الفصل الثالث

نهضة الشعر

بقلم سكلي برادلي

ظهرت بوادر النهضة أول الأمر كاملةً في الشعر الرسمي، وفي القصص، والدراما في القرن الجديد. فبينما كان الشعراء المُهذَّبون الذين يُعرَفون «بشعراء نهاية القرن» من أمثال «ستدمان وجلدر» يُقلدون الماضي، ومن أمثال «رتشارد هوفي» يتغنَّون متفائلين «بجمال الطقس دائمًا»، ومن أمثال «فيلد ورايلي» يعودون إلى «الشعر الاجتماعي» وإلى غيره من صنوف الشعر الأصيل أو الهزلي أو الشعر الخفيف المألوف، كان هناك شاعران من أصحاب النزعة الجديدة يكافحان دون أن يسمع بهما أحد؛ أما أحدهما فهو «وليام فون مودي» الذي مات في عام ١٩١٠م وهو في سن الأربعين، وأما الآخر فهو مُعاصره «إدوين آرلنجتون روبنسن»، الذي عاش خلال طوفان الإحياء الأخير، وكان من أقوى شعراء هذه الحركة وأرهبهم صوتًا، كما كان قطعًا من أعظم شعرائها.

ومن هذَين الرجُلين ومن مصادر أخرى مُستقلَّة استمدَّت الوحي جماعةٌ من شباب الشعراء، وكان القُرَّاء الأمريكيون الجادُّون قبل عام ١٩١٦م يشعرون شعورًا قويًّا بوجود جوقةٍ من «الأصوات الجديدة» التي تتميز بالحيوية والاستقلال، يختلف أحدُها عن الآخر اختلافًا شديدًا في حين أنها كانت تتحدَّث بلسانٍ واحدٍ من الناحية الفنية الموجهة إلى جمهور كانوا يرغمونه على الإصغاء، فجاءت قصيدة باوند الأولى «برسوني» في عام ١٩٠٩م مطابقةً للهزة الأولى التي أحدثتها «جرترودشتين». وفي عام ١٩١٠م، بعد عشر سنواتٍ من الصمت، نشر «روبنسن» «المدينة التي تقع في أسفل النهر». وما هلَّ عام ١٩١٦م حتى كانت «إيمي لول» قد نشرت ديوانَين ثار حولهما الجدل، كما كان «فاشل لندساي» قد أعاد الحياة إلى الأغاني الشعرية بقصيدته «جنرال وليام بوث» وقصيدته «الكونغو»، كما قوبل «فروست» مقابلةً رائعةً في إنجلترا والولايات المتحدة عندما نشر قصائده «إرادة صبي» و«شمالي بوسطن» و«جبل انترفال»، وكذلك نشر «إدجار لي ماسترز» ديوانه الثائر الذي أسماه «مختارات نهر سبون». ونشر «ساندبرج» شعره الانقلابي تحت عنوان «قصائد شيكاغو». وقد وصفت الأصوات المنبعِثة من الماضي، وديوان «إميلي دكنسن» الذي نشر بعد وفاتها ومجموعة مؤلفات «هويتمان»، هؤلاء الشعراء الثائرين «بالمحدثين». وسرعان ما ظهرت مجلات أمريكية مختصَّة بالشعر، نابضة بالحياة، تنشر القصائد الأولى «لإليوت»، و«فروست»، و«ساندبرج»، و«باوند»، و«إدنا ميلاي»، و«ﻫ. د»، و«وليام كارلوس وليامز»، و«ماريان مور»، و«جفرز»، و«والاس ستيفنز»، و«ماك ليش»، وسُمِّي بحق هذا الازدهار للشعر في السنوات العشر التي سبقت الحرب العالمية الأولى «النهضة الصغرى».

وسوف نمثِّل الفترة كلها في هذا الفصل بثلاثة شعراء يبلغ خير إنتاجهم قمة العظمة، وهؤلاء الشعراء هم «روبنسن»، و«فروست»، و«ساندبرج»، وبالإضافة إلى هؤلاء سنضمُّ شاعرًا أصغر منهم شأنًا وهو «ستيفن فنسنت بنيه» لأن مبتكراته التي لم تَدُم طويلًا كانت منه مساهمة فذة، وقد اهتمَّ كل شاعر من هؤلاء اهتمامًا شديدًا بالتعبير عن الظروف المباشرة والحياة اليومية للجنس البشري في شعرٍ جديد يُلائم عنفَ هذا القرن وما حدث فيه من انقلابٍ، ونهمه في حب المعرفة والحكمة. ولم ينسَ «روبرت فروست» منذ البداية أنه «يُصارع العالم صراع العاشِقين». وربما استطاع «ساندبرج» و«روبنس» أن يصفا دوافعهما في صورةٍ أشدَّ عنفًا.

