المقدمة

«الليلة الثانية عشرة»، وعنوانها الفرعي هو «أو ما شئت» (من عناوين)، من أشهر مسرحيات وليم شيكسبير (١٥٦٤–١٦١٦م)، شاعر الإنجليزية الأكبر على الإطلاق، وأكثرها تقديمًا على المسرح، وأشدها إثارةً للخلاف من حيث النوعُ الأدبي أو «تصنيف النص» وطرائق الأداء على المسرح. والليلة الثانية عشرة هي ليلة ٦ يناير، العيد المسيحي الذي يُحيي ذكرى ظهور المسيح للمجوس من الأمم (وهبة)، ويسمِّيه المسيحيون الغربيون (Epiphany) — الاسم الذي يُطلقه الشرقيون على عيد الغطاس. وتنتمي المسرحية إلى الفترة الوسطى من حياة الشاعر المسرحي العملية؛ إذ كتبها بعد أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وذاع صيته، وخَبَر الكتابة في شتى مجالاتها، من المسرحية التاريخية إلى الكوميديا إلى مسرحية الرومانس (أي التي تعالج أساسًا) ولكن قبل أن يبدع مأساواته الكبرى «هاملت» ثم «عطيل» ثم «الملك لير» و«مكبث»، فالأرجح كما أثبتت الدراسات الحديثة أنها كُتبت وقُدِّمت على مسرح الجلوب (The Globe)، إمَّا في عام ١٦٠٠م أو ١٦٠١م (انظر البحث الدقيق الذي قام به أنطوني أولدريدج (Anthony Aldridge) ونشره في كتابه «شيكسبير وأمير الحب» (Shakespeare and the Prince of Love, 2000))، وإن كانت الوثيقة الميسرة الوحيدة المتاحة لا تقطع إلا بأنها قد عُرضت في مطلع عام ١٦٠٢م (يوميات المحامي الشاب جون ماننجهام)، وهو الذي يقول إنها تشبه المسرحية الإيطالية Inganni، ومن المحتمَل أنه يخلط بين هذه المسرحية التي كتبها نيكولو سيكي (Nicolò Secchi) عام ١٥٤٧م وبين المسرحية الأخرى التي يؤكِّد المختصون أنها كانت المصدر «البعيد» لمسرحية شيكسبير وهي (Gl’Ingannati)؛ أي «المخدوعون»، والتي كُتبت عام ١٥٣١م ونُشرت عامَي ١٥٣٧ و١٥٥٤م.

(١) مصادر الحبكة

يُجمع الدارسون على أن المسرحية الأخيرة «المخدوعون» هي التي استقى شيكسبير منها حبكة مسرحيته، أو الحبكة الرئيسية، ولكنه لم يستند إلى تلك المسرحية نفسها بل إلى الملخَّص النثري الذي قدَّمه بارنابي ريتش (Barnabe Riche) في صورة حكاية يحكيها للنساء، وتنتمي إلى نوع رومانس (أو الرومانثة) (Romance)؛ أي قصة الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، بعنوان «أبولونيوس وسيلا» (Apolonius and Silla)، وهي القصة الثانية في مجموعة قصصية بعنوان «وداع ريتش للاشتغال بالحرب» (Riche his Farewell to Militarie Profession) (١٥٨١م)، والمعروف أن ريتش لم يستقِ مادته مباشرةً من المسرحية المذكورة؛ إذ إن القصة الرئيسية للمسرحية كان قد أعاد كتابتها نثرًا كاتب يُدعى ماتيو بانديلو (Matteo Bandello) في مجموعة روايات له أصدرها بالإيطالية عام ١٥٥٤م، وتلاه بيير دي بلفوريه (Pierre de Belleforest) في مجموعة حكايات له أصدرها بالفرنسية عام ١٥٧٠م، ومنه استقى ريتش مادة حكايته المذكورة عام ١٥٨١م. وقد اختلف كُتاب النثر جميعًا عن الأصل الإيطالي للمسرحية (التي تعتمد في حبكتها على الكاتب الروماني بلاوتوس (Plautus)) في تطوير قصة الحب، وإن حافظ الجميع على فكرة اختلاط الشخصيات؛ فعند الجميع تتنكَّر فتاة في زِي غلام وتلتحق بخدمة من تحبه، ولها أخ غائب يشبهها، تقوم بنقل رسائل غرام من تحبه إلى فتاة أخرى يحبها، ولكن هذه الأخرى المحبوبة تقع في غرام البطلة المتنكِّرة في زي الغلام، ويعود أخوها فتتعقَّد الحبكة إذ يظن الجميع أنه أخته، وأخيرًا تنجلي الحقيقة ويتزوَّج العاشقون جميعًا، على نحو ما يحدث في شيكسبير.

ويدين شيكسبير لقصص ريتش بدينٍ آخر يتعلَّق بالخدعة التي يدبِّرها عدد من الشخصيات للسخرية من مالفوليو في «اللية الثانية عشرة»، وهي الحيلة التي نجدها في القصة الخامسة من مجموعة ريتش القصصية المذكورة، وفيها يدبِّر زوج حيلةً للسخرية من زوجته السليطة اللسان حتى يسخر منها الجميع. وقد يكون التشابه وليد المصادفة، ولكن احتمال التأثُّر قائم.

وأمَّا الفارق بين قصة ريتش المذكورة (أبولونيوس وسيلا) وبين «الليلة الثانية عشرة» فهو الفارق حقًّا بين الحكاية التراثية الأوروبية المغرقة في التصوير الواقعي لدوافع السلوك المادية، كالجنس والانتماء الطبقي، وبين مسرحية عصر النهضة الشعرية التي تُطلق العِنان للخيال وتُعلي من شأن الحب، وتؤكِّد التعقيدات الكثيرة للانتماء إلى أحد الجنسَين، وكيف يؤثِّر الدور الاجتماعي للمرأة في الحياة العاطفية للمرأة والرجل على حد سواء، وهكذا فعلى الرغم من الاشتراك في الحبكة، أو في فكرة الحبكة، فإن مسرحية شيكسبير تتناول المادة تناولًا شاعريًّا يكفل لها التسامي والعمق الإنساني الذي يربطها بالعصر الحديث.

(٢) النوع الأدبي

لا خلاف على أن هذه المسرحية كوميديا. والكوميديا جنس أدبي عام يضم عدة فروع تشترك جميعًا في أنها تؤكِّد ما يسميه نورثروب فراي (Northrop Frye) «الاحتفال بانتصار الحياة على الأرض الخراب» (١٩٤٩م)، أو ما يسميه وايلي سايفر «الاحتفال بالحياة» وحسب (١٩٦٧م) (انظر كتابي «فن الكوميديا» ١٩٨٠م وكتابي «من قضايا الأدب الحديث» ١٩٩٤م)، بمعنى أن الكوميديا فن يركز على افتراض وجود تناغم أساسي في الحياة، وهو من ثم ينشد إبراز هذا التناغم من خلال مقارعة القوى التي تعوقه أو تعارضه أو تُخفيه، وسبيله في المقارعة هو إبراز التناقضات في الإنسان وفي مواقفه وفي مجتمعه، من خلال أبنية تدفع إلى السخرية منها، أو الضحك منها، حتى ينتهي نشدان التناغم الحق بتحقيقه، وعودة الصفاء الذي يلازم كل تناغم حق. ومن وسائل إبراز التناقضات وسيلة التورية الدرامية الساخرة (Dramatic irony) وشتى ألوان السخرية أو المفارقة الأخرى (varieties of irony)، ومن وسائله أيضًا إبراز جو الاحتفالية (festive feeling) الذي يصاحب من يشعر حقًّا بنبض حياته، أو فرحة حياته، وعادةً ما تنتهي أمثال هذه الأعمال الكوميدية بالزواج، رمز الرِّفاء، وبشير التكاثر؛ فالكثرة تُعتبر من سمات الخير، والخير ذو جمال.

ولكن «الليلة الثانية عشرة» تضم أيضًا عناصر تنتمي إلى نوع أدبي آخر هو ما أسميته الرومانس؛ ففيها الحب والمغامرات والأسفار والأخطار، والرومانس فيها يمتزج امتزاجًا وثيقًا بالكوميديا وفق التعريف السابق، بحيث يصعب الفصل في المسرحية بين الخط الكوميدي الصريح الذي يمثِّله الصاخبون اللاهون في منزل الكونتيسة، وضحيتهم أو هدف سخريتهم مالفوليو (الذي يعمل حاجبًا لديها ورئيسًا للخدم، ويشتَط به خياله بسبب ما يُبديه من التزمُّت الديني وحبه لذاته أو مبالغته في تقدير قيمته، فيتصوَّر أنه يمكنه الزواج من مولاته، وهكذا يخدعه هؤلاء المعربدون الذين يستغرقون في اللهو رقصًا وغناءً وشرابًا)، وبين قصة الحب المزدوجة التي تدور حول محور يُعتبر كوميديا كذلك؛ ألا وهو تظاهر فيولا بأنها غلام حتى تظل بقرب حبيبها، والتظاهر أو التنكُّر من السمات التي تقترن ببعض المثالب الاجتماعية التي قد تقوم على جهل الفرد ذاتَه أو ادعائه ما ليس فيه، ومن ثم فهو مادة للكوميديا، وينطبق ذلك على نرجسية الدوق الذي تُحبُّه البطلة، وتصوُّر أوليفيا التي يحبها الدوق بأنها قد نبذت الرجال وكرهتهم، والصورة الزائفة التي يرسمها مالفوليو لنفسه، وتصوُّره إمكان وقوع مولاته في حبه، مثل السير أندرو الذي جاء خاطبًا لها هو الآخر، وهلم جرًّا؛ أي إن المحور الذي يدور حوله ما يسمَّى ﺑ «الحبكة الثانوية» لا ينفصل عن المحور الذي تدور حوله «الحبكة الرئيسية» أي قصة أو قصص الغرام.

ويؤدِّي هذا الامتزاج إلى إضفاء جو خاص على الكوميديا، بحيث يبتعد بها عن الكوميديا الهجائية (satiric)؛ أي كوميديا السخرية الصريحة من بعض أنماط السلوك المعيبة وما تنم عنه من تناقضات أو مثالب بشرية، ويقترب بها ممَّا يسمَّى الكوميديا الغنائية (Lyrical) التي تتوسَّل بالشعر والموسيقى، وإن كان الجمع بينهما قائمًا بوضوح على امتداد المسرحية كلها، وهكذا سمعنا من يصفها بأنها غنائية أولًا، ما دامت تبدأ بالموسيقى وتنتهي بالموسيقى وتتخلَّلها الأغاني في المشاهد النثرية (الخاصة بالحبكة الثانوية)؛ وهجائية ثانيًا، ما دامت تصب بمحورَي الحبكة في آفة واحدة، وإن كان لها بُعدٌ أو أبعاد فلسفية ونفسية، مدارها قدرة الفرد على تخطي حدود ذاته وتجاوزها بالامتزاج بالآخر، أو قل بالخروج من الذات إلى البشر (الآخر)، والاستعداد لقهر تقاليد الرومانس التي تجعل المحب منحصرًا في حبه استنادًا إلى أنه يمثِّل (الذات) أو قل بتخطي الذاتية إلى الموضوعية!
ولكن هذا المزج يتميَّز بسمات أخرى تُضفي مذاقًا آخر على الكوميديا، وعلى رأسها مرارة العقاب الذي يُنزله المتآمرون (توبي وماريا وغيرهما) بمالفوليو، فهو عقاب لاذع حاد يدفع الكثيرين إلى الإشفاق عليه، بل ويُثير لونًا من الأسى، وهكذا وجدنا من يضيف إلى وصف هذه الكوميديا بالهجاء أو الغنائية أو الرومانسية وصفها بالشجن العميق (wistful) أو الحزن الصريح (sad) أو المرح الصاخب (romping)، بل ومن حاول أن يجمع بين هذا وذاك كله فوصفها بأنها حلوة مرة معًا (bittersweet)، وقد وجدنا في العصر الحديث من رأى في المهرج (clown) مفتاح مفهوم المسرحية؛ فهو يؤكِّد لنا في ثنايا المسرحية ومن خلال تفاعله مع باقي الشخصيات أن الدنيا قائمة على التهريج الذي يحمل هنا دلالتَين لا تنفصلان؛ أولهما: ضرورة الهزل ما دامت الحياة الدنيا أليمةً لا تحتمل الجد، وتقوم على المُراءاة، والتظاهر. وثانيهما: ضرورة التخلي عن الثقة في قدرة الألفاظ عن التعبير عن الحقيقة؛ فالألفاظ خائنة، وهي عاجزة إلا عن خلق الأوهام، ما دام كل فرد يستخدمها بمعنًى مختلف، وما دامت معانيها تتلوَّن دائمًا وتتحوَّر، الأمر الذي يذكِّرنا بمذهب التفكيكية النقدي، وإنكاره لوجود حقيقة أو أي شيء خارج الألفاظ!

(٣) الجغرافيا الخيالية

تقول الناقدة بني جاي (Penny Gay) إن التشابه الوثيق بين الفتى والفتاة في المظهر من الدلائل على أن المسرحية تنتمي إلى نوع الرومانس، وإن الدقائق العشر الأولى من المسرحية تختط لها طريقًا دقيقًا في هذا النوع الأدبي؛ فالجمهور يرى ويسمع شابًّا غنيًّا نبيلًا، يُحيط به الموسيقيون والأتباع الذين يُصغون بانتباه إليه وهو يقدِّم «تنويعاته» العذبة على القوالب اللفظية المألوفة في شعر الحب البتراركي:
أوَّاه عندما رأت عيناي أوليفيا لأول مرة،
أحسستُ أنها تُطهِّر الهواء من أدرانه؛
وعندها استحَلت ظبيًا واستحالت الأشواق سِربًا
من كلاب الصيد ذاتِ رهبةٍ وقسوة،
ولم يزل طِرادها للآن لي!
فلتمضِ قبلي نحو رفَّات من الزهر الجميل،
فخاطرات الحب تزهو اليوم في ظل الخميل.
١ / ١ / ١٩–٢٣، ٤٠–٤١
وهكذا ندخل منطقةً غير محدَّدة من «العالم المصطَنع للرومانس في عصر النهضة». ويبدأ المشهد التالي بصورة لا يقل طابعها الرومانسي عن ذلك؛ إذ نرى فتاةً تحطَّمت سفينتها، وعادةً ما نراها على المسرح وقد انسدل شعرها الطويل على كتفَيها، وارتدت «بقايا» رداء مغرق في الأنوثة (وهو ما كانت عليه جودي دنش Judi Dench في العرض المسرحي الذي قدَّمته فرقة شيكسبير الملكية عام ١٩٦٩م من إخراج جون بارتون John Barton). وتثير الكلمات الأولى في هذا المشهد إحساسنا بالبلاد البعيدة «للرومانس الكلاسيكي»:
فيولا : يا أصحاب .. في أي بلادٍ نحن الآن؟
الربان : هذي إلليريا يا مولاتي.
وتُضيف بني جاي إن اسم إلليريا قد يوحي بكلمة «إللوجن» (illusion)؛ أي الوهم، وكلمة ليريكال (Lyrical)؛ أي الغنائي، وإن كان في الواقع الاسم القديم للمنطقة الواقعة في بلاد اليونان شماليَّ خليج كورنثه (Corinth) والمطلة شرقًا على البحر الأدرياتيكي، وهي التي اشتهرت بوجود القراصنة فيها. وهو ما يشير إليه الدوق فيما بعدُ عند مواجهته لأنطونيو في الفصل الخامس، وما جعل الفرقة المسرحية المذكورة تقدِّم في عرض المسرحية عام ١٩٨٧م ديكورًا مسرحيا يمثِّل قريةً يونانية يقوم فيها مالفوليو بدور «موظف» في الكنيسة لم يعد المجتمع «المنحل» يوليه أدنى احترام.

