الفصل العاشر

عشتار المخلِّصة

لم يمر على الإنسان وقت لم يكن فيه مأخوذًا بفكرة خلود الروح، والخلاص من عالم المادة إلى عالم آخر ذي طبيعة مغايرة. فقبل ظهور «الإنسان العاقل» الذي تعتبر البشرية اليوم استمرارًا له، كان الإنسان النياتدرتالي الشبيه بالقرد يدفن موتاه وفق طقوس خاصة، ويضع في قبورهم بعض الطعام والشراب؛ مما يدل على اعتقاده بأن الموت ليس إلا معبرًا من حالة إلى حالة ومن عالم إلى عالم. كما تقدم لنا حفريات العصور الحجرية القديمة بينات كثيرة على طقوس واعتقاد مماثل.

ويبدو أن القمر كان منذ فجر الإنسانية مركزًا لمعتقد وطقس الخلود والخلاص. فالقمر الذي يجدد نفسه كل شهر في حركة دائمة، وينبعث من العالم الأسفل جديدًا كلما هبط إليه، إنما يضع أمام الناس مثالًا، ويهبه أملًا غامضًا في السير على منواله، والبعث بعد الهبوط إلى باطن الأرض. ولعلنا واجدون في معتقدات الشعوب البدائية للعصر الحديث بقية من معتقد الإنسان القديم ونظرته للقمر.

ففي الملايو، تعتقد بعض القبائل بأن انبعاث القمر الشهري هو الذي يحفظ حياة البشر على الأرض، ولذلك كانوا يقيمون الطقوس التي من شأنها مساعدته على الظهور ثانية، بعد الليلة الظلماء التي يغيب فيها في أعماق الأرض. وعندما يقوم الهنود الحمر برقصاتهم الطقسية في ليالي القمر ينشدون: كما يموت القمر ثم ينهض للحياة من جديد، كذلك نحن نموت ولكن الحياة الجديدة في انتظارنا. ويشيع لدى قبائل أخرى دعاء موجه للقمر يقول: هل لي أن أجدد حياتي كما تجدد أنت حياتك. وفي مدغشقر تقول الأسطورة إن البشر لما خُلقوا أول مرة خُيروا في أن يتجددوا كما يتجدد القمر فيخلدوا بذواتهم، أو أن يتجددوا كما تتجدد شجرة الموز؛ أي بتخليد نوعهم عن طريق بذورهم، فاختاروا النوع الثاني من الخلود، مفضلين الحياة الجنسية التي تهب البنين على جنة لا تربط المرأة والرجل برباط الجنس، تمامًا كما هو حال الرواية التوراتية عن آدم وحواء؛ اللذين خسرا الخلود الفردي مقابل الفعل الجنسي الذي يخلد النوع. وفي ميلانيزيا تقول الأسطورة: إن إلهة القمر الكامل أرادت أن تسبغ نعمة التجدد والخلود على البشر، ولكن أختها إلهة القمر الهلال قد حولت تلك النعمة إلى جنس الأفاعي (قارن مع ملحمة جلجامش). وفي أستراليا اعتقد السكان الأصليون أن البشر في مطلع عهدهم، كانوا يتجددون كما القمر فيبعثون في اليوم الثالث لموتهم.١

لقد رأى إنسان العصر الحجري في القمر إلهة خالدة قادرة على تجديد نفسها أبدًا، وقادرة على منح الخلود لعبادها، وعندما صارت إلهة القمر الخالدة إلهة للدورة الزراعية، تموت وتبعث سنويًّا لضمان دورة الفصول، بقي بعث عشتار أملًا للإنسان ببعث مماثل. فالإلهة التي هبطت إلى العالم الأسفل لتنتزع حياة النبات من غياهب الموت، فتهب البشر معاشًا في هذه الحياة، قد ذاقت الموت أيضًا لتهب البشر خلاصًا من الموت وبعثًا إلى عالم أفضل. إلا أن نعمة الخلود لم تكن مبذولة للجميع، كما لم تكن جزاءً يناله كلٌّ من أدى فريضة العبادة وطقوسها، وسار في خط الأخلاق القويم؛ بل كانت وقفًا على الخاصة ممن استطاعوا في هذه الحياة، ومن خلال رياضات روحية شاقة وطقوس سرية متاحة للقلة، أن ينتشلوا جوهر الروح من حمأة المادة، ويحققوا لقاء المتناهي باللامتناهي، الإنساني بالإلهي، في أعماق النفس الإنسانية، في تجربة تجعل من الوعد الآتي خبرة معاشة الآن والساعة.