وقد وجدت الولايات المتحدة بهذا الجيل من الشعراء صوتًا قاريًّا. ولشعراء القرن العشرين جذور في كاليفورنيا وأريزونا ووادي المسيسبي ومين وماساتشوستس والجنوب القديم. أما «روبنسن جفرز»، شاعر تلال كاليفورنيا، فقد ترعرع في بنسلفانيا الغربية، كما أنفق «فروست» — الذي قُدر له أن يرسم صورة إنجلترا الجديدة — صباه في كاليفورنيا. وبدا كأنَّ الغرب الأوسط سوف يُصبح لفترةٍ ما البوتقة التي ينصهر فيها الشعر الحديث، وكان كل من «كارل ساندبرج» و«فاشل لندساي» و«إدجار لي ماسترز» ينظر إلى الآخر في شيكاغو كأنه الكعبة الجديدة التي يقصدها الكُتَّاب في (مدلاند العليا). ونشأت «سارة تيزديل» و«ت. س. إليوت» في سنت لويس في المسيسبي الأعلى. وفي شيكاغو ظهرت في عام ١٩١٢م أول مجلة أمريكية للشعراء دون سواهم، وعنوانها «الشعر: مجلة النظم»، وذلك عندما كان شعراء «النهضة الصغرى» الأوائل يجاهدون في رفع أصواتهم حتى تُسمَع. وكانت المجلات الأمريكية المعتمدة — هاربرز وسكربنرز واطلنطيق الشهرية مثلًا — تجعل من نفسها أوصياء على التقاليد القائمة. أما المجلة الجديدة فكانت تُرحِّب بكل شعرٍ جيد، جديدًا كان أو قديمًا.

وكان في مجموعة الشعر الغنائي الجديد في الولايات المتحدة دسامة وتنوع؛ فشعر «فاشل لندساي» الذي يُشبِهُ دقَّ الطبول على نقيض شعر «باوند» و«إليوت» و«هلدا دوليتل» أو «ﻫ. د.» الذي يتميز بدقَّة النحت. كما كان على نقيض شعر «روبنسن» الذي يتميز بالنزعة العقلية المقيدة التي تنمُّ عن حصافة الفكر، وعلى نقيض شعر «روبرت فروست» ذي النزعة الإنسانية، وشعر «ساندبرج» الذي نظمه بالعامية النبيلة، وشعر «آبي لول» الحر المرسَل ونثرها المنظوم، وقصائد الحب التي نظمتها «مس تيزديل ومس ميلاي»، الذي كان تقليديًّا في شكله فرويديًّا في حسِّه يُذكِّر بمعبودة سافو الأمريكية، «إميلي دكنسن»، وعانس أمهرست الشابة في ماساتشوستس، التي ماتت آمِنة قبل أن يُنشَر شعرُها في عام ١٨٨٦.

وقد رحبت مجلة الشعر في وقتٍ باكر بشعر «ساندبرج» الذي يُعتبر تحويرًا في طريقة «هويتمان» الساذجة، وذلك عندما وصف مدينة شيكاغو في لغةٍ أشبه ما تكون بلغة الإعلان، فقال عنها إنها:

«قصابة الدنيا،
صانعة الآلات، طاحنة القمح،
اللاعبة بالقضبان، المصدرة لحاصلات البلاد،
المدينة العاصفة الصاخبة، المشاغبة
مدينة الأقوياء.»

ولم يكن «التصوير» في الشعر سوى إحدى مدارسه الكثيرة صاحبة الصوت القوي المرتفع الواثقة من نفسها التي ظهرت فجأةً وبوفرةٍ بالغةٍ كما تظهر الزهور في الحقول عندما يُوقظ الربيع المراعي. ولم تكتفِ المدرسة بأن تُعارض بنظريتها غيرها من المدارس الجديدة، بل لقد عارضت أيضًا مئات المدارس القديمة. وكان لأتباع «فرويد»، وللعقلِيين، والطبيعيين — كما كان للعدمِيين التابِعين لجماعة (العاصفة) الكلاسيكية التقليدية — كان لكل واحدٍ من هؤلاء منهجه، وكثير منهم لجأ إلى المنابر العامة كما فعلت «آمي لول»، وكان لها تأثير بالغ. وقد أمكن لهؤلاء المجدِّدين مجتمعِين أن يهزوا الجمهور ويوقظوه، وأن يوسعوا من نطاق مدلول الشعر، وأعادوا له وسامته وتنوُّعَه المألوف، وأخذ كل منهم عن الآخر، وكان أرباب الشعر التصويري يُمارسون النظم الحر عادةً وإن كان «ساندبرج» قد التمَسَه عند «هويتمان»، وبالرغم من أنه لم يكن من جماعة «الشعر التصويري» فقد كانت قصيدته «الضباب» مثلًا كاملًا للشعر التصويري في النظم الحر. قال:

«الضباب يزحَف على قدمَي هرةٍ صغيرة،
وهو يربض ناظرًا، نحو المدينة والميناء،
على ردفَين ساكنَين
ثم يرحل.»

ولعل الوعيد الذي تتضمَّنه هذه القصيدة، وما فيها من إيحاء بأن الطبيعة تُضمر للإنسان عداءً خفيًّا، مثَل للتشاؤم المحتوم الذي كان المفكرون من كُتَّاب الأمريكان يعبرون عنه في ذلك الحين. في حين أنَّا نجد رجلًا مثل «هويتمان» في عهد سبق يكتب في عام ١٩٥٥م بقوة الرومانسية كلها، ويقول: «أنا موجود كما أنا، وفي هذا الكفاية، قدمي راسخة في الجرانيت، وإني لأسخَر مما تُسمُّونه الانحلال، وأُدرك مدى الزمن.» إن مثل هذا التفاؤل الكوني لم يكن ميسورًا لرجلٍ مثل «ستيفن كرين» في عام ١٨٩٠م، حينما كتب يقول: «قال الرجل للعالم، سيدي، إنني موجود!»

فأجابه العالم قائلًا: إن هذه الحقيقة — بالرغم من ذلك — لا تخلق في نفسي إحساسًا بالواجب.»

وقد كان هنا الصراع بين الشك والإيمان دافعًا ملحًّا لشعراء الفترة الأولى من القرن العشرين، وكان موضوعًا لعملٍ ضخمٍ قام به «إليوت» في «الأرض الخراب» في عام ١٩٢٢م، و«روبنسن» في «الرجل الذي يُقابل السماء» في عام ١٩١٦م، وكان نغمة تتردَّد على لسان «فروست» و«ساندبرج» و«ماسترز» و«جفرز»، بل و«ماك ليش» في قصيدته الحديثة التي عالج فيها موضوع «أيوب» تحت ضوءٍ شبيهٍ بذلك الذي وَضَع تحته فروست «قناع العقل» قبل ذلك بخمسة عشر عامًا. وفي كل حالةٍ من هذه الحالات تتحول الأرض إلى خرابٍ لأن الإنسان قد فقد صِلته بمصدر الحياة المقدس، إن كان هناك مثل هذا المصدر. يتخيل «روبنسن» رجلًا منعزلًا بعيدًا في الأفق، وقد تضاءل إزاء عِلمه الجديد بتاريخه وبصِلته بالطبيعة غير الإنسانية، فتراه وحيدًا «في وجه مجد هذه الدنيا المشتعِلة» حيث «يقِف كل فردٍ وحيدًا بمفرده، ينظر ظلامًا جديدًا أو ضوءًا جديدًا». هذا الرجل الذي تخيَّله «روبنسون» — رغم كل عِلمه الحديث — يضيق من تفكيره العميق بنفس إيمان أسلافه في «… عالم شرقي، لا يمكن أن يزول فيلقى نفسه أو يعرفها — فيما خلا لمحاتٍ مطوية في نفس صاحبها.» إن قصيدة «الرجل الذي يُقابل السماء» سوف تبقى أبدًا من أعظم القصائد الدينية في اللغة الإنجليزية.