وتؤكِّد هذه الناقدة دور الخلط الجغرافي هنا، المصاحب لقرار فيولا بالتنكُّر؛ أي إن قرارها بأن تتنكَّر في زي خصيٍّ معناه وقوفها على الحافة ما بين الرجل والمرأة، بحيث لا تغدو هذا أو ذاك، فالاسم الذي نعرف فيما بعدُ أنه اسم موطنها الأصلي اسم يوحي بإيطاليا (ميسالين)، وهي الآن على تخوم الدولة العثمانية، فهي «على الحدود»، ومحايدةٌ جنسيًّا وجغرافيًّا. لكننا سرعان ما ننسى ذلك حين نراها في بلاط الدوق في صورة خادم، وهو بلاط ذو طابع إنجليزي واضح لا شك فيه، والحوار في المشاهد التالية يؤكِّد ذلك، الأمر الذي يجعل المشاهِد في المسرح يرى ما هو غريب وبعيد في الحدث الرومانسي في ثوب مألوف في إنجلترا، بحيث «يختلط» الحلم بالواقع. ويستعين شيكسبير في ذلك باستحداث شخصية أنطونيو (صديق سباستيان) الذي يؤكِّد «الطابع الواقعي لهذه المدينة الخيالية»؛ فهي تنتمي افتراضيًّا إلى عالم الرومانس العجيب، وتتضافر فيها عناصر الخلط الجغرافي، ولكنها لندن أيضًا في عيون المشاهدين!

ويؤكِّد كثير من المخرجين رأي هذه الناقدة في تقديمهم تصوُّرًا «للمكان» الذي تحدث فيه المسرحية، يقوم على الخلط بين الوهم والواقع، على نحو ما قدَّمه مخرج العرض المسرحي لفرقة الجلوب الجديدة في لندن عام ٢٠٠٢م، وهذا الخلط هو الذي يؤكِّد التزاوج الحميم بين الرومانس وبين الكوميديا التي لا بد لها من أسانيد ثابتة في عالم الواقع.

ويؤكِّد ما قلتُه عن تضافر عناصر الرومانس مع عناصر الكوميديا هذا المزج بين العالم الشاعري الذي تدور فيه قصة الحب المعقدة وبين العالم المادي الذي نشهد فيه نزلاء منزل الكونتيسه أوليفيا وما يدبِّرونه من مكائد لبعضهم البعض، فالسير توبي يخدع السير أندرو ويقترض منه الأموال دون أن ينتوي سدادها متعلِّلًا بتمكينه من الزواج من ابنة أخيه، وهو يشترك مع فابيان وماريا في خداع مالفوليو خداعًا يصفه فابيان قائلًا: لو كان ذلك يحدث على المسرح الآن لأنكرته باعتباره خيالات خرافية. (٣ / ٤ / ١٢٩–١٣٠) وهكذا نجد التقابل بين الخيال الرومانسي الذي يصوِّر إنسانيةً صادقة حقيقية، وبين الواقع المادي الذي يقترب في شططه وجنوحه من عالم الخيال، ويتمكَّن شيكسبير من تحقيق التضافر من خلال التتابع الزمني الوثيق لأحداث الحبكة الرئيسية الشعرية وأحداث الحبكة الثانوية النثرية.

(٤) التقابل والتضاد

إننا ما إن نفرغ من المشهدَين الشعريَّين اللذَين يضعاننا في قلب عالم الرومانس (١ / ١ و١ / ٢) حتى نُقابل الصورة المضادة في المشهد التالي (١ / ٣)، حيث نجد سير توبي عم أوليفيا، الذي أحضر السير أندرو خاطبًا لابنة أخيه، فنهبط بذلك إلى عالم الواقع، ولكنه ليس واقعًا كئيبًا ولا مؤلمًا؛ فالسير توبي يمثِّل للجمهور الإليزابيثي ما كان يمثِّله في بلاط اللوردات في ذلك العصر رجلٌ يسمَّى مُدير الألاعيب المرحة (Master of merry disports)، ويشار إليه باسم غريب هو «رب الفوضى» (Lord of Misrule) بمعنى مدير الحفلات واللعبات التي تتيح للناس (في الفترة السابقة على الصوم الكبير Lent وما يصاحبه من زهد وتقشُّف) أن ينطلقوا فيتحرَّروا من قيود المجتمع الصارمة، وهو ما كان يسمَّى «الكارنيفال»، أو ماردي جرا (Carnival or Mardi Gras)، والصوم الكبير يتلوه «الفرج» بمقدم الربيع. والسير توبي إذن يجسِّد صورةً مألوفة لدى أبناء العصر الإليزابيثي؛ فهو تجسيد للحياة الناعمة أو طيب العيش (The good life)، ولم تكن تعني آنذاك أكثر من الملاذِّ الجسدية، ومن ثم فهو يقدِّم صورةً أبيقورية مناقضة للفضيلة التي يمثِّلها «البيوريتاني» مالفوليو. فالسير توبي يستنكر أن يخفي السير أندرو «فضائله» فلا يرقص علنًا في غُدوه ورواحه، «هل علينا أن نخفي فضائلنا في هذه الدنيا؟» (١ / ٣ / ١٣٠–١٣١) وعندما يلومه مالفوليو في الفصل الثاني على الرقص والسُّكر والعربدة يقول له سير توبي «هل تظن أن استمساكك بالفضيلة سيحرم الناس من الفطائر والجِعَة؟» (٢ / ٣ / ١١٤–١١٥). أي إننا نواجه على أرض الواقع صورتَين متضادتَين للفضيلة؛ الأولى: صورة استغراق في الملاذِّ الحسية وعلى رأسها المهارة في الرقص، الغناء، والشراب، و«أطايب العيش». والثانية: صورة زهد وامتناع عن إجابة نوازع الجسد، وهي التي كانت تمثِّل رمزيًّا صورة الصوم، وتمثِّل اجتماعيًّا نزعةً كانت قد بدأت تنتشر في مطلع القرن السابع عشر، هي الضيق ﺑ «مثالب» الكنيسة الإنجليزية في عهد الإصلاح الديني؛ إذ كان الكثيرون يرَون أنها كانت لا تزال تتسم بملامح كاثوليكية ويطالِبون بالعودة إلى صورة دينية أشد «نقاءً» أو «طهرًا» (purer) وهذه هي الكلمة التي أتت فيما بعدُ بمصطلح «المتطهِّرين» أو «دعاة النقاء» أو البيوريتانيين، والمعروف أنه لم تنقضِ ثلاثون عامًا على تقديم مسرحية «الليلة الثانية عشرة» حتى كان هؤلاء قد دخلوا البرلمان وأثبتوا سلطانهم فيه، وكانت النتيجة هي الثورة الإنجليزية التي تزعمها أوليفر كرومويل المتعصِّب، وبلغت ذروتها في الإعدام العلني للملك تشارلز الأول في عام ١٦٤٩م الأنجليكاني الذي كان يؤمن بضرورة الاستمساك بالطقوس والشعائر. وأقول بالمنسابة إن الشاعر المسرحي الفذ بن جونسون (Ben Jonson) قد سخر في عام ١٦١٤م، في مسرحية «سوق بارثولوميو»، من شخصية البيوريتاني الديني الذي أطلق عليه اسم «زيل – أوف – ذا – لاند بيزي» (Zeal – of – the – Land Busy)، ومعناها «حَميَّة البلد المشغول»، وهو أبيقوري منافق يتحدَّث برطانة الواعظ، ولكنه يفتقر إلى التركيب النفسي والاجتماعي المعقَّد الذي نراه في مالفوليو؛ فماريا تصفه بأنه «في بعض الأحيان .. بيوريتاني» (٢ / ٣ / ١٤٠)، ثم تُسرع فتوضِّح ما تعني قائلة:

ما أبعده عن الاستمساك بالأخلاق أو البيوريتانية أو أي شيء على الدوام؛ فليس سوى انتهازي مداهن، وحمار يتصنَّع الحكمة، ويردِّد ما يحفظه من كلام الكبراء، بل ويكرِّر مقتطفات طويلةً منه! وهو مغرور يزهو بذاته زهوًا لا يدانى؛ إذ إنه (في ظنه) مفعم بالمناقب، إلى الحد الذي يؤمن معه أن كل من ينظر إليه لا بد أن يحبه …

(٢ / ٣ / ١٤٦–١٥١)
والهجوم على مالفوليو من الثيمات الكوميدية المألوفة؛ فجوهر هذا الهجوم هو إذلال الغبي المتكبِّر ذي الألفاظ الطنَّانة الذي يظن أنه أفضل ممَّا هو عليه في الواقع، ولم يكن شيكسبير يقصد بكلمة بيوريتاني إلا إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كُتبت، ولكن الممثِّل الذي كان يلعب هذا الدور على امتداد القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر كان يوحي للمشاهِد بجو «الرِّفعة الإسبانية» أولًا قبل أن يتحوَّل بسبب أوهامه إلى شخصية فكاهية ذات خبل يذكِّرنا بدون كيشوت (كيخوته). وسوف أقتطف هنا بعض ما قاله من تناولوا المسرحية من كبار النقاد والأدباء إيضاحًا لطبيعة التناقض الذي يولِّد الكوميديا عند شيكسبير، خصوصًا في هذه المسرحية. ولْأبدأ بفقرة قصيرة من حديث الدكتور صمويل جونسون (Johnson)، الكلاسيكي ابن القرن الثامن عشر، عن «الليلة الثانية عشرة»:

تتميَّز هذه المسرحية في الجوانب الجادة منها بالرشاقة والسلاسة، وفي المشاهد الخفيفة بالهزل الجذاب؛ فشيكسبير يصوِّر شخصية السير أندرو إجيوتشيك تصويرًا مناسبًا إلى أبعد حد، ولكن شخصيته تُفصح إلى درجة كبيرة عن غباء فطري، وليست من ثم الموضوع الملائم للهجاء الساخر. والحديث المنفرد الذي يقوله مالفوليو لنفسه كوميدي حقًّا، ولا يجعله عرضةً للسخرية إلا غطرسته. وأمَّا زواج أوليفيا ومشاهد الخلط التي تتلوه فإنها — على الرغم من إحكام بنائها وصوغها بدقة تكفل التسرية والإمتاع على المسرح — تفتقر إلى المصداقية، ولا تقدِّم الدرس المناسب الذي لا بد منه في الدراما؛ لأنها لا تعرض صورةً صادقة للحياة.

(من طبعة جونسون لأعمال شيكسبير، ١٧٦٥م، يوردها ﻫ. ﻫ. فيرنس H. H. Furness في طبعته للمسرحية مع آراء النقاد عام ١٩٠١م)
ولننظر ثانيًا إلى ما قاله وليم هازلت (Hazlit)، الناقد الرومانسي، في القرن التاسع عشر عن هذه المسرحية في كتابه «شخصيات مسرحيات شيكسبير» (الطبعة الثانية ١٨١٨م):

تُعتبر هذه المسرحية بحق من أمتع كوميديات شيكسبير؛ فهي حافلة بالعذوبة والجمال، وربما يكون بها من «طيب النفس» ما يجعلها غير ملائمة للكوميديا. فالهجاء فيها محدود، وتخلو تمامًا من مشاعر الحقد، وهي ترمي إلى إبراز ما يُضحك لا ما يثير الاستهزاء؛ لأنها تجعلنا نضحك من حماقات البشر ولا نحتقرها، بل ولا تجعلنا نُضمر أي سوء لها؛ فالعبقرية الكوميدية لدى شيكسبير تشبه النحلة في قدرتها على استخراج الحلاوة من الأعشاب الضارة أو السامة لا في قدرتها على اللدغ؛ إذ إن شيكسبير يقدِّم إلينا أشد ما يمتِّعنا من سمات الضعف والنقص في الشخصية «في صورة مبالغ فيها»، ولكنه يرسم هذه الصورة بأسلوب يكاد يدفع أصحابها إلى المشاركة في الضحك عليها، بدلًا من الاستياء من هذه الصورة، ما دام يدبِّر من المواقف ما يجعل الشخصيات تبدو لنا في أبهى حلة ممكنة بدلًا من دفعنا إلى احتقارها فيما يدبِّره الآخرون من مكائد وما يطلقونه من فكاهات مؤلمة عليها.

وإشارة هازلت إلى المبالغة، في العبارة المطبوعة بالبنط الأسود، تتفق مع ما ذكرته عن كوميديا الكاريكاتير («من قضايا الأدب الحديث»، ص٢٦٨)؛ فالمبالغة في تضخيم عيب من العيوب في مسلك الإنسان أو طبعه؛ تؤدِّي إلى إبرازه بصورة تكفل تأكيد تناقضه مع ما نتوقَّعه من كل رجل سَوِي، أو مع المعايير السائدة عن السلوك الطبيعي أو السوي ومدى إفصاحه عن «سلامة» نفس صاحبه. ويشرح هازلت ما يقصده بذلك في الفقرة الطويلة نفسها من كتابه قائلًا:

ولقد مرَّ المجتمع بفترة كانت عيوب السلوك ونقائصه لدى الأفراد من غرس الطبيعة لا ثمرة لنمو العلم أو الدرس، فهم غير واعين بهذه المثالب، أو قل إنهم لا يأبهون لمعرفتها، ما داموا يُرضون بها أهواءهم، وهنا نجد أنه ما دام المؤلف لا يحاول أن يفرض شيئًا، فإن المشاهدين يستمتعون بمسايرة ميول الأشخاص الذين يضحكون عليهم دون أن يؤذوهم بفضح حمقهم. ولنا أن نطلق على هذه اللون اسم كوميديا الطبيعة، وهي الكوميديا التي نجدها بصفة عامة في شيكسبير؛ فإن روح كوميدياته تتفق في جوهرها مع روح سيرفانتس (ثيربانتيس) ونصادفها كثيرًا في موليير، وإن كان هذا أشد انتظامًا في مبالغاته من شيكسبير. فكوميديا شيكسبير ذات قالب رعوي وشاعري، والحماقة أصيلة في تربتها، وشجرتها تنمو وتترعرع فتزهر وتثمر. والمتعة التي يجدها الشاعر في تورية لفظية، أو في الفكاهة العجيبة التي يجدها في شخصية «منحطة»، لا تُفسد بهجته وهو يصف صورةً جميلة أو أسمى ألوان الحب. ففكاهات المهرِّج المقتسرة لا تفسد عذوبة شخصية فيولا؛ فالمنزل نفسه يتسع لمالفوليو والكونتيسة وماريا وسير توبي وسير أندرو إجيوتشيك. ولننظر مثلًا إلى هذه الشخص الأخير الذي لا مثيل لانحطاطه في العقل أو الخُلق، وانظر كيف يحوِّل السير توبي مظاهر انحطاطه إلى صور جذابة ممتعة! إن شيكسبير يبث روح الرومانس والحماس بمقدار ما يرسم الأشخاص في صور طبيعية وصادقة، وأمَّا في أسلوب الكوميديا المتصنَّعة فلا نجد إلا الزَّيف والبعد عن المصداقية.

(من طبعة سيجنت للمسرحية ص١٣٣–١٣٥)

أي إن «الغباء الفطري» الذي يجده جونسون في سير أندرو ويرى أنه غير جدير بالمعالجة الساخرة في الكوميديا يراه هازلت نبتًا طبيعيًّا جديرًا بتأمُّله والاستمتاع به؛ وذلك عن طريق مجاورته للمشاعر الصادقة في قصة الحب الرومانسية، فالتجاور يؤكِّد التقابل ويُبرز التناقض في صورة أخَّاذة، وما يراه جونسون بعيدًا عن الواقع بمعنى أنه لا يقدِّم صورة صادقة للحياة، ينسبه هازلت إلى الشعر، أو ما يسمِّيه الطابع الرعوي. وهذا دليل على تغيُّر الحساسية النقدية في مطلع القرن التاسع عشر، وهو التغيُّر الذي أدَّى إلى قَبول كل ما في الطبيعة باعتباره جديرًا بالتصديق ما دام «في الطبيعة»، ولضرب لهذا مثلًا من شخصية مالفوليو، وشخصية المهرج.

