الفصل الخامس عشر

الشعر هل هو طبيعي أو مصطنع؟

بقلم ويلارد ثورب

سأل أحد خيار الشعراء الأمريكيين المعاصرين من الجيل المتوسط، وهو «روبرت لول»: هل يكون الشعر طبيعيًّا أو مصطنعًا؟ ولما كان شعره مصنوعًا فلا ريب أنه انحاز إلى صناعة الشعر. وبرغم ذلك فقد نبتت الفكرة التي تقول بأن أعذب الشعر الذي كُتب في أمريكا في الوقت الحاضر هو من النوع الطبيعي، وانتشرت الفكرة في إنجلترا والقارة الأوروبية. ولستُ أعتقد في صِدق هذا الرأي، ولكن قبل أن أدعم دعواي لا بدَّ لي من النظر إلى الوراء، إلى حالة الشعر في أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة.

تخلف الشعر فيما بين عامَي ١٩٤٥م و١٩٥٥م لعدة أسباب؛ تخلَّف أولًا لأن إخراج الكتب في طبعات رخيصة ضاعف من مَبيع القصص جيِّدِها ورديئها، واختفى الشعر أو كاد من رفوف محلات البيع الضخمة والشعبية التي امتلأت بهذه الكتب الرخيصة، وانصرفت عن الشعراء دور النشر القديم التي كانت تفخر على الأقل بوجود عددٍ قليل من دواوين الشعر بين قوائمها، وبات من العسير جدًّا على الشاعر الشاب أن يُقدِّم ديوان شعره الأول ثم تضاءلت المجلات التي تنشُر الشعر إذا قورنت بمجلات الطليعة في العشرينيات مثل مجلة «المكنسة» ومجلة «الانفصال» التي كانت تنشر كثيرًا من الشعر لجيل الشعراء حينذاك. ولما كان إنتاج «ت. س. إليوت»، و«عزرا باوند»، و«آلن تيت»، و«جون كر»، و«رانسم»، و«و. ه. أودين»، و«إ. إ. كمنجز» عظيمًا، بدا للكثيرين أن الشعر قد أشرف على الزوال ببلوغ هؤلاء الشعراء قمة المجد. ماذا لدى الشعراء المحدثين «دلمور شوارتز»، و«كارل شابيرو»، و«راندال جاريل»، و«جون بريمان»، و«روبرت لول»، وزملائهم الأحدث «رتشارد ولبور»، و«وليام مرديث»، و«ريد هويتمور»، و«لويس كوكس»؛ ماذا لدى هؤلاء يُقدِّمونه فوق ما أخرجه من سبقَهم من الشعراء المبرزين؟ وإزاء هذه الظروف التي جابهت الشعراء بعد الحرب، بدا كأن نظم الشعر ربما أمسى حرفةَ زمرةٍ من الكتَّاب القلائل، وبات الموقف مُظلمًا حقًّا.

وفي منتصف الخمسينيات بدأ الموقف يتغير بصورة تدعو إلى العجب، فأمسى الناشرون القدامى أشد ترحيبًا بالشعر، وأخرجت بعض مطابع الجامعات — التي كانت من قبل تنشر عادةً الكتب العلمية فقط — دواوين شعرية، وحذا حذو مطبعة جامعة ييل «إلديانا» و«وزليان» وأبرزا مجموعةً من صغار الشعراء. وفي عام ١٩٥٤م بدأت مطبعة أولاد «شارلس سكريبنر» تصدر مجموعة تحت عنوان «شعراء اليوم». وتُقدَّم أعمال هؤلاء الشعراء في مجلد سنوي جميل الإخراج. وبينما استمرَّت مطبعة «الاتجاهات الجديدة»، ومطبعة «آلن سوالو» في مساندة شعراء الطليعة كما كانت تفعل دائمًا، أخذت تظهر محاولات جديدة في كل أرجاء البلاد، فظهرت مطبعة «جروف»، ومطبعة «موتيف»، ومطبعة «أوريجين»، و«دايفرز»، و«جولدن كويل»، كما ظهرت مجموعة للجيب عن الشعراء التي أخرجتها مكتبة «أضواء المدينة» في «سان فرانسسكو»، والكتب العامة التي يُصدرها «جوناتثن وليامز» في هايلاند بكارولينا الشمالية، وغير ذلك. وقد لا تعدو «المطبعة» في بعض الأحيان أن تكون مجرد آلة للنسخ، ولكن الشعراء المحدثين قد وجدوا على الأقل الوسيلة التي تُمكنهم من إبراز شعرهم في ضوء النهار.

