعادوا إحياء نظرية الوحدة الهندية التي أصبحت فيما بعدُ أساسَ الحكم البريطاني. تُوفِّي آخر إمبراطور منهم في المنفى في رانجون سنة ١٨٦٢ ليُفسِح المجال للملكة فيكتوريا. وما زال نسلُ تيمور موجودًا حتى يومنا هذا، في فقر وكبرياء، وسط متاهات دلهي.

كي أعود إلى فندقي في بازار النحَّاسين، حيث تشغل مذكرات بابر، من ترجمة السيدة بيفريدج، الطاولة، وأشغل أنا الأرض في فندقي البائس. تقع هِرَات في منتصف الطريق بين نصفَي إمبراطورية تيمور، بلاد فارس وأوكسيانا؛ ومن بين الطريقين اللذين يربطان بينهما، تسيطر على الطريق الأسهل الذي سأسلكه؛ لأن الطريق الآخر، عبر مرو، عبارة عن صحراء جدباء. لذلك، كان من الأنسب جغرافيًّا أن تكون العاصمة وليس سمرقند؛ وعند وفاة تيمور، سنة ١٤٠٥، جعلها شاه رُخ كذلك. فأصبحت الحاضرة السياسية والثقافية والتجارية لآسيا الوسطى. وأتت إليها البعثات الدبلوماسية من القاهرة والقسطنطينية وبكين، ويقدِّم بريتشنيدر في كتابه «أبحاث في العصور الوسطى من مصادر شرق آسيوية» أوصافًا صينية لها. بعد مدة عشرين عامًا من الارتباك أعقبت وفاة شاه رُخ سنة ١٤٤٧، استولى عليها حسين بايقرا، سليل ابن تيمور عمر شيخ. وأحَلَّ فيها سلامًا استمرَّ أربعين عامًا أخرى. كان هذا أكثرَ الفصول حيويةً في تلك النهضة، حيث كان مير خواند وخواند مير يكتبان قصصهما، والجامي يغني، وبهزاد‎ يرسم، وكان علي شير النوائي بطلَ الأدب التركي. كانت هِرَات هذه الحِقبة، حين كان الأوزبك متقدمين في مسيرتهم وكانت سمرقند قد سقطت بالفعل، هي التي شهدها بابر في شبابه. يتذكَّر بعد ذلك قائلًا: «لم يكن في العالم الصالح للسكنى بأكمله مدينةٌ تضاهي هِرَات تحت حكم السلطان حسين ميرزا … كانت خراسان، وهِرَات في المقام الأول، مليئة بالرجال المثقفين المنقطعي النظير. فمهما كان العمل الذي كان يضطلع به الرجل، كان يهدف ويطمح إلى الإتقان فيه حدَّ الكمال.»

كان بابر هنا لمدة ثلاثة أسابيع في خريف عام ١٥٠٦. وربما يكون قد عايش نفس الطقس الحالي: الأيام التي يزداد فيها النهار المنعش المشمس قِصرًا وبرودة. كل يوم كان يخرج ممتطيًا جواده لمشاهدة المعالم. هذا الصباح سرتُ على خُطاه، ونظرت إلى المباني التي نظر إليها. لم يبقَ منها الكثير. سبع مآذن وضريح محطَّم، هي كل ما يمكنني تصويره عن تلك الحِقبة. لكن تاريخها يمدُّنا بالباقي؛ ولهذا يجب أن ألجأ لاحقًا إلى الكُتاب والجنود وعلماء الآثار. اثنان تحديدًا قد وجَّها فضولي إلى هذا المكان.

وكان ثَمَّة فاصل زمني طويل سبقَ مجيئهم؛ لأن شمس النهضة التيمورية غربت سنة ١٥٠٧، عندما سقطت هِرَات في أيدي الأوزبك. وإذ أدرك بابر أنها ستسقط، نأى بنفسه وفرَّج عن استيائه بأن سرد أن زعيمهم، الشيباني، كان شديد الفخر بثقافته، حتى إنه حاول تصحيح رسومات بهزاد. بعد ثلاث سنوات، استولى عليها شاه إسماعيل، وانضمَّت إلى بلاد فارس الجديدة التي أنشأها. تزداد الظُّلمة شدةً. يستقبل وميضٌ أخيرٌ للرونق القديم وصول همايون، ابن بابر، في طريقه من الهند لزيارة الشاه طهماسب في أصفهان عام ١٥٤٤. بعد ثلاثمائة سنة، يُرفع الستار عن شذرات من إمبراطورية نادر شاه والرحالة العسكريين في القرن التاسع عشر.

زار بضعة ضباط بريطانيون هِرَات في أوائل ذلك القرن. وقد نظَّم أحدهم، وهو إلدرد بوتینجر، دفاعات المدينة في مواجهة الجيش الفارسي سنة ١٨٣٨، وأصبح بطلَ إحدى روايات مود دَيفَر؛ وهي ليست سيئة أيضًا إذا كنت تحب مدرسةَ فلورا آني ستيل في الرواية. واحد آخر منهم كان بيرنز، الذي اغتيل بعد ذلك في كابول، والذي نشر سكرتيره الهندي، موهان لال، مذكرةً عن الآثار في «دورية جمعية البنغال الآسيوية» لعام ١٨٣٤. كان يوجد أيضًا فيرير، وهو جندي فرنسي ثري، قام بمحاولتين في عام ١٨٤٥ للوصول إلى كابول متخفيًا وأُعيد أدراجه في النهاية. هو أيضًا يجلس على طاولتي، مع أن ثِقل الكِتاب لم يكن يستحق الإرباك. ثم في منتصف القرن جاء باحثان، المجري فمبيري والروسي خانيكوف. لطالما كان هناك شكٌّ في مصداقية رحلة خانيكوف إلى بخارى، وبالتأكيد لا يحتوي وصفه لهِرَات على شيء لا يمكنه التقاطه من ضباط مثل کونولي وأبوت. ويكاد خانيكوف أن يكون مخيِّبًا للآمال بالقدر نفسه. فمع أنه كان في هِرَات طَوال شتاء كامل، فإنَّ سرده في «الدورية الآسيوية» لعام ١٨٦٠ لا يحتوي إلا على بعض النقوش ومخطَّط.

في عام ١٨٨٥، تهبُّ القوات المسلحة للإنقاذ في النهاية. وكان الجنود الروس يحتشدون على الحدود الشمالية الغربية لأفغانستان، ولم تتمكَّن حكومة الهند من إيقافهم لأنها لم تكن تعرف هي أو الأفغان أين تقع الحدود. وقد رُتِّبت لجنةٌ مشتركة بين القوتين لتسوية النزاع، كان مؤرِّخاها، على الجانب الإنجليزي، أخوين، هما إيه سي وسي إيه يات. وبسفرهما عبر ما كان في ذلك الوقت بلدًا غير معروف تقريبًا، سردا كل شيء بدقة عسكرية، وقد خصَّص الأخير فصلًا للحديث عن العصور القديمة لهِرَات كما لو كانت مدفع ميدان جديد، مع أنه لم يكن مدركًا على الإطلاق لجمالها. إنه أول مرجعَيَّ الرئيسيين، وقد نقلته من فوق الطاولة إلى حجْري.

والثاني هو جندي أيضًا، إن أمكن أن تنطبق التسمية على رجلٍ يحاول شنَّ حرب بمفرده. في خريف ١٩١٤، تجمَّعت مجموعةٌ صغيرة من الألمان في القسطنطينية في طريقهم لإزعاج البريطانيين في آسيا. أقام بعضهم في بلاد فارس، وكان من بينهم فاسمس، بطل كريستوفر. تابع بعضهم طريقَه إلى أفغانستان، وقد تأكَّد نجاح هؤلاء بهجوم أمان الله على الهند في عام ١٩١٩؛ أي في عامٍ متأخر جدًّا. ومن بين هؤلاء كان الهِر أوسكار فون نيدرماير. في عام ١٩٢٤، نُشرت صوره المأخوذة للبلاد على هيئة كتاب مصوَّر. وقد أسهم فيه البروفيسور إرنست دييز بتمهيدٍ حدَّد وأرَّخ فيه لمعظم المباني هنا، بجمع صور نيدرماير مع إشارات تاريخية وإشارات لرحَّالين. تجمعني بدييز معرفة قديمة؛ فقد انطلقت من طهران ومعي كتابه «المعالم المعمارية لشوراسان»، وهو كتاب ضخم من حجم قطع الربع، والذي يُرجَّح أن وزنه هو الذي كسر محور دوران السيارة الموريس. أما نيدرماير، فلم أكن أعرفه. ولحسن الحظ وجدت كتابه في القنصلية بمدينة مشهد، عندما طُلب مني ترْك كتاب دييز الآخر خشيةَ أن يُعرِّض سيارة نويل الرولز رويس للمصير نفسه.

كفى حديثًا عن هذا الآن. أتى الطبيب المحلي لزيارتي.

كان بنجابيًّا ودودًا، ويعمل في الخدمة الطبية الأفغانية. أتى من أجل معرفة الأخبار ولممارسة اللغة الإنجليزية. أخبرته عن مقابلتي مع الحاكم معلِّقًا بأنه كان من السارِّ الفِرار من الشكوك الفارسية إلى هذه الأجواء الأكثر حرية.

«إنك ترتكب خطأً كبيرًا يا سيدي، عندما تظن أنه لا توجد شكوك هنا. فالشكوك في كل مكان. أقول لك يا سيدي، لا يمكن مقارنة بلاد فارس بأفغانستان في هذا الشأن. ففي الوقت الحالي، يقيم عشرون أجنبيًّا في هذه المدينة، وهم من الهنود والروس. وما يقرب من مائة وعشرين عميلًا مكلَّفون بمراقبتهم. هل تظن أنهم لا يراقبونك؟ إنهم يراقبونك في الطابق السفلي الآن. إنني أراهم. وهم يرونني. إنهم يراقبونني طوال الوقت. وسيُصدِرون التقارير على الفور بأنني صعدت إلى غرفتك. أتوقَّع أن الروس أيضًا يراقبونك. فلا شك في أن الفضولَ ينتابهم حول تحرُّكاتك هنا. إنهم متداخلون في كل شيء هنا. أقول لك بثقةٍ إنهم يتحكَّمون في مكتب البريد. في بداية هذا العام، كتبت خطابًا إلى قريب لي في إنجلترا، أشرت فيه بالمصادفة إلى السكة الحديدية الروسية في کُشك والمسافة التي تبعُدها عن هنا. أجل، لا تبعُد سوى ثمانين ميلًا. وفي المرة التالية التي زرت فيها القنصلية الروسية، زيارة مهنية بالطبع، قالوا لي صراحةً: «لماذا تفصح عن معلومة كهذه؟ لا شأن لك بهذا.» لم يتظاهروا بإخفاءِ حقيقةِ أنهم قد قرءوا خطابي. ولذلك، لم أكتب أيَّ خطابات منذ ذلك الحين على الإطلاق.

إنه وقت سيِّئ لتكون فيه هنا في أفغانستان يا سيدي. ستشبُّ قلاقلُ الآن بعدما قُتل الملك نادر شاه. في غضون شهر ستكون ثَمَّة مشكلة. أو ربما في الربيع عندما يمكن للقبائل الحركة بشكلٍ أفضل في الجبال. ولكني أظن أن هذا سيحدث في غضون شهر واحد. افعل ما تريد فعله هنا يا سيدي بسرعة. وشاهد ما تريد مشاهدته. ثم غادر بخطًى سريعة. سأرحل الآن. عندما أستطيع تدبير أمر شاحنة، سأذهب أنا وعائلتي. سنذهب إلى قندهار، ثم إلى موطني في لاهور. هذا بلد سيئ يا سيدي. آمُل ألا أرجع إليه مطلقًا.»

هِرَات، ٢٣ نوفمبر: مستعينًا بتوجيهات مُرشديَّ، مشيت إلى شمال الطرق الأربعة للمدينة الجديدة في اتجاه تلة عملاقة، بطول ٦٠٠ ياردة تقريبًا، بدت اصطناعية، ولا بد أنها تشبه، من جميع الجوانب، التلالَ في منطقة بَلْخ. ومنها يمكن للمرء التسلُّق إلى جدارٍ آخر، هو متراس خارج دفاعات المدينة، واستطلاع تضاريس المُصلَّى. هذا هو الاسم الشائع الذي تُعرف به المساحة كلها التي تشمل المآذن السبع والضريح. ولكنها في الحقيقة كانت جزءًا من مبانٍ متفرقة بُنيت في أوقاتٍ مختلفة: بعضها في عهد شاه رُخ، وأحدها في عهد حسين بايقرا.

يبلغ ارتفاع جميع المآذن ما بين ١٠٠ و١٣٠ قدمًا. وتميل بزوايا مختلفة؛ فقِممها مكسورة، وقواعدها ملتوية ومتآكلة. كما تبلغ أبعد مسافة فيما بين اثنتين منها، وهما الممتدتان من غرب الجنوب الغربي إلى شرق الشمال الشرقي، حوالي ربع ميل. والمئذنتان ناحية الغرب أكثرُ سُمكًا من الأخريات، ولكن بكل واحدة منهما شرفة مثل المآذن الأربع ناحية الشرق. أما المئذنة التي في المنتصف، التي تقف وحدها، فبها شرفتان. ويقع الضريح بين المئذنتين اللتين في الغرب، ولكن شمالهما. لا يتعدَّى ارتفاعه نصف ارتفاعهما، لكنه يبدو أقل من ذلك من مسافة بعيدة.

