ما لم يكن في الحسبان!

كانت العاصمة «بوجوتا» غارقة في الأضواء الليلية حين تحرَّك العميل «الأفعى» وبصحبته «خالد»، كانت السيارة «البورش» الألمانية الحمراء بانتظارهم أسفل الفندق، وكان قائدُها شابًّا نحيفًا حادَّ البصر، اقترب من «خالد» ورمقه بنظرةِ ارتيابٍ قبل أن يصعد إلى السيارة التي دار محركُها، واندفع بسرعة جنونية باتجاه بلدة صغيرة تسمَّى «كالي» تُطلُّ على المحيط الهادي … وكان الطريق المؤدي إلى «كالي» ضيقًا وكثير الانحناءات، ولكن السائق المتمرس تجاوز هذه المنحنيات بخفة غريبة وهو يتمايل يمينًا ويسارًا، وكأنه يقود دراجة بخارية بخفة غريبة، وكان الصمت كأنه اللغة المشتركة بين «خالد» والعميل «الأفعى» … الذي ظل ينظر ﻟ «خالد» نظراتٍ عميقة من تحت نظارته السميكة … ولاحظ «خالد» هذه النظرات، وكان عقل «خالد» أو السيد «كردغلي» يعمل بسرعة شديدة وجهاز اللاسلكي الصغير المثبت بأحد أزرار سترته يُرسل الموجات تباعًا للشياطين، وكان كل ما يؤرقهم ألَّا تبعدَ المسافة عن ثلاثمائة كيلومتر حتى لا يفقدَ جهاز اللاسلكي المسافة المحددة التي يعمل خلالها …

أدار سائق السيارة «البورش» النحيف شريط كاسيت، وراح يتمايل على نغماته، وأخذ ينظر في مرآة السيارة من حين إلى آخر … كان من الواضح أنه لا يستريح لرؤية «خالد» أو مستر «كردغلي»، وبعد ثلاثمائة كيلومتر من السير ظهرَت في الأفق القريب بدايات «كالي» البلدة الصغيرة التي تحيطها الأشجار من كل جانب، واقتربت السيارة من «كالي»، ثم انحرفَت قبل أن تدخلها إلى طريق جانبي غير ممهد، وظلت طيلة النصف ساعة تسير في طرق متعرجة، وفجأة فتحت إحدى البوابات الصخرية في قلب أحد الجبال، واندفعت السيارة «البورش» بداخلها ثم انغلقت على الفور.

حدث هذا في ثوانٍ معدودة كانت وكأنها صدمة كهربائية، فلم يشعر بها «خالد» إلا عند توقُّف السيارة أمام منزل صغير تحت الأرض مشيد بطريقة عجيبة … يبدو فيها وكأنه قلعة صغيرة.

هبط العميل «الأفعى» من السيارة، وهبط بعده «خالد»، وسار بخطوات ثابتة من خلفها السائق النحيف باتجاه المنزل الصغير الذي غمرَته إضاءة أحد المولدات الكهربائية الذي لا صوت له.

لم يكَد «خالد» يخطو بداخل المنزل حتى دوَّى رنينُ أحد الأجراس، ثم أُضيئَت لمبة حمراء في مواجهة الدهليز الصغير المؤدي إلى صالة المنزل.

اندفع على الفور مجموعةٌ من الرجال في اتجاه «خالد»، وأخذَت تفتِّشه جيدًا، وسرعان ما جرَّدوه من مسدسه الصغير الألماني الصنع، بعدها أذنوا له بالدخول حيث أشار له العميل «الأفعى» إلى أحد الكراسي المنتشرة ببهو المنزل، وصاح بلهجة آمرة: اجلس هنا.

وأطاع «خالد» أوامر العميل «الأفعى»، وجلس على الكرسي دون أن يتحدث.

فجأة ساد الظلام كل أنحاء المنزل، وأخذ «خالد» يفرك عينَيه لحظاتٍ عسى أن يرى شيئًا دون جدوى، ثم شعر بأن الأرض تتحرك من تحته دقائق معدودة أفاق «خالد» بعدها ليجد نفسه على نفس الكرسي، ولكنه في مواجهة الزعيم «رومايرو» الذي كان يبتسم ويراقب انفعالاتِ «خالد»، وقال وهو يرحب به: إنني أعتذر مقدَّمًا يا مستر «كردغلي»، ولكن هذه هي الإجراءات المتبعة لأيِّ شخص يدخل قلعة الأسرار.

قال «خالد»: لا بأس … ولنبدأ إذن في الاتفاق.

صاح مستر «رومايرو»: لا تكن متعجلًا يا صديقي؛ فلدينا متسع من الوقت نُنهي فيه كلَّ الاتفاقات … فلنا شروط … ولك أيضًا … ولا بد من دراسة كل شيء، ثم أكمل وهو يضحك: أليس كذلك؟

أجاب «خالد»: نعم إن ما تقوله صحيح، ولكني في عجلة … من أمري، وأعواني ينتظرون الشحنة على أحرِّ من الجمر … فضحك «رومايرو»، وقال: أعرف ذلك، ثم ضغط على زرٍّ صغير بجانبه، فانفتح أحد حوائط الغرفة، وخرجت منه عربة صغيرة تسير أوتوماتيكيًّا وعليها كيس صغير الحجم به مسحوق أبيض اللون.

قال «رومايرو»: هذه هي النوعية … افحصها وجرِّبها إن شئت.