وبدأت في نفس الوقت بعض المجلات الصغيرة التي تكرس نفسها لنشر الشعر تنمو وتزدهر، وقد ظهر عدد واحد من مجلة «الشعر» لشهر يوليو من عام ١٩٥٩م عند ظهور أربعة من هذه المحاولات الجديدة، وهي مجلات «إنسكيب» و«سان فرانسيسكو رفيو» و«هاف مون» و«قصائد بني» ووعد محرروها في نيو هافن في أملٍ كبير بإخراج عددٍ يومي من صفحة واحدة خمس مرات كل أسبوع.

وكثير من الشعراء الذين نشرت لهم هذه المطابع والمجلات كانوا من الشعراء المجدِّدين الثائرين أو «بيتنك» كما كانوا يُحبون أن يطلق عليهم. وكيف تعرف الشاعر المجدد الثائر؟ إنه من الطليعة من غير شك، وإن كان من العسير في الأغلب أن نتبيَّن في أي اتجاهٍ يتقدَّم، إنه ثائر على المجتمع، غير أن ثورته لا تمس السياسة لأنه يزدري كل النُّظم الاجتماعية؛ إنه يطلب لنفسه أقصى درجة من الحرية الشخصية، ويكتب حسبما شاء، وغالبًا ما يبلُغ نظمُه أقصى درجات التحرُّر. وهو يعيش من أجل الهزَّات العاطفية، يبحث عنها — إن اقتضت الضرورة — بتناول الكحول، والتجربة الجنسية، أو تعاطي المخدرات. وهو يؤثر صحبة الزنوج، لأن الفكرة السائدة عن الزنوج أنهم أشدُّ تحررًا من البيض. وهو يُخالِط عازفي الجاز، لأن موسيقى الجاز تبعث في المستمِع إليها رؤى عجيبة. وهو يهدي شعره ﻟ «وليام كارلوس وليامز» أو إلى بطلٍ آخر من الشعراء الثائرين المجددين أو إلى الروائي «كرواك»، الذي ولد في «لول» بماساتشوستس، وسار على الطريق منذ ذلك الحين.

وكلمة «بيت» التي يُطلقونها على أنفسهم لها على الأقل ثلاثة معانٍ، فهي قد تعني الطبقة السُّفلى من المجتمع التي انهزم فيها الشاعر وسط التقاليد التي يمقُتها، وهي تعني أيضًا النبض، أو نغم الجاز التي يعتقد أنها تدلُّ على النبض الحقيقي للعصر الذي نعيش فيه. ويقول «جاك كرواك» إنه اخترع هذا الاصطلاح وأنه مُجتزأ من كلمة beatitude ومعناها الغبطة.

ويوصف هؤلاء الشعراء الثائرون المجددون أحيانًا بأنهم «بوهيميون مُحدثون» غير أن بوهيميتهم — كما قال الناقد «نورمان بودهورتز» — تختلف جد الاختلاف عن بوهيمية العشرينيات من هذا القرن، فهذه البوهيمية الأخيرة: «تُمثل النزعة التي تميل إلى نبذ الإقليمية، والوضاعة، والنفاق الخلقي في الحياة الأمريكية.»

ومثلها العليا هي الذكاء والتثقيف، أما بوهيمية الخمسينيات فهي طبقًا لما يقول مستر «بودهورتز» «تعادي الحضارة وتُقدِّس البدائية، وحكم الغريزة، والطاقة الحيوية، والدم.»

والمشقة الكبرى التي نُلاقيها عندما نتحدث عن الشعراء المجددين الثائرين هي في التعرف إلى أماكنهم؛ ذلك أن لهم طريقةً في الاختفاء إما في الأوساط المحترمة الرفيعة أو بعيدًا عن المجتمع في الصمت والهدوء. وأشهر هذه الزمرة «آلن جنزبرج» الذي كتب قصيدة عنوانها «النباح» حُظِر نشرها في شيكاغو وسان فرانسيسكو لِمَا حوت من أدبٍ بذيء سافر مكشوف. وكثير من أبيات هذه القصيدة يُبرِّر صحة هذه التهمة، ولكن السطور الافتتاحية الأولى عفيفة، وقد أصبحت اليوم ذائعة معروفة، نُوجِز، معناها في الأسطر التالية:

«إن خير العقول في جيلنا تروح ضحايا الجنون والحرمان … أصحابها يجرُّون أذيالهم خلال أحياء الزنوج قبل بزوغ الشمس باحِثين عن مُثيرات الحياة … يستمعون إلى موسيقى الجاز ويسبحون في الخيال … يمرُّون على الجامعات ساخرين … تنبذهم المجامع العلمية بتهمة الجنون ونشر الشعر البذيء … لا يكادون يسترون أبدانهم … يُنفِقون أموالهم عبثًا … يُرسِلون لحاهم … مُيمِّمِين شطر نيويورك … يأكلون النار ويشربون الترياق … يُطهرون أنفسهم كل مساء.»

