الفصل السابع

الشعر واللغة

بقلم نورمان هولمز بيرسن

إذا كانت الحركة الطبيعية هي الدافع إلى أدبٍ أمريكي حديث قوي، وإذا كانت قد أمدَّت هذا الأدب بكثيرٍ من مادته، فقد كان ينقُصها الشكل الملائم واللغة المناسبة لكي تمكن هذا الأدب من التعبير الكامل باعتباره فنًّا من الفنون. وكما ذكر «إدمند ولسن» في كتابه «قلعة آكسل» الذي نشره عام ١٩٣١م كانت هناك حركةٌ ثانيةٌ — تُسمَّى أحيانًا بالرمزية وأحيانًا أخرى بالتحليلية — هي التي قدَّمَت التوازُن المطلوب، ومكَّنت الأمريكي في العشرينيات والثلاثينيات من أن يضع خبرته بالعالَم الحديث في أعمالٍ لها أهميتها في الفن الأدبي.

والكتاب الذي يُمثل أكثر من غيره ولوج الكاتب الأمريكي في القرن العشرين هو «تربية هنري آدمز»، فهذا الكتاب الأمريكي الحديث الذي يسير على القواعد الكلاسيكية، والذي كُتِب في عام ١٩٠٥م هو تاريخ حياة رجل بقلمه، ظن أنه ولد في جو القرن الثامن عشر، جو جده الأول وجده الثاني (وكان كلاهما رئيسًا للولايات المتحدة) ثم تدرب في القرن التاسع عشر على مسئوليات القرن العشرين، وقصته تُشبه قصة الولايات المتحدة ذاتها، فالولايات المتحدة — كأمَّةٍ — وُلِدت في القرن الثامن عشر، واشتدَّ ساعدها في القرن التاسع عشر، ولكنها في عام ١٩٠٠م وجدت نفسها عند أعتاب ما لم تألفه. ولو أن طبيعة المذهب العقلي وتطوُّره في القرن التاسع عشر بقِيَت ثابتة لكان القرن المتوسط فترة ازدياد الثقة الفكرية في استخدام العقل، ولو بَقِي تعريف الواقع والطبيعة كما هو، لتعلَّم الفرد ما تقومان عليه من قواعد وأصبح أستاذًا في تطبيقاتهما، وكتاب «تربية هنري آدمز» يبين محنة الرجل الأمريكي الحسَّاس، الذي يشعر أن عالمه الجديد كان جديدًا حقًّا.

إن بداية قرنٍ جديد في تقديم الزمن جعلت الكثيرين من الكُتَّاب الأمريكان الجادِّين يُدركون مدى التطوُّر الذي حدث إدراكًا واقعيًّا. أدركوا أن القرن الثامن عشر كان عصر الإيمان بالنظام في العالم. أما ما واجهه «هنري آدمز» في مُستهل القرن العشرين فهو انقلاب غير معقولٍ للبديهيات والتعريفات القديمة. وهذا الانقلاب الجديد جاء مُكتسحًا وعلى عجلٍ أشدَّ مما جاء الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة. تزحزح المنطق الأرسطوطيلي من موضعه، وانتهى عهد هندسة إقليدس فيما يتعلق بالمكان، وفقدت طبيعة «نيوتن» أوَّلِيتها، وأخذت حقائق الطبيعة تتعرض على الدوام لإعادة تحديدها لما استحدث في الجيولوجيا والكيمياء وعلم الأحياء والفسيولوجيا والطبيعة والبصريات وعلم النفس. ولم تعد قوانين الكون القديمة كما كانت، ولم تعد كافية لتفسير ظواهر الطبيعة. وإذا تحدثنا عن هذا الموقف بالإشارة إلى الكتابة الجدية، أمكننا أن نقول إن الاستعارات الأدبية التي كانت تتوقَّف على التعريفات القديمة لحقائق الطبيعة أمست الآن غير صالحةٍ. وقد حدث هذا لأنها لم تَعُد تقرأ كاستعارات، وإنما تُؤخَذ على أنها تعابير تُناظر الحقيقة حرفيًّا، وتطلبَت الاستعارات الجديدة لغةً جديدة تأخذ في اعتبارها المقاييس الجديدة للحقائق، واللغة الجديدة أيضًا تطلَّبَت من ناحية أخرى استعاراتٍ جديدة.