أما قصيدتا «فروست» «قناع العقل» و«قناع الرحمة» فكلاهما يتعرض في إسهاب للمُشكلات التي تتعلق بالخبرة وبالإيمان الروحاني. في القصيدة الأولى نجد أن أيوب يتفكَّر — بعد موته — مع ربه، تُعاونه زوجته الذكية معاونةً قد لا يكون لها موضع. في هذه المشكلة العالمية، لماذا يقاسي الرجل الطيب التقي كثيرًا فوق هذه الأرض؟ ويُجيب عن هذا السؤال إله الحب والرحمة بأن أيوب هو المثل الذي عيَّنه الإله «لكي يُقيم على هذه الأرض المبادئ العليا، التي سوف تبقى ما بقِيَ الزمان، وليست هناك علاقة يُدركها عقل البشر بين ما يستحقُّه وما يناله.» وفي «قناع الرحمة» يفرُّ يونس الذي ورد ذكره في الإنجيل من شرور المدنية الحديثة فيؤكد الشاعر بذلك عقيدته بأن الإنسان عليه أن يبحث عن المثل الطيب للفرد، ولن يجده في الكتلة البشرية جماعيةً كانت أو ديمقراطية. وقد نظم «فروست» في وقتٍ باكر قصيدة تحت عنوان «محنة الإنسان بوجوده»، وأقصى ما يبلُغه المرء في هذه المحنة هو «ارتباطٌ غامض يصِل بين الروح والمادة حتى الموت»، إن أشخاص «فروست» يجدون هذه العلاقة الغامضة بنفس البساطة التي يجدها بها «سيلاس» أو «الرجل المأجور»، وهو ذلك الفلاح المهاجر الذي يبذل كل يومٍ قصارى جهده، ولكنه يحلم بجمع البرسيم بطريقةٍ أفضل، وهو ذلك الرجل العجوز الفقير المشرف على الموت، الذي يجد مأواه في «مكان إن أنت بلغتَهُ وُورِيت فيه»، إن «الفلاح الذي يُصلِح الجدار بالحجارة التي يلتمِسها في سفينةٍ حُمِلت بها قد يجد الارتباط الأبدي في الهشيم المتخلِّف من نجمٍ مُحترقٍ، ينمُّ دورانه عن يدٍ ذات قوى خلَّاقة تبتعِد عن هذا العالم كثيرًا».

وقد كانت إعادة تقويم الديمقراطية الأمريكية والتاريخ الأمريكي مصدرًا آخر للعرض لهذا الجيل من الشعراء. إن الشاعر الحق لا يُكرس مواهبه أولًا لقضايا المجتمع، بيد أن تلك القصائد التي بلغت الذروة من الناحية العاطفية والناحية الجمالية، كقصيدة «باوند» «هيوسلوين موبرلي»، وقصيدة «إليوت» «الأرض الخراب» وقصيدة «ماك ليش» «هاملت ماك ليش»، سرعان ما تعمَّقَت النفس البشرية عندما لمست في أغوارها «أمرًا فاسدًا» لا مراء فيه، ما أكثر الأمريكيين الذين أحاط بهم الصراع الاقتصادي والاجتماعي وواجهَهم التيار الصاعد للمذاهب الطبيعية والجماعية فلم يبرح أذهانهم ذلك اللغز الذي أثاره «لنكولن» في «جيتزبرج» مُتسائلًا: «إذا كانت هذه الأمة الجديدة التي وُلِدت في أحضان الحرية وكرَّست نفسها للاعتقاد في «المساواة البشرية» تقوى طويلًا على البقاء.» هل يستطيع حقًّا «الفرد البسيط المنعزل» أن يعيش طبقًا للصورة الديمقراطية التي رسمها «هويتمان»، «أي وسط مجموعة»؟ لقد تضاءل الإنسان أمام العِلم والإله، فهل آنَ له أن يغمرَ وأن تزول بين أفراده الفوارق بفيضٍ من أسباب حالات التوسُّط التي تنجم عن الحياة الجماعية؟ إن الظل القاتم لهذا الشك قد سرى بين قصائد «روبنس» باعتباره مشكلة فلسفية، كما أثار الشكُّ عند «فروست» في إيمانه بالفردية العنيدة.

ومع هذا، فقد كان «ساندبرج» يعتقد في الشعب، في الجماعة، باعتبارها البوتقة التي تتقطَّر منها الشخصية العُظمى، كما حدث في حالة «لنكولن»، داعية التحرُّر، الذي كتب عنه دراسةً نثرية كبرى. وقد تقطَّر «ساندبرج» نفسه من الجماعة في جيلٍ من الأجيال، وهو من أبناء السويديين المهاجرين إلى أمريكا، الذين عانوا أشد المعاناة من ألم الحرمان، وقد اعتنق آراء «جفرسن» شاكرًا، كما اعتنق المساواة التي نادى بها «هويتمان» الذي كان له عليه أعمق الأثر، فتجد في شعره «بائع السمك» الرثَّ الثياب في إحدى طرقات شيكاغو القذِرة يردُّ القيمة التي أخذها عن مجتمعٍ يؤيده من كل قلبه:

«وجهُه وجهُ رجلٍ شديد الغبطة ببيع السمك، شديد الغبطة لأن الله خلق الأسماك، وخلق الزبائن، الذين ينادي لهم عن مبيعاته التي يُحمِّلها عربة يدوية.»