لهذا الصف من الأبراج الزرقاء المرتفعة عشوائيًّا من ترقيع من الحقول البنية والبساتين الصفراء مظهرٌ غير طبيعي للغاية. كان من عادة ملوك الإسلام في المراحل الأولى بناءُ المآذن المنعزلة، فرادى أو أزواجًا؛ كي تكون شاهدًا على قطب منار بالقرب من دلهي وقاعدة لأتباعه. غير أن هذا لم يتوسَّع إلا في القرن الخامس عشر، ولم يصل قط إلى حدِّ سبع. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يلاحظ من داخل هذه المآذن؛ حيث لا توجد بلاطات على الإطلاق من ارتفاع بضع وأربعين قدمًا من الأرض، أنها في الأصل كانت متصلة بجدران أو أقواس، ولا بد أنها قد كانت تشكِّل جزءًا من سلسلة من المساجد أو المدارس. ما الذي حدث لهذه المباني؟ أشياء بهذا الحجم قد تسقط، ولكنها تخلِّف وراءها بعض الأطلال. فهي لا تختفي من تلقاء نفسها دون أن تترك أثرًا أو خيطًا وراءها، كما حدث في حالة هذه المباني.

إنها قصة مأساوية. حتى إن يات، الذي رآها تحدُث، أبدى تنهيدةً لا تليق بالجنود. اعتبر فيرير هذه المباني، التي دُمِّرت فيما بعد، هي الأجمل في آسيا. يتفق الرحَّالة الآخرون بشأن جمالها الفريد، وتألُّق فُسيفسائها وروعة نقوشها المُذهَّبة. ويتحدث کونولي، إن لم تخُنِّي الذاكرة، عن ثلاثين مئذنة. في الواقع، مع مراعاة الفرق بين النثر الإنجليزي والفارسي، فإنَّ وصفه يشبه وصفَ خواند مير للمباني في أوجِها.

في سبعينيات وثمانينيات القرن، كانت هِرَات على ألسنةِ الإنجليز بلا انقطاع. حتى إنها ظهرت بغتةً في خطابات الملكة فيكتوريا. لو كان الروس قد استولوا عليها، كما كانوا يتوقَّعون، لكانوا قد أخذوا طريق قندهار المنخفِض لإنشاء سكة حديدية إلى الحدود الهندية. في عام ١٨٨٥، وقعت حادثة بانجدة. ومع أنَّ سانت بطرسبرج، عاصمة روسيا القيصرية، كانت قد وافقت بالفعل على لجنة ترسيم الحدود المشتركة، فإن القوات الروسية هاجمت الأفغان جنوبَ شرق مرو وأجبرتهم على الانسحاب. كان من المتوقَّع حدوث تقدُّم في هِرَات في أي يوم، وقد بعث الأمير عبد الرحمن الأوامرَ بأن توضع المدينة في حالة دفاع. كان الروس سيقتربون من جهة الشمال. ومن ثَم كان لا بد من هدم جميع المباني التي ستؤمِّن لهم تغطيةً في هذه الجهة من المدينة. كان ضباط الجيش الهندي قد أخذوا ينصحون بهذه التدابير لأعوام. أظن أن هذا الأمر بعينه كان بإيعازٍ بريطاني؛ وإن كان لا بد للدليل على ذلك أن ينتظر حتى تفصح سجلات دلهي الأرشيفية ووزارة الحربية عن أسرارهما. على أي حال، فإن أعظم منتجات العمارة الإسلامية في القرن الخامس عشر، التي نجت من بربرية أربعة قرون، قد سُويت بالأرض الآن على مرأًى من المفوضين الإنجليز وبموافقتهم. نجا من ذلك تسع مآذن والضريح.

وحتى هذا النقش على شاهد الضريح معرَّض للخطر. اختفت مئذنتان بالفعل منذ كان نيدرماير هنا. فقد سقطتا خلال زلزال سنة ١٩٣١، الذي دمَّر أيضًا ضريحًا مقبَّبًا آخر كان قد صوَّره فوتوغرافيًّا. رأيت موقِعَه أمسِ، بالقرب من مفترق الطرق إلى کُشك والحدود الفارسية، صار كومةً من الانقاض. ما لم تُجرَ إصلاحات وتُعزَّز الأساسات، فسرعان ما ستصبح الآثار الأخرى أنقاضًا.

ومع ذلك، يتبقَّى منها ما يكفي، وتوجد معلومات كافية لبيان الوضع الذي كانت عليه المباني حتى عام ١٨٨٥.

كانت المئذنتان اللتان سقطتا في السنة قبل الماضية زوجًا للمئذنتين العريضتين جهة الغرب. وكانت المآذن الأربع معًا تحدِّد أركان أحد المساجد. كان هذا هو المصلى الفعلي. ووفقًا لنقشٍ على إحدى المآذن، التي صوَّرها نيدرماير، والتي لا بد أنها قد انهارت في الزلزال، أنه بنَتْها جوهر شاد بيجوم، زوجة شاه رُخ، ابن تيمورلنك، على نفقتها الخاصة، بين عامَي ١٤١٧ و١٤٣٧. وأغلب الظن أن المعماري الذي بناها هو قَوَّام الدين شيرازي، الذي عمل لدى شاه رُخ بتلك الصفة خلال الجزء الأكبر من عهده، وقد ذكره المؤرخ دولت شاه باعتباره أحد المصابيح الأربعة العظيمة لبلاطه.

يقول دييز، الذي يعرف الموضوع بقدرِ ما يعرفه أي أحد، وليس عبدًا لعواطف رحلته مثلي، إن هذه المآذن مزخرفة «بروعة حكاية خيالية وذوق رفيع» (“Märchenhafter Pracht and Subtilem Geschmack”) ولا نظير لها في العمارة الإسلامية. إنه يتحدث وفق ما رآه في الصور الفوتوغرافية فقط. ولكن لا يمكن لأي صورة أو وصف أن ينقل لونها الذي يشبه لونَ العنبِ الأزرق ذا الإشراقة باللون الأزرق السماوي، أو تلافيفها المعقَّدة التي تجعلها عميقةً ومتألقةً للغاية. في القواعد، المدعمة جوانبها الثمانية بألواح رخامية بيضاء عليها نقوش منحوتة بالخط الكوفي الباروكي، بالألوان الأصفر، والأبيض، والأخضر الزيتوني، والأحمر الصدئ الممتزج بخطين أزرقين في متاهة من الأزهار، والفسيفساء، والنصوص في جمال الأنماط التي تُرسم على فناجين الشاي. والأعمدة بالأعلى مغطاة بمعينات صغيرة ألماسية الشكل مملوءة بالأزهار، ولكنها لا تزال في الأغلب بلون العنب الأزرق. كلٌّ منها يحدُّه خزف أبيض بنقش بارز بحيث يبدو الجزء العلوي من كل مئذنة ملفوفًا في شبكة لامعة.

من ناحية الزخرفة، المآذن عمومًا هي الأجزاء الأقل تعقيدًا في أي مبنًى. وسواء كانت الفسيفساء في باقي أجزاء المصلَّى تفوق ما بقي إلى يومنا هذا أو تكافئه، فلم يوجد مسجد كهذا، لا قبله ولا بعده.

ولكني لا أعلم. بَنتْ جوهر شاد مسجدًا آخَر، داخل الضريح في مدينة مشهد. ولا يزال هذا المسجد سليمًا. لا بد أن أراه بطريقةٍ ما إذا رجعت من هذا الطريق.

بإمعان النظر في التفاصيل، أجد أن زخرفة الضريح أدنى من تلك التي في المئذنتين. طبلة القبَّة مطوَّقة بألواح طويلة مملوءة بسداسيات من الفسيفساء الأرجوانية الفاتحة ممزوجة مع مثلثات جصية بارزة. أما القبَّة نفسُها ففيروزية اللون، والدعامات، كتلك التي في ضريح تيمور بسمرقند، متناثر عليها أشكال ألماسية باللونين الأسود والأبيض. كل دعامة يتحدَّب ثلاثة أرباعها فوق القبَّة وفي سُمك أنبوب أرغن بطول ٦٤ قدمًا. والجدران بالأسفل خالية إلا من قليل من القِرْميد المزجَّج، وتجويف غريب ذي ثلاث نوافذ يُذكِّر المرء بفيلا في ضاحية كلافَم. لكن جودة كل عنصر من هذه العناصر منفردًا، ولو كانت رديئة في بعض الأحيان، ترفع من شأنها دقَّة النِّسب وصلابة الفكرة ككلٍّ. يمكن لقلة من المنشآت المعمارية أن تضاهي قبَّة مضلَّعة من أجل تباهٍ تذكاري أعمى.

يبدو أن هذا أيضًا كان من أعمال جوهر شاد. يتحدَّث بابر عن مبانيها الثلاثة: مسجدها الذي هو المصلَّى، ومدرستها أو كليتها، وضريحها. ويذكر خواند مير مراتٍ عدةً أن الضريح كان داخل المدرسة. وقد دُفنت بالتأكيد في الضريح؛ ذكريات النقش على شاهد قبرها. وذكر أيضًا تلك النقوش التي على شواهد القبور الخمسة الأخرى، والتي كانت كلها لأمراء تيموريين. وقد ذكر خانيكوف قبل ذلك بخمسة وعشرين عامًا تسعة قبور إجمالًا. الآن يوجد ثلاثة فقط، من حجر أسود غير لامع، على شكل صناديق مستطيلة منحوت عليها تصاميم أزهار. أحدها أصغر من الاثنين الآخرين.

وبعد ذلك، شرقَ الضريح، تقف المئذنة المنعزلة بشرفتيها. إن أصلها يحيِّرني. فزخارفها من المعينات الزرقاء المرصَّعة بالأزهار، لكنها مفصولة بقِرْميد بسيط، لا يُقارَن بزخارف مآذن المصلى. ربما كانت جزءًا من مدرسة جوهر شاد. ومن البديهي أن تكون المدرسة أكثرَ بساطة من المسجد. يتحدَّث بابر كما لو كانت المدرسة والمسجد والضريح كلها متقاربة مكانيًّا.

ينتابني بعض الفضول حيالَ جوهر شاد، ليس من أجل تقواها المتمثِّلة في هِباتها للمؤسسات الدينية، ولكن لكونها امرأة ذات سليقة فنية. فإما أن تكون قد امتلكت هذه السليقة، أو أنها كانت تعرف كيف توظِّف مَن كانوا يتمتَّعون بها. يُظهِر هذا ما كان لديها من شخصية. فضلًا عن ذلك، فقد كانت ثرية. والذوق، والشخصية، والثراء يعنون القوة، ومن غير الشائع رؤيةُ النساء القويات، بعيدًا عن الفاتنات، في التاريخ الإسلامي.

ظلَّت أربع مآذن بالقرب من الجسر فوق القناة المتعرِّجة. وهي أيضًا مطوَّقة بشبكة بيضاء، ولكن زُرقتها أكثر لمعانًا من زرقة مآذن المصلى، بحيث تبدو من قريب كما لو كان المرء قد رأى السماء عبر شبكة من الشَّعر اللامع، وكما لو كانت قد زُرعت فجأةً بالأزهار. وهي تحدِّد أركان مدرسة السلطان حسين بايقرا، الذي حكم هِرَات من عام ١٤٦٩ إلى عام ١٥٠٦. ويقع في الجوار شاهد قبر جَده، الذي يشبه الضريح، ولكنه يُعرف بحجر الأقلام السبعة بسبب غزارة النقش عليه، ولا يزال يحظى بالتبجيل الذي تحظى به الأضرحة الشهيرة.

يعكس الجَمال الشاعري والأقل فخامة لهذه المآذن العهدَ الذي بُنيت فيه. وعلى عكس جوهر شاد، فإن حسين بايقرا أكثر من مجرد اسم. فهيئته على الأقل مألوفة. فقد رسمه بِهزاد‎. ووصفه بابر كما وصف مُتَعه أيضًا. كانت له عينان مائلتان، ولحية بيضاء، وخَصر نحيل. وكانت ملابسه باللونين الأحمر والأخضر. وعادةً ما كان يرتدي قَلنْسوة من جِلد الحمَل. ولكن في أيام الأعياد «كان يضع في بعض الأحيان عمامة من ثلاث طبقات، بلفَّات عريضة وغير مُحكَمة، ويغرز فيها ريشةَ طائر بَلَشون، وهكذا يذهب للصلوات». كان هذا أقل ما يمكنه فعله؛ إذ قُرب نهاية حياته أعاقه الروماتيزم إعاقةً شديدة حتى إنه لم يتمكَّن من أداء الصلاة كما ينبغي. وكحال الأشخاص الصِّغار البنية، كان يستمتع بإطلاق الحمَام للطيران، وتوفيق ديكة القتال وأكباش القتال. كان أيضًا شاعرًا، ولكنه نشر أبياته دون الكشف عن هويته. عند مقابلته، كنت تجده بشوشًا ودَمِثًا، غير أنه كان غير معتدل في طبعِه وعاليَ الصوت. وقد كان نَهِمًا في الحب، العفيف منه والصريح. فقد كان لديه عدد لا حصر له من المحظيات والأبناء، الذين أفسدوا سلام الدولة وسلام شيخوخته. ونتيجةً لذلك، فإن «ما حدث مع أبنائه والجنود ومع المدينة كان أن الجميع قد تمادَوا في الرذيلة والمُتعة».