(٥) مالفوليو والمهرج

سبق أن قلت في القسم السابق من المقدِّمة إن مالفوليو لم يصف بالبيوريتاني إلا بهدف إرضاء الجمهور الذي شاهد المسرحية أول ما كُتبت، ولكن هذا الجانب من شخصيته قد دفع الكثيرين إلى إغفال ما فطن إليه المحدثون، وكان سبَّاقًا إلى ذلك الناقد الرومانسي تشارلز لام (Charles Lamb) في كتابه «مقالات إيليا» (وكان إيليا هو الاسم المستعار الذي يوقِّع به مقالاته النقدية في مجلة «لندن مجازين» في مطلع القرن التاسع عشر). فالنظرة الحديثة تقول إن مالفوليو ليس شخصيةً مضحكة بطبيعته؛ أي إنه ليس هزأةً أو مثار سخرية في ذاته، ولكن أحلامه الخبيئة قد استغلَّها العابثون فجعلوه يعيش في وهم يثير الضحك والاستهزاء، وهي أحلام ليست موهومةً تمامًا بل تقوم كما يقول النص على واقع صلب، فهو حاجب لصاحبة المنزل ورئيس الخدم، ومعنى هذا أنه يشعر بالمسئولية عن كل ما يحدث في المنزل، وتزمُّته الأخلاقي أو«بيوريتانيته» ليست في ذاتها مثيرةً للسخرية أو الاستهزاء، فلقد كان من واجبه ضمان التزام جميع من في المنزل، زُوارًا ومقيمين، بالسلوك الحسن، والحفاظ على النظام والأمن في المنزل، وفقًا لِمَا تقوله كتب السلوك في القرن السادس عشر، حسبما جاء في دراسة م. سانت كلير بيرن (M. St. Clare Byrne) بعنوان «الخلفية الاجتماعية» في كتاب بعنوان:
A Companion to Shakespeare Studies, (eds.) H. Granville-Barker and G. H. Harrison, 1946, (second ed. 1985, p. 204).
وهذا يعني أنه يمارس حقه في تأنيب الصاخبين المعربدين فيما يسمَّى «مشهد المطبخ» (٣ / ٢). والواضح أيضًا أنه لا يرتاح للمهرج الذي يكسب رزقه بالتلاعب اللفظي الفكاهي هنا وهناك، فمثل هذا التهريج يفسد جو الوقار السائد، خصوصًا وأوليفيا تلبس ثوب الحداد حزنًا على وفاة أخٍ لها، وتقول الناقدة بني جاي إن لنا أن نعتبره يمثِّل صورة الأب أو الاخ الذي يُتوقَّع منه التحكُّم في سلوك أفراد الأسرة من النساء. وقد تصادف أن يصبح أقوى رجل في منزل تديره اسميًّا امرأة لا زوج لها ولا أب ولا أخ يستطيع أن ينهض بدور رب الأسرة والمتحكِّم في نفقاتها (ص١١). ويؤكِّد هذه النظرة ما ورد في دراسة الأستاذة فاليري تروب (Valerie Traub) بعنوان «النوع والحياة الجنسية في شيكسبير»، المنشورة في كتاب عنوانه:
The Cambridge Companion to Shakespeare, (eds.) Margreta de Grazia and Stanley Wells, 2001.
خصوصًا في الصفحات ١٢٩–١٣٤ المكرَّسة لدراسة «الأيديولوجية الذكورية» وتأثيرها في النساء في العصر الإليزابيثي، فمالفوليو، وفقًا لِمَا تقوله هذه الباحثة، يريد السيطرة على المنزل ويرى نفسه الرئيس «الطبيعي» للأسرة، فبهذا تُقضى المعايير الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن. وقد يكون حلمه الدفين بالزواج من أوليفيا غير واقعي ولا يمثِّل إلا طموحًا غير مشروع بسبب التفاوت الطبقي، ولكنه حلم مشروع من الزاوية الإنسانية المحضة، مهما أضحكنا اشتطاطه في الخيال وانغماسه في هذا الوهم، وانظر إلى ما قاله تشارلز لام المشار إليه في هذا الصدد:

ليس مالفوليو في جوهره مثيرًا للضحك. وهو يصبح فكاهيًّا بالمصادفة. إنه بارد، مثقَّف، ولكنه وقور متسق مع ذاته، وحسبما يظهر لنا، متزمِّت أخلاقيًّا … ولكن أخلاقه وسلوكه لا مجال لهما في إلليريا؛ فهو يعارض ألوان النزق والطيش الخاصة بالمسرحية، ويسقط في الصراع غير المتكافئ، ومع ذلك فإن كبرياءه أو وقاره (سمِّه ما شئت) أصيل أو فطري في نفسه، بمعنى أنه غير متكلَّف أو متصنَّع. وهو غير جذاب، إن شئنا التلطُّف في التعبير، لكنه ليس مهرِّجًا مبتذلًا أو يثير الاحتقار. ومسلكه يوحي بالرفعة التي تتجاوز موقعه الاجتماعي ولكنها لا تتجاوز ما هو جدير به. ولا نرى ما يمنع من أن يكون قد فعل ما يثبت شجاعته وشرفه وثقافته. فإن إلقاءه الخاتم على الأرض في غير اكتراث (عندما كُلِّف بإعادته إلى سيزاريو) يفصح عن كرم المَحتِد وكرم الإحساس. واللغة التي يستخدمها في جميع الحالات لغة سيد ولغة شخص متعلِّم. ويجب ألَّا نخلط بينه وبين شخصية القهرمان الوضعية القديمة الشائعة في الكوميديا منذ الأزل. فإنه رئيس منزل أميرة عظيمة، وهي منزلة بلغها لشمائل فيه لا تقتصر قطعًا على طول الخدمة. وهذه أوليفيا تقول عندما يُلمِح أول من يُلمِح إلى أنه أُصيب بلُوثة، إنها لا تريد أن يصيبه أذًى، ولو فقدت نصف مهرها (٣ / ٤ / ٦١) فهل يبدو من هذا أنه شخصية قصد بها أن تكون حقيرةً أو لا وزن لها؟ … وربما كان مالفوليو يشعر بأنه مسئول بصورة ما عن شرف الأسرة؛ إذ لا يبدو أن لأوليفيا إخوةً أو أقارب يتولَّون هذه المسئولية …

ويُفيض لام في تبيان مظاهر السلوك التي تبرِّر وصفه السابق لمالفوليو، مثل إجاباته الرزينة وهو في الحبس على المهرِّج المتنكِّر في هيئة كاهن، والأمر الذي يُصدره الدوق بمحاولة استعطافه ومصالحته في النهاية، ويقول إن فابيان وماريا كانا يريان في شخصيته ما يبرِّر خداعه بحب أوليفيا وإلا لكانت الخدعة أعظم من أن تجوز عليه أو على أي أحد. وينتهي لام في مقاله الطويل بوصف أداء الممثِّل روبرت بنسلي (Robert Bensley) لهذا الدور في أواخر القرن الثامن عشر (لأنه تقاعد عام ١٧٩٦م) قائلًا:

لقد كان رائعًا من البداية، ولكنه عندما بدأت مظاهر الوقار الأصيلة في الشخصية تنهار، وبدأت سموم حب الذات تفعل فعلها، في توهُّمه بحب الكونتيسة له، فلربما أحسست أنك ترى بطل لامانشا بشخصه على المسرح … لم يكن ثم مجال للضحك! أمَّا إذا برز أي إحساس أخلاقي في غير موضعه ففرض نفسه، فلا بد أن يكون إحساسًا عميقًا بالضعف الجدير بالإشفاق والكامن في طبيعة البشر، فهو الضعف الذي جعله عرضةً لضروب ذلك «الجنون» — ولكنك في الحقيقة تُعجَب بذلك «الجنون» أثناء حلوله ولا تُشفق عليه — بل وتُحس بأن ساعةً تعيشها في ذلك الخطأ أكبر قيمةً من عمر كامل وعيناك مفتوحتان … وأعترف أنني لم أشاهد يومًا تلك الكارثة التي أصابت تلك الشخصية، أثناء تقديم بنسلي لها، دون الإحساس بلذعه مأسوية.

ولقد اخترت في هذا القسم أن أجمع بين مالفوليو والمهرج (فسته)؛ لأنهما يؤكِّدان ما طرحته في القسم السابق من تقابل وتضاد؛ فالمهرج، حسبما يصفه هارلي جرانفيل-باركر في مقدمته لطبعة التمثيل من المسرحية عام ١٩١٢م.

William Shekespeare, Twelfth Night. An Acting Edition. With a Producer’s Preface by Harley Granville-Barker, London, 1912.

رجل طاعن في السن، فشل في حياته ولم يحاول إخفاء ذلك، ولكنه يستعين بلماحيته وقدرته على التلاعب بالألفاظ على كسب الرزق، ويضيف ذلك المخرج أننا نرى كثيرًا من أمثال هؤلاء الذين يتردَّدون على الأسر لإضحاكها دون أن يرتدوا لباس المهرِّج المتعدِّد الألوان! ونحن نعرف من نص المسرحية مدى ما يتمتَّع به المهرِّج من حرية في الحركة، فهو يعيش حقًّا على الحافة متنقِّلًا ما بين منزل الدوق أورسينو ومنزل الكونتيسة أوليفيا، ويقيم كما يقول بعض الشراح في مكان ما بالبلدة، ويطوف بأكثر من مكان (حتى بالحانات كما يقول مالفوليو) وهو لا يخفي «تشرُّده» قائلًا: «التهريج يدور حول الأرض يا سيدي مثل الشمس، فهو يسطع في كل مكان!» (٣ / ١ / ٤٠) وهو يتهم مالفوليو بالجنون (مع الآخرين)، وعندما يقول له مالفوليو إن قواه العقلية «في سلامة قواك العقلية أيها المهرج» يقول له المهرج إنه إذن مجنون حقًّا! (٤ / ٢ / ٩٠–٩٣).

والمشهد الذي يجمع بينهما على المسرح، مشهد «الغرفة المظلمة» (٤ / ٢) من أقسى المشاهد التي تؤكِّد التقابل بين قسوة المهرِّج وضعف الحبيس مالفوليو، والمعروف كما يقول مايكل بريستول في كتابه عن الكرنفال والمسرح:

Michael Bristol, Carnival and Theater: Plebeian Culure, and the Structure of Authority in Renaissance England, 1985.

إن المهرجين في الكوميديا الشيكسبيرية شخصيات تعيش على الحافة؛ فهم جوَّالون، ومراقبون، ومعلِّقون على الأحداث، ويتمتَّعون بالقدرة على التشكيك في عالم الرومانس والأسطورة، بل والسخرية من هذا العالم. ويضيف بريستول قائلًا إن المهرج «يعبر الحدود ما بين العالم الذي تمثِّله المسرحية وبين الزمن الحاضر والمكان الذي تُعرض فيه المسرحية، فهو يشترك مع الجمهور في هذا الزمن وهذا المكان … وهكذا فإنه يقوم بالإضافة إلى دوره في القصة بدور الجَوقة التي تقف خارج مجرى أحداثها» (ص١٤٠–١٤٢). وإذن فإن هذا المشهد يمثِّل المقابلة بين «المتشرِّد» الذي قد لا ينتمي إلى الحبكة انتماءً حقيقيًّا بل يُطل عليها من الخارج، وبين الضحية الذي وقع في براثن العابثين الصاخبين المُعربدين، بحيث يتولَّد التوتر ما بين الضحك على محنة مالفوليو والإشفاق عليه، وما بين قسوة المهرِّج والضحك على فكاهاته التي لم تعد تُضحك أحدًا، كما يقول جرانفيل باركر (الذي يؤكِّد أنه لا بد من حذف الفكاهات اللفظية عند الأداء المسرحي، «وحذفها هي فقط دون غيرها» لانتفاء تأثيرها الفكاهي حتى في مطلع القرن العشرين). فالمهرِّج يتنكَّر في دور كاهن، مثلما تنكَّرت فيولا في دور سيزاريو، ثم يعود إلى صوته الحقيقي، وإن كان ذلك أيضًا، كما نعرف، دورًا يلعبه لكسب رزقه؛ فهو يتظاهر بالبله وحسب، ويلعب دورًا لا ينتهي بنهاية المسرحية، ثم يختتمها بالأغنية التي ذاعت شهرتها حتى اليوم، ولا تمثِّل في الحقيقة إلا تعليقًا ساخرًا على الأحداث.

وربما استطعنا أن نجد في هذا التقابل عنصر تشابه آخر لو أنعمنا النظر في الموقع الذي يشغله مالفوليو والمهرج في المسرحية؛ إن كليهما من غير المنتمين إلى عالم الرومانس؛ إذ لا مكان فيه لمهرِّج أو بيوريتاني، وما يقولانه في المشهد المذكور لا علاقة له بالحدث الرئيسي إلا من قبيل التعليق الساخر على عبثية الحدث نفسه! وانظر إلى مشهد آخر يدور بين المهرِّج وبين فيولا (المتنكِّرة في ثوب سيزاريو) ويقع في بداية ٣ / ١؛ أي في منتصف المسرحية تمامًا ويستغرق ستين سطرًا من النثر، تجد تشابهًا غير متوقع بين موقف المهرِّج وموقف فيولا المتنكِّرة. فالمشهد لا يضيف شيئًا إلى الحبكة؛ أي إلى الأحداث ولكنه مهم؛ لأنه يتناول قضية التهريج والمهرِّجين والتلاعب بالألفاظ وأخيرًا هُوية فيولا نفسها. والقضية التي يتناولانها؛ أي قضية غموض الألفاظ أو فسادها، تصب في قضية الظاهر والباطن، وكيفية التعامل مع الناس، بحيث توحي لنا بأن فيولا تؤمن بما يفعله المهرج، وأنها تتحايل هي الأخرى في عالم الواقع المادي الذي يقوم على المداهنة والنفاق حتى تفوز بما تريد، إذ ما إن ينصرف المهرِّج حتى تقول:

هذا لديه من سداد العقل ما يكفي التظاهرَ بالبله،
وحِذق ذلك الدور العسير يقتضي اللمَاحِيَة؛
فإنه لا بد أن يراعي حالة الذي يهجوه أو مزاجَه
وطبعه الشخصي بل واللحظة المناسبة،
كالصقر لا ينقَضُّ إلا عند رؤية الفريسة المطلوبة،
وذاك جهدٌ مرهقٌ كجهد كل جادٍّ عاقل!
تصنُّع البلاهة الذي يمتاز بالإحكام يقتضي الذكاء،
أما سقوط عاقلٍ في هُوة السفه .. فذا بعينه الغباء.
(٣ / ١ / ٦١ / ٦٨)
أفلا نشعر بأن فيولا تتحدَّث عمَّا تفعل هي الأخرى؟ ولنا في ضوء هذا «التمثيل» المحكم الذي تقوم به حتى آخر المسرحية أن نقول إن البيت الأخير من هذه الأبيات ينطبق على مالفوليو؛ فهو حقًّا عاقل سقط في هوة السفه، فاستحقَّ أن يوصف بالغباء! (وفيولا تشير إليه قائلةً إنه عاقل رزين ٣ / ٤ / ٥–٦)، ودوره إذن يتضاد إن لم يكن يتناقض مع دور المهرِّج، وأمَّا الفرق بينهما من ناحية، وبين فيولا من ناحية أخرى، فهو أنهما لا يتغيَّران ولا يتبدَّلان؛ فالفاشل فسته يواصل حياته مهرجًا حتى بعد لحظة تكشف الحقيقة (anagnorisis)، ومالفيولو المتغطرس يخرج من المسرح وهو يرعد مهدِّدًا بالانتقام ممن دبَّروا المكيدة، ولكن فيولا تنجح في تحقيق مرادها والزواج ممن تحبه؛ أي إن خداعها ينجح فيربط بين عالم الرومانس وعالم الواقع!