ففي الديانات الرسمية لمعظم حضارات الشرق الأدنى وحوض المتوسط، لا نعثر منذ بدايات عصور الكتابة على اعتقاد واضح في وجود حياة ثانية وخلاص إلى عالم أفضل. فالموت كان نهاية الحياة الفردية، وأرواح البشر دون تمييز تذهب إلى العالم الأسفل، لتبقى هناك في حالة من الوجود الممض الثقيل، في جو مظلم مغبر ساكن، وزمن راكد لا جريان فيه ولا تغيير. هذه كانت حال العالم الأسفل في بلاد الرافدين، الذي أطلق عليه السومريون والبابليون اسم «كور» والإغريق اسم «هاديس». ولم يشذ عن ذلك العالم الأسفل التوراتي الذي أطلق عليه العبرانيون اسم «شيئول» أو «الهاوية» في الترجمات العربية. فالعبرانيون قد ساروا في تصوراتهم الأخروية على نسق التصورات السومرية والبابلية، وبقيت فكرة الخلود والعالم الآخر غامضة لديهم حتى ظهور المسيح الذي حرر الموتى وفتح أمام البشرية بوابة السماء؛٢ ففي الفلكلور المسيحي الذي اعتمد إنجيلًا منحولًا اسمه إنجيل «نيوكوديموس» يهبط المسيح بعد موته إلى العالم الأسفل؛ ليحرر الموتى وجميع الأنبياء المحتجزين هناك منذ زمن إبراهيم. وقبل ظهور نور المسيح في عالم الظلمات يشعر الموت بأن أمرًا ما سوف يحدث، فيلتفت إلى الشيطان يحدثه قائلًا: إنني لأشعر بمن ابتلعتهم منذ الخليقة يضطربون في جوفي، فبطني اليوم يؤلمني. وما إن أتم كلامه حتى بزغ من غياهب الظلمة نور أكثر سطوعًا من نور الشمس أضاء العالم الأسفل كله، وجلجل صوت كقصف الرعد قائلًا: افتحْ أبوابك الأبدية ليدخل إليك ملك المجد. فاضطرب الشيطان وأعوانه محاولين تدعيم بوابات العالم الأسفل، متسائلين: ومَن هو ملك المجد هذا؟ فأجابهم الأنبياء، وخصوصًا إشعيا والملك داود: إنه الرب الجليل الذي سيحطم بوابات النحاس ويكسر قضبان الحديد ليحرر المأسورين، وينير شعاب الموت المظلمة. ولكن يد المسيح تمتد إلى الشيطان قبل أن يستطيع صد البوابات في وجهه، ويسلمه إلى الملائكة الذين قيدوه وأطبقوا فمه، ثم يقوم بتحرير آدم والأنبياء والقديسين ويرفعهم معه إلى السماء.٣

إلى جانب هذا المعتقد الرسمي المرتبط بعبادة الآلهة الشمسية نجد معتقدات الخلاص والنشور إلى عالم آخر، قائمة في قلب الديانات العشتارية ذات الأصول القمرية. وقد بقيت هذه المعتقدات جزءًا من ديانات الخصب، تحافظ عليها وتمارس طقوسها ضمن حلقات ضيقة داخل الديانة نفسها، إلى أن استقلت هذه الحلقات مشكِّلة عبادات سرية خاصة بها، وهي عبادات الأسرار التي شاعت في الشرق القديم والعالم اليوناني-الروماني، خلال القرون القليلة السابقة لميلاد السيد المسيح. ورغم أن هذه العبادات قد تركزت حول آلهة الخصب ذاتها، إلا أنها قد جعلت من فكرة الخلاص مركزًا لمعتقدها وطقسها، مبتعدة عن معتقد الخصب الذي نشأت عنه، وتحول إله الخصب إلى مخلِّص للبشر من عالم المادة الفاني إلى عالم الروح الباقي. وتحولت طقوس الخصب السنوية إلى طقوس سرية مقتصرة على فئة قليلة، تهدف إلى تخليص أتباعها من الموت عن طريق التوحد بالإله الذي عرف الموت وانتصر عليه. ففي الوقت الذي كان يحتفل فيه أتباع ديانات الخصب ببعث روح الخصوبة لتدفع عنهم جوع عام آخر؛ كان أتباع ديانات الخلاص يحتفلون ببعث المخلِّص الذي يفتح لهم بوابة الأبدية. ورغم أن الفريقين كانا يحتفلان بنفس الدرام الإلهي القائم على دورة حياة إله الخصب، إلا أن أحداث هذا الدرام كانت تتخذ معاني سرية خاصة عند أتباع الأسرار، حتى إذا وصل الدرام نهايته، رفع ممثلو درام الخصب باقة طرية من سنابل القمح الذهبية، رمزًا لولادة إلهة الخصب من ظلام العالم الأسفل، ورفع ممثلو درام الخلاص نفس الباقة، رمزًا لولادة جوهر الروح الذهبي الذي لا يفنى.