تعلم رجل القرن العشرين أن يرى رؤيةً مختلفة كما رسم له «سيزان»، وأن يستمِع بطريقةٍ مختلفة كما فعل «شنبرج»، وأن يُفكر بطريقةٍ أخرى، بالمنطق الرمزي غير الأرسطاطيلي كما علمه «هوايتهد»؛ وبهذه الاتجاهات الجديدة كان لا بد للكاتب في القرن العشرين أن يجد طريقةً أخرى للتفاهُم إذا أراد أن يمثل طبيعة ما أصبح الآن يُعتبر حقًّا في كل مكان. ونستطيع أن نرى كيف حدث هذا التطوُّر في التعبير الأدبي في الكتابة الأمريكية في ثلاثة كُتَّاب ذوي نفوذ يُعتبرون مثالًا للاتجاه الجديد: وهم «جرترود ستين»، و«عزرا باوند»، و«ت. س. إليوت»، فإن أدبهم كان يستحيل أن يُكتَب في أيِّ عصرٍ سوى عصرنا، وطريقة ترتيبهم للألفاظ في الجملة لا تُعبر عن مزاج القرن العشرين فحسب، بل تُعبر أيضًا عن عقل القرن العشرين.

ومما لا مراء فيه أن الأمريكيين في بداية هذا القرن وفي السنوات الأولى منه كانوا يحسون بلوغهم سن الرشد. وكان هذا ازديادًا في إدراك تطوُّر لغة أمريكية فذة. ولم يَعُد الأدباء الأمريكان مُستعمَرين ثقافيين، وأضحَوا أحرارًا، حرَّرتهم اللغة لكي يكونوا أنفسهم، كما ينبغي أن يتحرَّر الأدباء جميعًا في كل زمانٍ.

وقد عبرت «جرترود ستين» عن هذا الشعور بالتحرُّر اللغوي في مقالٍ لم يُنشَر بعدُ عنوانه «اللغة الأمريكية والأدب». وما قام به الأمريكان، وما كانوا يستطيعون القيام به، لم يكن تعديل اللغة الإنجليزية أو تغييرها وإنما أرادوا أن يجعلوا لها إحساسًا آخر، حتى تستطيع أن تقصَّ قصَّتَها بطريقَتِها الخاصة، مُستخدِمة — كما قالت الكاتبة في مكانٍ آخرٍ — نفس الألفاظ التي يَستخدِمها الإنجليز. غير أن الألفاظ تُعبِّر عن شيءٍ مختلف كل الاختلاف. هذا هو التحرُّر الحتمي الذي أحسَّت به «ستين» عندما بدأت تكتب في أعقاب القرن التاسع عشر. قالت: «وجدتُ نفسي في دوامة من الكلمات، كلمات مُلتهبة، وكلمات مُطهرة، وكلمات محررة، وأخرى شاعرة، وكل الكلمات ملك لنا. وكان يكفي أن نضعها بين أيدِينا لكي نلعب بها؛ وكل ما تستطيع اللعب به فهو ملك لك.» وكانت هذه هي بداية المعرفة، معرفة الأمريكان جميعًا، المعرفة التي تستطيع اللعب، واللعب بالألفاظ، والألفاظ كلها ملك لنا، وهكذا — كما قالت الكاتبة — وُلِد جيل جديد من الكُتَّاب الذين لا يُفكرون في لغةٍ أمريكية. فقد كانت اللغة لُغتهم، ملكًا لهم، وهذا كل ما كان بشأن اللغة، يتغنَّون بها أثناء اللعب سواء كان الكاتب «شروود» أو «أندرسن» أو «همنجواي» أو «فوكنر»، كل منهم كان يملك اللغة، وماذا عساهم الآن فاعِلين بها، هذا هو السؤال الذي كانت تجب الإجابة عنه.