(٦) الأساطير ومسخ الكائنات

أثبت الباحث جوناثان بيت في الفصل الأول من كتابه عن شيكسبير وأوفيد (Jonathan Bate, Shakespeare and Ovid, 1993) مدى شيوع أعمال ذلك الشاعر الروماني في ثقافة العصر الإليزابيثي، وخصوصًا كتابه «مسخ الكائنات» Metamorphoses الذي يتضمَّن حكايات مسخ الأرباب الوثنية اليونانية وأبناء البشر؛ أي تحوُّلهم من صورهم إلى صور الحيوان أو الجماد أو النبات أو الأجرام السماوية. وكانت الترجمة التي أصدرها آرثر جولدنج (Golding) لكتاب أوفيد المذكور عام ١٥٦٥م تحظى بشعبية هائلة، ولا شك أن شيكسبير كان يعرف ذلك الشاعر سواء كان قد قرأ ذلك الكتاب باللغة اللاتينية الأصلية أم مترجمًا؛ ففي «حلم ليلة صيف» نرى بوتوم ممسوخًا في صورة حمار من خلال جهود العفريت بَك (Puck) (أو روبين جود فيلو)، والقصيدة القصصية «فينوس وأدونيس» تثبت مدى إدراك شيكسبير للإمكانات الفكاهية الكامنة في فكرة المسخ حتى في مطلع حياته العملية. ولكن شيكسبير هنا يستخدم الثيمات الأوفيدية بحذق أكبر وصور غير مباشرة في حالات كثيرة؛ إذ إن فيولا تذكِّرنا بتلك الفكرة عندما تشير إلى نفسها في الفصل الثاني قائلة: «وأنا المسخ المسكينة .. أعشقه كل العشق» (٢ / ٢ / ٣٣) ما دامت قد تنكَّرت فتحوَّلت من جنس إلى جنس، ومالفوليو «يمسخ» نفسه حين يتحوَّل من وقار القهرمان (مدبِّر المنزل) إلى عاشقٍ طبقة الأسياد، فيبدو مسخًا شائهًا في جوربه الأصفر ورباط ساقه الصليبي وبسماته الدائمة، فيبدو مجنونًا؛ أي «يركبه» جني أو يسكنه عفريت، وهو ما يحدث لشخصيات كثيرة في أوفيد، حسبما يقول الباحث المذكور، عندما لا يُحالفهم التوفيق في اختيار الحبيب المناسب.

ومنذ المشهد الأول للمسرحية نلمح ما يدل على هذا الولع بفكرة المسخ أو التحوُّل عندما يقول أورسينو:

وعندها استحلت ظبيًا واستحالت الأشواق سربًا
من كلاب الصيد ذات رهبة وقسوة،
ولم يزل طِرادها للآن لي!
(١ / ١ / ٢١–٢٣)
فالواقع أن أورسينو يستقي الصورة من أسطورة أكتيون (Actaeon) الصياد العظيم الذي تصادف أن رأى الربة أرتميس (Artemis) وهي تستحم فمسخته ظبيًا (stag) وطاردته كلابه حتى مزَّقته إرْبًا (أوفيد – «مسخ الكائنات»، ٣ / ١٣٨ وما بعده).
وفي داخل هذه الصورة نفسها يشير شيكسبير بطريق غير مباشر إلى أن أوليفيا هي ديانا؛ إذ إن القدماء كانوا يوازون بين هذه الربة «الإيطالية» والربة أرتميس اليونانية، ودلالات ديانا (ربة القمر) معروفة بالعفة؛ فالصورة مركبة، وتستثمر في التركيب شعر أوفيد. ومع ذلك فالنقاد يُجمعون على أن المثال الأوفيدي الذي اختاره لأورسينو هو نرجس (Narcissuss)، ولو أن باحثًا آخر يزعم أن أوليفيا أيضًا شخصية نرجسية، وهو:
A. B. Taylor, Shakespeare re-writing Ovid. Olivia’s interview with Viola and The Narcissus myth’s Shakespeare Survey 50 (1970) pp. 18–9.

ففي الفصل الثالث من «مسخ الكائنات»، نجد ما لا بد أن شيكسبير قد قرأه عن الفتى نرجس:

… أثناء شربه رأى جمال وجهه في صفحة الماء الصقيل،
وإذ به في غمرة الوجد الشديد هائمًا يعانق الوجه الجميل،
ودون أسبابٍ غذا في نفسه الأمل! إذ إنه بمطلق الغباء
ظن انعكاس ظله كِيان شخصٍ آخر يحيا بذاك الماء،
فظل راقدًا كأنه بذهنه الشرود تمثالٌ من الرخام،
محملقًا في صورته .. بعينه التي تسمَّرت على الدوام
… كان الحبيبَ نفسَه الذي يحبه والخاطبَ الذي يبثه الغرام،
كان اللهيب نفسه الذي يؤججه … وقلب من أحرقه الهُيام.
(٣ / ٥١٩–٥٢٥، ٥٣٦–٥٣٧ عن ترجمة آرثر جولدنج ١٥٦٥م، طبعة ٢٠٠٢م، تحرير مادلين فوري Madeleine Forey)

وعجزُ نرجس عن الإقلاع عن حبه نفسه يؤدِّي إلى هلاكه؛ فالانغماس في الذات مهلك، أو على الأقل دليل على علة مهلكة، وهكذا نرى أن أورسينو (مثل مالفوليو «العاشق» الآخر لأوليفيا) «مريض بحب الذات» (١ / ٥ / ٨٩)، ويتضح لنا ذلك في حديثه الافتتاحي الذي يُفصح عن الاستغراق الكامل في ذاته، وعندما يقول فالنتاين إنها اعتزلت الناس وعافت صحبة الرجال بسبب وفاة أخ لها، يرى أورسينو أنها إذا بادلته الحب فسوف يتربَّع هو وحده مليكًا على عروش مُلكها الثلاثة، وسوف يصير وحده مالكًا لكل أوجه الكمال عندها، فكأنما كان وحده «أولًا وأخيرًا» في بؤرة الصورة لا يشاركه أحد (١ / ١ / ٣٧–٣٩). وأورسينو يعتز بقدرته على الحب ويلتذ بما يجده في نفسه من مشاعر:

من المحال أن تكون لامرأة
جوانح قادرةٌ على تحمُّل الذي يدِف في قلبي
من الخفق الشديد للمشاعر المشبوبة!
(٢ / ٤ / ٩٤–٩٦)

أي إنه يجد في صورة الحبيبة البعيدة المنال وسيلةً لتأكيد حساسيته الشديدة، بمعنى أنها وسيلة لا غاية، وهذه من السمات المألوفة في الرومانسات. ولكننا هنا نجد صورةً مباشرة لها عند مالفوليو الذي «قضى نصف الساعة الماضية في التدريب على أساليب السلوك مع ظله في الشمس» (٢ / ٥ / ١٦)، ويقول بعض المخرجين إن مالفوليو هنا يُخرج من جيبه مرآةً صغيرة يتطلَّع فيها إلى وجهه وهو يقول «قالت إنها لو أحبت أحدًا فسوف يكون مثلي في الصورة» (٢ / ٥ / ٢٥)، وعلى عكس هذا تقدِّم فيولا صورة الحبيب قبل صورتها؛ أي تقول إنها سوف تشغل المكانة الثانية «ووراء من أحبه حبًّا يفوق هذه العيون والحياة كلها» (٥ / ١ / ١٣٣)، وتؤكِّد غيرية الحبيب وحقيقته المستقلة عنها، فإن حبيبها «الخيالي» «من طبعك .. مولاي إنها في نحو سنك» (٢ / ٤ / ٢٧–٢٩).

وعندما تحين لحظة المواجهة بين التوأمَين، نجد أن الذي يُقر بالتشابه المذهل هو أورسينو نفسه:

الوجه واحدٌ والصوت واحدٌ بل الرداء واحد .. لكنه شخصان!
كأنني أمام مرآةٍ مُزاوِجة .. لكنها من الطبيعة ..
تضم صِدقًا وخداعًا!
(٥ / ١ / ٢١٣–٢١٥)
أي إن أورسينو هنا (الحاكم وأكثر الأشخاص ثقافة) قد غدا يواجه أسطورةً مجسدة تُعتبر صورةً لنرجسيته الخاصة. وكلامه من هذه اللحظة وحتى نهاية المسرحية يدل على نضج مفاجئ، وإن كان ذلك مثار خلاف في النقد النسائي؛ إذ تُنكره وتستنكره لندا بامبر (Linda Bamber) في كتاب لها بعنوان «شخصيات النساء الكوميدية وشخصيات الرجال التراجيدية» (١٩٨٢م) قائلةً إن تحوُّل أورسينو من حب أوليفيا إلى حب فيولا تحوُّلٌ تقليدي تعسُّفي لا دوافع له (ص١٣٣)، متجاهلةً أن أورسينو قد عرف فيولا خير المعرفة بعد أن صاحبها ذهنًا وقلبًا (حتى وهي متنكِّرة) ثلاثة أشهر، في حين أنه لم يعرف ولا يعرف شيئًا عن أوليفيا التي لم تكن سوى الزاد الذي ظلَّ يغذو نرجسيته فترةً من الوقت في عالم الرومانس الذي يصوِّره شيكسبير، وشيكسبير هنا يؤكِّد الصورة الحديثة للحب القائم على المعرفة وتقارب المشارب لا القائم على فتنة الطلعة أو جمال المحيَّا! فذلك يُنزله شيكسبير من عالم الرومانس إلى عالم الواقع، وما أسميته النضج المفاجئ ليس مجرَّد «تحوُّل» كما تقول بامبر بل هو اكتشاف، بمعنى أن حقيقة مشاعر أورسينو نحو فيولا (تلك المشاعر التي لم يكن يجرؤ أن يُفصح عنها ما دامت فيولا متنكِّرة في زي غلام)، قد ظهرت له وفتحت عينَيه بعنف! وتؤيِّد ما أقول به هنا الباحثة المرموقة آن بارتون (Anne Barton) في دراسة لها بعنوان «معنى الختام في شيكسبير: كما تحب والليلة الثانية عشرة»، وهي منشورة في كتاب من تحرير مالكوم برادبري ودافيد بامر في سلسلة «دراسات ستراتفورد أبون آيفون ١٤: الكوميديا الشيكسبيرية» (١٩٧٢م)؛ إذ تقول في صفحة ١٦٩ إن النهاية في كل من المسرحيتَين تتضمَّن عناصر «اكتشاف للذات، وتعميق وتنمية للشخصية»، كما نجد دراسات أخرى تبحث في معنى التحوُّل في الختام ودلالاته للفرد والمجتمع مثل دراسة شيرمان هوكنز (Sherman Hawkins) بعنوان «عالما الكوميديا الشيكسبيرية» المنشورة في (١٩٦٧م) Shakespeare Studies 3 ومثل المخرج هارلي جرانفيل-باركر الذي يعترض على المشهد الأخير اعتراضًا شديدًا من ناحية البناء قائلًا إنه «سيئ التركيب وسيئ الكتابة إلى أقصى حد بحيث يُربك أي مدير لخشبة المسرح إلى حد اليأس» (من مقدمة الطبعة المشار إليها آنفًا ص٣) على عكس بني جاي التي تقول إن «الدهشة هي اللحن الأساسي للحظة التنوير في المسرحية، وهي التي تأتي في الفصل الأخير الذي يدل على براعة فائقة في التركيب الدرامي» (ص١٩).

وسر هذا التضارب في الآراء هو أن من يعالج المسرحية في ضوء التقاليد المسرحية الواقعية ربما يصطدم بالتحوُّل، ما دام قد صدَّق كلام أورسينو فآمن بعمق حبه لفيولا، وأمَّا من يعالجها في ضوء تقاليد الرومانس ودنيا الخيال التي يبنيها الشعر ويرتكن فيها إلى التراث فلن يخدعه شعر أورسينو، وذاك موقف المخرجين المحدثين بلا استثناء، فالواقع هو أن شيكسبير لم يأخذ من قصة بارنابي ريتش «أبولونيوس وسيلا» إلا فكرة الحبكة، ولكنه اختلف عنه في المعالجة الدرامية اختلافًا شاسعًا؛ إذ جعل يبني صورةً تعيد النظر في ذلك التراث أو تشجِّعنا على إعادة النظر فيه بحيث نقبل تحوُّل أورسينو باعتباره نضجًا دراميًّا ونفسيًّا أيضًا. والصورة المسرحية القاهرة التي يواجهنا بها هي صورة التوءم التي تكاد تعلن في ذاتها تحرُّره من أَسْر النرجسية.

وليست صورة نرجس هي الصورة الوحيدة التي استقاها شيكسبير من أوفيد؛ فذلك الشاعر الروماني يصوِّر في «مسخ الكائنات» حب ربة الصدى (Echo) لذلك الفتى الذي عشق نفسه، وكيف أصر على صدها فعوقب بحب ذاته، وذوت هي عشقًا ووجدًا حتى تلاشت ولم يبقَ منها سوى صوتها! ونلمح أول إشارة إلى ربة الصدى (الحورية التي عشقت نرجس عشقًا يلقى الصد) في أول صورة ترسمها فيولا لِمَا يستطيع العاشق أن يفعله ليستميل قلب حبيبته، قائلةً لأوليفيا إنها لو كانت في موقف أورسينو لفرضت حبها بالإلحاح على أذن أوليفيا مستعينةً بربة أصداء الجو!
أبني كوخًا من أغصان الصَّفصاف على بابك،
وأنادي روحي في المنزل!
أكتب بعض أغاني الإخلاص فأبكي الحب المحروم وأُنشدها،
وبأعلى صوتٍ حتى في هدأة ساعات الليل،
وأردِّد تسبيحي باسمك حتى ترجعه كل تلال الأرض،
وتشارك ربة أصداء الأجواء
ترديد ندائي «أوليفيا»! ما كنت أتيح لك الراحة
ما بين هواءٍ وتراب حتى تبدي الإشفاق عليَّ!
(١ / ٥ / ٢٧١–٢٧٩)
وفيولا تستخدم الكناية في الإشارة إلى ربة الصدى فتسمِّيها «حاكية الصوت الثرثارة في الجو» (the babbling gossip of air)، ومن الطريف أن فيولا تقلب الصورة الشعرية في الأسطورة فتجعل المحب (أورسينو هنا) لا يستسلم لليأس كما فعلت ربة الصدى بل يستعين بها في محاولة إثارة عطف المحبوبة ومبادلته حبه! وسرعان ما تُفصح فيولا عن إدراكها لموقفها الذي يشبه ربة الصدى حين يطلب منها أورسينو إبداء رأيها في اللحن الشجي الذي يُعزف في المشهد الرابع من الفصل الثاني فتقول:
كأنه الصدى الصدوق للمشاعر التي تدف في عرش الهوى!
(٢ / ٤ / ٢١)

وعرش الهوى هو القلب، والجالس على هذا العرش من وجهة نظر فيولا هو أورسينو، أو نرجس؛ فهي هنا ربة الصدى التي تحبُّه حبًّا لا أمل له! وتواصل تقديم هذه الصورة المستقاة من ربة الصدى:

لا يدري أحدٌ إذ أخفت عاطفة الحب تمامًا،
حتى أخذ الكتمان كمثل الدودة يلتهم الخد الناعم،
وازداد الهم لديها فذوت! وعراها الحزن بلونٍ أخضر أو أصفر،
وغدت تجلس ذاهلة العين كتمثال الصبر المشهور
الباسم للأحزان. أفمَا كانت تلك العاطفة غرامًا حقًّا؟
(٢ / ٤ / ١١٠–١٦٦)

ولكن فيولا توحي بجانب آخر من أسطورة نرجس، وهو الذي يرتبط بقضية الهُوية، وهي قضية أوسع انتشارًا من حب الذات. ووجود التوءمَين من الأساليب المستخدَمة في التراث الإنساني لإثارة هذه القضية، ونحن نعي وجودها عندما تقول فيولا:

ناداني باسم أخي وأخي يحيا في ذاتي،
كالصورة تحيا صادقةً في مرآتي.
(٣ / ٤ / ٣٨٩–٣٩٠)
وفكرة التوءمة قديمة في الآداب الكلاسيكية، وفيما يبنيه علم التنجيم أو علم الفلك القديم من «أنساق» خاصة بالكون، مثل نجمَي الجوزاء، وفيما يزخر به التراث من قصص ومسرحيات رومانسية. ونحن ندرك دلالة التوائم عندما يشتركون في الجنس، في الحياة وفي الأدب جميعًا، وقد سبق لشيكسبير استخدام هذه الفكرة في مسرحيته «كوميديا الأخطاء»؛ إذ زاد من تعقيد مشكلة الهُوية (التي استقاها من مسرحية بلاوتوس بعنوان «الأخوان منايخموس» (Menaechmi) بأن أتى بتوءمَين يواجهان توءمَين آخرَين. وأمَّا وجود توءمَين من جنسَين مختلفَين فهو موضوع ناقشَته الباحثة كارولين هايلبرن في كتاب مستقل، وتقدِّم فيه تحليلًا شاملًا لتواتر هذه الظاهرة في الأساطير والأدب، بادئةً بتذكيرنا أن شيكسبير نفسه رزق بتوءم هما هامنيت وجوديث، وتقول إن وفاة هامنيت في عام ١٥٩٦م قد تفسِّر الإحساس العميق بالفقدان الذي تعبِّر عنه فيولا في المشهد الثاني من الفصل الأول:
Carolyn Heilbrun, Towards a Recognition of Androgyny, 1973, pp. 34–41.