إن ما نعرفه عن عبادات الأسرار قليل جدًّا مقارنة بأهمية تلك العبادات في الحياة الروحية للحضارات الكبرى وشيوعها الواسع، وذلك يعود إلى طبيعتها السرية والتكتم الشديد الذي فرضته على نفسها. فهي رغم كونها قد نشأت أصلًا في منطقة شرق المتوسط، ومنها انتشرت إلى العالم اليوناني-الروماني،٤ فإن جلَّ معلوماتنا عنها مستقًى من أشكالها الغربية. ولعل أهم ما تميزت به هو طقوس العبور initiation المفروضة على المريد الجديد الذي يستعد للانضمام إلى حلقة الجماعة الناجية، وهذه الطقوس تبدأ بنوعٍ من التطهير المادي الذي يعكس استعداد المريد إلى تطهير روحه من كل ما علق بها في مراحل حياته السابقة، وتجهيزها للمرحلة الجديدة. يلي ذلك طقس الموت الرمزي والبعث، حيث يتم تمثيل موت المريد ثم إفاقته من الموت، وذلك كناية عن فناء نفسه القديمة وانتعاش نفسه الجديدة المستعدة لتقبل الخلاص. وهنا تنتهي مرحلة العبور الأولى إلى أسرار الخلاص. ولكن مراحل أخرى في انتظار المريد قبل أن يصل إلى مرتبة العارف، ولكل مرحلة طقوسها الخاصة التي تؤمِّن عبوره إلى المرحلة التي تليها، وتعطيه معرفة جديدة وتفتح قلبه وروحه على عوالم نورانية جديدة. والمعرفة هنا ليست ذلك النوع من المعارف العقلية التي تقدمها المدارس الفلسفية لتلاميذها، بل هي عرفان نابع من الداخل، وخبرة روحية ليس لها معادل من كلمات مرصوفة، خبرة يحصِّلها المريد بجهده وكدحه وتوجيه من سبقوه في الطريق. فالأسرار ليست تعاليم دينية وعبادات، وطقوسها ليست هدفًا بحد ذاتها بل أدوات.
تقدم لنا الأسرار الإليوسية (نسبة إلى إيليوسيس، المقر الرئيسي لعبادة الإلهة ديمتر في اليونان) نموذجًا عن الأسرار العشتارية القديمة الصافية. وقد انحدرت الأسرار الديمترية من فترات موغلة في القدم سابقة على الحضارة الإغريقية، وورد أول ذكر مكتوب لها في ترتيلة هيوميرية تقول: إن الأسرار الديمترية قد أسست من قبل الإلهة نفسها، وأن المشاركين في تلك الأسرار هم المباركون الذين تفتح هذه الطقوس أمامهم بوابة الخلود.٥ وفي نص من مطلع القرن الرابع ق.م. نقرأ: لقد وهبت الإلهة ديمتر للبشرية شيئين عندما حلت في إيليوسيس؛ الأول نتاج الحقل الذي حول الإنسان عن حال الحيوان، والثاني طقوس الأسرار التي جعلتنا ننظر بأمل إلى نهاية الحياة.٦ إن معجزة نمو النبات من باطن الأرض وتناوب الدورة الزراعية بين الموت والحياة ليس إلا نموذجًا للمعجزة المقبلة؛ معجزة بعث الأرواح بعد الموت ورفعها إلى العوالم النورانية. لقد أخذ الإنسان ثمار الأرض من يد الموت، من هاديس إله العالم الأسفل الذي أشرنا سابقًا إلى أن اسمه يعني «واهب الخيرات»، ومن يد زوجته بيرسفوني التي ليست إلا ديمتر في وجهها الأسود الآخر. ومن يد الموت أيضًا سوف تعطي له ديمتر الحياة، عن طريق الطقوس السرية والخبرة التي يمر بها المشاركون في تلك الطقوس.
عرفت بلاد الإغريق نوعين من الطقوس الديمترية هما: الطقوس الصغرى والطقوس الكبرى. كانت الطقوس الصغرى تقام في كل عام احتفالًا بعثور ديمتر على ابنتها وصعود بيرسفوني من العالم الأسفل، وكان يغلب على هذه الطقوس طابع احتفالات الخصب. أما الطقوس الكبرى فكانت تتم مرة كل خمسة أعوام وهي مخصصة لديمتر المخلِّصة وأسرارها الإليوسية. فكان موكب المشاركين في الطقوس الكبرى ممن تم اختيارهم لدخول أسرارها والعبور إلى حلقة خاصة عبادها، ينطلق من أثينا مشيًا على الأقدام في طريقٍ طويل إلى إيليوسيس. وعند المرور قرب البحر كان المشاركون ينزلون في الماء لتطهير أنفسهم رمزيًّا من حياتهم السابقة، والاستعداد للحياة الجديدة التي تنتظرهم، كما كانوا يطهرون بالماء خنازير جاءوا بها معهم فيقدمونها قربانًا للإلهة. وفي إيليوسيس تبدأ طقوس العبور بعددٍ من الطقوس التمهيدية؛ منها تناول شراب خاص، وأكل نوع من الكعك المصنوع من الدقيق، وتمثيل دراما اختطاف بيرسفوني وعودتها ثانية. أما ما تبقى من الأسرار فقد بقي أمرًا غامضًا إلى يومنا هذا؛ لأن المشاركين فيها قد حاذروا دومًا من البوح بحقيقة ما كان يجري هناك،٧ ولكنهم بلا شك قد خبروا تجربة فريدة هزت كيانهم وبدلت حياتهم المادية والروحية. تقول إحدى التراتيل الديمترية عن طقوس العبور الكبرى: «لقد رأى النعمة الإلهية من شهد هذه الأسرار، وعاش في الضلالة من لم يشارك بها وسُدَّ في وجهه الطريق. تعيسًا يهبط إلى غياهب الظلمة والديجور.»٨ وتضع الأسطورة على لسان البطل هرقل، الذي مرَّ بأسرار إيليوسيس قبل نزوله إلى العالم الأسفل، قوله: «لقد نجحت لأني قد رأيت ما رأيت في إيليوسيس.»٩