لم يكن بابر متزمتًا. لكن الحفلات التي كانت تُقام في هِرَات دفعته إلى السُّكْر. وفي شرحه لكيفية حدوث هذا يكشف، لأول مرة في حياته، عن تأثير مثل هذه الأجواء على اتزان شاب. ومع ذلك، باستحضار الماضي في هِرَات عندما أصبح هو نفسه عظيمًا، نجده لا يزال يكتب بتوقير كحال شخصٍ شهِد عصرًا عظيمًا، وبعدما تعلَّم كيف يعيش، رأى ذلك العصر يتلاشى، حاله في ذلك كحال تاليران. كانت النزعة الإنسانية لذلك العصر أُسوته في الحياة. كان إنجازه في التاريخ هو إعادة غرسها، وترك ذرية تحافظ عليها، وسط ثورات البغي وجموع هندوستان الفظة.

يخبرني مدير الخارجية أن شاحنةً ستغادر إلى أندخوي في غضون أربعة أيام. هذا سيعني أن علينا إيجادَ شاحنة أخرى من هناك للذهاب إلى مزار شریف. ويضيف أن الطريق من تركستان إلى كابول ممتاز، وأن شاحنات البريد ما زالت تعمل.

figure
هرات: التأثير الصيني في جازار جاه ١٤٢٨.

أعطاني البنك الإمبراطوري في بلاد فارس في مدينة مشهد سنداتٍ بالروبية على فرعه في بومباي لأستخدمها في أفغانستان. ذهبت هذا الصباح لصرف أحدها لدى شركة أشرمي، وهي الشركة التجارية الحكومية المنشأة حديثًا. لم يستطِع أحد في المكتب قراءة السَّند أو حتى أرقامه. ولكنهم اعتمدوا على قولي بأنه بقيمة ١٠٠ روبية، وبعد أن اكتشفوا، بتوارد الخواطر على ما يبدو، السعر الحالي للصرف في قندهار، أحصوا ٦٧٢ عملة فضية حجمُ كلٍّ منها كحجم الشلن. أخذتُ هذه العملات في كيسين، ومشيت بتثاقل عبر الحشد في البازار كمليونير في فيلم رسوم متحركة.

هِرَات، ٢٤ نوفمبر: شكُّ العامة ظَهر في العلن اليوم.

كنت قد ذكرت قلعة اختيار الدين شمال أسوار المدينة. بناها في الأصل ملوك آل كرت في القرن الرابع عشر، على ما يبدو عندما تخلَّوا عن ولائهم للمغول. غير أن إحياء النزعة الوطنية الفارسية الذي أظهره هذا الفعل كان قصير الأجل. في نهاية القرن، تدفَّقت موجةٌ أخرى من آسيا الوسطى؛ فدمَّرت جيوش تيمور آل كرت وكذلك قلعتهم. وفي وقت لاحق، وجد شاه رُخ أنه بحاجة إلى قلعة. ففي عام ١٤١٥، كلَّف ٧٠٠٠ رجل بالعمل على إعادة بناء القلعة القديمة، وقد تمحور التاريخ السياسي لهِرَات حولها منذ ذلك الحين. وهي الآن قاعدة رئيس الأركان وثُكنة عسكرية.

تتألَّف واجهتها الشمالية من متراس ضخم بطول ربع ميل تقريبًا، ويتحدَّب عند مسافات متباعدة في شكل أبراج نصف دائرية يتخذ جزؤها في أقصى الغرب نمطًا من قِرْميد أزرقَ مرصوص على سطحها الطيني: في مزج غير معتاد للمواد ينمُّ عن أن هذا البرج، إن وُجِد، قد يعود تاريخه إلى حِقبة ترميم شاه رُخ للقلعة. عندما عاينتها، عُدت إلى الركن الأبعد لساحة العروض ذات الجدران التي تفصل القلعة عن المدينة الجديدة؛ وذلك لألتقط لها صورة فوتوغرافية. قادني هذا إلى موضعٍ قريب من مرأب مدفعية يحوي ما يقرب من عشرين مدفعًا، والذي قد يخطئ المرء ويظنه من بعيد مكبًّا لعربات الأطفال المفكَّكة. عُدت بعد ذلك إلى الفندق لآخذ بعض الطباشير كي أنسخ به النقش الكوفي الموجود أسفل البرج. وفي الوقت نفسه، غادر الرجل المُسن، الذي كلَّفه مدير الخارجية بالاعتناء بي، ليتناول غداءه.

عندما عاد، قلت إننا يجب أن نرجع إلى القلعة من أجل النقش. أجاب بأن ساحة العروض كانت مغلقة.

«هل قلت مغلقة؟ لقد كنا هناك منذ ساعة.»

«أجل، كنا هناك، ولكنها الآن مغلقة.»

«حسنًا، سنذهب غدًا بدلًا من ذلك.»

«ستكون مغلقة في الغد أيضًا.»

«في تلك الحالة سأذهب في الحال.»

وانطلقت بخطًى حثيثة، بينما تقدَّم الرجل المُسن بتثاقلٍ خلفي محتجًّا. كما توقَّعت، كانت بوابة ساحة العروض لا تزال مفتوحة على مصراعيها. ولكن على إثرِ همسة أصدرها مرافقي، أمسك بي الحارس وأخرجني. جادلته قائلًا إن الحاكم نفسَه أخبرني أنه بإمكاني زيارة القلعة. قال الرجل المُسن إن هذا لا يهم؛ فهذه كانت أوامر مدير صاحب (السيد المدير).

عندما رجعت إلى الفندق، وجدت الطبيب. كان في طريقة إلى القلعة لمقابلة رئيس الأركان. ثم رجع بعد نصف ساعة ومعه ضابط قال إن رئيس الأركان لم يرَ ما يمنع نسخي للنقش. وقال إنه سيرافقني.

تحاشيت الآن النظر إلى مرأب المدفعية كي لا أحرجه. لكن ولَعي لاحقه بشغف. احتفظت بسر وجود تسليح هائل قادر على مقاومة أو تعجيل تقدُّم الجيش السوفيتي في الهند، وهو الأسوأ. تخيلت نفسي وأنا أحصل على وسام صليب فيكتوريا، وربما على مقعد في مجلس الوزراء، إذا بلَّغت عن وجوده.

كان من الشائق، بناءً على خبرتي الشخصية، اكتشافُ الكيفية التي يجد بها الجواسيس عملهم.

يوجد صفٌّ من عربات الأجرة خارج ساحة العروض. وعندما خرجنا، تقدَّم حصانان شابَّان، لا يسحبان عربةً خفيفة، ولكن عربة زرقاء ضخمة بأربع عجلات مزيَّنة بالشعار الملكي لبلاد فارس ومبطَّنة من الداخل بساتانٍ سماوي اللون. جلست أنا والرجل المُسن في هذه العربة، ومضينا بها إلى ضريح جازار جاه، القائم على أول منحدرات جبلية إلى شمال شرق المدينة.

يذهب الجميع إلى جازار جاه. فقد ذهب بابر. وذهب همايون. وقد حسَّن شاه عباس إمدادات المياه. ولا يزال المكان هو المنتجَع المفضَّل لأهل هِرَات ومصدر فخرهم الأكبر أمام الزائرين. توجد ثلاثة مرافق. يحتوي الأول على أيكة من أشجار الصَّنَوبر المظلية ومقصورة بعشر أضلع من طابقين للنزهات. وتحيط بالثاني مبانٍ غير منتظمة؛ وفي الوسط توجد بِركة تظلِّلها شجيرات التوت والورد. والثالث مستطيلي الشكل وممتلئ عن آخره بالقبور، ومن بينها قبر الأمير دوست محمد. وعند الطرف الأبعد ينتصب قوسٌ طويل في جدار بارتفاع ثمانين قدمًا، ويُسمى إيوانًا بالمعنى الدقيق للكلمة، وتُظهِر فُسيفساؤه الداخلية تأثرًا بالعمارة الصينية. أمام هذا، وتحت شجرة بلوطٍ أخضر عجوز، يقع قبر الولي. على شاهد القبر، المصنوع من الرخام الأبيض، منقوش تاريخه، والذي أضيفت له أساطير.

مات خواجة عبد الله الأنصاري سنة ١٠٨٨ في الرابعة والثمانين من عمره، وذلك على إثر إلقاء بعض الصِّبية الحجارة عليه أثناء تكفيره عن ذنوبه. يتعاطف المرء مع أولئك الصِّبية؛ فقد كان حتى بين الأولياء شخص مملٌّ للغاية. تكلَّم في المهد، بدأ الوعظ في سن الرابعة عشرة؛ وأثناء حياته حافظ على صلته بالشيوخ المجاذيب، وحفظ ١٠٠ ألف بيت عن ظهر قلب (ويقول البعض مليونًا ومائتَي ألف بيت)، وألَّف أكثر من ذلك بكثير. وقد كان مولعًا بالقطط. ابتدع شاه رُخ وقفًا خاصًّا له، وأعاد بناء الضريح في شكله الحالي في عام ١٤٢٨. كانت هذه فترة البعثات الصينية، وهو ما قد يُفسِّر الأنماط الموجودة في الإيوان. وقد دُفن هنا في وقتٍ لاحق من ذلك القرن بعض التيموريين الأقل شأنًا، والذين لم يكن لهم مكان في الضريح. ذكر خانيكوف خمسًا من مقابرهم، بما في ذلك مقبرة محمد المظفَّر، أخو حسين بايقرا، الذي يخبر نقش قبره، الذي خالف العبارات الجنائزية المبتذلة، الأجيالَ القادمة بأنه قُتل على يد قريبه محمد، ابن بايسنقر. ووجدت في الحُجيرات الموازية للأروقة المقنطرة الجانبية مقبرةً ملكية من حجرٍ أسود، على ثلاثة أسطح مختلفة، أفضل من حجر الأقلام السبعة، وحتى بنقوش أفضل. لم أتمكن من التعرف على بقية المقابر.

في الركن الجنوبي الشرقي للفناء الأوسط، توجد مقصورة مزيَّنة من الداخل برسوم أزهارٍ ذهبية على أرضية من اللازورد. وقد ذكر فيرير أن هذه الرسومات مرفقة بتوقيع جيرالدي، وهو رسام إيطالي وظَّفه شاه عباس. مرة أخرى، لم أتمكَّن من العثور على هذا التوقيع.

في طريق العودة، توقَّفت العربة عند تخت سفر، وتعني «أريكة المسافر»، وهي حديقة مدرَّجة خرِبة تمامًا، ازدادت كآبةُ أجوائها الكئيبة بطبيعتها مع اقتراب فترةِ ما بعد الظهيرة ليومٍ خريفي والصافرة الأولى للريح الليلية. ومن الخوان الفارغ بالأعلى، ينزل صفٌّ من البِرك والمجاري المائية من مصطبة لأخرى. بُنيت حديقة زينة حسين بايقرا هذه بالسخرة؛ لأنه عندما كان أتباعه يتجاوزون حتى الحدود العريضة التي وضعها لما هو مسموح به أخلاقيًّا، كان عليهم المساعدة في إنشاء حديقة السلطان بدلًا من الذهاب للسِّجن. وحتى القرن الماضي، كانت توجد مقصورة هنا، وكانت المياه لا تزال جارية؛ حيث يذكر موهان لال نافورةً كبيرة، «يصل ارتفاع سهام مياهها إلى قمة المبنى». يا لها من عبارة! لكن موهان لال، مع اعتذاره عن مستوى لغته الإنجليزية لمحرِّر «دورية البنغال»، كان أحيانًا يكتب بشكل جيد جدًّا. كان من الصعب عليه تحسينُ وصف ور محمد، الذي صار لاحقًا حاكم هِرَات؛ حيث قال: «إنه أمير حزين وضعيف، إنه يثير شفقة البشرية.»

وصل إلى هنا رجلٌ مَجري. وكان قد قضى لتوه شهرًا في مستشفى قندهار، ولا تزال مَعدته معتلَّة فلا يستطيع تناول الطعام. في الواقع، لقد كان يتضور جوعًا. أعطيته بعض الحساء والأوفالتين (مشروب مسحوق الشعير)، الأمر الذي أبهجه وجعله يتحدَّث بلغة فرنسية سيئة.

«لقد أمضيت خمس سنوات في الأسفار، يا سيدي. وسأظل أسافر خمس سنوات أخرى. وبعد ذلك ربما سأكتب شيئًا.»

«أتحب السفر؟»

«مَن الذي يمكن أن يحب السفر في آسيا، يا سيدي؟ لقد تلقيتُ تعليمًا جيدًا. ماذا كان والداي سيقولان لو كانا قد رأياني في مكان كهذا؟ إنها ليست مثل أوروبا. بيروت تشبه أوروبا. يمكنني تحمُّل بيروت. لكن هذا البلد، وهؤلاء الناس … الأشياء التي رأيتها! لا يمكنني إخبارك بها. لا أستطيع. آآآآآه!» ودفن رأسه بين راحتيه، وقد غلبه الانفعال عندما تذكَّر تلك الأشياء.

قلت وأنا أربِّت عليه برفق: «تعالَ يا سيدي، أفضِ إليَّ بهذه التجارب المريعة. ستشعر بتحسُّن حيالها عندما تفعل.»

«لست يا سيدي من النوع الذي يظن نفسَه أفضل من بقية البشر. فأنا حقًّا لست أفضل من الآخرين. بل ربما أكون أسوأ منهم. ولكن هؤلاء الناس، هؤلاء الأفغان، ليسوا بشرًا. إنهم كلاب، متوحشون. إنهم أدنى من الحيوانات.»

«ولكن لماذا تقول ذلك؟»

«ألا ترى السبب يا سيدي؟ أليس لديك عينان؟ انظر إلى أولئك الرجال هناك. ألا يأكلون بأيديهم؟ «بأيديهم»! إنه أمرٌ مروع. أقول لك يا سيدي إنني رأيت في إحدى القرى رجلًا مجنونًا، وقد كان عريانًا … عريانًا.»