ماذا عسى الأمريكيين أن يفعلوا بها؟ حقًّا إنه لسؤال يدعو إلى الحيرة. إن ما كانت تسعى إليه «مس ستين» لم يكن اصطلاحًا وطنيًّا فحسب، إنما كان كذلك اصطلاحًا معاصرًا، وهذان الاصطلاحان معًا سينتِهِيان إلى اصطلاحٍ شخصي. هذا الإحساس بأن يكون المرء نفسه في القرن العشرين هو الذي يجعل هؤلاء الكُتَّاب الأمريكيين شائقين بالنسبة إلى الكُتَّاب في أي مكان آخر، يريدون هم أنفسهم — إن عاجلًا أو آجلًا — أن يلِجوا وعيَ الحاضر. وعندما تجاهد «جرترود ستين» لكي تُحقق حاضرًا ثابتًا في نثرها فهي تمثل بالطريقة التي تؤلف بها نصوصها ما كان «برجسون» و«هوايتهد» يجاهدان في سبيل تحقيقه فلسفيًّا بالنسبة إلى آنية الزمان. وباتباعها التقدُّم الجديد في علم النفس التجريبي كما تعلمته على «وليام جيمس» في كلية راد كلف، كانت تكتشف ميدانًا جديدًا من ميادين الواقعية لا تعرف فيه الإنسان بوصفه وإنما تعرفه بعمله: فالشخصية لا تصوَّر في صيغٍ أخلاقية وإنما تصور في أفراد كل وفق سلوكه.

تقول «مس ستين»: «معنى أن تفهم الشيء أن تكون على صِلة به، ويستطيع العقل البشري أن يكون على صلة بأي شيء.» وهذه طريقة من طرق الكتابة. ومن الأمثلة الأولى لذلك قصتها القصيرة «ميلانكثا» التي كتبتها في عام ١٩٠٤م-١٩٠٥م وسمَّتها باسم «الفتاة الزنجية» التي جعلتها بطلة القصة. وفيما يلي وصف للفتاة مع «جيف»، وهو طبيب زنجي يطلُب يدَها:

«جلس «جيف» هناك ذلك المساء في مقعده، وظل صامتًا لفترةٍ طويلةٍ، يلتمس الدفء بالنار اللطيفة، ولم يصوِّب نظره نحو «ميلانكثا» التي كانت ترقُبه، وإنما جلس هناك واكتفى بالنظر إلى النار. وكان وجهه الأسود العريض باسمًا أول الأمر، وكان يمسح ظهر يدِه البُنِّية القاتمة على فمه لكي تُعينه على الابتسام، ثم استرسل في التفكير، وقطب جَبينه، وفرك يدَيه بشدَّة، لكي يستعين بذلك على التفكير، ثم ابتسم مرةً أخرى، ولكن ابتسامته الآن لم تكن سارةً، وإنما كانت تتردَّد على حافة السخرية، وأخذت ابتسامته تتحوَّل شيئًا فشيئًا، ثم بدا عليه كأنه مكتئب ساخط. وأظلم وجهه، وابتسم ابتسامةً مريرةً، ثم شرع — دون أن يرفع نظره عن النار — يخاطب «ميلانكثا»، التي أمست مشدودةَ الأعصاب من طول المراقبة.»

ماذا كانت تفعل «مس ستين»؟ إنها كانت تكتب، وتلقي درسًا في الكتابة، فقد كان «جيف» أولًا يستدفئ، ثم أخذ يبتسم، ويمسح يدَه، ثم يفكر، ثم يتردَّد، ثم يسخر، ثم يتكلَّم بمرارة. هذا هو الإنشاء، وهذه هي الكتابة حقًّا، أو كما قال «همنجواي»: هذا هو تتابع الحركة والوقائع التي بعثت العاطفة، هذا كله هو التوتر الذي نشأ عن مراقبة «ميلانكثا». وتقول «مس ستين»: «كان لا بد للكاتبة أن ترد العُمق إلى اللغة.»