وعامِل الصلب عنده يستمدُّ «صلوات الصلب» من عمله، ويُصبح القضيب والمطرقة والمسمار، ويدعو ربَّه بقوله: «اللهم ضَعني فوق سندان، واضربني واطرقني حتى تجعل منِّي مسمارًا صلبًا، اللهم اجعلني ذلك المشبك الضخم الذي يمسك ناطحةَ السحاب فلا تنهار في ليلٍ شديدِ الزُّرقة تتلألأ فيه النجوم.» وبمثل حُبه الشديد للناس يهزأ في إيمانٍ وحماسة من سوء استخدام السلطة أو الامتياز، يهزأ — مثلًا — من ذلك الرجل الثري الذي يُقيم على شاطئ بُحيرة فيحمِيه من «الرجال الجياع، ومن الأطفال الذين يبحثون عن مكانٍ يلعبون فيه، يَحميه بسورٍ هو في بنائه روعة، ولا ينظر خلال قضبانه وأسنانه الصلبة سوى الموت، والأمطار، والغد.» وقصيدته التي تشمل كتابًا بأسرِه، والتي نشرَها تحت عنوان «مرحبًا بالناس» قصة شعرية عن الثقافة الأمريكية الديمقراطية.

وكان «ستيفن فنسنت بنيه» يصغر «ساندبرج» بعشرين عامًا، ينظُم شعره على أساس الأشكال القديمة المعروفة في الملاحم والقصص الشعرية الإنجليزية، وقد وجد «ساندبرج» في التاريخ الأمريكي وحيًا لإعادة تقويمه للحياة الأمريكية، ولإخلاصه لتقاليد «جفرسن». و«كساندبرج» كان يخشى انقلاب الديمقراطية بدعامةٍ من طبقةٍ ممتازة أو بسنَدٍ من الجماهير الجاهلة. وهو في كتاباته يحفل بالأساطير الأمريكية وبالفلكلور الذي يروي التاريخ، ويُعزِّزه بسخريته من الأعداء الماديين للتقدُّم الديمقراطي؛ بل إن موتَهُ الباكر في الخامسة والأربعين كان — إلى حدٍّ ما — نتيجة للإجهاد الذي أصابه من جرَّاء حياته العامة الحماسية أثناء سنوات القحط، التي قوَّتْ من شوكتها الهجمات المتتالية على الديمقراطية وظهور «هتلر».

ولعل قصيدة «جثة جون براون» التي كانت أول ما لفت أنظار العالم نحو «بنيه» هي خير روايةٍ تاريخية أمريكية منظومة، قوية في تصوير أشخاصها، مؤثرة بإلمامها الملحمي لأعظم الحوادث، وسيطرتها على الموضوعات السامية التي تتعلق بالتسامُح والحرية التي يُرمَز لها في أساطير الحرب الأهلية «بجون براون» و«لنكولن». وإذا كانت هذه القصيدة بمثابة الإلياذة، فقد كانت «النجم الغربي» التي نُشِرَت بعد وفاته بمثابة الأوديسة، وهي قصة رائعة للمُستعمَرات البريطانية الأولى في أمريكا يُخلِّدُ فيها الحوادث والأشخاص والحوادث التاريخية، ويدعم فيها الفردية الشعبية، والحرية والمسئولية باعتبارها من الأُسس الأولى لديمقراطيةٍ تختلف اختلافًا تامًّا عن المجتمعات الأوروبية التي نشأ فيها المستعمرون.

أرادوا أن يربطوك بأغنية إنجليزية،
وأن يُحولوا مجرى حديثك إلى قصة إنجليزية،
ولكن الكلمات من أول الأمر شاردة.
وطرد الطائر الأمريكي البلبل البريطاني.

وفي قصصه الشعرية نجد أن الشخصيات نصف الأسطورية المعروفة في الحياة الأمريكية تُثير في الأذهان الخبرات الأمريكية الأولى التي وقعت عند السواحل، التي كانت السبب في بعض الصفات والخصائص وصنوف السلوك التي يتميز بها اليوم الأمريكيون، فهو يروي في «قصة وليام سيكامور» حكاية قاطع الأخشاب والمغامر المتجوِّل. وهذه ترجمة لمطلَع القصيدة الذي ينمُّ عن ميوله واتجاهاته:

«كان أبي جبليًّا.
معصمه مطرقة قوية،
سريع العدو كالغزال،
يتكلم بلكنة اليانكي.
بعضهم يرتدون التيل الرقيق،
وبعضهم يشبهون الأغصان.
وكان مهدي من فروع الصنوبر.
ارتدى جلد ليث جبلي.»