صمتَ برهة. ثم سألني بنبرة رصينة: «أتعرف إسطنبول يا سيدي؟»

«أجل.»

«لقد عشتُ في إسطنبول لمدة عام، وأقول لك يا سيدي إنها جحيم لا سبيل للخروج منه.»

«حقًّا. ولكن، بما أنك هنا، فهل وجدت سبيلًا للخروج؟»

«أجلْ يا سيدي، حمدًا للرب.»

هِرَات، ٢٥ نوفمبر: كان عليَّ أن أغادر اليوم.

أمطرت السماء في الليل ولا تزال تمطر هذا الصباح. ومع ذلك، حزمتُ أمتعتي وجلست في غرفتي حتى الساعة الثانية عشرة، عندما كان الرأي السائد أن الشاحنة لن تنطلق. بعدما أفرغت أمتعتي، ذهبت إلى مسجد الجمعة.

مسجد الجمعة يُقصد به المسجد الذي تُقام فيه صلاة الجمعة. في كل مدينة يوجد واحد. وهو يعادل كنيسة أبرشية أو كاتدرائية حضرية حسب حجم المكان، وعادةً ما يكون المبنى الأقدم وغالبًا ما يكون الأكبر في المنطقة. وكما هو الحال في مدينة أوروبية، لا يزال ديرها أو كاتدرائيتها تُظهِر معالم العصور الوسطى، بينما تغيَّرت الأديرة والكاتدرائيات الأخرى بمرور الوقت، فإن هذا المسجد القديم الكئيب داخل الأسوار في هِرَات يجأر بالشكوى من ملازمته منذ عهد بعيد لأبهة التيموريين الفارغة في الضواحي. وقد نمت عظمة هذا التجمُّع بين ليلة وضحاها؛ حيث يحتفلون بذكرى أشخاص متفردين؛ ازدهروا وتلاشَوا. كان مسجد الجمعة قديمًا وخرِبًا قبل أن يسمع أحدٌ عن التيموريين. إنه أقل دمارًا الآن بعدما لم يَعُد أحد يسمع بهم. طوال سبعة قرون، صلَّى فيه أهل هِرَات. ولا يزالون على هذا الحال، وتاريخه هو تاريخهم.

خرجت من المتاهات الكئيبة للمدينة القديمة إلى فِناءٍ مُعبَّد بطول ١٠٠ ياردة وعرض ٦٥ ياردة. يوجد أربعة إيوانات، وهي أروقة مقنطرة مفتوحة الواجهة، تقطع الأركان الأربعة ذات الأروقة. يرافق الإيوانَ الرئيسي، جهة الغرب، بُرجان هائلان بقُبَيبتين زرقاوين. وفيما عدا هاتين القُبَيبتين، وشجرة صنوبر مظلية مائلة في الركن، لا توجد ألوان؛ فقط قِرْميد مبيض سيئ وقِطَع مكسَّرة صغيرة من الفسيفساء. تعكس بِركة مربَّعة صورة مُلَّا وتلاميذه، الذين يمرُّون وقد ارتدَوا جميعًا ثيابًا بيضاء. يُضفي الصمت وضوء الشمس سكينةً على الرصيف المتآكل. كانت سكينةً أرغب فيها. اللعنة على الشاحنة وعلى شكوكي بشأن الرحلة. فقد نسيتها.

شُيِّد المسجد في عام ١٢٠٠ على يد غیاث الدین بن سام، من سلالة الغوريين، الذي جعل هِرَات عاصمته بعد تفكُّك الإمبراطورية الغزنوية، وقد أُحيِيَت ذكراه في النقش السفلي لمبنى قطب منار في دلهي. وهو أيضًا مَن أنشأ الأروقة المقنطرة، وهي أروقة متقاطعة لها عشر أقواس مدبَّبة أو أكثر؛ وأظن أنه يوجد أيضًا نقش كوفي في قِرْميد مزخرف على قوس في الركن الشمالي الشرقي؛ مما يعطي فكرةً عما كانت عليه الزخرفة الأصلية. بجوار هذا يقع ضريح غياث الدين، وهو ملحق مربَّع بالمسجد، انهارت قبَّته تمامًا. توجد قبور وسط الأنقاض، ولكنها بلا حجارة أو نقوش.

ظلَّ هذا هو الضريح الملكي حتى أتى التيموريون. فقد دُفن هنا حكام سلالة آل كرت، وأعادوا في القرن الرابع عشر لصْق الجدران، ونحتوا على السطح خربشات ليبدو كبناء قِرْميدي قديم. وضعوا أيضًا نقشًا حول الجزء الداخلي من الإيوان الرئيسي، مستخدمين خطًّا كوفيًّا متداخلًا دقيقًا، يبدو أنهم قد استعاروه من غزنة في نوبةٍ أخرى من الشغف الواعي بالآثار.

خلف الإيوان الرئيسي، كما هو متوقَّع، كان يوجد محراب، أصبح غير آمن، وهدَمه علي شير النوائي سنة ١٤٩٨. بعد الأمراء أنفسهم، كان علي شير مثال النهضة التيمورية في أخلاقه وأفعاله على حدٍّ سواء. كان قد وقف بجوار حسين بايقرا في بداية حياته، وصنع ثروته معه. ولكن لأنه لم يكن له زوجة أو أولاد يحفزون طموحه، اعتزل السلطة من أجل الفنون. يقول بابر: «لا يُعرف داعم أو نصير مثله لأصحاب المواهب والمهارات، ولم يُسمع بظهورِ أحد مثله.» أنقَذَ علي شير حسين بايقرا من اتِّباع المذهب الشيعي، بل يتبيَّن من احتقاره للتنجيم والخرافات أنه كان رجلًا ذا تفكير عقلاني. وقد كرَّس ثروته للأشغال العامة. ففي خراسان وحدَها بنى ٣٧٠ مسجدًا، ومدرسةً، وخانًا للمسافرين، ومستشفًى، وقاعةَ قراءة، وجسرًا. جمع مكتبةً ضخمةً وضعها تحت تصرُّف المؤرِّخ مير خواند. يضيف بابر: «في الموسيقى أيضًا، ألَّف بعض الأشياء الجيدة، وبعض الألحان والمقدمات الموسيقية الممتازة.» كان أهل هِرَات يُكنُّون له تقديرًا كبيرًا حتى إن الابتكارات التِّجارية سُمِّيت تيمُّنًا باسمه، بما في ذلك سَرْج ومنديل جديدان، مثلما سُمي نوعٌ من البسكويت تيمُّنًا باسم جاريبالدي. ويذكر له العلماء مناصرته للغة التركية باعتبارها وسيطًا أدبيًّا، ودفاعه عنها أمام ازدراء الفُرس لها. تُوفي في عام ١٥٠١. وبعد وفاته بخمس سنوات، أقام بابر في منزله.

عندما رأى قُرب نهاية حياته الدَّمار الذي أصبح عليه مسجد الجمعة، وانطلاقًا من وعيه بأهميته التاريخية، أخذ الإذن من السلطان بترميمه. نُفِّذ العمل بسرعة محمومة، وقد أشرف عليه بنفسه، كما شمَّر عن ردائه وأمسك بالمجراف. وقد أضيف أعلى الأروقة المقنطرة جدارٌ ساتر، ذو ثقوب على شكل أقواس مطابقة للأقواس بالأسفل؛ وغُطي سطح الاثنين، الذي كان يواجه الفناء، بطبقة من الفسيفساء. على الأقل كانت تلك هي الخطة. لكنها لم تكتمل قط، وظلَّ الركن الجنوبي الغربي فقط من المسجد سليمًا. بُني محراب آخر، وزُيِّن، حسبما قال خواند مير، بتصاميم صينية. ولكنه اختفى بالكامل.

يوجد أثرٌ تيموري آخرُ باقٍ في المسجد، وهو قِدرٌ برونزي قُطرُه حوالي أربع أقدام مغطًّى بزخارف أرابيسك ونقوش بارزة. صُنِع قِدر مماثل بأمر من تيمورلنك لمسجد حضرة يسوي في مدينة تركستان حيث لا يزال موجودًا هناك.١ويرِد ذِكر القِدر الموجود في هِرَات، والمحفوظ في خِزانة على دَرَج الإيوان الرئيسي، في أوصاف البعثات الدبلوماسية الصينية.

في يوم الجمعة ٢١ فبراير من عام ١٤٢٧، تعرَّض شاه رُخ لمحاولة اغتيال في هذا المسجد، وكان فِراره منها إنقاذًا للإمبراطورية لمدة عشرين سنة أخرى. مؤخَّرًا شهِد اليوم نفسه من أيام الأسبوع والمكان نفسه إحباطًا لمؤامرة أخرى للإطاحة بالحكومة الحالية.

منذ يومين نشر مسئولون من القنصلية الروسية إشاعةً في البازار مفادُها أن الملِك الجديد قد اغتيل مثل القديم؛ إذ كان غرضهم هو إثارة البلبلة لصالحِ أمان الله. ولم يضعوا حسابًا للحاكم، الذي يمقت أمان الله، والذي يحترمه الجنود لإخماده تمرُّدًا في صالحه العام الماضي. لا شك في أن الروس ظنوا أنهم إن رموا طُعمهم عصر يوم الخميس، فإن الناس سيكون لديهم الوقت لابتلاعه يوم الجمعة. كما تبيَّن، فقد ابتلعوا طُعم الحاكم بدلًا من ذلك. فقد خاطب عبد الرحيم خان نفسُه الحشدَ في مسجد صلاة الجمعة، وأنكر الشائعة، وأكَّد لهم المحافظةَ على النظام مهما يكن من أمر. أحبطهم الإعلان الأخير. فلم يكن يعنيهم الملك، بل كانوا يتطلعون لعمل من أعمال الشغب يمكنهم من خلاله مباشرةُ نزاعاتهم ونهب التجار الشيعة. والآن تأجَّل هذا الحُلم السعيد حتى فصل الربيع.

عصر هذا اليوم، ركض سِرب من الأطفال المعمَّمين إلى غرفتي، ومع أحدهم مطرقة، ومع آخر مسمار، ومع آخر إزميل، ووضعوا بعض الزجاج بالنافذة. ودِدتُ لو أنهم كانوا قد جاءوا قبل ذلك. فالشاحنة ستنطلق غدًا بالتأكيد إذا ظلَّ الطقس جيدًا.

وصلت رسالةٌ من الرجل المجري يقول فيها إنه مريض. ليلةَ أمس كان شاحبًا كالشبح. الآن وجدته متوردًا من أثر الحُمى وفي حالة إعياء. لم يكن يحميه من برودة الأرضية سوى حصيرةٍ صغيرة، وكان غطاؤه الوحيد سجادةً صغيرة بالية. داويته قدرَ استطاعتي، وأعطيته بطانية، وقلت له إن الطبيب يجب أن يراه. بعد نصف ساعة من الجِدال في المطبخ، أُرسِل في طلب الطبيب. وجاء الرد بأنه نائم. فذهبت إليه بنفسي، وشققت طريقي إلى منزله وأنا متخوِّف بعض الشيء من أن تكون نساؤه حاسرات الرءوس، وأقنعته أن يأتي. شخَّص الحُمى بأنها ملاريا، وقال إن المريض يجب أن يذهب إلى المستشفى، فنعته المريضُ بالهندي الأحمق، وقال إنه لن يذهب إلى المستشفى. بعد ثلاث ساعات جاء رجلٌ لأخذه إلى المستشفى. في الوقت نفسه، وصلت الأوامر من مدير الخارجية بأنه يجب ألا يذهب إلى المستشفى إلا بعد أن يكتب الطبيب مذكرةً رسميةً يطلب فيها الإذن بدخوله المستشفى. أرسلت تابعي المسنَّ لجلبِ هذه المذكِّرة. ثم دخل أحد الأتراك ليقول إنه بما أن مدير الخارجية قد ترك مكتبه بالفعل، فلن تصدر أيُّ أوامر بدخول المستشفى حتى الغد. فتخليت عن الأمر.

يقول البارسيون إن الرجل المجري ليس معه نقود على الإطلاق، وأنه يتعيَّن على السلطات الأفغانية أن تُطعمه وتنقله على نفقتها. إنه بالتأكيد من النوع الذي يعضُّ اليد التي تُمد له بالعون. ومن الواضح أن المفوَّضية البريطانية في كابول رفضت إعطاءه تأشيرةً للهند، وهم محقُّون تمامًا في ذلك في رأي البارسيين، الذين لم يكونوا شديدي الوطنية إلا أنهم لا يقبَلون «الفقراء من أصحاب البشرة البيضاء». تركت له عُلبة من مكعَّبات الحساء وبعض الجبن الكريمي لمساعدته في رحلة عودته إلى مشهد.

لجهلي بالكلمة الفارسية التي تعني قربةَ الماء الساخن، ضحِك كلُّ مَن في المطبخ عليَّ الليلة عندما طلبت منهم الخانم («زوجتي» بالفارسية).

هِرَات، ٢٦ نوفمبر: بزغ الفجر بسماء صافية وطقس دافئ، في يومٍ مثالي لهذا الوقت من العام. في الساعة التاسعة، قابلت سائق الشاحنة، الذي قال إننا سننطلق في الساعة الحادية عشرة. في الحادية عشرة، كانت الشاحنة تُعبَّأ بأوعية البنزين، وطلب مني مساعد السائق أن أكون مستعدًّا في الساعة الواحدة. وعندما أنزلت أمتعتي في الساعة الواحدة، علِمت أننا لن نغادر اليوم. ذهب الرُّكاب الآخرون جميعهم إلى قراهم أمس، بسبب المطر، ولم يظهروا ثانيةً.