إن تمثيل الدراما الإلهية في طقوس الأسرار أو تلاوتها من قبل المنشدين، إنما يتخذ في هذه الطقوس دورًا مركزيًّا أساسيًّا في التحضير لتلقي الحقائق الكامنة وراء كل عمل من أعمال الإلهة الممثلة في الدراما. وإن ما تحاول الأسرار أن تنقله للمريد المشارك، هو أن الأسطورة رغم شكلها الخارجي كتتابع لأحداث إلهية تروى في صيغة الماضي، فإنها حقيقة أزلية وحاضر مستمر حي لا يتحول أبدًا إلى ماضٍ ميت، وأن أحداثها تلك ليست إلا تعبيرًا عن حقائق جوهرية من حقائق النفس والروح والوجود الكلي. هنا فقط تستطيع الأسطورة أن تمارس دورها الفعلي كمعلم روحي، لا كقصة تصف أحداثًا تعاقبت في زمنٍ ما، لا تربطنا به رابطة. وهنا فقط يشعر المريد في الأسرار الديمترية أن الإلهتين حاضرتان معه الآن والساعة، وأنهما جزء لا يتجزأ من كيانه؛ لأنهما وحدة الحياة والموت في جسده وروحه، وتحول كل منهما إلى الآخر في حركة دائبة. لقد حاولت الأسرار الديمترية أن تعيد الوحدة القديمة بين الإله والإنسان، في زمن بدأت فيه الأسطورة بالتحول إلى لاهوت وتعاليم، إلى جثة هامدة لا بهاء فيها ولا ألق.