وهكذا في أجزاء القصيدة الأربعة التي تشمل ثلاثة عشر صفحة من الشعر الماجن، الذي يمجِّد فيه الشاعر كما قال أحد النقَّاد «طريد المجتمع المثقف، وهو صنو المتشرِّد الذي يجوب القارات مُقاتلًا.» وبالرغم من أن النقاد قد حطوا من قدْر قصيدة «النباح» فقد راجت سُوقها، وأُعيد طبعها ثماني مراتٍ ما بين أكتوبر من عام ١٩٥٦م وسبتمبر من عام ١٩٥٩م.

وقصيدة «النباح» منشورة في مجموعة الشعراء للجيب التي أخرجتها دار «أضواء المدينة» في «سان فرانسيسكو» لبيع الكتب، وهذه الدار هي أحد مراكز البوهيمية الجديدة، و«أضواء المدينة» تنشر كذلك شعرًا ﻟ «جريجوري كورسو» و«لورنس فرلنجتي» صاحب الدار. ولم يكتب كورسو شعرًا كثيرًا، ولستُ أعرف له إلا ثلاثة دواوين رقيقة: الأول «عذراء براتل» — ويشير إلى شارع «براتل» في «كمبردج بماساتشوستس» — والثاني «جاسولين» والثالث «مولد الموت السعيد»، ولا يرفع «كورسو» صوته في الفضاء مثل «جنزبرج»، وإنما يقرب شعره من صورة المثل الأعلى للشعراء الثائرين المجدِّدين بتقليد تأثير الجاز التلقائي المتفجر. عينُه سريعة اللمحات وأذنه سريعة الالتقاط، غير أن الألفاظ النابية التي يستعملها قليلة، وسوف يحتاج في القريب العاجل إلى ألفاظٍ أخرى.

أما «لورنس فرلنجتي» فيذكر لنا على غلاف «جزيرة العقل النائية» أنه يسعى إلى نظم شعرٍ كشعر الشوارع، يسعى إلى أن يُخرج الشعر من قُدسه الجمالي الباطني، ومن حجرة الدرس إلى الطريق العام. حدَّق الشاعر في سُرَّتِه طويلًا «بينما العالم يسير»، وإليك موجزًا لبعض «رسائله الشفوية» من أحد دواوينه الشعبية:

«هيا بنا إلى أسفل المدينة حيث الرعاع في ملابسهم الرَّثَّة ملوك غير مُتوَّجين في طرقات المدينة السُّفلى، هيا بنا نُطعِم الحمام عند مبنى البلدية، ونحثُّه على أن يؤدي واجبه في مكتب رئيس المجلس. أسرعوا فقد حان الحين، والنهاية قريبة، والكوارث تترى في وضح النهار، والكلاب حبلُها على الغارب، والبنات في الطريق، والحانات خلفنا.»

«هيا نضرب في قلب البلاد حيث تكثر الحانات والمطاعم الرخيصة وتنشُر بيننا الفوضى. النهاية قريبة، والجولف يلعب عند «الشجرة المحترقة» والمطر يهطل غزيرًا، والرجل الخليُّ يغطُّ في نومه. إن فيضانًا آخر سيغمُر البلاد، وإن يكن مخالفًا لما تظن، ولدَينا من الوقت مُتَّسع لكي نغطس، ولكي نفكر. كم أودُّ أن أهبط إلى المجتمع، وكم أود أن أتحرر.»

«سِيرى أيتها العربة الحبيبة على الحداء المنخفِض، فليس هناك ما يدعونا إلى انتظار الكاديلاك …»

وأعتقد أن هذا الشعر كان شفويًّا لأن صاحبه دونه لكي يُنشِد على نغم الجاز، ولكن لستُ أدري لماذا أطلَق عليه اسم الرسائل.