ونظرًا لأنني على الأرجح سأمكث هنا بقيةَ حياتي (التي لن تدوم طويلًا بهذا المنوال)، فقد طلبت تنظيف غرفتي. حريٌّ بي أن أصفها، بل أن أصف الفندق بأكمله. في الطابق السفلي توجد ثلاث غرف كبيرة بواجهات زجاجية تُطل على الشارع. الغرفة الأولى هي المطبخ، ويتبين ذلك من بِركة من الدماء ورأس ديك مقطوع على الرصيف. الغرفتان الثانية والثالثة ممتلئتان بطاولاتٍ ذات أسطح رخامية، ومعلَّق على جدرانهما لوحات لمشاهد أوروبية رسمَها على الزجاج هنديٌّ على دراية بالأعداد الأولى لمجلة «ذا إلستراتيد لندن نيوز». هنا أيضًا يوجد مكتب السيد محمود، وجرامافون في خِزانةٍ ذات قوائم من بومباي، وكومة من السجلات الهندية. ويلاصق المطبخَ بيتُ درج خارجي يقود لأعلى إلى ممرٍّ طويل تضيئه نوافذ السقف، وبه غرف على الجانبين. غرفتي في الخلف، في موضع يجنِّبها بعضًا من جلبة النحَّاسين، وهي عبارة عن صندوق مربَّع، بسقفٍ ذي أعمدة عارية وألواح خشبية، وجدران بيضاء، ووزرة بلونٍ أزرق سماوي. الأرضية مكسوَّة بالبلاط، الذي تنضح فلقاته بغيمة من الأتربة والقش، ونصفه مغطًّى بسجادة، ونصفها الآخر بملاءات سريري وأغطية مقاومة للماء. أما الأثاث، فهو كرسيَّا ويندسور وطاولة مكسوة بقماش أمريكي أبيض. على الطاولة تقف زهرية ذات أشكال حلزونية بالأزرق والأبيض ومزينة بوردة زجاجية وردية — من ذلك النوع الذي تربحه في لعبة رمي الأطواق — وضع فيها السيد محمود باقةً دائرية مشدودة من الأقحوان الأصفر تحيط بحلقة من باقة أخرى بلون أحمر مائل إلى لون الشوكولاتة تحيط بمركز يحتوي على أقاحيَّ ذاتِ قلب أصفر. ويوجد حوض من البيوتر وإبريق أنيق يمكِّنانني من الاغتسال على الجزء العاري من الأرضية. يتألَّف فراشي من حقيبةِ نومٍ خضراء، ومعطف أصفر من جِلد الغنم، ولحافٍ أفغاني من قماشٍ أرجواني مزهر. بجواره وُضِع مصباحي، وكتاب لبوزويل، وساعتي، وسجائري، وطبق من العنب، على نحوٍ مريح فوق حقيبةٍ للأوراق. ولا تزال الخانُم (قربة الماء الساخن) في انتظارِ ملئها. دقوا لي مسمارًا لتعليق رابطات عنقي، وآخر لقبَّعتي، وثالث لمرآتي. لو لم يكن الباب والنافذة متقابلين، ولو أمكن إيصاد الباب، وكانت الألواح الزجاجية للنافذة كاملة، لكنت مرتاحًا بما يكفي. لكن تيار الهواء يشبه عاصفةً في البحر. وكلُّ ما يخرج من النافذة يذهب إلى حديقة البلدية.

حبست أنفاسي من الخوف توًّا عندما خرجت إلى الممر المضاء بنور القمر. كانت أربع بنادق موجَّهة إلى معدتي، يصوبها أربعة أشخاص كالأشباح في عباءات بيضاء، كانوا جاثمين في الغرفة المقابلة. كان بإمكاني أن أرى بريق عيونهم في الظلام أسفل عمائمهم البيضاء الباهتة. وكان أربعة آخرون يديرون ظهورهم لي وبنادقهم موجَّهة خارج النافذة. لا شك في أنها كانت صُحبة مسائية سارَّة للغاية. لكن منتظم التلغراف كان ينعِق كالغراب مجدَّدًا هذا الصباح حول الإضرابات القادمة، وتساءلت للحظة عما إذا كان أمان الله قد وصل بالفعل.

يوجد أثرٌ واحد هنا أقدمُ حتى من مسجد الجمعة. كتب المقدسي في القرن العاشر يصف جسرَ مالان، قائلًا إن مَن بناه كان أحد المجوس. وقد حمل لألف سنة حركة السير من الهند وإليها فوق نهر هري. اليوم لا يزال يشتمل على ٢٦ قوسًا — فقد كانت ٢٨ في عصر خواند مير — وحيزٍ يسَع شاحنتين متجاورتين. الأقواس مختلفة الأشكال، ونظرًا لأنه من المعتاد أن ينهار واحد أو اثنان منها كلَّ عام في فيضانات الربيع، وجبت إعادة بناء الجسر عدة مرات. لكن الدعائم ترتكز على الأرجح على أساسات قديمة.

المدينة جديرة بالمشاهدة من الجنوب. في أثناء رجوعنا من النهر في عربةِ الخيول الزرقاء، أظهرت شرفاتها المفرجة بلونها الرمادي القاتم أرضًا منبسطةً وقرًى كما لو كانت البشرية لم تعرف المدافع بعدُ. توجد ثلاثة جدران. يبلغ ارتفاعُ أعلاها ثمانين قدمًا، ويحميه صفٌّ من الأبراج. وتتخلل الاثنين الآخرين شبكةٌ من المنافذ. أسفلهما يقع خندق مائي واسع ينمو عليه الخيزران. تمتلك القسطنطينية النظام نفسه في الجانب البري، فيما عدا أن البناء هناك من الحجر، وهنا من الطين.

على الطريق الممتد بحذاء الخندق المائي قابلنا ثلاثة رجال يتنزَّهون خلف مهرٍ عالي الخطوات. كانوا جالسين واحدًا فوق الآخر في عربة صغيرة بنية اللون، كانت تعجُّ بأسلحةٍ تكفي لأن تملأ قاعةً بارونية.

كَرُخ (٤٤٠٠ قدم)، ٢٨ نوفمبر: بدلًا من حَزْم الأمتعة هذا الصباح، جلست أقرأ. نجحت الخدعة؛ فقد تحرَّكت الشاحنة في الساعة الواحدة. وكدت أُفوِّتها.

يمضي طريق فسيح مرصوف بالحصباء في اتجاه الشرق لأعلى إلى وادي نهر هري، في طريقه عبْر الجبال إلى باميان، غير أنه لم يصل إلى هناك بعدُ. على هذا بثلاثة عشر ميلًا، عند قرية بلا بين، انعطفنا في مسار ضيق إلى الشمال. صرخ الركَّاب في فوضى: «را تركستان، را تركستان.» الطريق إلى تركستان! بدا أن الأمر أروع من أن يُصدَّق.

تضمَّنت الأميال العشرون التالية تَكرار عبور نهر في إفجيج، اتضح من تدرُّجاته، أو بالأحرى من عدم تدرُّجه، أن السيارة من شأنها أن تكون بكفاءةِ بغلٍ إذا قادها سائقها بجرأة ومهارة. توقَّفنا في الساعة الثالثة والنصف لتمضية الليل. كان يوجد بالقرب من الطريق ضريح، تغطِّيه أيكةٌ من أشجار الصَّنوبر المظلية ذكَّرتني رائحتها بالمشجَّر الصنوبري في رافينا. كم تبقى ذكريات إيطاليا حية! ربما كنت سأصبح طبيب أسنان أو شخصية عامة لولا وقوع عينيَّ لأول مرة على عالَم أكبر. الساحة الداخلية مزروعة بنوع واحد من الأشجار؛ يسمونه «هورهوجو». أعلى هذه الجادَّة توجد قوس متواضعة ومضَت قُبَيباتها القصديرية ترحيبًا بنا من بعيد. هذا شاهد على قبر شيخ الإسلام الذي قُتل — أو ضُرِب عنقُه كما يقولون — في أثناء قتاله للفُرس سنة ١٨٠٧. شيَّد ابنُه أبو القاسم الضريح وزرع الأشجار تخليدًا لذكراه.

تفصل مجموعة من المباني بين الفناءين، حيث خُصِّصت لنا فيها غرفة في الطابق العلوي. انتهز الركَّاب الآخرون، الذين هم من الجنود، هذه الفرصة لتبديل ملابسهم العسكرية بعمائم ومعاطف طويلة وسراويل فضفاضة. ومنزعجًا من وابل لفافات الساق والسترات العسكرية، نأيتُ بفرش نومي إلى إحدى الشُّرفات، وكنت أبسطه عندما دخلت الفناء بالأسفل حشد من سادةٍ مكتنزين في منتصف العمر. خلعوا عباءاتهم وعمائمهم، وتوقَّفوا أمام شجرةٍ متصدعة، وحاول كل واحد منهم في دوره أن يحشر نفسه خلالها. قيل لي إن مَن نجحوا في ذلك قد ينالون الخلاص في الآخرة. وكان قلةٌ فقط مَن ينجحون في ذلك.

همس حارس البوابة عندما ذهبوا قائلًا: «هل معك بعض من شراب العَرَقي؟»

قادني عبر الجادَّة إلى المقبرة. وبينما كنت واقفًا على سطح القوس أراقب طيور الكركي تحوم فوقي ووميضًا ضاربًا إلى الحمرة يخيِّم على أفق الجبال المغطاة بالثلوج، بدأت تقترب مسيرة أخرى من الرجال المكتنزين أيضًا. تقدَّمها شخص مهيب يَلبَس حذاءً طويلًا أسود، وعباءة خضراء مبطَّنة، وتبرز أسفل عمامته الكبيرة لحيةٌ بيضاء أفقية على صدرٍ ضخم كصدر حمامة نفاخة. أوضح حارس البوابة بتفضُّل: «يأتي «حضرت صاحب» لتحية سيادتكم أيها الرحَّالة الإفرنجي.»

استهللت الحديث بتأدُّب: «ما أكبر السَّمك الذي لديك بالبِركة في الأسفل.»

ردَّ حضرت صاحب باستخفاف: «تلك! يجب أن ترى السَّمك الذي في المدرسة.»

قام الناس وانحنَوا في أثناء مشينا في مسيرتنا إلى مدرسة القرية. أسفل شرفةٍ معلَّق عليها نصوص من القرآن جلس مُلَّا في دائرة من الصبية الصغار الذين كانوا يردِّدون دروسهم على مسامعه. تبعثرت أشجار الصفصاف ومجموعاتٌ أخرى حول بِركة مربَّعة. طلب حضرت صاحب خبزًا وألقاه في الماء. اندفع سربٌ من البط إليه، ولكنَّ سربًا من أسماك الشبوط الشديدة الضخامة ارتفع إلى السطح وتغلَّب عليه. ومضى البط جائعًا.

ألقت جذوع أشجار الصنوبر ظلالًا طويلة عبْر الطريق المُقمِر. وحرَّكت نسمةٌ الشعلةَ داخل مصباح الكيروسين. نور محمد، وهو جندي التصق بي، نائم في ركنٍ من الشرفة. رأسه فوق بندقيته المصوَّبة نحو أنفي. كنا قد تناولنا وليمةً لتوِّنا؛ فقد عاد حضرت صاحب بعد العشاء تتقدَّمه صينية من البيوتر عليها مكسرات ورمان. وتبِعه الشاي في سلطانيات وليس أكوابًا، وهو ما جعلني أشعر بالقرب من الصين.

سأل حضرت صاحب: «أي حكومة تتبع؟»

«حكومة إنجليستان.»

«إنجليستان؟ ما هذه؟»

«إنها تمامًا مثل هندوستان.»

«هل إنجليستان جزء من هندوستان؟»

«نعم.»

ثَمَّة قافلة آتية على الطريق. بوم، بوم، يعمُّ الليلَ رنين جرس الجمل. يعلو صوت الأجراس الثلاثية رغم شخير نور محمد. أرسم بقلمي بعض العلامات دون تفكير. حان وقت النوم.

قلعة نو (٢٩٠٠ قدم)، ٣٠ نوفمبر: وصلنا هنا في الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم وتوقَّفنا لأخذ قسط من الراحة.

استمر الطريق من كرخ فوق أرضٍ ذات أعشاب متموِّجة يشقُّها نهر في واديه. مرَّت قبيلة من الكازاخ، أناس بوجوه سمينة يمتطون خيولًا وحميرًا وثيرانًا. وبجوار خان مسافرين منعزل، حملت لنا شاحنتان في طريقهما من أندخوي أخبارًا عن الطريق، لم يكن مُطَمئنًا. وأخيرًا، قادنا النهر، الذي تضاءل الآن وصار جدولًا، إلى واحد من تلك الوديان المتعرِّجة التي لا نهاية لها؛ حيث تبرُز نتوءات على كلا الجانبين بالتعاقب، على غرار عجلات التروس. بعد عشرين ميلًا، تركنا هذا متجهين لأعلى نحو الشمال. عندما وصلنا إلى خط الثلج، توقَّفت الشاحنة بينما دارت العجلات كخافقات البيض.

كنا مستعدين جيدًا. فسرعان ما استُخدمَت مجموعات من السلاسل، وثلاثة مجارف، ومعول، وحبال متينة لمنع الشاحنة من السقوط من فوق الحافة. استغرق المِيل التالي أربع ساعات. حفر البعض، وأمسك البعض الآخر بالحبال بإحكام، وألقى البعض فروعًا من عشب برائحة النعناع كما لو كانوا يلقونها أمام حمار المسيح المُخلِّص. كان النهار قد شارف على الانتهاء عندما قادنا تدفُّق متعرِّج وهتافات إلى المنخفض المحدب الضيق لممر ساوزاك (سابازاك) الجبلي.