والتماثل الكامل بين توءمَين من جنسَين مختلفَين محال، بطبيعة الحال، من الزاوية البيولوجية، ولكن افتراض عالم الرومانس في هذه المسرحية يقتضي افتراض التماثل الكامل، لِمَا تُتيحه الفكرة من إمكانات مثيرة. ونحن نعرف أن بارنابي ريتش يؤكِّد هذا التطابق قائلًا إن الناس لم تكن تستطيع التفريق بينهما إلا استنادًا إلى ملابسهما وسلوكهما، وهو ما يدفعنا إلى مشاركة النقد النسوي في التساؤل عن حقيقة التمييز بين الجنسَين استنادًا إلى الدور الاجتماعي لكل منهما. وهذه قضية طريفة في ذاتها، وتستغلها المسرحية في تأكيد دلالة اختلاط الهُوية استنادًا إلى «الدور الاجتماعي» فقط؛ ولهذا تقول فيولا:

وجه أخي يشبه وجهي وأنا ألبس أردية أخي
وأحاكي زركشة الزي وألوانَ أخي!
(٣  /  ٤  /  ٣٩١–٣٩٢)

بعد أن قالت:

يا ليت خيالي يصدق فيكون الحقَّ المرغوب،
وبأن الرجل يظن بأني بالفعل أخي المحبوب!
(٣  /  ٤  /  ٣٨٤–٣٨٥)
وتورد الناقدة بني جاي إشارةً إلى أحد المصادر المحتمَلة لم يوردها بولو Bullough في كتابه المعروف عن مصادر شيكسبير؛ ألَا وهو كتاب كتبه رحالة عاش في القرن الثاني للميلاد ويُدعى باوسانياس (Pausanias) بعنوان «وصف اليونان»، وكان الكتاب متاحًا في القرن السادس عشر باللغة اليونانية الأصلية وكذلك بترجمتَين؛ الأولى إلى اللاتينية والثانية إلى الإيطالية، ويقدِّم فيه المؤلف روايةً مختلفة لأسطورة نرجس؛ أي صورة تختلف عمَّا رواه أوفيد؛ إذ تستند إلى مصادر أدبية أخرى، تتناول الحب بين المحارم، وهي ما تقول الباحثة المذكورة إنه يفسِّر (أو يتطابق) مع عمق المشاعر المتبادَلة بين فيولا وسباستيان، مقتطفةً الفقرة التالية من ذلك الكتاب:
كان لنرجس (Narkissos) أختٌ توءم، وكانا يتماثلان تمامًا في المظهر، فيصفِّفان الشعر بنفس الأسلوب ويرتديان نفس الطراز من الملابس، بل كانا يذهبان للصيد معًا. وكان نرجس يحب أخته حبًّا جمًّا، وعندما تُوفيت كان يزور الغدير ويتطلَّع إلى صورته في الماء، وكان يعرف أن ما يراه هو انعكاس صورته، ولكنه كان يجد الراحة في توهُّم أنها صورة أخته (ص٢٤).
وتعلِّق جاي على ذلك قائلةً إن حب الآخر المطابق (أو المماثل تمامًا) تؤدِّي إلى الهلاك، على نحو ما نرى في رواية أوفيد؛ «فالنسق السلوكي الصحي» هو إقامة علاقة مع الآخر المختلف، الذي يحقِّق للفرد الاكتمال (wholeness) بمفهوم أفلاطون الذي يفسِّر ما يجده المحب في المحبوب من «بهجة» بأنه بشير تحقيق الاكتمال، و«هذه الحكمة السيكولوجية» هي التي تحقِّقها الزيجات في آخر المسرحية حيث ينشد كلٌّ من فيولا وسباستيان علاقات أنضج مع «الآخر» المختلف.
ولكننا نجد عند أوفيد أسطورةً أخرى سابقةً لأسطورة ربة الصدى، تصوِّر تعقيد أمثال هذه العلاقات بين النظراء والمختلفين، بحيث يمكن تحقيق «الاكتمال» بين الجنسَين إذا ذابا في بعضهما البعض، لا روحيًّا كما يقول أفلاطون فقط، بل مادي أيضًا، وهو التعقيد الذي يولِّد عدة قضايا ويتعلَّق بقيام الصبي على المسرح بدور فتاة (تقوم بدور صبي!)، أو بفتاة في عصرنا الحالي تلعب دور فتًى (قد يلعب دور فتاة!)، على نحو ما تناقشه الباحثة بربارا هودجسون في ص١٧٩–١٨١ وفي ص١٨٦–١٩٠ من كتاب من تحرير ألكسندر ليجات Legatt عنوانه (Cambridge Companion to Shakespeare-an comedy) الصادر عام ٢٠٠٢م. أمَّا الأسطورة الأوفيدية فتقول إن هرمافروديت (Hermaphroditus) كان غلامًا في الخامسة عشرة أنجبه ميركوري (Mercury) من فينوس (Venus) (يقابلان باليونانية هرميس Hermes وأفروديت Aphrodite)، وإن فتاةً تدعى سلماكيس (Salmacis) تراه في بعض رحلاته فتقع في غرامه. والواضح من اسم هذا الفتى أنه يتكوَّن من اسمَي الأب والأم باليونانية، وكان يجمع بين صفات الذكر والأنثى، وله أتباع جعلوه ربًّا معبودًا في القرن الرابع قبل الميلاد في أتينا، وأمَّا أوفيد فيورد في «مسخ الكائنات» (٤ / ٢٨٥ وما بعده) كيف استجابت الأرباب لدعاء سلماكيس بألَّا يفصل بين حبيبها وبينها فاندمجا معًا إلى الأبد. وأمَّا في المعالجة القصصية الإنجليزية التي نُشرت عام ١٦٠٢م (العالم الذي شاهد فيه المحامي الشاب ماننجهام مسرحية «الليلة الثانية عشرة»)، وكتبها الكاتب المسرحي فرانسيس بومونت (Beaumont)، فإن المؤلف يربط بين هذه الأسطورة الأوفيدية وبين الأسطورة نرجس، ربطًا لا يورده أوفيد. والغدير الذي تتطلَّع فيه سلماكيس هو غدير نرجس نفسه، ولكن هرمافروديت يرى صورته أولًا منعكسةً في عيون سلماكيس ويقول لها:
وكيف لي ذاك الهوى؟ ما دمت ها هنا أرى
حوريةً خبيئة في العين أبهى؟

ويقول بومونت إنها اضطُرت إلى إغلاق عينَيها حتى لا يرى فيها صورة ذاته، واستمرَّت تحاول أن تخطب وده، وبعد ذلك، كما تقول الباحثة المذكورة، تقترب اللحظة الكوميدية كل الاقتراب ممَّا تفعله أوليفيا في الفصل الثالث (المشهد الأول) مع فيولا:

وعندما علت شمس الصباح الرائعة
فأدفأت حوريةَ المياه وهي راقدة،
إذا بها تهب فوق الشط واقفة،
وإذ بها تجرَّدت من كل ما ترتدي
صاحت ملكته بل صار حقًّا في يدي،
وإذ بها في خفة الأرواح قد وثبت
في لُجة الأمواج سابحةً كما انطلقت
… …
وقيَّدته في ذراعَيها اللتَين تلتفَّان كالإسار العاجي
وإن تملَّص الفتى يحاول الخلاص من هذا الرِّتاج،
لكنها غدت تداعبه،
وبالهوى تلاعبه،
كانت تقول: هل تريد أن تفر من يدي؟
وأن تعيش بائسًا حياة فردٍ مُفرَد؟
فرانسيس بومونت: «سلماكيس وهرمافروديتوس» (السطور ٨٦٥–٨٦٩، ٨٧٣–٨٧٧، «من قاعدة بيانات النصوص الكاملة للشعر الإنجليزي»، تحرير تشادويك هيلي Chadwyck-Healey)
ولكنه إذا كانت سلماكيس تدعو الأرباب بعد ذلك قائلة «أدعو ربي ألَّا يأتي يوم يشهد ما يفصلني عن ذاك الشاب إلى الأبد»، وهو ما استجابت الأرباب له فجعلوهما شخصًا واحدًا يجمع بين الذكر والأنثى، وهو المعنى الحديث لكلمة الخنثى أو هرمافروديت (hermaphrodite) باللغات الأوروبية الحديثة، فإن أوليفيا تُرغم نفسها على الالتزام بمنزلتها الاجتماعية فتقول إنها لن تتزوَّج ذلك الخادم الصغير. ولكنها لا تلبث في المشهد نفسه ولمَّا تمضِ لحظات على ذلك أن تقول إن حبها المشبوب لا يقدر على إخفائه (عقل أو أي ذكاء وقَّاد) (٣ / ١ /  ١٥٤). وفي هذه اللحظة التي تقع في منتصف المسرحية، لا بد لهذه العاطفة المشبوبة أن تجد الرجل المناسب لها، وهكذا، فبعد مشهد واحد يدخل سباستيان إلى خشبة المسرح، كيما يذكر الجمهور — وفقًا لتقاليد الكوميديا — بإمكان حلوله محل أخته في قلب أوليفيا.
ولكن جانبًا من سحر فيولا يكمن في جمعها بين حقيقة الأنثى ومظهر الذكر، وهو ما يوحي بما كانت تعتزمه ثم عدلت عنه من ادعاء أنها خصيٌّ والقيام بالغناء في قصر الدوق، وجمعها بين الذكر ظاهرًا والأنثى باطنًا (حتى ولو كان الذي يقوم بالدور في أيام شيكسبير غلامًا) يجعلها لغزًا شبيهًا بالهرمافروديت المذكور. وتذكِّرنا الناقدة كاثرين بلسي (Belsey) في دراسة لها بعنوان «الليلة الثانية عشرة: منظور حديث» (٢٠٠٤م) بمدى اهتمام شيكسبير بمسرحية الخصي للكاتب الروماني تيرنس (Terence) مقتبسةً ما قاله ت. و. بولدوين (Baldwin) في كتاب أصدره عام ١٩٤٧م عن تفضيل شيكسبير لها على كل ما عداها، وتطبِّق ما تتحلَّى به الطبيعة المزدوجة للخصي على فيولا قائلة:

لا يعود شيكسبير إلى ذِكر الخصي في الدور الذي يلعبه «سيزاريو»، بل إن الجميع يعاملونه معاملة الخادم، والمهرِّج هو الذي يقوم بالغناء. ولكن ظلًّا من عدم تحديد الجنس، أو المنزلة الجنسية الوسطى التي يشغلها الخصي، يكسو فيولا حتى نهاية المسرحية؛ إذ يستمر أورسينو في تسميتها سيزاريو، ويؤجل إلى ما بعد انتهاء الحدث الخيالي لحظة عودتها إلى الملابس النسائية.

(ص١٩٩ من طبعة فولجر)

وتفصِّل بلسي القول في الفارق بين كل شخصية من شخصيات المسرحية (إذ تتمتَّع كل منها بهُوية محددة تمامًا) وبين فيولا التي تجمع بين هُوية الذكر وهُوية الأنثى، فيما تسمِّيه بلسي باللغز الجسدي، وتتساءل: هل هذا اللغز هو الذي اجتذب أوليفيا وأخرجها من الحِداد إلى الدنيا من جديد؟ إن أوليفيا تعي تمامًا صفات جسم فيولا، ولكنها تعي أيضًا صفةً أخرى هي الروح! أي إن المنزلة الوسطى تُتيح للإنسان داخل جسم رجل أو امرأة أن يبدي معدنه الحقيقي أو روحه! أي إن إدراك أوليفيا الباطن أو اللاواعي للمنزلة الوسطى التي لا تتأثَّر فيها الروح بأنماط السلوك الاجتماعية هو الذي يدفعها دفعًا إلى حب فيولا! فكأنما كانت تُحس بلا وعي أنها منجذبة إلى شيء يتجاوز صفة الذكورة وحدها أو الأنوثة وحدها، بل يضمهما معًا:

أوليفيا :
… … أقسم إنك صادق!
فلسانكَ، وجهك، أطرافك، أفعالك، روحك؛
تشهد مراتٍ خمسًا لك بالرِّفعة! …
إني ليهيَّأ لي أني أشعر
بمحاسن هذا الشاب وقد زحفَت تسترق الخطو
وتسكن في عينَي بمكرٍ خِلسة!
(١ / ٥ / ٢٩٥–٢٩٧، ٣٠٠–٣٠٢)    

وتضيف بلسي أن المنزلة الوسطى نفسها، أو المنزلة الجامعة بين الأنثى والذكر، هي التي نحسها عندما تقص أوليفيا على أورسينو (وعلينا) قصة ابنة أبيها (٢ / ٤ / ١٠٨–١٢١) التي تبدؤها بإشارة شبه صريحة إلى ذاتها:

فأبي أنجب بنتًا عشقت رجلًا عشقًا لا حد له.
قل مثل غرامي بك لو كنتُ أنا بنتًا مثَلًا …
(١٠٨–١٠٩)

وتختتمها بتأكيد جمعها بين صفة البنت والابن:

أنا كلُّ بنات أبي .. وكذلك كل الإخوة!
(١٢١)
وإذن فإن حب أوليفيا لفيولا في ثوب سيزاريو حب من نوع خاص يقابله حب أورسينو لفيولا المتنكِّرة حبًّا يعتبره القدماء أفلاطونيًّا، بمعنى الصداقة بين أفرد الجنس الواحد أو الجنسَين (كما يقول في حوارية المائدة / الندوة)، والمحدثون يرونه مشبعًا بملامح الميول المثلية. فهل يماثل حبه لفيولا حب أوليفيا لها حقًّا؟ تقول بلسي إن لنا أن نعتبر أن مالفوليو وأندرو صورتان ساخرتان لأورسينو ما دام الحب لديهما يقتصر على الألفاظ؛ فهما يتكلَّمان دائمًا ويتلاعبان بالألفاظ (بقيادة المايسترو المهرِّج) وتقتبس تأكيدًا لقولها ما تزعمه جوليا كريستيفا (Kristeva) من أن «الحب شيء منطوق، ويقتصر على ذلك وحسب، ولطالما عرف الشعراء ذلك» (من كتاب «حكايات حب»، ١٩٨٧م)، وتختتم بلسي دراستها قائلة:

ربما كانت حقيقة الحب، إذا تجاوزنا اللغز الذي يمثِّله والشكوك المحيطة به، هدفًا منشودًا لا يتحقَّق مطلقًا أمام مشاهدي «الليلة الثانية عشرة». وربما تكون كذلك دنيا الخيال نفسها؛ فهي دنيا عامرة بالرومانس والسخرية، وبالغناء والكوميديا. وبهذا يصبح للمهرِّج الكلمة الأخيرة … إذ يغني أغنيةً حزينة عن الشتاء والزمن المتقلِّب (ص٢٠٦).