وإذا نحن درسنا حياة بعض الشعراء الآخرين الذين نشرت «أضواء المدينة» دواوينهم، استولى علينا الذهول والدهشة، فإن «كنيث ركسروث» في القائمة، ولكنه ليس غرًّا من الشعراء الثائرين. وقد كان بطلًا مع «وليام كارولوس وليامز» من أبطال هؤلاء الشعراء حتى عهد قريب جدًّا، ولكنه ولد في عام ١٩٠٥م، وقد ظهر أول ديوان شعر له في عام ١٩٤٠م. وكذلك «كنيث باتشن» من شعراء «أضواء المدينة» المحبَّبين، ولكنه يبلغ من العمر الآن التاسعة والأربعين، وقد ألف خمسة وعشرين كتابًا.

وهناك شاعران شابَّان آخران من شعراء «أضواء المدينة»، وهما «روبرت دنكان» و«دنيس لفرتوف». وهما يمثلان اتجاه شعراء الطليعة في أي عصر ويتسنَّمان ذروة التقدير. وقد عرضت مجلة «الشعر» «دنكان» في شيءٍ من الإجلال، ونشرت له شعره، وكذلك أثنى «ركسروث» على «دنيس لفرتوف» ونعتَها بأنها أفضل شعراء الطليعة، وإن يكن نظمُها لا ينمُّ عن الجرأة في التجديد، وكل فضلها أنها أتقنت ما أدَّاه شعراء النظم الحر منذ خمسة وأربعين عامًا. وهي سيدة إنجليزية تزوَّجت من أمريكي، وكانت لها سمعة طيبة قبل قدومها إلى هذه البلاد.

وإذا أنت أنعمت النظر في حركة الشعر الطبيعي تبدَّد أمام ناظريك كما تتبدَّد المياه في الرمال. وأستطيع أن أُزكي بضعة أسماء أخرى، مثل «شارلس أولسن» (وهو شاعر ثائر كذلك تقدَّمَت به السن) و«روبرت كريلي» و«جرسن كروز» و«جيل أرلوفتز». ولكن الشعراء الثائرين يشيخون أو تتقدَّم بهم السن عندما يُحقِّقون الثورة أو يُحشَرون بين الشعراء المقدَّرين. وسوف تُذكَر هذه الحركة — في ظني — على أنها أمر عارض ظهر ليملأ فراغًا طارئًا.

وفي الوقت عينه ظهر من الشعراء جيل جديد يُحقِّقون كثيرًا مما زعم الثائرون دون الالتجاء إلى نغم الجاز أو الشعر الذي لا شكلَ له أو إلى الفُحش والبذاءة أو تقليد الشعر الفلكلوري، مهما يكن المعنى الذي يُقصَد من هذا الشعر في هذا العصر الذي تشابكت فيه وسائل الاتصال بالجماهير. هؤلاء الشعراء الجدد كالثائرين لا تُهمهم المعارضة الاجتماعية المنظمة، شعرهم غزير، وشخصي إلى درجة كبرى، لا يتقيَّد بثقافة الأقلية، ويطيب لهم أن يعرضوا الأمور كما هي. بعضهم يكشف عن خفايا المدن، ويُهمهم قبل كل شيءٍ أن يتقبَّل قراؤهم شعرهم «المصطنع» في حينه. إنهم لا يعارضون وسائل الإعلام الجماهيرية، وإن كانوا يكتبون لها خاصةً، ولا يتطلَّعون إلى «إليوت» أو «باوند» أو «أودن» كأبطال، ولم ينظموا حركة من الحركات. وسأتحدث عن ثلاثة من هذه الفئة، والأرجح أن أحدَهم لا يعرف الآخر؛ وهم «فيليب بوث»، و«و. د. سنودجراس» و«جالواي كينل»، وثلاثتهم تلقى تعليمًا جامعيًّا (كما تلقَّاه كثير من الشعراء الثائرين)، وثلاثتهم قام بالتدريس في الكليات الجامعية، وهم جميعًا دون الأربعين، إنهم طليعة الشعراء غير الثائرين.