على بُعد خمسين ميلًا عبْر ضوء الغروب وقفت أسوار الأرض الموعودة: باند تركستان، وهي جدار جبلي قمَّته مسطَّحة يمتد في اتجاه هِندوكوش. طفَت قِطَع من سُحبٍ ذهبية في السماء المنذِرة بهبوب عاصفة. كانت حِزم وأبراج من الصخر الأحمر العاري تُحصِّن الممرَّ الجبلي. وأنبأت أشجار العرعر، التي تقف كغفراء مُعَنفين وحيدين، وتتلاقى في الغابة على الروابي البعيدة بالأسفل، عن رطوبة واجهته الشمالية.

تلك الرطوبة كانت هي ما يثبط عزيمتنا. تحت الثلج، وبعدما كنا قد تركناه خلفنا، كان الطريق زلقًا كالفازلين، وشديد الانحدار كسكةٍ حديدية شاهقة، وغالبًا لا يزيد عرضه ولو بياردة واحدة عن قاعدة عجلات الشاحنة. عبثًا قطعنا أغصانًا، وتشبَّثنا بالحبال، وكوَّمنا الصخور في المنعطفات الحادة. شقَّت الشاحنة طريقها غير مباليةٍ بفرامل أو عجلة قيادة، مترنِّحةً بانحراف على الجلاميد، وإطاراتها معلَّقة في الفراغ، تُقذَف من جُرف لآخر، بينما نتعثَّر خلفها عبر الغسق والثلج المذاب الشديد البرودة. حيَّانا أحدُ الرعاة من الأسفل. بجواره، في ضوء القمر، كانت شاحنة أخرى جاثمة على الأرض وعجلاتها في الهواء. بحلول ذلك الوقت، كانت أضواؤنا تخفت. عندما وصلنا أخيرًا للمنحدرات المفتوحة، لم يتمكَّن السائق من القيادة، ولم نتمكن من السير أبعدَ من ذلك.

بعدما اختار الجنود ممرًّا ضيقًا، كان يضغط الرياح بضراوة، أوقدوا نارًا. لم يكن لدينا ما نطهيه، والأسوأ من ذلك أنه لم يكن لدينا ماء. لقد كنت ظمآنَ منذ الصباح، والآن شربت مخزونًا من الطين الأبيض، والثلج المذاب، والزيت، كان محفوظًا في صفيحة بنزين من أجل مبرِّد المحرِّك. سطع القمر، وكان الطريق وعرًا، وحملت الرياح بطانيتي بعيدًا، وظل الجنود بخطًى متثاقلة ذهابًا وإيابًا يحرسون المكان ويغنون لطمأنة أنفسهم. كنت أتحسَّر على هذه العقبات التي تعيقني عن النوم عندما وجدت نفسي فجأةً وقد استيقظت في ضوء النهار، بعدما نِمت عشر ساعات.

لم تكن القرية التي كنا نأمُل أن نصل إليها في تلك الليلة تبعُد سوى مسافة ربع ساعة. عندئذٍ وجدنا شاحنتين أخريين من أندخوي. كان ركَّابهما من اليهود الذي حسِبتهم، من وجوههم البيضاوية، وملامحهم الرقيقة، وقبَّعاتهم المخروطية الشكل الممتلئة بالفرو، من أهل بخارى. كانوا قد ناموا هم أيضًا في العراء. غير أن مشكلتهم كانت أكبر من ذلك، كان نزوحًا جماعيًّا من نوعٍ ما؛ أشار لي العديد من النساء جانبًا وشرعن في الغمغمة بالروسية. عندما أخبرتهن بأنني لا أفهم هذه اللغة، تشكَّكن مُشيراتٍ إلى شعري الأشقر باعتباره دليلًا على أنني لا بد أن أكون روسيًّا. ولكن روايتنا عن الممر الجبلي أخمدت حديثهن ليصير ارتباكًا مثيرًا للشفقة. تمسَّكت الأمهات بأطفالهن، وكان الرجال الطاعنون في السن يرتجفون ويئنُّون، وهم يمشِّطون لحاهم بأظافر متسِخة. بعد ذلك، قابلنا شاحنتين أُخريين تحملان مزيدًا من اليهود، كانتا تسيران بسرعة متهوِّرة.

قلعة نو، أو «القلعة الجديدة»، هي بلدة سوق صغيرة يقطنها حوالي ٢٠٠٠ نسمة. وفي نهاية شارعها العريض الوحيد، وجدت الحاكم جالسًا في حديقة خرِبة، بينما كان حصانه، الذي كان فحلًا رماديًّا بارتفاع خمسة عشر شِبرًا تقريبًا، يطأ حوض الأزهار المُهمَل. عندما رأى الخِطاب الذي حملتُه من مدير الخارجية في هِرَات، خصَّص لي غرفةً مُطلَّة على الشارع؛ حيث استمر نور محمد في مرافقتي. قال: «لا تهتمَّ بسعر الدجاج، فأنت ضيف هنا.» هذا كرمٌ ولطفٌ منه، لكنه منعني من شراء دجاجتين، أحتاج إلى إحداهما لرحلة الغد.

عصر هذا اليوم مشيت أنا ونور محمد ميلًا ونصفًا عائدَين عبر الطريق الذي كنا قد أتينا منه لمشاهدة بعض الكهوف في سفح التل. أسفلها مباشرةً، أصابني دوار، وكان عليَّ أن أنزل قبل أن أُترك وحيدًا. أكمل نور محمد رحلة الاستكشاف، وأكَّد لي أن الكهوف لا تحتوي على رسومات أو نقوش.

للتوِّ جاء سكرتير الحاكم، الذي كان متدثرًا بعباءة أرجوانية مبطَّنة بالصوف ويحمل مشعلًا كهربائيًّا، وكتب جملة طويلة في هذه المفكرة، عما وصفه بالتشرُّف باستخدامه قلم الحبر السائل الخاص بي.

قلعة نو، ١ ديسمبر: يوم آخر من أيام الراحة، لكن ليس سارًّا جدًّا. ثارت عاصفة في الليل، وهبَّت بقوةٍ كبيرة جعلت البابَين على الجانبَين المتقابلَين للغرفة ينفتحان على مصراعَيها بعنف وارتطام، وكِدت أنجرف من على الأرضية. وبعدما استيقظت هكذا، وجدت أنني أشعر باعتلال. لا توجد «دورات مياه عامة» في هذا المبنى، وإنما يستخدم الرجال والحيوانات على حدٍّ سواء الفناءَ الخلفي. عندما وصلت إلى بيت الدرج الخارجي، انزلقت. وانطفأ نور الفانوس، وطار عن جسدي كسائي الوحيد، الذي كان معطفًا مشمَّعًا، ووجدت نفسي مستلقيًا عاريًا في مرقد من الثلج والروث الذي التصق بجسمي في الصقيع. للحظة أُصبتُ بدُوار أعجزني عن الحركة. كان شيءٌ ما قد انكسر، وكان عليَّ تحسُّسه لمعرفةِ ما إذا كان جمجمتي أم درجة السُّلم السفلية. عندما وجدت أنها درجة السلم، عَلَت ضحكتي.

كان الجليد ينهمر بغزارةٍ الآن، ولا يمكننا الانطلاق في رحلتنا.

أرسل سكرتير الحاكم رسالةً هذا الصباح يخبرني فيها، بعد إطناب طويل، بأنه يريدني أن أعطيه قلمي هديةً. ولكني امتنعت. فأتى في وقتٍ لاحق ليطلبه بنفسه. عندما رأيت أنه عليَّ أن أعطيه شيئًا، أجلسته ورسمت له صورة شخصية بالألوان. لفت انتباهي إلى العباءة المبطَّنة بالصوف، التي رسمتها بعناية مُتقَنة. أرضاه هذا.

رجع جميع اليهود؛ إذ بلغت حمولات الشاحنات الأربع أكثر من ستين شخصًا. عِلاوةً على ذلك، وصلت مجموعة من التركمان الذين كانت نساؤهم يرتدين أغطيةَ رأس طويلة حمراء تتدلى منها صفائح من فضة مذهَّبة مرصَّعة بالعقيق الأحمر. وبسبب هذا التدفُّق، يوجد نقص في الغداء. ولا يوجد وقود. وإذ لا يمكنني إضاءة الغرفة إلا بفتح الأبواب، فعليَّ أن أتدفأ بارتداء جميع ملابسي والبقاء في السرير. تبيع المحال السجائر الروسية وحبر سوان إنك اللذين لا يريح أيٌّ منهما في الاستخدام. غير أني اشتريت بعض الجوارب المحاكة يدويًّا، والتي يمكنها مقاومة برد القطب الشمالي.

قلعة نو، ٢ ديسمبر: يقول الناس هنا حاليًّا إنه حتى إن وصلنا إلى تركستان، فإن الطريق إلى كابول سيكون مغطًّى بالثلوج. كان من المفترَض أن ألاحظ هذا من المرتفعات التي على الخريطة. تستغرق الرحلة شهرًا على ظهور الخيل، وأظن أنها تستلزم مالًا ومعداتٍ تفوق ما لديَّ. أنا قلِق أيضًا من فكرة ألا أستطيع إرسال برقية للوطن بمناسبة عيد الميلاد المجيد. في هذه الأثناء، استمر الثلج في السقوط، وأرسلوا إلى هِرَات طلبًا للخيول، لإحضار اليهود. ربما ينبغي أن أعود معهم.

حتى نور محمد أصابه الإحباط. وهو يصلي بلا انقطاع، وإذا تصادف ومررتُ أمامه، كان يسجد فوقي.

قلعة نو، ٣ ديسمبر: تحوَّل الإسهال إلى زحار. لا بد أن أعود.

قد يكون جُبنًا. أُفضِّل أن أطلق عليه فِطنة. على كل حال، يضيع الفارق وسط خيبة الأمل. ومع ذلك، اكتشفت أنه يمكن القيام بالرحلة، الأمر الذي لم يكن يعرفه أحد من قبل.

أصبح الطقس صافيًا، وهو ما يُصعِّب عليَّ القرار الذي اتخذته. حتى لا يزيد الإسهال، أخذت جرعة كبيرة من الويسكي وزرت الحاكم مبكرًا. وجدته في خلوة، جالسًا القرفصاء بجوار موقد في نهاية غرفة طويلة. تحسَّس نبضي، وقال إنني لست مريضًا، وإنه حتى لو كنت كذلك، فإنه يجب عليه أن يتصل هاتفيًّا بهِرَات قبل أن يستطيع إعطائي تصريحًا بالذهاب. كان الهاتف في ذلك الوقت معطَّلًا، وعلى أي حال لم تكن توجد خيول. وصلت هذا المساء رسالةٌ مفادُها أن الهاتف قد أُصلِح، وأن تصريح الذهاب في انتظاري، وأن الخيول ستُعَد للعرض عليَّ لأفحصها في الساعة الثامنة من صباح غد.

ستغادر الشاحنة في الساعة الرابعة فجرًا. لا يزال بإمكاني الذهاب معها إن لم أكن أشعر بضعف شديد.

لامان (٤٦٠٠ قدم)، ٤ ديسمبر: إنها القرية التي في أسفل الممر الجبلي.

أتتِ الخيول في الموعد. واحد منها لم يستطِع أن يضع قائمته الأمامية القريبة على الأرض، والاثنان الآخران يشبهان فرس فارس الموت في رؤيا يوحنا اللاهوتي. أيقظت احتجاجاتي الحاكم قبل أن يرتدي ملابسه، ولكي يجنِّب نفسه مزيدًا من انتهاكي للآداب العامة، عرض عليَّ ثلاثة من خيول الحكومة ومرشدًا مقابل ٥ جنيهات إسترلينية. كان استثمارًا جيدًا للمال. ومع اعتلالي، الذي كان يؤخِّرنا كل عشرين دقيقة، فقد اجتزنا مرحلتين في نصف يوم، وسنحاول الوصول إلى كرخ غدًا، مع أنه يُقال إنها تستغرق ثلاث عشرة ساعة.

لم يتمكَّن السَّرج الأفغاني ولا آلام الجوع من إفساد جمال رحلتنا وسط التلال الفضية اللامعة. عند التقاء الأفاجيج بالوادي، كان الكازاخ قد نصبوا مخيماتهم للشتاء داخل الجدران الطينية، التي يستخدمونها عامًا بعد عام. رسم كل مخيم صورةً ظلية لقبابٍ سوداء منخفضة على الخلفية البيضاء للمشهد الطبيعي. في أغلب الأحيان، كان قطيع من الكلاب المزمجرة يأتي مندفعًا إلى المنحدرات لتحيتنا، وكانت الكلاب السلوقية التي من بينها في صلابة تلك المشارِكة في كأس ووترلو للكلاب. ولكن عند أحد المخيمات أوقفَنا رجلان. وسألا: «أين الكيبيتكا الخاصة بك؟»

«ماذا؟»

«الكيبيتكا الخاصة بك؟»

«لا أفهم.»

بتعبيراتٍ تدل على الاحتقار والغضب، أشارا إلى كوخَيهما المصنوعين من اللباد والسنط. «الكيبيتكا الخاصة بك، يجب أن يكون لديك كيبيتكا. أين هي؟»

«في إنجليستان.»

«وأين ذلك؟»

«في هندوستان.»

«هل ذلك في روسيا؟»

«نعم.»