«وأحبته «ميلانكثا» من أجل ذلك دائمًا، أحبت «جيف كامبل» في هذه اللحظة — وهو الرجل الذي لم يفعل معها القبيح قط، كما فعل دائمًا كل من عرفت من الرجال قبل، واشتدَّ الحبُّ بينهما من أجل ذلك، ومن أجل هذا الشعور الجديد الذي أحسا به الآن في أيام الصيف هذه، الطويلة الحارة. كانا دائمًا معًا.»

كان عمق الشعور (وهو ما يُسميه «هنري جيمس» مقدار «الحياة المحسوسة» الذي يحتويه العمل الفني) هدفًا في الكتابة الأمريكية الجادة في القرن العشرين، لأن مثل هذا العُمق إذا تحقَّق يجذب القارئ إلى موضوع الكتابة المباشر. وليس معنى المباشرة أن ينفصِل المرء عن الزمان، إنما معناها الارتباط الوثيق بين الموضوع والقارئ الذي يستشعِر هذه المباشرة. إنها تَصِله فورًا بالإحساس بالعالمية.

والبحث عن العالمية — في هذه الظروف الأدبية — ليس فرارًا من الزمان والمكان إلى برجٍ عاجي مُكيف الهواء، وتأثير ابتعاد القارئ في برج عاجي من ظروفه ومن رفاقه يؤدِّي إلى ما أسماه «عزرا باوند» في قصيدته «هيو سلوين مو برلي» الغربة الأدبية النهائية، والفنان الذي ينتحي بهذه الطريقة لا يقدر على:

شيء — باختصار — سوى اعتراف فاتر،
وجمود إزاء اعتداء البشر،
وسط الاندفاع، وهبوط المنِّ الذي لا يُحَسُّ،
رافعًا صوته الضعيف الهامس،
مُناديًا من قلبه «المجد لله».

وليست شخصية «مو برلي» بطبيعة الحال هي «باوند» نفسه. وقد شرع قبل عام ١٩١٥م في تأليف قصائده ذات الأثر البالِغ، فلمَّا حل عام ١٩٢٠م كانت «القصائد» هي غاية جهده. وكغيره من الكتاب اهتمَّ قبل كل شيءٍ بالألفاظ وترتيبها. وكان يُدرك — شأنه في ذلك شأن كتاب القرن العشرين — أن شيئًا قد ألمَّ باللغة لا بدَّ من إصلاحه.

يقول: «إن خداع اللفظ يبدأ باستخدام الكلمات التي لا تتفق والحقيقة، والتي لا تعبر عما يريد لها المؤلف أن تعبر.» ويحب «باوند» أن يُردِّد إجابة «كنفيوشس» على السؤال الذي وجه إليه: أي شيءٍ يوليه اهتمامه الأول إذا أصبح رئيسًا للحكومة؟ وكان جوابه: «أن أُسمِّي الناس والأشياء بأسمائها الصحيحة الصادقة.» وهذه هي المشكلة الأولى للفنان أيضًا، يقول «باوند»: «الفنانون هم بمثابة الأعضاء الحساسة للجنس البشري، وما أنهاك عنه هو أن تفرض أنه إذا كان بالفنون خطأ ما، فهو خطأ في الفنون وحدَها، إذا أصيب أحد الهرمونات سرَتِ الإصابة في التكوين كله.» ويعيد «باوند» في قصائده قوله: «إن الجمال أمر عسير.»