وكان «روبنسن» و«فروست» في صميمهما إنسانِيَّين لا مُصلحَين. كانا يهتمَّان بالفرد وبالمواقف التي تُكوِّن الشخصية أو تمتحِنها، كانا من حفظة تقاليد «إنجلترا الجديدة» فأُعجِبا بصفات الاستقلال، والوعي العقلي، والمسئولية؛ أي بالظروف التي ترغم الإنسان على أن يبذل قصارى جهده، ولم يعتقِد أحد فيهما أن هذه الصفات كانت في أول أمرِها مرتبطةً بطبقةٍ اجتماعية مُعينة، ولكنك — برغم هذا — لا تستطيع، كما يقول سكان «إنجلترا الجديدة» القدامى، أن تصنع كيسًا حريريًّا من أذن الخنزير. وشخصيات «فروست» ترجع إلى تقاليد البلاد العتيقة؛ المزرعة والغابة والقرية الصغيرة، حيث كان فروست نفسه في أكثر أيام حياته فلاحًا ومدرسًا حتى رحل إلى إنجلترا في سنِّ الثامنة والثلاثين لكي يجد ناشرًا لأول ديوانٍ من دواوين شعره. وقد أُتيحت له كالكثيرين غيره من سكان إنجلترا الجديدة المتواضِعين فرصة التعليم الجامعي، وكان أصدقاؤه وجيرانه من المثقَّفين، وإن كان ربما أشار إلى أحدِهم في قصائده كزارع تفاح، وإلى الآخر كفلاحٍ فقير يُدير أخوه مصرفًا من المصارف. أما «روبنسن» فقد كان أبوه تاجرًا لأنه من مين وليس من ماساتشوستس، فما في مجتمعٍ أشد تمدُّنًا في حضارته من المجتمع الذي نشأ فيه «فروست»، وشخصياته مُستمدَّة أساسًا من هذه البيئة. ولما رحل إلى نيويورك لكي يعيش فيها وجد أن ما تعلَّمه من الناس في إنجلترا الجديدة ينطبق أيضًا على الناس وعلى الحياة عامةً في نطاقٍ أوسع.

وأشد قصائد «روبنسن» تأثيرًا مآسيه التي يشمل كل منها كتابًا بأسره، مثل «ماثياس عند الباب»، والعقائد التي تستنِد إلى قصص آرثر الخيالية. وأشخاصه يميلون إلى الخطأ في الاختيار؛ فهم يخضعون لشهوة الحُكم الجارفة التي لا تعرف الحدود؛ أو للجشَع، أو للجبن، أو الحسد؛ أو إلى ضعف الرغبة في التحكُّم والسيطرة على حياة الآخرين، باحِثين دائمًا عن الأهداف المادية دون الأهداف الروحية. وهم يعرضون المبادئ الخلقية لفرص النجاح المادي «حيث يسوق المبذِّرون المبدِّدون رُفات أنصاف المجاهدين إلى القبور.» وهذه القصائد المطولة مُعقدة في مضمونها السيكولوجي، وفي فكاهتها، ولكنها تُقاس في قوَّتها إلى نظائرها من مؤلَّفات براوننج ومن ثم كان قراؤها أقلَّ عددًا من قراء موضوعاته المعروفة ودراساته للشخصية التي تبلُغ مداها طولًا. ومن بين هذه الدراسات كان الموضوع الذي نشره بعنوان «بن جونسن يُرحِّب برجلٍ من سترانفورد» دراسة ممتازة لشكسبير، وهو الرجل الذي لم يستطع أن يَقنَع بأبعاد حياته وحدود عبقريته، طامعًا في مزيدٍ من «طول القامة»، في حين أن العنكبوت — أو الموت — يتربَّص ليلتقِطه في شِباك جناحه، أو كما يوجِّه القول إلى «بن جونسن»:

«هذه هي الطبيعة، أُمُّنا الرءوم،
هي الطبيعة، وهي لا شيء، كلها لا شيء،
إنه عالم يعود فيه إلى نفس التراب
كل حشرةٍ وكل أمير، كلٌّ في حينه.
والنجوم التي تُرصِّع السماء من قديم،
والتي تُنشِد معًا يا صديقي بن،
سوف تظلُّ تُغني نفس النشيد،
في غدِها كيومها.»