الابن المخلِّص

بعدما حلَّ الإله الابن محل الأم الكبرى كبطل رئيسي في درام الخصب السنوي، حلَّ محلها أيضًا كبطل رئيس في درام الخلاص، وصار الإله الذي دفعت به إنانا إلى العالم الأسفل من أجل ضمان استمرار الدورة الزراعية، إلهًا مخلِّصًا للبشر من ربقة الموت. لقد بذلت عشتار ابنها الوحيد من أجل خلاص العالم، ولسوف يستمر المعنى السري لهذه الأسطورة حيًّا في عبادات الأسرار، ويدخل عنصرًا أساسيًّا في المسيحية التي يتركز معتقدها وطقسها على هذه الفكرة. نقرأ في إنجيل يوحنا: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد؛ لكيلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.»١٠

وقد أخذ الإله الابن بالاستقلال تدريجيًّا عن الأم الكبرى في عبادات الخلاص، حتى صار في بعضها البطل الوحيد، يقود ملحمة الخلاص دون أم كبرى. وقد حصل هذا التطور في عبادتين رئيسيتين من عبادات الخلاص التي شاعت في العالم اليوناني-الروماني بين سنة ٢٠٠ق.م. وسنة ٢٠٠ ميلادية، وهما عبادة ميترا المخلِّص الشمسي الذي غزا الإمبراطورية الرومانية قادمًا من فارس (والذي قارعت عبادته السرية الديانة المسيحية الناشئة مدة قرنين من الزمن قبل أن تتراجع أمامها)، والعبادة الأورفية التي نشأت في قلب عبادة الخصب الديونيسية، ثم استقلت عنها وحولت إلهها ديونيسيوس من إله للخصب والكرمة والخمر إلى إلهٍ مخلِّص.

تنتسب النحلة الأورفية إلى «أورفيوس» نبي الإله ديونيسيوس المخلِّص، ومؤسس أسراره. تجعله بعض الروايات ابنًا للحورية «كاليوبي» دون أن تحفل بذكر الأب. ويغلب الظن أن أورفيوس كان شخصية دينية عاشت في مطلع القرن السادس قبل الميلاد، ثم رفعته الفرقة الدينية التي أسسها إلى مصاف الآلهة.١١ وتصور الأساطير الأورفية النبي الإله أورفيوس شابًّا جميلًا حالمًا ينشد أغانيه في البراري على ألحان قيثارته السحرية، فيأسر غناؤه كل المخلوقات، وتجتمع حوله الحيوانات من شتى الفصائل، والأشجار لتستمع إلى ألحانه التي كانت أيضًا تحرك الأحجار والصخور. أحب الحورية «أوريديس» التي كانت الأنثى الوحيدة في حياته، ولكنها ماتت قبل الأوان، فمضى أورفيوس يملأ الأرض أنغامًا حزينة، حتى رقَّ له قلب إله وإلهة العالم الأسفل اللذين أُخذا بسحر ألحانه، فسمحا له بالهبوط إلى عالم الموتى واستعادة حبيبته من هناك تحت شرط واحد، هو أن يقودها خارجًا بها دون أن ينظر إليها حتى وصولهما إلى العالم الأرضي. عثر أورفيوس على حبيبته ومشى بها عبر بوابات الجحيم، ولكن صبره نفد عند البوابة الأخيرة فالتفت إليها، وحالًا سحبتها قوى الموت نحو الأعماق من جديدٍ، فصعد أورفيوس وحيدًا ونذر على نفسه عفة فما اقترب من امرأة، إلى أن قتلته نساء تراقيا غيرةً وحسدًا ومزقنه إربًا، وألقين به وقيثارته إلى مياه النهر.١٢ وبذلك يلقى نبي ديونيسيوس نفس الميتة التي ماتها إلهه من قبله عندما مزق التيتان جسده إربًا، وتبقى عذاباته موضوعًا دائمًا لتفجع أتباع الأورفية، الذين بقوا يسترجعون ذكراها ويعيشونها في احتفالاتهم.