أهل القرية غير خدومين على نحوٍ غريب. بيض؟ بارافِين؟ تِبن؟ لم يكن لديهم شيء من هذا القبيل. قلت إنني سأدفع. لكنهم لم يصدِّقوني عندما رأوا برفقتي موظفًا حكوميًّا. منحتنا سلطته في النهاية ما أردناه، وكذلك منزلًا للنوم يتكوَّن من أربعة جدران وسقف بفتحة فيه. لسوء الحظ، لا يخرج دخان المشعلة في وسط الأرضية من هذه الفتحة. غير أنه من اللطيف أن يشعر المرء بالدفء على سبيل التغيير. نحن مجموعة من سبعة أشخاص.

يظن مرشدي أن القرويين يحملون لنا نوايا سيئة. لست مرتاحًا أنا أيضًا. يوجد تصدُّع في الجدار فوقي، أوقفه أحدهم بخرقة من قماش. أصابني الذهول عندما اختفت الخرقة فجأةً وحلَّت محلها يدٌ أخذت تتلمَّس أغراضي. أخبرت المرشد، الذي أخذ بندقيته واندفع للخارج. ولكن لم تنطلق أي طلقات.

سدَدْنا الفتحة بحَجَر. يجب أن أنام. فذِهني مملوء بخططٍ للقيام بهذه الرحلة في الصيف. ربما سيتمكَّن كريستوفر من أن يأتي حينذاك.

كرخ، ٦ ديسمبر، ٢:٣٠ صباحًا: قطعت على حصاني مسافةَ ستين ميلًا اليوم، وخلدت إلى فراشي للتو، ولم أكن قد تناولت سوى كوب من الحَساء. ديك الصباح يصيح.
هِرَات، ٨ ديسمبر: يا لذلك اليوم الذي مررت به! فلْيَقِني الرب من خوضٍ مزيد من المغامرات بمَعدةٍ مُنهَكة.

لم يكن الفجر قد انبلج تمامًا عندما ركبنا الخيل خارجين من لامان لصعود الممر الجبلي. طَفتِ الأشكال الشبحية لأشجار العرعر وتلاشت في السديم الرمادي. دثَّر الثلج خطوات الخيل. أخيرًا كشفت الشمس عن القمم التي في أعلى الممر الجبلي، والتي ظهرت أشد احمرارًا في خلفية من سماء زرقاء وعالم أبيض. ألقيت نظرة وداع على باند تركستان، متسائلًا عما إذا كان ثَمَّة شاحنة جاهزة هناك، ومستهجنًا حيرتي. عند النزول، بدأت الخيول في الهرولة. حاولت دون جدوى التحكم في إيقاع جوادي؛ وإما أنه لم يستطِع، وإما أنني لم تكن لديَّ المهارة الكافية. عندما كنت أقف على الركَّاب، كان السَّرج الخشبي يمزِّق ساقيَّ، رغم قماشه الأرجواني المزيَّن بالشراشيب. وعندما كنت ألزم مكاني، على الطريقة الشرقية، وأُهرول، كان اضطراب أمعائي لا يكاد يُحتمل. جرَّبتُ إحدى الطريقتين ثم الأخرى، جرَّبتُ الجلوس مواجهًا لمقدمة السَّرج ومُسنِدًا ظهري إلى مؤخرته، وجرَّبتُ الجلوس مائلًا، وفكَّرت في الاستدارة وأن أجلس مواجهًا للذيل. ولكن بألم أو من دون ألم، عزمت على بلوغ كرخ في تلك الليلة، وكذلك كان عزم مرشدي، منذ أن تنبَّأ أهل لامان بأننا لن نبلغها. طوالَ فترة ما بعد الظهيرة، بعد التوقُّف لترعى الجياد، سِرْنا بخطًى متثاقلة إلى ذلك الوادي اللانهائي. حول حافة كل نتوء، توقَّعت رؤية العُشب في المرتفعات، ولكن حول كلٍّ منها كان ثَمة نتوء آخر ينتظر؛ وكانت كرخ، كما عرفت، بعيدة عن مدخل الوادي. عندما غربت الشمس، تبادلت أنا والمرشد حصانَينا، وكان سَرج حصانه ذا حشوة ناعمة. خرجنا أخيرًا. عبْر النهر في واديه، امتدت المرتفعات الصفراء الداكنة لتصبح جبالًا باللون الأزرق الداكن كالحبر عليها بقعٌ من الثلج ومتوجة بسُحب رصاصية. أكسب راعٍ بعباءة بيضاء مع قطيعه ودخان قرية بعيدة بُعدًا بشريًّا لهذا القَفْر الشاسع. نزلنا إلى الوادي وعاودنا الصعود. عاودنا النزول وصعدنا لأعلى. كان المرشد قلقًا، وحثَّني على الجري باعتدال.

كان آخرُ بصيص ضوء قد رحل عندما شققنا طريقنا عبر النهر والمياهُ تتناثر من حولنا للمرة الثالثة، ولم يعوِّضه القمر ولا النجوم. وبينما كنا نضيء الفانوس، سمعنا وقْع أقدام. تيبس المرشد، ولكن عندما اتضح أنها لشخص واحد، همز الحصان للتحرك للأمام ملوِّحًا ببندقيته ومهددًا بإطلاق النار على الرجل لخروجه بعد حلول الظلام. وصلنا في النهاية إلى قرية. لم تكن كرخ، بل كرخ سار، وقال المرشد إنه يعرف طريقًا مختصرًا من هنا. ضاق الطريق. وانعطفنا في هذا الطريق وذاك. وحاولنا أن نعود أدراجنا باقتفاء أثرنا. وفي النهاية، وجدنا أن ما كنا نتَّبعه لم يكن سوى أثر أرنب.

سألت للمرة العاشرة: «أهذا حقًّا الطريق إلى كرخ؟»

«نعم، إنه كذلك. لقد قلت لك مرارًا وتكرارًا إنه هو. أنت لا تفهم الفارسية.»

«كيف تعرف أنه هو؟»

«أنا أعرف أنه هو.»

«تلك ليست إجابة. فأنت مَن لا يعرف الفارسية.»

«آه، أنا لا أعرف الفارسية، أليس كذلك؟ أنا لا أعرف أي شيء. أنا بالتأكيد لا أعرف إلى أين يقود هذا الطريق.»

«هل يقود إلى كرخ أم لا؟ أجِبني رجاءً.»

«لا أعرف. فأنا لا أعرف الفارسية. لا أعرف. أنت تقول كرخ، كرخ، كرخ. وأنا لا أعرف أين تقع كرخ.»

وفجأةً سجد فوق العُشب، ووضع رأسه بين يديه وأخذ يئن.

ضللنا الطريق. كان هذا مأزقًا صعبًا في بلدٍ تنتهي فيه السلامة الشخصية بحظر التجول. لكنه بدَّد آلامي كالسحر. تساءلت لوهلة عما إذا كان المرشد قد جاء بي إلى هذا الممر لغرض في نفسه. كان أنينه يتعارض مع هذه الفكرة؛ فقد ظننت ظلمًا أنه ربما يكون لصًّا، ولكن ليس ممثلًا. لم يكن حتى ليساعدني في إفراغ الأمتعة. وأخيرًا، أزلت عنه يأسه وقبلت أن أعقل الخيل. ثم سجد واضعًا جبهته على الأرض مرةً أخرى، ورفض الطعام الذي قدَّمته له، وحاول أن يرفض البطانية حتى عقدتها حول كتفَيه. كان الطقس شديد البرودة، ووجدنا أنفسنا مرةً أخرى داخل سحابة رطبة كثيفة. بسطت فراشي، وتناولت بعض البيض، والنقانق، والجبن، والويسكي، وقرأت قليلًا في كتاب بوزويل، وغفوت وسط الأعشاب العطرية وأكياس أموالي بين قدميَّ، وسكين الصيد الكبير مرخيٌّ في قبضة يدي.

في الساعة الواحدة أيقظني ضوء القمر، ورأيت أننا توقَّفنا عند نهاية حافة الوادي تمامًا. بعيدًا في الأسفل، تعرَّج النهر لمسافة كبيرة كثعبان فضي. وأمامنا، على بُعد حوالي ميلَين، ظهرت بقعةٌ داكنة عرفت أنها أشجار صنوبر مدينة كرخ.

كانت لمحة اتسمت بحسن الحظ. وبمجرد أن عثرنا على الخيل حتى غيَّمت السُّحب مرة أخرى. لكن المرشد كان قد عرف وجهته، وبعد ذلك بساعة كنا نقرع باب خان مسافرين كبير، قال إننا سنَنعَم فيه بالراحة أكثر من القبر. وقد ثبت صدقُ كلامه بالفعل. ذهبت للنوم وحدي في غرفةٍ ذات سجاد مترف؛ حيث أيقظني، في وقت متأخر من صباح اليوم التالي، ثلاثة حكماء ملتحين كانوا قد جاءوا للصلاة، ولم تمنعهم من ذلك نظراتي الفضولية.

وصلنا هِرَات في الساعة الرابعة. حيَّاني السيد محمود وجميع موظفيه وكأنني ابن ضالٌّ عاد من السفر. ففرد أحدهم السجاجيد. وجلب آخرُ الماءَ لأغتسل به. ودون أن أطلب، دقوا لي المسامير لتعليق ربطات عنقي، والنظارة، والقبعة. وأحضروا إناءً جديدًا من المربى التي أحببتها كثيرًا، ووعد السيد محمود أن يُحضر بالغد كميةً من الكيك الإسفنجي.

أجل، كان الهنود قد رحلوا، وكذلك الرجل المجري. كان بعض الفرنجة الآخرين قد جاءوا في ذلك الوقت، واعتقدَ أنهم أصدقائي. آه، ها هم أُولاء.

كان الفحَّامون يقفون عند الباب.

قلت من الركن الذي كنت فيه: «مرحبًا.»

«أنت؟ آه، مرحبًا.»

«عذرًا، لقد أنهيت الويسكي.»

«لا عليك.»

«كان ذلك بسبب مرضي.»

«سمعنا أنك كنت مريضًا.»

«هل وجدتم الطقس باردًا في أفغانستان؟»

«أزعجنا المطر.»

«ولكن آمُل أن تكون المباني قد أعجبتكم.»

«آه، إنها ساحرة.»

لم يكن اجتماع الشمل الذي كنا قد تخيَّلناه. نظرًا لتأخُّرهم مدة عشرة أيام عن الوصول إلى تركستان، فلا بد الآن أن يذهبوا جنوبًا إلى قندهار. ويتوقَّعون مني الذهاب معهم.

ساعد تناول حَجَل على العشاء في تلطيف الأمور.

هِرَات، ١١ ديسمبر: ذهبوا وحدَهم. فقد كانت تركستان هي مقصدي، وليس مظاهرة لعمال الفحم. ولا تزال كذلك. سأعود إلى بلاد فارس وأنتظر حلول الربيع.
بلاد فارس: مشهد، ١٧ نوفمبر: لقد كانت رحلة كريهة، أرهقتني. وها قد أتت فترة الراحة.

ومع ذلك، كنا لا نزال محظوظين مع الطقس. فقد جفَّ الطريق تمامًا وكان السير جيدًا. شغلت مجموعة من الحجيج في طريقهم إلى النجف مؤخرة الشاحنة. وبجواري في الأمام جلس سيدٌ شابٌّ متظاهر بالتقوى يضع عمامةً سوداء ومعطفًا بنيًّا من شعر الغنم، وكان قد أتى من العراق لرؤية المدن الإسلامية، وكان في طريقه في ذلك الوقت إلى الهند عبر دوزداب وكويته. بعد قضاء الليلة في إسلام قلعة، الموقع الحدودي، انطلقنا في طريقٍ وعْر عبر القطاع الذي يبلغ طوله اثنَي عشر ميلًا من الأرض غير المأهولة الذي يفصل بين البلدين، تصاحبنا أسراب من طيور المستنقعات بنحيبها الحزين. عند بلدة كاريز، عندما أخَّرتنا الجمارك الفارسية، بادرني رجل ألماني بالكلام. كان قد هرب لتوِّه من روسيا، حيث كان قد مُنِح الجنسية، وسار كل هذه المسافة في طريقه إلى الهند، ولكن السلطات الأفغانية أعادته. كانت زوجته مريضة في القرية، وكانا معدمَين ويائسَين. كنت أتحسَّس جيوبي بحثًا عن بعض المال لأعطيه له، عندما اختفى وقد أخذته العزة.

ظهرت بثرة في فخذي، وكانت في ذلك الوقت بحجمٍ جعل الساق كلَّها متورمة من الكاحل إلى أصل الفخذ؛ فكنت بالكاد أستطيع المشي. ولكي أتخلَّص من الألم، طلبت بعض العَرَقي، الأمر الذي اعترض عليه السيد بفزعٍ مصطنَع. ظننت أن التحفُّظ في بلاد فارس لم يكن من شأنه. أزلت السدَّادة ودسست فوَّهة الزجاجة في لحيته. ففرَّ مثل راهبةٍ مغتصَبة، ولكن لم يكن ثَمة مَهرب في الشاحنة. وعندما كانت الزجاجة تظهر كان ينهار على عجلةِ القيادة كما لو كانت أدخنة قد أحاطت به، طالبًا من الرب ومن السائق أن يقتصَّا من الفسوق. كان السائق يضحك. ولم يفعل الرب شيئًا حتى مدينة تربت شيخ جام، التي وصلناها في منتصف الليل.