أمسك «خالد» بحفنة صغيرة من المسحوق الأبيض بين أصابعه، وصاح: إنها ليست جيدة يا زعيم. فضحك «رومايرو» وهو يقول: كيف عرفتها يا مستر «كردغلي»؟ قال «خالد»: نحن لم نتفق على الخداع، وكل شيء يسير بشرف المهنة.

قال «رومايرو» وهو يحدق في «خالد»: صحيح يا صديقي … في نفس الوقت الذي انفتح فيه الحائط مرة أخرى، وعادت العربة الصغيرة إلى مكانها، وأُغلق الحائط من جديد.

قال «خالد» وهو يتظاهر بالهدوء … لكن متى سألتقي بالسيد «لوكا»، فاتسعَت عينَا «رومايرو»، وانتفض بسرعة وكأن تيارًا كهربائيًّا قد مسَّه ثم قال … مخاطبًا «خالد»: ماذا تقول مستر «كردغلي»؟ ثم أكمل في كلمات متقطعة … الزعيم «كارلوس»!

إن ذلك مستحيل؛ فالزعيم لا يراه أحد مطلقًا … ثم نظر إلى «خالد» بحدة وقد تطاير الشرر من عينَيه وقال وقد تغيرت لهجته تمامًا: كيف علمت بالزعيم «لوكا برازي»؟!

فقال «خالد» ببرود: لماذا الغضب أيها الزعيم؟

أتظن أنني صغير … ثم أكمل: إنني أعرف كلَّ شيء عنكم؛ ولذلك أتعامل معكم … ألَا تعرف أنني ملك «المارجوانا» في منطقة «الشرق الأوسط» بأكملها … إنني جئت كي أعقدَ الصفقة الكبرى عشرين مليون دولار …!

فجلس «رومايرو» من جديد وهدأت قسماتُ وجهه … ثم أكمل: فلنجعل الصفقة خمسة عشر مليون دولار، ثم ابتسم في خبث …

ففهم «خالد» ما يقصده «رومايرو»، وقال وهو يبتسم: لا بأس يا زعيم! على أن أقابل الزعيم «لوكا»، ثم لا بد أن تكون البضاعة سليمة، وقف «خالد» ومن بعده «رومايرو» وسارَا معًا بضع خطوات قال خلالها «رومايرو» ﻟ «خالد»: لا تكن قلقًا بشأن الإجراءات التي سوف نتخذها معك عند خروجك، وأعدك ببحث الأمر مع الزعيم على أن أبلغك سريعًا، ثم ضحك وهو يسأل في براءة: أين سكرتيرتك الجميلة؟

فابتسم «خالد» وهو يقول: سكرتيرتي لا تعلم شيئًا عن طبيعة عملي … هي فقط تُشرف على الإجراءات المالية.

ضحك «رومايرو» وهو يقول: إنني أريد سكرتيرة مثلها.

قال «خالد»: هذه صفقة أخرى سندرسها فيما بعد، وما إن مدَّ «رومايرو» يدَه مصافحًا «خالد» وهو يقول إلى اللقاء مستر «كردغلي» حتى شعر «خالد» بأن الأرض تغوص به … ثم أحسَّ أنه يسير أتوماتيكيًّا في ظلام دامس، إلى أن سطع النور بوجهه وشعر بهواء نقي يملأ رئتَيه، شاهد بعدها العميل «الأفعى» ومعه سائق السيارة «البورش» الحمراء.

ضحك العميل «الأفعى» وهو يعدِّل من وضع نظارته الطبية، وأشار ﻟ «خالد» وهو يقول: تفضل يا مستر «كردغلي»؟

صَعِد «خالد» إلى السيارة التي دار محركها، ثم انطلق بأقصى سرعة باتجاه العاصمة «بوجوتا»، كان الشياطين في تلك الأثناء في غاية القلق على «خالد» … فقد انقطع إرسال جهاز اللاسلكي فجأة، وظل «باسم» ومعه «زبيدة» يحاولان عملَ أيِّ شيء، ولكن إشارة الجهاز كانت واضحة، وفجأة صاح «مصباح»: الجهاز عاد ليستقبل الذبذبات، فقالت «زبيدة»: فربما «خالد» في طريق العودة.

فرح الشياطين عندما زادت الذبذبات المستقبلة التي ظلت في حالة زيادة دائمة مما يؤكد اقتراب «خالد».

توقَّفت السيارة «البورش» أمام الفندق، وهبط «خالد» منها، وودَّعه العميل «الأفعى» قائلًا: وداعًا أو إلى اللقاء يا سيد «صفر». وانطلقَت السيارة بسرعة!

صعق «خالد» عندما سمع … فماذا يقصد هذا العميل؟ … هل اكتشف حقيقة زعيمهم الخفي رقم «صفر»؟ إن ذلك يعني نهاية المنظمة.

صَعِد «خالد» إلى غرفته حيث كان الشياطين في انتظاره، وكانت المفاجأة الأخيرة قد هزَّته بعنف، فتهاوى على أقرب مقعد، وظل ساهمًا وقد فقد القدرة على التفكير.

وما إن بدأ الحديث وأخبر الشياطين بما حدث حتى حدقوا جميعًا في الفراغ وهم يقولون في صوت واحد: مستحيل … إذن ذلك هو المستحيل نفسه!

صاحَت «زبيدة»: ما العمل الآن؟

وكان الصمت المطبق هو الجواب الوحيد على تساؤلها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