أما «بوث» فشاعر ريفي، شاعر من «إنجلترا الجديدة»، وهو شاعر البحر وشاعر الحب، شعره يضرب على أوتار القلوب عند مجرد الاستماع إليه، لا تقف في سبيله عوائق، وإليك موجزًا لقصيدة «حب»، وهي أيضًا قصيدة بحرية، ويُسمِّيها «آدم»:

لست في عيني الآن إلا أنت.
أتقدم إليك بالثناء الناقص العاري،
في الجو القاسي، الذي تهبُّ فيه الزوابع من الشمال الشرقي،
وفي مراعي الصيف التي لا تسير فوقها غير ظلال طيور البحار،
ومن وقت الظهيرة إلى ظهور القمر،
تحتفل الأيام بشهواتي الجامحة.
الموج يصطخب، وصخور الشاطئ الرمادية تتحول إلى رمال،
والساحل يتراجع.
وما زلنا واقِفين صدرًا إلى صدر،
باحثين عن ساحلٍ يأوي إليه العشاق.
ولكن هيهات للعاشقَين أن يُحقِّقا الأماني؛
فهما جزيرتان يفصل الماء بينهما.
فلنقنع بالواقع يا حواء مهما اقتربنا،
وفي حياتنا مُتَّسع للأمل،
بين تغريد الطيور وسقوط المطر.
الدنيا فسيحة،
وهذا الساحل ملكي،
ولك هذا الصباح الهادئ،
كما أعطيتك غيره من قبل،
دون إنذار الزوابع تحت السماء ذات السحاب.
الأسماك، والنبات، والحيوان،
كلها تفرخ في ذهني من جديد.
والبحر والبر لي،
ما دمتُ أُحبك بكل لفظٍ أصوغه.
وأستيقظ مُناديًا كل الطيور
لتشدو بلغة البحار،
وتبنى بأصواتها عش العشق
على هذا الساحل، وهو عالمنا.

ولم ينشر بوث حتى اليوم سوى ديوانٍ واحد عنوانه «خطاب من أرض بعيدة» في عام ١٩٥٧م.

أما «و. د. سنودجراس» الذي لاقى ديوانه الأول «إبرة القلب» الذي نشره في عام ١٩٥٩م استحسانًا عظيمًا، فقد كشف عن مكنون قلبه في غير خجل، غير أن قُدرته الفنية الرائعة تكتم الصيحة الغنائية في قصائده وتجعل العاطفة مقبولة. إن مضمون شعره يقع كله تقريبًا في خبرته الخاصة، كما يظهر في قصيدته التي عنوانها: «عملية جراحية» ونوجزها فيما يلي:

«من أحواض صلبة لا تصدأ مليئة بالماء انتشلوا قطعًا من القماش الدافئ، وقاموا بغسلي، ومن أواني الألومنيوم أخرجوا قطعًا من الإسفنج يتصاعد منها الدخان، وأمسك أحدهم سلاحًا ماضيًا لامعًا في قبضة يدِه التي يكسوها قفاز في صفرة الموت، وطعن بالسلاح معدتي، وشحب لوني، وأمسيت ناصع البياض كالطفل، ولم أشعر بوجلٍ أو خجل، ثم كسَوني برداءٍ رقيق فضفاض خفيف أبيض، وخُفَّين رقيقَين، واسترسلتُ في النعاس، ثم دفعتني الممرضات في عربة مُدثَّرة بالبياض، وهنَّ يرتدين القلنسوات، مُقنَّعات في ثيابٍ بين الزرقة والخضرة في لونها، وحُمل جثماني بما فيه من سموم وساروا به خلال ردهات المرضى، حيث ترى وجوهًا واجمة من ذوي القربى، يبكون، ومن بينهم سيدة تتوكأ على عكازة مُعقدة، وتُحدِّق ببصرٍ شاخص، وطفل يتعالى صياحه، وفي صمتٍ مميت ارتفع المصعد إلى العرين الذي يعجُّ بالصوت والضوء لاستقبال البطل الثاوي المصفَّد في غيبوبته، ليؤدي دوره.»

«ثم تيقَّظتُ بين الزهور والنساء، ضعيفًا لا أقدر على التفكير في استرداد قوتي، واسترسلتُ طوال اليوم في تأمُّلاتي أو غفلتُ في نعاسٍ بين رفاقي». «ولبثت في المساء راقدًا، كتلة صغيرة تحت ثيابٍ ناصعة البياض كالثلج، لا يزورني غير الممرضات، اللائي تشع الرأفة من عيونهن، ويتوسَّلن إليَّ أن أستريح …»

«وأمامي نوافذ المكاتب، ودوني المصابيح تشير إلى الطرقات العامة، حيث تنطلق العربات، مدوِّية مُثقلة بالأحمال يتعالى صفيرها كأنها تطارد هاربًا. والسكون في غرفتي شامل، وفوق نافذتي الزهور، توحي بأن العالم في صفاء يسير وئيدًا في مرح وحبور.»