وهذا الجشع — وهو من صفات البشر — للسلطة الأبدية التي لمسَها «روبنسن» في «شكسبير»، أعيد التعبير عنه في صورة ملحمة تتَّفِق وعصرها الحضاري في كتابه «مرلين» ١٩١٧م، و«لانسلوت» ١٩٢٠م، وهذه القصائد الرائعة لها ما كان لقصص «آرثر» من تأثيرٍ بالِغ، وهي تحذو حذوها، ولكنها — إلى جانب ذلك — تعبير قصصي عن الفشل الروحي للقيادة في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فقد تخلى «مرلين العجوز» — صاحب الفضل على «آرثر» في اعتلائه العرش، ومُستشاره السياسي — عن واجبه إزاء «آرثر»، وآثر عليه حُبَّه المشبوب لفيفيان، ثم عاد — بعد الأوان — إلى «عالم في النزع» نجد فيه عاطفة «لانسلوت» و«الملكة جنفير»، وما تلاها من دسائس وإراقة دماء الفرسان المنافِسين قد أودت بحضارة «آرثر».

أما «ترسترام» التي ليست لها علاقة بموضوع «آرثر» الذي استغله «روبنسن»، فهي إحدى المآسي الشديدة المؤثرة، التي تتمخَّض إما عن إعادة الحياة أو الموت. وقد كتبها الشاعر في العشر سنوات الأخيرة من حياته. وتظهر هذه المآسي أيضًا في بعض القصص القصيرة البارعة التي كتبَها «روبنسن». ومن ثم فإن «كافندر» و«نايتنجيل» و«ماثياس» وهي شخصيات المآسي الشعرية الكبرى تتمثل إلى حدٍّ ما في «رتشارد كوري» وهو من أعيان الريف، وهو ذلك الرجل الذي «لو حيَّا الناس بتحية الصباح لنبضت عروقهم»:

«وكان غنيا؛ أغنى من الملك.
تعلَّم النُّبل بشكل يدعو إلى العجب.
كنَّا — بإيجاز — نظنه كل شيءٍ.
نتمنَّى لو كنَّا في مكانه،
فواصلنا العمل؛ في انتظار النور.
نلعن الخبز الذي نأكله بغير إدام.
وذات مساء هادئ في الصيف،
عاد إلى بيته رتشارد كوري،
وأفرغ في رأسه رصاصة.»

وكان «روبنسن» يُدعى شاعرًا باردًا. وبإمعان البحث يتبيَّن لنا أن عاطفته كانت — بسبب كبتِها — أشد حرارة، كما كانت فكاهته، التي تميز بها كما يتميز كل ذي موهبة دراسية عُظمى. وفي مقطوعته «تالفر» نجد أن «كارين» تُوقع في شباكها «دكتور كويك» بجاذبية جِسمها الكبرى، ولكنه يجِدها عقلًا باردًا «مُتنكرًا»، «إنها كالسمكة المصنوعة من العاج، تسحر الرائي، ولكنها لا تلِد ولا تحيا ولا تصلُح غذاءً.» ولم يستطع أن يتخلَّص منها إلا في أكسفورد، حيث ارتدَّت في يسرٍ إلى الماضي مُذ وقعت عيناها على الأبجدية الإغريقية.

أما قصائد «روبرت فروست» فهي في عمومها قصيرة، تخدع القارئ ببساطتها الظاهرة، وهو يُسمِّي نفسه «الرجل الذي يُطلِق الجزء على الكل، فهو يُشير بالجزء إلى الكل لأن من طبيعة الشعر، أن يُذكِّرك بما لم تعلَم بأنَّك تعلَمه.» وكثيرًا ما تكون هذه الدقة في التعبير صلةً بين الإنسان والطبيعة التقَطَها الشاعر عرضًا؛ ففي قصيدة «يد الفأس» نجد صانعًا ريفيًّا مُتواضعًا يناقش تربية أبنائه في الوقت الذي يعرض فيه على الشاعر يد الفأس التي بلغت غاية الإتقان والتي صنعَها بيدَيه فسوَّى الخشونة الطبيعية في فرعٍ من فروع شجرة الجوز يُلائم الغرَض أيما ملاءمة. والقصيدة أصلًا جزء من كلٍّ لا يتم إلَّا في عقل القارئ، ومغزاها تشكيل الطبيعة بالخبرة حتى تتفق مع الصفات البشرية، أو كما قال الصانع:

«أرادها دقيقة كالسوط،
تخلو من كل عقدةٍ،
تستطيع مقاومة الانحناء،
كالسيف يتثني على ركبة الإنسان،
وأراني كيف أنَّ سطح اليد الجيدة
كان بطبيعته خشنًا قبل أن تسوِّيَه السكين،
وكانت به التواءات طبيعية،
لم تصبه من خارجه،
ثم كانت في اليد تلك القُدرة التي تُقابل مشقة العمل،
وقد سوى فرعها الطويل الأبيض
من طرفٍ إلى طرف
بيده الخشنة التي أطبقت عليه.»