وبدت القصائد عسيرة لأولئك الذين لم يُحبُّوا الخطو في القرن العشرين. إنها تكون نوعًا من أنواع الملاحم التي تروي قصة بحث الإنسان عن النظام، أو ما أسماه الإغريق «كالون»، أي النظام والجمال. ومثل هذا الهدف الذي يقصده الجمال يُعبَّر عنه بواسطة الفنون، وبواسطة السياسة، وعن طريق الاقتصاد، والموسيقى، والقانون، والأدب، وعن طريق كل تعبير عن الانسجام يظهر بمظهر جديدٍ لكل عصرٍ باصطلاح هذا العصر. والبطل الرحالة لا يستثني التاريخ من سجل معارفه، فهو ليس بالفنان الساذج، وليس التاريخ حدثًا مضى، وتمَّ ختامه، إنما هو حدث حاضر بدليل أن البطل يذكره الآن في عقله، مرتبطًا رباطًا لا فكاك منه بكلِّ أمرٍ آخر يدخل في دائرة علمه. كما أن الخبرة الواقعية والخبرة المنقولة يعيشان جنبًا إلى جنب، والرمز يؤدي إلى الاستجابة الواعية وغير الواعية في تتابعٍ غير مُتوقَّع وتدفق مستمر. والتفكك الظاهري في تتابع الحوادث في قصائد «باوند» يمثل في الواقع تدفق أحاسيس البطل، إنه لم يتخلَّ عن المنطق؛ وإنما استبدل به منطق الخيال؛ ومن ثم فإن الشبيه — في طريقة «باوند» — قد يتلو الشبيه، وقد يُبايِن غير الشبيه. والجمال قد يُوحِي بالجمال أو بالفوضى، والثقافة قد تُحاور ثقافةً أخرى: سواء كانت ثقافة كلاسيكية، أو ثقافة النهضة، أو ثقافة صينية، أو أمريكية فيدرالية قديمةً من أيام أسلاف «هنري آدمز»، أو ما يُعاصرنا، والرموز الشخصية تبرز جنبًا إلى جنبٍ إلى جوار الرموز التقليدية، كلاهما يُحدِّده ما يُسميه «باوند» «صوت الأمة من بين شفتي رجل واحد».

من هو الرجل، من هو بطل القرن العشرين هذا؟ إنه بمعنى من المعاني لا يمكن أن يكون إلا الفنان نفسه، يتحدَّث عما يعرف. غير أن مشكلة الكاتب اليوم — في عالمٍ تتضاءل فيه المسافات — هي إيجاد البطل الذي يستطيع أن يمثل الجنس البشري كله، ومن ثَم فإن بطل قصائد «باوند» هو فرد يمثل كل إنسانٍ حقًّا، ويتحدَّث وفي قلبه كل الأساطير وعلى شفتَيه كل لسانٍ. إنه مثل أوديسيس في الأوديسا ﻟ «هومر»، ومثل «دانتي» في الكوميديا الإلهية، وكالإنسان الحديث نفسه في مأساته الشخصية الخاصة، وهو ينتقل من جحيم الخبرة التاريخية إلى مُطهِّر التأمُّل. ثم — بعد أن يتعلم تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة — يُدرك الفارق بين الخير والشر وبين الجمال والفوضى، ويكون على استعدادٍ لأن يعيد بناء مدينة الإنسان المثالية التي تمثل صورتنا عن الفردوس.