(٧) الاتجاهات النقدية الحديثة

وقبل أن أقدِّم العرض الموجز الذي لا بد منه لكل من يريد أن يدرك تطوُّر النظرة النقدية إلى المسرحية على مدى القرون الثلاثة الماضية، سأنتقل من حديثي عن اختلاط الهُوية ما بين الذكر والأنثى إلى الطابع الذي لا بد أن يدركه كل قارئ، وهو طابع «الاحتفالية» في مسرحية تبدأ وتنتهي بالموسيقى كما سبق أن ذكرت وتقدِّم فيها أغنيات كثيرة، وينتشر الهزل في جنباتها. وقد قدَّم سي. ل. باربر (Barber) في كتابه العظيم (الذي صدر عام ١٩٥٩م بعنوان: «كوميديا شيكسبير الاحتفالية» (Shakespeare’s Festive Comedy) وجهة النظر التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي التي لا تقتصر على إقامة تعارض بسيط بين جو «الاحتفالية» (الذي تولَّى تحليله مايكل بريستول بعد ذلك في كتابه الصادر عام ١٩٨٥م والمشار إليه آنفًا)، وبين جو القمع والكبت الذي أتى بالثورة البيوريتانية فيما بعدُ في القرن السابع عشر، كما سبق أن ذكرت؛ إذ يتوسَّع بريستول في هذا الكتاب في تطبيق نظرية «الاحتفالية» التي وضعها باختين (Bakhtin) في كتابه عن راببليه وعالمه (Rabelais and his World) الذي تُرجم إلى الإنجليزية عام ١٩٦٨م، مثلما فعل بعده فرانسوا لاروك في كتابه الصادر عام ١٩٩١م بعنوان:
Francois Laroque, Shakespeare’s Festive World: Elizabethan Seasonal Entertainment and the Professional Stage.
أقول إن باربر لا يقتصر على رصد التعارض البسيط بين هذا وذاك، بل يؤكِّد «لحظات فشل» الاحتفالية وكيف ساهمت في تعديل مفهوم العلاقات القائمة بين اللغة والفعل باعتبارها مفتاح التعبير عن الشخصية، إذ يقول:

كان شيكسبير يكتب مسرحياته في الوقت الذي كانت فيه الطبقة المتعلِّمة من المجتمع تُدخل بعض التعديلات على المفهوم الاحتفالي والطقسي للحياة الإنسانية؛ حتى تخلق مفهومًا تاريخيًّا وسيكلوجيًّا. والحق أن الدراما التي أبدعها كانت من العوامل المهمة في إحداث التغيير والتحوُّل من مفهوم إلى مفهوم؛ لأنها قدَّمت مسرحًا يمكن النظر فيه إلى حالات فشل الطقوس نظرةً مستقلة بحيث تبدو تاريخًا في ذاتها، وقدَّمت أساليب جديدةً لتصوير العلاقات بين اللغة والفعل ابتغاء التعبير عن الشخصية (ص١٥).

والذي يقصده باربر بحالات فشل الاحتفالية والطقوس هو أن النظرة القروسطية التي كانت تُعلي من شأن الألفاظ إلى الحد الذي يوحي بقطع علاقاتها بالأفعال، سواء في العبادة أو في الحياة اليومية، كانت تمثِّل عبئًا أدركه رُوَّاد عصر النهضة الأوروبية، وحاولوا إحلال مفهوم جديد مكانه يشكِّك في قيمة الألفاظ ويدعو إلى إعادة النظر في قيمتها لا في دلالاتها فحسب، ولمَّا كانت الاحتفالية تقوم على الألفاظ الطقسية (المحفوظة والمتوارَثة دون غوص في معانيها) سواء في العبادات أو في الأغاني و«التهريج»، فإن شيكسبير يدعونا هنا أيضًا إلى التشكُّك فيما يقوله المعربدون المحتفلون دائمًا، مؤكِّدًا أن احتفالهم ليس احتفالًا حقًّا بالحياة، بل هو كما يقول المهرِّج عبث وتهريج و«إفساد» للألفاظ! بل إن سير توبي يدرك أن الفخ الذي أُوقِع فيه مالفوليو مكيدة حقيرة، ويتمنَّى حتى أثناء حبس مالفوليو تخليصه من تلك الورطة (٤ / ٢ / ٦٧–٧٠)، فالحبس في غرفة مظلمة عقاب أقسى ممَّا ينبغي على التزمُّت الأخلاقي، وإصابة السير توبي والسير أندرو بجروح في رأسَيهما تنقل العبث والتهريج إلى مستوى الواقع الأليم، وتُخرج ذلك العبث من جو المرح البريء الذي تفترضه الاحتفالية. وكما يقول باربر، فإن «الألعاب» و«سحر العطلات»، تتعرَّض للتعقيد بسبب ما يخرج من كوامن الشخصية الإنسانية على المسرح، وخصوصًا نزوع الفرد إلى إطلاق خياله في التمثيل واستخدام الإيماءات والحركات الجسدية المعبِّرة، وهو ما قد «يفسد» الهزل إذ يحوِّله إلى جد مؤلم.

وربما كانت هذه النظرة الحديثة من وراء ميل المخرجين المحدثين في بريطانيا وأمريكا إلى الإيحاء بجو «خريفي» أو «شتوي» للمسرحية، وهو ما يوحي بإيمانهم بفشل الاحتفالية، واستعراض ألوان الإخراج المسرحي في الثلاثين عامًا الأخيرة يدعم هذا القول، كما يبيِّن سيلفان بارنيت (Sylvan Barnet) في دراسته عن إخراج المسرحية في المسرح والسينما (ص١٦٦–١٦٥). كما يؤكِّد بارنيت (ص١٧١) المفهوم «القائم» للمسرحية الذي حلَّ محل المفهوم القديم، فلم يعد في وسع أحد، كما يقول، أن يعتبر المسرحية لهوًا خالصًا، والنهاية «السعيدة» للعشاق ليست سعيدةً لمالفوليو الذي يهدِّد من آذَوه بالعودة للانتقام منهم.

ومثلما اكتشف المحدثون قصور أي مفهوم يزعم أن المسرحية لا تزيد عن احتفالية «كرنفالية» مرحة، اكتشفوا أن القول بأنها تدور حول الحب «الرومانسي» قول قاصر. و«ما الحب حقًّا؟» كما يتساءل فيسته في أغنيته التي تصب في جوهر موضوع المسرحية. الإجابة التي جاءت بها الأعوام الأخيرة من القرن العشرين تعتمد على عدة مذاهب فكرية مثل التاريخية الجديدة، والتمييز بين الجنسَين، ونظرية المثلية الجنسية والأداء، ومن ثم فهي تقول إنه شيئًا واحدًا؛ أي لا يقتصر على الرومانس البتراركي بين الجنسَين فحسب، بل هو التنويعات التي لا تكاد تُحصى، فيما يبدو، للانجذاب الجسدي والروحي بين شخصَين مهما يكونا؛ رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة! وقد وجدت الناقدات النسويات في المسرحية مجالًا لتأكيد ما ألمحت إليه حين عرضت وجهة نظر كاثرين بلسي آنفًا، ووجدت التأكيد في الدراسة التي كتبها ستيفن جرينبلات بعنوان «الخيال والاحتكاك» في كتابه «مفاوضات شيكسبيرية» (١٩٨٨م)، وهو الذي يتيح لنا اليوم الدخول بطرق غير مباشرة إلى عالم القرن السادس عشر، حتى ندرك كيف كان الناس ينظرون إلى قضايا التمييز بين الجنسين والحياة الجنسية، وأن نرى كيف يمكن ترجمة ذلك الفكر أو تلك النظرة، «للاستهلاك الجماهيري» كما يقول، إلى محاولات المسرحية استكشاف حقيقة الفروق المتخيَّلة بين الجنسَين، و«تلاعبها بالألفاظ» تلاعبًا يصب في هذه القضية (ص٩٠).

والتلاعب بالألفاظ من مظاهر إبراز قضية اللغة وقدرة اللغة على التعبير أو عجزها عن ذلك، كما يقول المهرِّج فيسته (على نحو ما ذكرنا آنفًا)، وكانت قضية عجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة أو الواقع من القضايا التي شغلت عصر النهضة الذي قام على التشكُّك في العلاقة بين القول والفعل كما ذكرت في هذا القسم من المقدمة، وهو التشكُّك الذي أصبح يمثِّل فكرةً شائعة لدى كل شاعر يرى أن رؤاه لا تستطيع التجسُّد كما يبغي (أو كما ينبغي) في الألفاظ، ومن منا لا يذكر ما قاله الشاعر الإنجليزي وليم وردزورث (Wordsworth) (١٧٧٠–١٨٥٠) في قصيدته «المقدمة» عن ذلك حين قال إنه يطلق اسم «الخيال» على قوة رهيبة تشرق في أعماق الروح؛ بسبب عجز لغة البشر عن وصفها عجزًا يثير الأسى؟ وهذان هما البيتان:
Imagination – here the power so called
Through sad incompetence of human speech
(الكتاب السادس، طبعة ١٨٥٠م، ٥٩٢–٥٩٣)

وقد أوردت في أحد كتبي تحليلًا موسَّعًا للاحتمالات القائمة لِمَا يقابل هذَين البيتَين بالعربية وما يليهما من أبيات وهو:

On Translating Arabic, a Cultural Approach, GEBO, 2000, P. 175 ff.
ووجدت الفكرة نفسها مطروحةً بأسلوب آخر في كتب أخري ومطبقةً على هذه المسرحية، خصوصًا فيما ذكرته عن أقوال فيسته عن خيانات اللغة أو الألفاظ، وهو ما ذكرت أنه يذكِّرنا بالتفكيكية، وما أدرجته في كتابي المذكور في القسم الذي أسميته سحر التفكيكية (The Lure of Deconstruction)، ولكن الذي يعنيني عند المحدثين ما أقامته الناقدات النسويات من رابطة بين اللغة وخصوصًا براعة التعبير وحريته المرتبطة بفصاحة الرجال في المجتمع الذكوري، وبين تأكيد ما يزعمنه من أن إلغاء الفوارق بين الجنسَين يقوم في هذه المسرحية على فصاحة فيولا، وهو ما سبق لشيكسبير تحقيقه في «تاجر البندقية» حيث وهب بورشيا في مشهد المحاكمة الأخير ما اتفق النقاد على اعتباراه «بلاغة سماوية» (heavenly eloquence) (وهي عبارة مقتطفة من «روميو وجوليت»). وأوضح من فصَّلت القول في ذلك الناقدة بني جاي (Penny Gay) في دراسة لها بعنوان «حاكية الصوت الثرثارة في الجو في «الليلة الثانية عشرة»»، وذلك في كتاب عنوان:
The Blackwell Companion to Shakespeare: The Comedies, 2003.
وذلك في الصفحات ٤٢٩–٤٤٦؛ حيث تقول إن أهم ما يميِّز فيولا هو بلاغتها؛ فهي مصدر جاذبيتها، وخصوصًا أنها أول بطلة يسند إليها شيكسبير أحاديث مفردةً إلى الجمهور من نوع المناجاة (soliloquy)، حيث تخاطب الجمهور مباشرةً باعتباره يتكوَّن من أفراد يشهدون مسرحيةً كوميدية؛ أي باعتبارهم يشاركونها الوعي بالتقاليد المسرحية التي تتبعها. وخصوصًا في مناجاتها في الفصل الثاني التي تبدأ بالتساؤل «لمَ أترك أي خواتم لليدي؟ ما مقصدها؟» ثم تتساءل «ما آخر هذي القصة؟» وتفسيرها لِمَا حدث موجَّه للجمهور: «لا شك بأن المرأة تهواني! ومشاعرها ابتكرت هذي الحيلة؛ كي تدعوني لزيارتها مرسلةً ذاك المرسال الفظ!» «بل إني المقصودة بالخاتم»، ويلي ذلك إيضاح صريح للجمهور لا يقبل التأويل:
ما آخر هذا التعقيد؟ ما دُمت الرجل أمام الدوق
فلا أمل لديَّ على الإطلاق بأن يهواني،
لكني امرأةٌ في الواقع (وهو المؤسف)؛
ولذلك تذهب عبثًا آهات أوليفيا المسكينة!
(٢ / ٢ / ٣٨–٣٥ )

وتعلِّق جاي على ذلك قائلة إن فيولا تتخطَّى الحدود التي يفرضها عليها كونها امرأة، والمعروف أن تقاليد العصر كانت توجب صمت المرأة واحتشامها علنًا، وهي تدخل إلى منطقة المهرِّج بأن تقول كلامًا منظومًا كالشعر المرسل المستمد أو الموحي بالجو الرسمي لبلاط أورسينو، وتقوم بتقديمه — بوعي ولماحية — باعتباره دورًا تمثِّله؛ فهي تقول لأوليفيا مثلًا «أكره أن تذهب كلماتي أدراج الرياح، فإلى جانب الأسلوب الممتاز الذي كتبت به، فإنني بذلت جهدًا كبيرًا في استظهارها» ١ / ٥ / ١٧٢–١٧٤. وبهذا كما تقول جاي فإنها تقوِّض السلطة الثقافية التي تتمتَّع بها تلك اللغة الرفيعة الطنانة. وهي إذن تلعب دورًا مزدوجًا، وهو يتمثَّل في لماحيتها وقدرتها على الإلغاز مثلما يتمثَّل في الجمع ظاهرًا وباطنًا بين الجنسَين، ويمكِّنها هذا الازدواج من الانتقال كثيرًا من دورها باعتبارها نموذجًا للبطلة الرومانسية التي تُثير الشفقة في الأساطير، التي تخفي عاطفة الحب إلى الأبد (٢ / ٤ / ١١١) إلى دورها الآخر باعتبارها الممثلة الواعية بذاتها، والمستمتعة بأدائها، والتي تتحدَّث دون تكلُّف إلى الجمهور، وتظهر اللماحية في عباراتها التي قد تصل إلى حد الإلغاز. وتقول جاي إن فيولا تحتفظ بعادة استخدام التوريات و«القفشات» حتى الفصل الخامس؛ حيث تلجأ إلى أسلوب النثر ولو كان في النظم المرسل.