إنها قصيدة عن التربية، ولكنها أيضًا قصيدة عن الفن، وقد قال «فروست» مرةً إن «الفن يُعطي الحياة شكلًا.»

وهكذا نرى أن قطعةً من الخشب مُلقاةً في قلب الغابة، إذا أُحسِن قطعُها ثم أهملت حتى تآكلت باتت رمزًا لتبذير الإنسان، حتى يسطع ضوءٌ مفاجئ يُعبر الشاعر عنه في المقطوعة التالية فيمحو كل طاقة — سواء كانت لدى الإنسان أو في الخشب المتآكِل — بتقتيرٍ من الطبيعة يُسمِّيه الإنسان الموت.

«وحسبتُ أن الرجل الذي يعيش ليؤدِّي عملًا جديدًا
هو وحدَه الذي يستطيع أن ينسى
صُنع يدَيه الذي أنفق فيه عمره،
وينسى جهد فأسه،
ويلقي بها بعيدًا عن موقدٍ نافع؛
لكي تُدفئ مُستنقعًا مُتجمدًا جهد طاقتها،
باحتراقها بفعل التآكل،
احتراقًا بطيئًا لا يعلو منه دخان.»

ومهما اتجهَت مقطوعاته الغنائية نحو الطبيعة، فقد كان موضوعه الأصيل دائمًا هو الإنسان، ففي قصيدته «اثنان ينظران إلى اثنَين» نجد أن الغزال والظبية غاية في الجمال وسط الغابة، ثم بعد أربعين سطرًا تقع القصيدة الحقيقية في السطرَين الأخيرَين، حينما يتطلَّع الغزال وظبيته إلى ما وراء سور الغابة فيجدان عيون عشاقٍ من البشر ترقبهما:

«كأن الأرض في مكانٍ طيبٍ غير منظورٍ،
تؤكد لهما أن الدنيا تستجيب لعشقهما.»

والقصيدة كما عرفها «فروست» «تبدأ بإشاعة السرور وتنتهي بالحكمة»، وهي تدفع بالإنسان دائمًا على الأقل إلى أن «يقف وقفةً قصيرةً في وجه ما يحيط به من اضطراب.»

وأمثال هذه القصائد يتَّصِل دائمًا بالموضوعات الاجتماعية ولو إلى حد، بيدَ أن الهدف الذي يرمي إليه «فروست» كثيرًا ما يكون مُحددًا قويًّا مؤكدًا، فقصيدة «إصلاح الحائط» تنبع من صميم معرفته بوسائل الطبيعة «التي لا تحب الحواجز، والتي تريد أن تُحطم كل سور!» ولكنه عندما نشر القصيدة في عام ١٩١٤م في بداية الحرب العالمية، كان الفلاح فيها نذيرًا قويًّا بالشر:

«يقبض بكلتا راحتَيه على حجرٍ،
مُتسلحًا به كالرجل المتوحِّش في العصر الحجري القديم.»
ويكرر بغير رويةٍ قول آبائه:
«الحواجز الطيبة تخلق الجيران الطيبين.»

وكانت هذه في الواقع قصيدة تُعالج الحرب علاجًا طبيعيًّا. ولعل قصيدته «النار والجليد» التي كتبَها فيما بين الحربين، أشد من هذه صراحةً. يقول:

«من الناس من يعتقد أن الدنيا ستنتهي بالنار،
ومنهم من يقول ستنتهي بالجليد.
وممَّا خبرتُ من رغبات البشر،
أعطف على أولئك الذين يؤثرون النار.
أما لو هلكت الدنيا مرتين،
فإني أظن أن معرفتي بالبعض تكفيني أن أقول:
إن الجليد يصلح أيضًا للدمار،
وهو في ذلك عظيم.»

وفي اليوم الذي يتوقَّف فيه بقاء العالم على اختيار البشرية بين قانونين من قوانين الطبيعة:

«القانون الطبيعي للجشَع والبغضاء،
أو القانون الطبيعي للمحبة.»

فإني أعتقد أننا نستطيع بحق أن نختتم ملاحظاتنا بهاتَين القصيدتَين، اللتَين نظَمهما شاعر قرأ كتاب الطبيعة قراءةً حكيمةً، وطالعه حتى النهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