وفي ديوان أوَّلي آخر ﻟ «جالوي كينل» عنوانه «يا لها من مملكة ولَّى زمانها» نشره في عام ١٩٦٠م، يُنوع الشاعر موضوعاته أكثر مما فعل «بوث» أو «سنودجراس»، وهو يخلد ذكرى صباه وشبابه، والأماكن العديدة التي عاش فيها، سواء في داخل البلاد أو خارجها، والناس الذين تعرف إليهم، وهو شاعر المدينة والريف على السواء. ولم يستطع أحد من الشعراء الثائرين المجدِّدين أن يُدنينا — مثلما فعل — من الفقراء المساكين الذين يتزاحمون في أحيائنا المدنية القديمة التي يأوي إليها الناس من مختلف الجنسيات. وقصيدته الطويلة التي عنوانها «الشارع الذي يحمل اسم المسيح في العالم الجديد»، التي يستمدُّ من السطر الأخير فيها عنوان الديوان، تطوف بنا آناء الليل وأطراف النهار في مملكةٍ صغيرة في مدينة «نيويورك»، يحدُّها من الشرق الشارع رقم «ج»، ومن الشمال «الشارع السابع» ومن الجنوب شارع «هوستن». وفي وداعةٍ تنطوي على العطف يصف لنا «مستر كيندل» سوق السمك، وعربات النقل الصغيرة المحمَّلة بالخضروات، ولافتات المحلات التجارية بمختلف اللغات، والأطفال وهم يلعبون وحريق مخازن جولد للمُخلفات القديمة، والعجوز الشمطاء التي تبيع صحفًا لا تستطيع قراءتها، والزنجي القديم الذي يجلس خارج «بار ومطعم الأيام السعيدة»، الذي يتغنَّى بين الحين والحين بأنشودةٍ من لحن الزنوج.

والجزء الرابع عشر والأخير من هذه القصيدة المعروفة ينتهي بهذا المعنى: «في تلك الليلة انطلقتِ العربة مسعورةً تعبر الشارع السابع، وكأنه أضواء المرور من صنع الله، والنور الأحمر يعتم تدريجيًّا كلما ابتعدنا، ثم بلغنا الشارع الرابع عشر حيث شهدنا نجومًا قلائل من النور الأخضر. ودفعةً واحدة وبغير ترتيب تحوَّل النور الأحمر إلى نور أخضر، وقبل أن يمسي الطريق العام كله أخضر اللون أعتمت النجوم الخضراء البعيدة.»

«الوقت في المساء، والجو ممطر، وشارع هوستن يبدو خلال قطرات المطر، والطرقات الحية تموج بأسباب البغضاء والفزع في ومضاتٍ أشبه بالضوء الذي يتألق أحيانًا فوق سطح الماء …»

«وهذا الطريق المؤدي إلى نهر الأسماك الشرقي يموج بكل أمر شائن في جو خانق، وترتمي فوقه مقذوفات البحر وقاذورات اليهود، هذا الطريق — الذي يحمل اسم المسيح — هجرته العناية الإلهية مما أصابه من إهمال على مرِّ العصور، وهو يطل على بحرٍ هائج يُعاني فيه الغرقى كل أسباب الألم، ويموتون ميتة الفقراء المعدمين …»

«ولما كانت عناية الله — لسببٍ لا ندريه — قد آثرت أن تُبقِي على هؤلاء القوم البائسين فوق سطح الأرض، دون أن تقضي على دنياهم …

فنحن نسمع تدفُّق الدم في عروقهم، وقصف العظام ترتطم بالعظام، وهمس الأعصاب وسط أنفاس النعاس … وقد انتشرنا في الطرقات البحرية، وركضنا فوق الصحراء المهجورة … واختَفَينا في شوارع ضيقة مظلمة …

ووهنت الرئات فانطفأ نور الدنيا … والقلب ينبض حبيسًا في ظلمة الليل، يخفق فترة ثم ينهار في سكون … والعقل يدور حول نفسه، متخبطًا في وحشته.

هؤلاء القوم البائسون، الذين يتخبطون في ظلام النفس، يقهقهون صائحين:

هذا دربنا، و«يا لها من مملكةٍ ولى زمانها.»

«أواه، أواه.»

وأشد ما يروقنا في هؤلاء الشعراء الثلاثة الشبان (وهناك غيرهم من أضرابهم) عاطفة قوية يُعبرون عنها في نظمهم تعبيرًا مباشرًا. وقد لا يكون هذا الشعر لعامة الناس، ولكنه يمكن أن يكون لهم لو أنهم أنصتوا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