وتختتم جاي دراستها الشائقة بإبراز أهمية البراعة اللغوية التي تُبديها فيولا وهي متحرِّرة نسبيًّا من الدور النمطي للمرأة (ما دامت متنكِّرةً في ثياب رجل)، وتقول إن هذه البراعة تقع في قلب مسرحية تُمتع الجمهور بثرائها اللغوي؛ ﻓ «الليلة الثانية عشرة» حافلة بالتوريات اللفظية والألغاز، وتضرب أمثلةً كثيرة على المتعة التي كان الجمهور يجدها في متابعة التراشق اللفظي، وسوف يلاحظ القارئ تواتر الأسئلة عن معاني ألفاظ بعينها، أو عن الفكاهة أو الاستعارة المقصودة، واهتمام السير أندرو بما يعتبره «لغة البلاط المنمَّقة»، فيحاول أن يحفظ العبارات المتصنَّعة في المشهد الأول من الفصل الثالث، مثل «الشذا والأريج»، و«المهيأة للاحتواء» و«المعربة عن الرضاء» (٣ / ١ / ٩٢–٩٣) والمهرِّج يعلن بصراحة عن تذوُّقه للكلمات، فعندما يقول له سباستيان:

أرجو أن تجد مكانًا آخر تنفث فيه حماقاتك؛
إذ إنك لا تعرفني!
(٤ / ١ / ١٠–١١)

يُجيب على الفور: «أنفث حماقاتي؟ لقد التقط التعبير من بعض العظماء ويطبقه الآن على المهرِّج» (٤ / ١ / ١٢–١٣)، والواضح أنه يُعرب بذلك عن إعجابه بالتعبير، وقبل ذلك كان قد قال: «أمَّا من أنت وما تريد فأمور خارج سمائي، وكان يمكن أن أقول خارج «مجالي»، ولكن الكلمة أصبحت بالية» (٣ / ١ / ٥٨–٦٠). أي إنه يريد «التجديد» ويتعمَّد الإتيان بالتعبير المبتكر! والمسرحية زاخرة بالألغاز اللفظية والأسماء التي تشترك في بعض الحروف مع تغيير ترتيبها، مثل فيولا وأوليفيا ومالفوليو نفسه! وقد يكون ذلك متعمَّدًا؛ فإن اسم الأولى اسم آلة تشبه ألة الكمان وإن كانت أكبر قليلًا، وإيحاؤها الموسيقي واضح، واسم مالفوليو يوحي بأصله الإيطالي بسوء النية، أو الشر، واسم أوليفيا يوحي بغصن الزيتون رمز السلام، وإن كانت الإيحاءات كلها مضمرةً يفرح بها النقاد وقد لا يدركها الجمهور!

وأمَّا الاتجاه الرئيسي للنقد النسوي فقد سبق لي أن ألمحت إلى أهم خصائصه، وهي التي سادت الساحة النقدية الحديثة، وعلى رأسها اعتبار أورسينو نرجسيًّا، والزعم (الخاطئ في رأيي) بأن أورسينو لا يتغيَّر، بمعنى أنه ثابت دراميًّا، ومن ثم فهو شخصية نمطية، وهو الذي تقوله لندا بامبر (Bamber) في كتابها المشار إليه آنفًا والصادر عام ١٩٨٢م بعنوان:
Comic Women, Tragic Men (Stanford, Cal. Stanford Univ. Press, 1982) pp. 129–133.

إذا تُنكر أن الكوميديا تؤدِّي إلى اكتشاف الذات، فهذا في زعمها خاص بالتراجيديا، كما تقول إن الشخصيات لا تتطوَّر، وتعترض على التغيُّر المفاجئ في نظرها الذي حدث لأورسينو، على نحو ما سبق أن شرحت، ناسيةً أن ثلاثة أشهر قد مضت عليه في صحبة فيولا.

وأمَّا روبرت كيمبره (Kimbrough) فهو أفصحُ من أفصحَ عن موقف النقد النسوي الصادق؛ إذ يعرض في دراسة له نُشرت في مجلة Shakespeare Quarterly 33 عام ١٩٨٢م وعنوانها الازدواج الجنسي من منظور التنكُّر في شيكسبير (ص١٧–٣٣)
Androgyny Seen Through Shakespeare’s Disguise.
لمسرحيتَين تتضمنان التنكُّر في زي الجنس الآخر هما «كما تحب» وهذه المسرحية، وحين ينتقل إلى الأخيرة في صفحة ٢٨ يكون قد بلغ نقطة الذروة في حجته التي يقول فيها:

وهنا يُجري شيكسبير مقابلةً صريحة وواضحة بين الهُوية الجنسية والهُوية الجنسية الاجتماعية حتى يوحي بنجاحٍ يفوق نجاحه في «كما تحب»، بأن على الفرد أن يقبل حالته الجنسية الوراثية (الجينية) قبل الوصول إلى الازدواج الجنسي النفسي. وهو يتناول حذِرًا موضوع الانجذاب بين أفراد الجنس الواحد وبين أفراد الجنسَين حتى يُقنع الجمهور بأن الازدواج الجنسي لا يرتبط ارتباطًا حتميًّا بميل جنسي معين؛ أي إن على الجمهور، مثل فيولا، أن يعلم أن الازدواج الجنسي ليس حالةً جسدية، بل حالة نفسية.

وهو يدلِّل على ذلك بقدرة فيولا على التدبير والتفكير بعد أن تحرَّرت من دورها باعتبارها فتاةً صغيرة، فتبدأ رحلة اكتشاف الذات. وهي تحدِّد منذ البداية ما تريده وتعمل على تحقيقه، وهي تجبر أورسينو على التغيير؛ ففي المشهد الرابع من الفصل الثاني حين تقول «لكني أعرف» (١٠٤) نعلم ويعلم الجمهور أنها تعرف شيئًا لا يعرفه أورسينو، بل وسوف تعرف ما سوف تعرفه أوليفيا وأورسينو، ألَا وهو أن الكثير من الفوارق الظاهرة بين الجنسَين يمكن أن تتلاشى، وحين تقول إن المرأة تخلص في الحب مثلها أو مثل أورسينو، يدرك الجمهور أنها تقصد ذاتها وهي أنثى، رغم إدراكه في زمن شيكسبير أن الممثِّل الذي يلعب دورها غلام، ويفهم أورسينو أنها تقصد الرجال، ومن ثم يكون المقصود هو الإنسان، نحن البشر! (١٠٧) والدرس الذي تتعلَّمه وتعلِّمه لأورسينو هو ما أدركته حين وُلدت توءمًا لصبي، وهو ما يعني أننا ما «إن نُقر بالاختلاف الجنسي الجسدي، حتى يتساوى في نظرنا الجنسان إلى حد بعيد».

وخلاصة دراسة كيمبره هي أن أورسينو وأوليفيا كانا في بداية المسرحية حبيسَين للدور الاجتماعي المحدَّد لكل من الجنسَين، ولكن تنكُّر فيولا أتاح لهما مثلما أتاح لفيولا تحطيم أقفال ذلك المحبس؛ فلقد أتاح التنكُّر للجميع أن يستمدوا القدرة من «إمكانات الازدواج الجنسي» (ص٣٢) على النمو الإنساني والتطور في طريق الذات الكاملة المكتملة!

وتُعارض جين هوارد (Jean E. Howard) في دراستها عن ارتداء ملابس الجنس الآخر، والمسرح، والصراع بين الجنسَين في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، المنشورة في المجلة السابقة نفسها، العدد ٣٩ لعام ١٩٨٨م، ما تقوله بلسي وما يقوله جرينبلات وسبقت الإشارة إليه.
“Crossdressing, The Theatre, and Gender Struggle in Early Modern England”, pp. 418–440.
فتقول إن المسرحية تبدو لها تجسيدًا لحكاية خرافية ظالمة للمرأة، ترمي إلى «احتواء» دورها الاجتماعي، وقمع التمرُّد الطبقي، وإعلاء شأن «المرأة الصالحة» باعتبارها المرأة التي تؤمن، بغض النظر عن ملابسها، بالفروق الجوهرية بينها وبين الرجال، وبموقعها الثانوي بالنسبة له. وتقول صراحةً إن المسرحية فيما يبدو تمجِّد المرأة التي ارتدت ملابس الرجال ما دامت لا تطمح في موقف من مواقع السلطة المخصَّصة للرجل، وتعاقب المرأة غير المتنكِّرة التي تطمح في موقع من هذه المواقع (ص٤٣٧). فالمسرحية في رأيها تبيِّن أنه إذا كان التنكُّر يؤدِّي إلى بلبلةٍ من نوع ما، فإنه لا يمثِّل مشكلةً في الواقع للنظام الاجتماعي ما دام (القلب) سليمًا قائلة:

أو بتعبير آخر، إذا لم تصحب ذلك التنكُّر الرغبة السياسية في إعادة تعريف حقوق المرأة وسلطاتها، وهدم النظام الهرمي لترتيب الجنسَين … وأعتقد أنه من الإنصاف أن أقول إن تصوُّر فيولا … يمثِّل إحدى لحظات ظهور الذات الأنثى في الحقبة البرجوازية؛ فهي امرأة تستند حريتها المحدودة إلى الإيمان بالاختلاف بين الجنسَين، والقَبول طواعيةً بتفاوت حظوظ التمتُّع بالسلطة وبالموارد الثقافية والاقتصادية (ص٤٣٨).

وتقول إن المسرحية تعالج بنفس الوضوح تأديب امرأة تؤمن بأنوثتها، وهو التأديب الفكاهي التقليدي في الكوميديا، ألَا وهي أوليفيا؛ إذ إنها تشكِّل خطرًا اجتماعيًّا ما دامت قد قرَّرت الاستقلال عن عالم الرجال، وخصوصًا معارضة الحاكم الدوق أورسينو! وهي تتلقَّى عقابًا مؤكَّدًا في هذه المسرحية وإن يكن فكاهيًّا، ألَا وهو الوقوع في حب خادم صغير! وهكذا تصبح فيولا المتنكِّرة أداة إذلال للمرأة المتمرِّدة في نظر الجمهور، تمامًا مثلما عوقبت تيتانيا، ملكة الجان، في «حلم ليلة صيف»، بأن جعلها زوجها أوبرون، ملك الجان، تقع في حب حمار. وتختتم دراستها قائلة:

وإذا كان هذا النص، على نحو ما أقمت عليه الحجة، يعالج العلاقات بين الجنسَين معالجةً «محافظة»، فإن ذلك يصدق على معالجته لقضية الطبقات الاجتماعية. وإذا كانت النساء المتمرِّدات والرجال المخنَّثون من مصادر القلق التي تحتاج إلى تصويب وتصحيح، فهذا ينطبق كذلك على مُحدِثي النعمة المتطلِّعين إلى «العلا». وانظر إلى مالفوليو الذي يحاول تجاوز حدود طبقته فيرتدي جوربًا أصفر ورباط ساق صليبيًّا! انظر كيف يُعاقب عقابًا وحشيًّا مهينًا، وذلك يرجع أصداء العقاب الفكاهي الذي تتعرَّض له أوليفيا (ص٤٣٩).

وليس من قبيل المبالغة أن أقول إن الدراسات الكثيرة المكتوبة من وجهة نظر النقد النسائي لا تتجاوز محور كمبره (ومن بعده بلسي) ومحور هوارد، سواء في هذه الدراسة الموجزة أم في كتابها الموسَّع وعنوانه المسرح والصراع الاجتماعي في أوائل العصر الحديث في إنجلترا، الصادر عام ١٩٩٤م، والذي تُكرِّر فيه ما قالته هنا مع الإفاضة في ضرب الأمثلة من هذه المسرحية ومن مسرحيات أخرى:

Jean E. Howard, The Stage and Social Struggle in Early Modern England, 1994.

وكان قد سبقها في هذا المضمار كتاب يركِّز تركيزًا أقل على هذه المسرحية في عام ١٩٨٣م، وهو الذي تجمع فيه ليزا جاردين بين وجهة نظر كمبرة ووجهة نظر هاوارد، وإن لم تولِ المسألة الطبقية الأهمية التي توليها إياها هاوارد، وعنوان الكتاب:

Lisa Jardine, Still Harping on Daughters: Women and Drama in the Age of Shakespeare, 1983.

وأمَّا أعلى أصوات النقد النسائي فنسمعها في دراستَين نُشرتا في كتاب يجمع دراسات جديدةً عن «الليلة الثانية عشرة»، وصدر عام ١٩٩٦م بعنوان:

R. S. White, New Casebooks: Twelfth Night, 1996
والدراسة الأولى تتحدَّث عن قضية المرأة وما يسمَّى بالحراك الاجتماعي، فتعيد ذِكر ما ذكرته هوارد بتفصيلات أكبر وأمثلة أكثر، بقلم كريستينا مالكومسون (Cristina Malcolmson) وعنوانها:
“What you will”: social mobility and gender in Twelfth Night, pp. 160–193.

والثانية تتحدَّث عن رمزية المظهر الخارجي ودلالته في المسرحية، وتربط بين تنكُّر فيولا وبين حقيقة تمتُّع الرجل ﺑ «السلطة» في المجتمع في عصر شيكسبير، فهي تتفق إلى حد كبير أيضًا مع هوارد، وهي بقلم ديمينا كالاهان وعنوانها:

Dympna Callaghan, “And all is semblative a woman’s part: body politics and Twelfth Night”, pp. 129–159.

(٨) تطوُّر النظرة النقدية

لم يكن القرن السابع عشر؛ أي القرن الذي قُدِّمت فيه المسرحية أول مرة، يعرف النقد الأدبي بمعناه الحديث، ولم يبدأ النقد الحقيقي إلا في أواخر ذلك القرن على يدَي جون درايدن (John Dryden) الذي يُعتبر «أبا النقد الأدبي الإنجليزي» (انظر «درايدن والشعر المسرحي» – مجدي وهبة ومحمد عناني، الطبعة الثالثة ١٩٩٤م)، وكان كما هو معروف كلاسيكيًّا، يؤمن ﺑ «الأصول» والقواعد، فأرسى بذلك بعض التقاليد التي سادت القرن الثامن عشر كله، فأثرت في تعليقات ناشري أعمال شيكسبير كلهم، وبلا استثناء تقريبًا. وبلغ هذا الاتجاه أوجَه في طبعة الدكتور صمويل جونسون لهذه الأعمال عام ١٧٦٥م، وقال ما قاله عن المسرحية على نحو ما أشرت إليه في القسم الرابع من هذه المقدمة. ولكن جونسون، رغم اعتراضه على بعض مظاهر المسرحية، كان معجبًا بفن الكوميديا عن شيكسبير؛ ولذلك أحببت أن أقدِّم للقارئ العربي بعض ما قاله في هذا الصدد، مقتبسًا إياه من مقدمته للطبعة نفسها. يقول جونسون:

بدأ شيكسبير يكتب الشعر المسرحي وقد فتحت الدنيا أبوابها أمامه، فلم تكن قواعد القدماء معروفةً إلا لقلة قليلة، ولم تكن الأحكام النقدية قد تشكَّلت بعدُ لدى الجمهور، ولم يسبِقه مثال بلغ من الشهرة حدًّا ربما أرغمه على محاكاته، ولم يزامنه نُقاد بلغوا من رسوخ القدم ما قد يكبح جماحه، ومن ثم فقد أطلق لميوله الفطرية العِنان، ودفعه طبعه إلى الكوميديا … ففي المأساة يكتب كتابةً يوحي مظهرها بالجهد والدرس العميق، وإن كانت في نهاية الأمر لا تبلغ الجودة المتوقَّعة. وأمَّا في مشاهده الكوميدية فيبدو أنه يكتب لنا دون جهد كتابةً رائعة لا تحتاج إلى جهد يزيدها حسنًا. وحين يكتب المأساة يجتهد دائمًا محاولًا إيجاد فرصة لإثارة الفكاهة، وأمَّا في الكوميديا؛ فإنه على ما يبدو، هادئ النفس، بل ويستمتع بما يكتب، باعتبارها القالب الفكري الملائم لطبيعته. وإذا تأمَّلنا مشاهده المأسوية، وجدنا أنها تفتقر دائمًا إلى شيء ما، ولكن ملهاواته دائمًا ما تتجاوز ما نتوقَّعه أو ننشده. ومصدر المتعة في الملهاة الفكر واللغة، ومصدرها في المأساة الحادثة والفعل. ويبدو لي أن الكتابة المأساوية لديه مهارة مكتسبة، والكتابة الملهوية لديه مهارة فطرية.