وكذلك «ت. س. إليوت» — في «الأرض الخراب» — استخدم كما فعل «باوند» لغاتٍ عديدة وإشارات من كل صقع. كما استخدم نفس المنطق المشترك، منطق الخيال، يُعبر به عن النظام المفقود والجمال الزائل، وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون «إليوت» كذلك أمريكي المولد، لأن طبيعة الخبرة الأمريكية ذاتها تجعل مثل هذا الأسلوب من أساليب التعبير أمرًا طبيعيًّا؛ ذلك أن الأمريكي ليس منطويًا تمام الانطواء تحت تقليدٍ واحدٍ موروثٍ يستبدُّ به. فقد جاء المستوطنون في أمريكا بعددٍ عديد من اللغات وباتجاهات ثقافية مُتنوعة مما جعل تمثُّلها أمرًا يسيرًا نسبيًّا. وعند مجابهة هذه المشكلة، مشكلة التمثيل الثقافي، كان موقف الكاتب الأمريكي مُقدِّمة للموقف الراهن للكُتَّاب في البلدان الأخرى، لأن اضطرابات حربَين عالميتَين، وانهيار القِيَم القديمة والمعايير السالفة المستقرة، وإقحام مؤثرات ثقافية جديدة من أقطارٍ أخرى، أدَّت بالكتاب كذلك في كل مكانٍ إلى تلك الفوضى المحيرة التي رأى رجل مثل «هنري آدمز» ميلادها في القرن العشرين، فكان لا بد أن يستهدفوا مزجًا جديدًا بين الصفات المحلية والصفات الدولية.

وقد حذا الكُتَّاب الآخرون حذو الكاتب الأمريكي، وربما شجَّعَهم أمثاله، فشرعوا في البحث عن تحرير اللغة والقواعد التي يَعرضون بها ظروفهم الخاصة. ومن المحتمَل أن يجد أمثال أولئك الكُتَّاب — كما وجد هؤلاء الكُتَّاب الأمريكان — أن التفرقة التي فرضتها التقاليد بين النثر والنظم قد زالت، كما أن الحواجز الثقافية قد زالت كذلك. فقد أمسى كُتَّاب النثر والنظم يعتمِدون على مُقتضيات منطق الخيال الذي يجمع بين الرموز العامة والرموز الشخصية دليلًا على دور الفرد الذي لم يَعُد منه مناص، وأصبح اهتمام الكاتب الأول — في أية حالةٍ من الحالات — هو الألفاظ وترتيبها. وأضحت معرفة الألفاظ معرفةً صحيحة، ثم ترتيبها — في عصر يبحث عن النظام — عملًا مُقدسًا وفلسفيًّا كما هي أيضًا قدرة على التعبير عن الجمال، ومن ثم فإن الحركة النهائية في كل رباعية من «الرباعيات الأربع» ﻟ «إليوت» تتعلق بموضوع اللغة: «إن الكلمات تتوتر، وتتشقَّق، وتنهار أحيانًا تحت ثقل العبء الذي تحمله»، ومع ذلك فقد جاء في خاتمة «جدنج الصغير» ما يلي:

«إن ما نُسمِّيه البداية كثيرًا ما يكون هو النهاية.
والانتهاء معناه الابتداء.
النهاية هي التي منها نبدأ.
وكل عبارةٍ وكل جملةٍ على صوابٍ.
(إذا كانت كل كلمةٍ في محلها،
تأخذ موضعها لتُعزِّز غيرها،
واللفظة لا تتوارى ولا تتباهى،
صِلة سهلة بين القديم والجديد،
كلمة مألوفة مضبوطة بغير ابتذال،
كلمة صحيحة دقيقة بغير حذلقة،
والجوقة بأكملها ترقص معًا).
كل عبارةٍ وكل جملة نهاية وبداية.
وكل قصيدة موعظة حكيمة.»

إن نهاية التجربة؛ تجربة أي عصرٍ من العصور، هي حيثما نبدأ التأمُّل فيها، هي بداية الفهم الذي يعبر وينظم، ولا مفر من أن يكون التنظيم جديدًا ولا مناص من أن يكون النغم حديثًا، ومن أجل هذا جعل الكُتَّاب من أمثال «مس ستين»، و«باوند»، و«إليوت»، حتى فن الكتابة موضوعًا للكتابة لأن فن الكتابة يتأثر بالزمان والمكان، ويتضمَّن حرية الكاتب في التعبير عن نفسه. والكاتب الأمريكي الجاد — وهو يجاهد في سبيل النجاح — كان دائمًا مُتفائلًا، من الناحية الفنية على الأقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