فهنا، عندما كنت أفرِغ متاعي في خان المسافرين، سرق بعض الجنود حقائبَ سَرجي. ظنًّا مني أن بابهم كان مغلقًا، اندفعت تجاهه راكلًا إياه بكل قوة رجلي السليمة. لكنه لم يكن كذلك، وجعل دخولي الحماسي أربعةً منهم يتمدَّدون على الأرض، واصطدمت ركبتي بعجيزةِ أحدهم فجأةً عندما انحنى فوق الغنيمة. كان الباقون حانقين، ولاحقوني، وأنا لا أزال أقفز كجرادة، إلى المطبخ؛ حيث سخر الجمع منهم حتى شعروا بالخزي. ثم سألت عن مكانٍ يمكنني النوم فيه، فقادوني بطريقة جافة إلى طرف حصيرة بالقرب من الموقد، كان يشغلها بالفعل خمسة آخرون. أخذت إبريقَ شاي مملوءًا بالماء الساخن، وذهبت إلى مكانٍ خَرِب على الجهة الأخرى من الفناء، يمكنني فيه أن أكمِّد رجلي في هدوء؛ فجمَّدت ثلاثةُ تيارات منفصلة من الهواء الضِّمادة على جلدي. سألت السيد، الذي تسلَّل خلفي ومعه صرة بيضاء في ذراعيه: «هل المكان مريح هنا؟» تخلَّصت منه بزجاجة العَرَقي.

لم يبتهج حاج من قبلُ برؤيةِ قباب مدينة مشهد مثلما ابتهجت. كانت السيدة هامبر، من القنصلية، قد طلبت مني أن أبقى إذا عُدت؛ ولم يكن لديَّ من القوة ما يجعلني أتظاهر بالتردد. عولجت رجلي بالحجامة في المستشفى الأمريكي. وفي صباح اليوم التالي، استيقظت لأجد ملاءاتٍ نظيفة تحت ذقني وإفطارًا على صينية، فتعجَّبت من عالمٍ كنت قد نسيته.

مشهد، ٢١ ديسمبر: تعود إليَّ الطاقة والمعنويات المرتفعة شيئًا فشيئًا، وذلك في الأساس بفضل رواية «آنا كارنينا» التي لم أكن قد قرأتها من قبل. تحسَّنت رجلي تحسُّنًا يمكنني معه أن أرتدي سروالي بنفسي. تنتشلني هذه الرواية من خصوصيات المستشفى. عندما كنت في الغرفة أمس، خُلع لرجلٍ سبع أسنان دون مخدِّر، بينما كان يُجرى لآخر اختبارٌ لسرطان الخصيتين.

مَن يحتقرون المبشِّرين لم يروا عملهم الطبي. فصِحَّة خراسان بأكملها تعتمد عليهم. ولهذا تكرههم السلطات وتعوق عملهم، وليس لجهودهم في إدخال الناس في المسيحية؛ فلا يوجد ما يدعو للغَيرة في دينٍ لا يتعدَّى قبول الناس له هنا القبول الذي ستلقاه بعثةٌ دعوية إسلامية في روما. الفرس بارعون في إلحاق الأذى بأنفسهم نكايةً في الآخرين. فقد أوقفوا خدمة طيران يونكرز لأنها أظهرت تفوقًا أجنبيًّا. ويشيِّدون الطرق، لكن رسومهم الجمركية تعوق استيراد السيارات. ويريدون حركةً سياحية، لكنهم يمنعون التصوير لأن أحد الأشخاص نشر ذات مرة صورةً لشحَّاذ إيراني، في حين أن الامتثال للوائح الشرطة هو مهنة في حد ذاته، كما اكتشفت في اليوم أو اليومين الماضيين. في الواقع، تلهُّفُ أرض مارجوريبانكس للتقدُّم يتعارض تعارضًا محبطًا مع أفغانستان. يذكرني هذا بحكاية الأرنب والسلحفاة.

مشهد، ٢٤ ديسمبر: سافرت السيدة هامبر إلى الهند. وطلب مني هامبر بلباقةٍ فائقة أن أُونِسه بصحبتي في عيد الميلاد المجيد.

كل صباح آخذ عربة بحصانين إلى ضريح خواجة ربیع؛ حيث أجلس وأرسم، في تصالح مع الدنيا، طيلة ما تسمح به أيام الشتاء القصيرة من وقت. بناه شاه عباس في عام ١٦٢١، وهو يقع في حديقة خارج المدينة. للبلاطات ذات الألوان المبهجة، الفيروزية، واللازوردية، والبنفسجية، والصفراء، شجنٌ فريد وسط الأشجار الجرداء من الأوراق والأحواض الفارغة التي تتطاير فيها أوراق الأشجار الجافة. يلائم هذا حالتي المزاجية.

المعالم الأثرية الأخرى هنا هي مسجد الشاه، وهو مسجد مهدَّم في البازار يعود تاريخه لعام ١٤٥١، وله مئذنتان مُحَليتان باللونين الأزرق والأرجواني بالطراز نفسِه للمئذنة ذات الشرفتين في هِرَات؛ والمصلى، وهو قوس مهدَّم يعود لتاريخ لاحق، له واجهة من الفسيفساء المعقد ولكن ليس جميلًا. ويوجد أيضًا الضريح الكبير للإمام الرضا.

تُشكِّل هذه المجموعات من المساجد والأضرحة والمقصورات والبازارات والمتاهات مركز المدينة. مؤخرًا عُزلَت المنطقة المقدَّسة بشارع دائري واسع؛ مما جعل الشوارع الرئيسية الأخرى تشعُّ في جميع الاتجاهات، بحيث اكتمل كل مشهد بقباب ومآذن. في وصولي الأول عند الغسق، كانت قبَّة ضخمة باللون الأزرق السماوي مرتفعة في السماء الضبابية، وتألَّقت بخفوت قبَّةٌ ذهبيةٌ بجوارها، وبين المئذنتين الشبحيتين كان معلقًا حبل من الأضواء السحرية.

نقلت جنازتان عاصمة خراسان من طوس إلى مشهد. في عام ٨٠٩، أزعج تمرُّد في بلادِ ما وراء النهر الخليفة هارون الرشيد. فسار ابنه المأمون بجيش إلى مرو، لكن الخليفة شعر بالإعياء في طوس عندما كان يتبعه، ومات، ودُفِن في مكانٍ مقدَّس على بُعد عشرين ميلًا، وهو الآن مدينة مشهد. أقام المأمون في مرو، وفي عام ٨١٦ استدعى هناك الإمام الثامن من أئمة الشيعة، وهو علي الرضا من المدينة المنورة، الذي أعلن وراثته للخلافة. ولكن بعد عامين، مات الإمام هو الآخر في طوس حين كان يرافق المأمون في زيارة لقبر والده. وفقًا للاعتقاد الشائع أنه مات بتخمة من العنب. غير أن الشيعة يعتقدون أن المأمون قتله بِالسم. أيًّا كان الأمر، فقد دُفن بجوار هارون الرشيد، وأصبحت مقبرته أقدسَ الأماكن في بلاد الشيعة، بعد مقبرة الإمام علي في النجف.

ومن ثَم توسَّع الضريح، وكذلك المدينة من حوله. وبينما يوقِّر الحجيج مقبرة الإمام، فإنهم يبصقون على قبر هارون الرشيد. يستدعي هذا الاسم في مخيلتنا آسيا بكل روعتها. في حين لا يعني عند الشيعة سوى والد قاتل أحد الأولياء.

قضيت الصباح، يرافقني ضابط شرطة عابس، على عدة أسطح متفحصًا الضريح عبر منظار من الجهة الأخرى للشارع الدائري. توجد ثلاثة أفنية رئيسية، كلٌّ منها بأربعة إيوانات (لا توجد كلمة أخرى تصف تلك الصالات الضخمة ذات الواجهات المفتوحة والقنطرات المدبَّبة والواجهات العالية، والتي تُعَد السمة الخاصة بعمارة المساجد الفارسية). يتجه اثنان من الأفنية شمالًا وجنوبًا، ويصطفَّان متلاصقين، مع أنهما ليسا على المحور نفسِه، وتبدو البلاطات فيهما من بعيد كالقماش المزهر، ولا بد أن تاريخ بنائهما يعود إلى ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. ترتفع بينهما قبَّة ذهبية على شكل دَفة سفينة، تميِّز مقبرة الإمام، وشيَّدها شاه عباس في عام ١٦٠٧؛ وفي عام ١٦٧٢ شاهد شاردان صفائح تُصنع في أصفهان لإصلاحها بعد أحد الزلازل. توجد بجوارها مئذنة ذهبية، وثَمَّة مئذنة مماثلة شرق الفناء الجنوبي.

يتَّجه الفِناء الثالث جهة الغرب، في زاويةٍ قائمة مع الفِناءين الشمالي والجنوبي. هذا هو المسجد الذي بنته جوهر شاد بين عامَي ١٤٠٥ و١٤١٨. فوق غرفة الحرم في الطرف، المحاط بمئذنتين هائلتين، ترتفع قبَّة بصلية الشكل باللون الأزرق السماوي، منقوش عليها بالخط الكوفي الأسود العريض، ومزيَّنة من قمَّتها بمحالق صفراء رفيعة.

يبدو أن فسيفساء الفناء بأكمله لا تزال سليمة. فحتى من مسافة ربع ميل، يمكنني أن أرى الفرق بين جودة ألوانه وألوان الفناءين الآخرين. ها هو ذا البرهان على أمجاد هِرَات المندثرة. لا بد أن أتسلل إلى هذا المسجد، وسأتسلل إليه بالفعل، قبل أن أترك بلاد فارس. ولكن ليس الآن؛ فلا أملك روح المبادرة الآن. يجب الانتظار حتى الربيع؛ فبحلول ذلك الوقت ربما أكون قد عرفت أكثر عن جوهر شاد.

مشهد، يوم عيد الميلاد المجيد: انطلقت أنا وهامبر مع السيد والسيدة هارت، وهما أيضًا من القنصلية، وابنهما الصغير كيث. أفرطت في أكل حلوى البودينج، وشعرت بالغثيان كما يشعر المرء دائمًا عصر يوم عيد الميلاد المجيد، وعُدت في حالتي الطبيعية وقت العشاء. دعا هامبر إلى هذا العشاء البعثةَ الأمريكية بأكملها، وآل هارت، وفتاة ألمانية من بوليفيا كانت تعمل مربية لدى عائلة هنا، وكانت تبدو عصرية وهي تُقهقه بطريقة ألمانية تيوتونية نوعًا ما وهي تشرب الكوكتيل. تبع العشاء بعض الألعاب. وفزت بقلم حبر سائل، وهي الجائزة التي يحصل عليها الرجال عند تزيين قبَّعة سيدة.
figure
بسطام: برد دفن أوائل القرن الرابع عشر.
طهران، ٩ يناير: كانت لحظة حزينة عندما تركت السكنى في بيت آل هامبر اللطيف وعُدت للعالم الوحشي.

في طريق العودة توقَّفت في شاهرود. كان ذلك في الصباح الباكر، وبما أننا الآن في شهر رمضان، وهو ما يعني أن أحدًا لن يستيقظ حتى منتصف النهار، أخذت حصانًا دون إذن وانطلقت إلى بُسطام، وهو مكان صغير خامل على الطريق عبْر الجبال إلى أستراباد. كان لضريح بايزيد الذي يعود للقرن الرابع عشر مظهر خارجي ريفي جدًّا، بأبراجه التي تشبه أبراج المنازل ذات الأتون في كنت، حتى إن ثراء المحراب الجصي المنحوت بداخله كان مفاجأة. في الواقع، تمثِّل هذه التقنية دائمًا مفاجأة؛ فما تُحدِثه من أثرٍ يفوق بجميع المعايير الموادَّ البسيطة التي تُستخدم فيها. الآثار هنا ليست غنيةً كما في همدان؛ إذ تعتمد على الرسم أكثرَ من النقش البارز. ومع ذلك، تتسم بنفس خصائص الروعة دون أُبهة وبتعقيدٍ يخلو من التنافر. يوجد بالقرب من المسجد برج دفن بُني في بداية القرن، تكسو هيكلَه المستدير دعاماتٌ صغيرةٌ ذاتُ حواف حادة. تتميز أشغال القِرْميد بملمس ناعم، نتج عن حواف القِرْميد، فزواياه متناوبة وذات تصميم صغير.

أُلقي القبض عليَّ في طريق عودتي إلى شاهرود، لكن رئيس الشرطة كان ودودًا جدًّا عندما قدَّمت وثائقي. أوضحت أنني بقدرِ ما كنت أتعاطف مع عادة تحويل الليل إلى نهار خلال شهر رمضان، لم يكن من المفيد لي أن أنتهج تلك العادة في بحثي عن الآثار. وافقني على ذلك، بل أخجله الأمر. ربما صدر مرسوم سخيف يقضي بانقلاب النهار ليلًا والليل نهارًا في شهر رمضان.

لأذنيَّ اللتين كانتا لا تزالان تَطِنَّان بضوضاء شاحنة متباطئة، بدت طهران مدينة غيلان مخملية الأقدام. ألبسوني بدلة مسائية وسط الفوضى الأنجلو-فارسية، واصطحبوني إلى الحفلة الراقصة لليلة رأس السنة. نظرًا لأنني كنت أتوقَّع فقط تلك الكِياسة العفوية التي تهدف إلى تجنيب المسافر العائد أن يستعيد ذكرياته، فقد تأثَّرت كثيرًا باهتمام الناس برحلتي القصيرة. وفجأة، رأيت بوسك، السكرتير الجديد للمفوضية، وأعربت عن دهشتي لكونه أطولَ مني؛ لأنه في المدرسة؛ إذ لم نكن قد التقينا منذئذٍ، كان أحد أقصر الصبية.

فسألني بنبرة حزينة: «لكني لم أكن «مشهورًا» بأنني قزم، أليس كذلك؟»

هوامش

(١) نُقل إلى لينينجراد لعرضه في المعرض الفارسي عام ١٩٣٥، وعلى الأرجح سيظل هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