ولم تتعرَّض قوة مشاهده الملهوية لِما ينتقص من قدرها على مدى قرن ونصف من التغيير في أنماط السلوك ودلالة الألفاظ، فما دامت أفعال شخصياته تستند إلى مبادئ نابعة من مشاعر صادقة أصيلة لا تكاد تتغيَّر إطلاقًا بتغيُّر الأشكال المكتسبة، فإنها تنجح في «توصيل» مسرَّاتها وضروب استيائها إلى الناس في كل زمان ومكان؛ أي إنها طبيعية؛ ولذلك فهي ثابتة دائمًا. أمَّا الخصائص العارضة للعادات الشخصية فهي أصباغ سطحية، قد تكون براقةً ومبهجة لفترة محدودة، ولكنها سرعان ما تخبو لمعتها فتصبح شاحبةً معتمة، بعد أن فقدت تلألؤها القديم. ولكن ضروب التمييز بين المشاعر الصادقة تمثِّل ألوان الطبيعة، وهي متغلغلة في ثنايا الكِيان كله، ولا يمكن أن تفنى إلا بفناء الجسد الذي ينم عليها. وهذا يعني أن التراكيب العارضة لحالات نفسية غير متجانسة تتشكَّل مصادَفةً في مناسبة ما، وتزول بزوال هذه المناسبة، ولكن البساطة المتسقة للصفات الأولية لا تسمح بزيادة أو تتعرَّض لنقصان. فقد يُهيل نهرٌ ما بعض الرمال على صخرة ما، فيزيل الرمالَ اندفاعُ مياه نهرٍ آخر، ولكن الصخرة تظل ثابتةً دومًا. وهكذا فإن نهر الزمن الذي يتدفَّق فيذهب في كل وقت بالصناعة الرثة للشعراء الآخرين، يمر دون أن ينال من صخرة شيكسبير.

(من طبعة فيرنيس Furness للمسرحية عام ١٩٠١م، ص٣٧٨)
والواضح أنني ما كنت لأقتبس هاتَين الفقرتَين الطويلتَين إلا بسبب تأثيرهما في الكثيرين ممن جاءوا بعده وخصوصًا في القرن الثامن عشر، ولم يبدأ التغيُّر في النظرة إلى المسرحية إلا في القرن التاسع عشر بظهور الحركة الرومانسية التي كانت عمومًا أقل احتفاءً «بالقواعد» (التي يشير إليها جونسون هنا) من أرباب الكلاسيكية، وكان الشعراء الرومانسيون يفضِّلون المأساوات على الملهاوات، بل وحاول بعضهم محاكاتها، ومع ذلك فنحن نجد أن شليجيل (Schlegel) الشاعر والناقد الألماني (١٧٦٧–١٨٤٥م) يصف كيف تلتحم في المسرحية ما يسمِّيه جونسون «الأجزاء الجادة» بالمشاهد الهازلة التحامًا وثيقًا بسبب وحدة «الموضوع» وهو خطبة أوليفيا، والواضح من قراءة محاضرة شليجيل (التي تُرجمت إلى الإنجليزية عام ١٨١٥م، ويوردها فيرنيس في طبعته المشار إليها للمسرحية) أنه كان أول من أدرك ذلك الالتحام بين «جانبَي» المسرحية، وإن كان تعبيره يشبه الرصد العلمي للحقائق (المرجع السابق، والصفحات ٣٧٨ وما بعدها). وبعد نحو نصف قرن بدأ ما يشبه الرد على جونسون (انظر الجزء المقتطَف من تعليقه على هذه المسرحية والوارد في ص٢٠ من هذه المقدمة)؛ إذ قال كريسيج (Kreyssig) في عام ١٨٦٢م إن المسرحية تعلِّمنا حقًّا درسًا مفيدًا لأنها «تصوِّر الحب العميق الصادق عند ذوي الطبع السليم»، وهي الصورة التي تمثِّل اللحن الأساسي الذي يشنِّف آذاننا من خلف نشاز «الحماقة المتودِّدة أو التودُّد الأحمق» عند البعض، من سير أندرو إلى أورسينو وأوليفيا (المرجع نفسه ص٣٨١).
ومن الغريب أن نجد بين نقاد هذه الفترة من تنبُّه إلى «علة» أورسينو، مثل ج. ج. جيرفينوس (G. G. Gervinus) الذي كتب في عام ١٨٥٠م يقول إن أورسينو «يحب الحب أكثر من حب أوليفيا»، فكان بذلك أول من لفت الأنظار إلى نرجسيته المضمَرة، وإن لم يصرِّح بالمصطلح الذي أصبح لا يغيب اليوم عن أقلام النقاد، خصوصًا بعد أن رسَّخه النقد النسوي (المرجع نفسه ص٣٧٩). ولنا أن نتوقَّف هنا بعض الشيء عند النقاد الآخرين الذين رأوا في ذلك العصر (عصر الشك في الغيب والانبهار بداروين) أن المسرحية تدين بجمالها لطابعها الدنيوي المحض، وقدرتها على تصوير متع الدنيا الطليقة، مثل الكاتب الفرنسي أ. مونتيجي E. Montégut (١٨٦٧م) الذي ركَّز على عنصر التنكُّر، والاحتفالية، و«التشقلب»، والغموض، وأعلن معارضته لدعاة الأخلاق والدروس. فلقد كتب يقول إن «الفلسفة» الوحيدة في المسرحية هي «أننا جميعًا مجانين، ولو بدرجات متفاوتة»؛ فنحن عبيد إمَّا لبعض عيوبنا وحماقاتنا الخاصة، أو لأحلامنا وآمالنا؛ «فبعضنا يتمتَّع بجنون شاعري جميل، والبعض لديه جنون مضحك تافه»، والذين يحقِّقون أحلامهم لا يحقِّقونها برزانة عقولهم، ولكن لأن أحلامهم تقبلها الطبيعة؛ لأنها أحلام بديعة وشاعرية وجميلة (المرجع نفسه ٣٨٢–٣٨٤) فكأنما كان مونتيجي قد أحبَّ ما كرهه صمويل جونسون.
وأمَّا في القرن العشرين فقد بدأ الاتجاه الحديث إلى إدراك طابع الشجن فيها، وربما كان الناقد كويلر–كوتش (A. T. Quiller – Couch) هو الذي استهلَّ هذا الاتجاه عام ١٩٣٠م في مقدِّمته لطبعة المسرحية؛ إذ قال إنها تمثِّل «وداع شيكسبير للكوميديا» (ص١١). وتلاه جون ميدلتون مري (J. Middleton Murry) عام ١٩٣٦ الذي قال إن بها نغمةً «فضية» خافتة من الحزن (في كتابه «شيكسبير» ص٢٢٥) مثلما قال ت. م. باروت (T. M. Parrott) عام ١٩٤٩م «إنها تكاد تكون ذات طابع مأسوي» (في كتابه «الكوميديا الشيكسبيرية» ص١٨٧).
ولا بد أن نلاحظ إذا أنعمنا النظر في اتجاهات النقد «التفصيلي» في النصف الأول من القرن العشرين كيف برز المهرِّج فسته لأول مرة في هذا الإطار التراجيدي. ويبدو أن «روح» تلك الفترة قد استجابت لكونه هرمًا فاشلًا يعيش على التلاعب بالألفاظ ويغنِّي الأغاني الحزينة؛ إذ إن أ. س. برادلي كتب عام ١٩١٦م دراسةً كاملة يبدي فيها تعاطفه معه وإعجابه به بعنوان «فسته المضحك» (Feste the Jester) في كتاب عنوانه «تكريمٌ لشيكسبير» A Book of Homage to Shakespeare (وأعيد نشر الدراسة مرتَين؛ الأولى في ١٩٢٩م، والثانية عام ١٩٧٢م في كتاب عنوانه (Twelfth Night: A Casebook) من تحرير د. ج. بامر (D. J. Palmer) وهو الذي رجعت إليها فيه). كما يقارن ميدلتون مري، في كتابه المشار إليه (ص٢٢٨)، وقوف المهرِّج وحيدًا على المسرح في آخر المسرحية بالخادم الهرم «فيرس» في مسرحية «بستان الكرز» للكاتب الروسي تشيخوف مقتبسًا في وصفه العبارة التي يصف به آدم في مسرحية «كما تحب» الإحساس بالوحشة في آخر العمر عندما ينفض الناس عن رجل فاشل بلغ من العمر أرذله، وهي و«الشيخ تخلَّى عنه الناس فألقَوه بركن منبوذًا» (٢ / ٣ / ٤٢)، وتأثير هذا التفسير لا يزال قائمًا لدى الكثيرين الذين يذكرون أغنية المهرِّج الحزينة (أقبل يا موتُ الآن وأدركني) (٢ / ٤ / ٥١) عندما يستمعون إلى أغنيته الأخيرة، ويقول ت. و. كريك (Craik) في مقدمته لطبعة آردن الأخيرة إنه يجد صعوبةً في تذكُّر دَور المهرِّج عندما يتنكَّر في دَور الكاهن توباس، بسبب غلبة المسحة الحزينة التي كست هذه الشخصية بسبب هؤلاء النقاد (ص٥٣).
وقد نشأ في القرن العشرين رأي يمثِّل أقصى ما وصلت إليه هذه النظرة الحديثة؛ ألَا وهو الرأي الذي لا يكتفي باعتبار المسرحية «وداع» شيكسبير للكوميديا، بل يجد فيها رفضًا حقيقيًّا للمرح والرومانس، وهو الذي بدأ في النصف الثاني من القرن على يدَي و. ﻫ. أودن (W. H. Auden) في مقال له نُشر في مجلة إنكاونتر (Encounter) عام ١٩٥٧م (وأُعيد نشره في كتاب صدر عام ١٩٦٢م هو The Dyer’s Hand ص٥٢٠) ويان كوت (Jan Kott) في كتابه «شيكسبير: معاصرنا» (١٩٦٥م) (الطبعة المنقحة ١٩٦٧م ص٢٢٩). يقول أودن بصراحة ووضوح: «لم يكن مزاج شيكسبير يميل في تلك الفترة إلى الكوميديا، بل إلى النفور البيوريتاني من جميع تلك الأوهام الممتعة التي يعتز بها الناس ويعيشون عليها.» ومعنى ذلك أنه يصوِّر اللهو الذي يقدِّمه المعربدون مثلما يُصوِّر أوهام الحب الرومانسية تصويرًا مبالَغًا فيه حتى يدفع الناس إلى النفور منها، لا إلى قَبولها مهما يكن استمتاعهم بها على خشبة المسرح، وهو ما يقوله كوت تقريبًا؛ إذ يؤكِّد أن المسرحية «بكل مظاهر المرح فيها، ليست سوى كوميديا بالغة المرارة تدور حول حياة الترف والمتعة في العصر الإليزابيثي، أو حول المتعة والترف، على أية حال، على جميع المستويات وفي كل جناح من أجنحة قصر ساوثهامتون.»
وقد سبق لي الإلماح إلى التيار النقدي المعاصر الذي يؤكِّد «وحدة» المسرحية بحبكتَيها، والتماسك الذي تتميَّز به الكوميدية الشيكسبيرية عمومًا، ولا داعي إذن للإفاضة في ذلك. كما سبق لي إيضاح ما يسمَّى المدخل «المعنوي» أو «النفسي»، وهو الذي يتعلَّق بخداع النفس الذي تمارسه بعض الشخصيات الرئيسية والثانوية، والتساؤل عمَّا إذا كانت هذه الشخصيات قد تمكَّنت من معرفة ذواتها آخر الأمر أم لا. ويجدر أن أذكر من بين أبرز من ركزوا على وحدة المسرحية الناقدة ج. ويلسون نايت (G. Wilson Knight) في كتابه «العاصفة الشيكسبيرية» (ص١٢٦)، ومن بين الذين ركَّزوا على خداع النفس ومعرفة الذات ج. ﻫ. سمرز (G. H. Summers) عام ١٩٥٥م، الذي نُشرت دراسته فيما بعدُ في كتاب من تحرير ل. ف. دين (Dean) عام ١٩٦١م بعنوان «شيكسبير: مقالات حديثة في النقد». كما سبق لي أن تحدَّثت عن تعريف فراي للكوميديا واعتباره المسرحية لونًا من «انتصار الحياة»، وأُضيف هنا قوله إن الكوميديا الشيكسبيرية تعبِّر عن هذا الانتصار بنقل الحدث «من الدنيا المعتادة «السوية» إلى الدنيا «الخضراء» ثم إعادته إلى موقعه الأول»، ويُقصد بالدنيا «الخضراء» صورةً أو رسمًا مثاليًّا للحياة، وقد يكون غابة، إذا كان بالمسرحية غابة، فإذا لم يكن بالمسرحية غابة كانت الخضرة «استعارية» أو رمزية، مثل بورشيا وضَيعتها في بلمونت (في مسرحية «تاجر البندقية»)، وهكذا فإن «الليلة الثانية عشرة» «تقدِّم لنا مجتمعًا احتفاليًّا يمثِّل دنيا دائمة الخضرة، لا مجرد خضراء» (من دراسة بعنوان «الحجة على أهمية الكوميديا» عام ١٩٤٩م).

ولكن فراي عاد في الكتاب الذي أشرنا إليه آنفًا وصدر عام ١٩٦٥م فقال إن الأهمية الرمزية لا تكمن في المجتمع الاحتفالي بل في البحر الذي تخرَّج منه فيولا وسباستيان، وهو يتفق بذلك مع ج. ويلسون نايت الذي يؤكِّد أنهما يخرجان من البحر باعتبارهما كائنَين غريبَين غامضَين، وإذا بهما يُعيدان المجتمع إلى الحياة الحقة.

ولكن ذلك لا يعني أن القرن العشرين قد تخلَّى تمامًا عن النظرة التقليدية للمسرحية باعتبارها من ملاهي شيكسبير السعيدة، على نحو ما وصفها جون دوفر ويلسون (١٩٦٢م)، وكما أوردتُ في وصفي لها في القسم الثاني من المقدمة. فالواقع أن معظم قُراء المسرحية ومشاهديها سوف يوافقونه ويوافقونني على ذلك، مهما تعدَّدت وجهات النظر المعارضة. كما تميَّز القرن العشرون بإبداء اهتمام بالغ بفن الصنعة الدرامية عند شيكسبير، وخصوصًا التورية الدرامية الساخرة، وهي التي يوليها برتراند إيفانز اهتمامًا بالغًا في كتابه عن كوميديات شيكسبير، كما سار على الدرب نفسه اثنان من أعظم نُقاد شيكسبير هما: ل. ج. سالينجر (L. G. Salinger) وهارولد جنكنز (Harold Jenkins).

ولا أظن أنني بحاجة إلى أن أزيد من ذكر الآراء التي تدور في الأفلاك نفسها، فلقد اقتصرت على أهم النقاد وأبعدهم تأثيرًا، وأعتقد أن الصورة الآن قد اكتملت، ولن يفيد القارئَ العربي المزيدُ من الإطالة، فإذا صادف إشارةً إلى شيء خارج نطاق ثقافتنا العربية المعاصرة، وربما يكون مستقًى من الحياة في عصر شيكسبير، فله أن يرجع إلى الحواشي التي أُورد فيها شرح ما قد يلتبس فهمه بسبب ذلك، وإن كنتُ قد بذلت جهدًا كبيرًا في جعل النص قائمًا بذاته شارحًا لنفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