لكي نفهم فكرة الخلاص لدى الفرقة الأورفية، يتوجب علينا أن نفهم نظرية التكوين الأورفية في خلق العالم وظهور الآلهة والبشر؛ لأنها تقدم مفتاحًا للولوج إلى عالم الأورفية السري وتصوراتها الكونية والأخروية. تقسِّم الأسطورة الأورفية تاريخ الكون إلى ثلاثة أدوار تتطابق مع المراحل الثلاث التي مر بها الإله ديونيسيوس منذ العماء البدئي، إلى حادث موته وارتفاعه مخلِّصًا للبشرية. ففي البدء، كانت البيضة الكونية التي انشقت ليخرج منها ديونيسيوس-فانيس، أي ديونيسيوس المضيء أو حامل الضياء، الذي كان ذكرًا وأنثى في آنٍ معًا، وله رأس الثور وجناحان من ذهب، وفي داخله بذور الآلهة، وجميع مظاهر الكون التي ما لبثت أن انبثقت عنه. من أسمائه في هذه المرحلة «إيروس»، ومن أسمائه «ميتيس»، وكانت الإلهة «نيكس» أي الليل أول ذريته، فكان أباها وأمها في نفس الوقت. ثم أنجبت «نيكس» الأرض «جايا»، والسماء «أورانوس»، ثم «كرونوس». وهنا ينتهي الدور الكوني الأول ليبدأ الدور الثاني الذي يحكمه ديونيسيوس أيضًا تحت اسم زيوس. كان زيوس أعظم أحفاد ديونيسيوس-فانيس؛ ولكنه لم يتوصَّل إلى السلطان إلا بعد ابتلاعه للإله البدئي فانيس نفسه. لم يكن هذا الابتلاع بمثابة فعل همجي يمارسه حفيد صغير للاستيلاء على عرش الجد الأكبر، بل كان فعلًا طبيعيًّا ضم الوجود الاستاتيكي السكوني للإله فانيس، إلى الوجود الديناميكي الحركي للإله زيوس في كلٍّ موحد. فبعد هذا الابتلاع تبدأ معالم الوجود المادي المنظم بالظهور والتشكل. ثم يضاجع زيوس ابنته بيرسفوني وينجب منها ديونيسيوس-زاغروس. وقبل أن يشبَّ زاغروس عن الطوق يعهد إليه أبوه بحكم العالم الأعلى والعالم الأسفل معًا؛ الأمر الذي أثار غيرة التيتان فانقضُّوا على الطفل فمزقوه إربًا والتهموه. ولكن زيوس عاجلهم بصواعقه فأحالهم إلى رماد، ومن رمادهم خرج الجنس البشري الذي ينطوي في جبلَّته على شرٍّ متأصل ورثه عن التيتان، وعلى قبس من روح الألوهة ورثه عن ديونيسيوس الذي التهمه التيتان. وهنا ينتهي الدور الكوني الثاني ليبدأ الدور الثالث، دور ديونيسيوس-زاغروس المخلِّص. فالإلهة أثينا التي كانت على مقربة من مسرح الجريمة، قد استطاعت إنقاذ قلب الإله قبل أن يأتي عليه التيتان مع بقية الأعضاء، فحملته إلى زيوس الذي شق فخذه وحضنه فيه حتى اكتمل جنينًا، ثم أخرجه إلى العالم مرة أخرى. فكانت ولادة ديونيسيوس-ليسيوس مخلِّص البشرية ومحرر الأرواح، فمع ديونيسيوس الثالث ترجع الكثرة إلى أصلها في الواحد الإلهي الأزلي.

وكما عاش ثلاث مرات في ثلاث مراحل، كذلك هي روح الإنسان التي تعيش ثلاث مرات أيضًا متقمصة ثلاثة أجساد؛ منها الحيواني ومنها البشري، قبل أن تتحرر من كثافة المادة وتترك الجسد راجعة إلى مصدرها في العوالم العلوية، بمعونة ديونيسيوس المخلِّص الذي تصفه النصوص الأورفية بأنه صياد الأرواح، الذي يُخرج أرواح البشر من سجن المادة إلى حرية الأبدية.١٣ وهي نفس المهمة التي قام بها السيد المسيح فيما بعد عندما خاطب الصيادَين بطرس وأندراوس قائلًا: هلما ورائي فأجعلكما صيادين للناس.١٤
إلى جانب الديمترية والديونيسية كانت عبادة الإلهة سيبيل وابنها آتيس، ثالث أكبر عبادات الخصب في العالم اليوناني-الروماني. وفي هذه العبادة أيضًا نشأت حلقات سرية لمعتقد الخلاص، عاشت داخل الديانة الأم دون أن تستقل عنها، وكان أتباع هذه الحلقات يمارسون طقوسهم واحتفالاتهم الخاصة في المواعيد المخصصة لاحتفالات عبادة الخصب السيبيلية نفسها. ورغم قلة ما نعرفه عن معتقدات تلك الجماعات وطقوسها، فإن نتفًا مبعثرة من أخبارهم تدل على أن إله الخصب آتيس قد تحول في معتقدهم إلى إله مخلِّص، وأن غاية الطقوس السرية الآتيسية كانت التوحد مع ذلك الإله، وخصوصًا عن طريق طقس العشاء السري، الذي يتناول خلاله الأتباع جسد الإله ويشربون دمه. ويسبق طقس العشاء السري فترة صوم قاسية، يطهِّر المريدون الجدد خلالها أجسادهم من آثار الغذاء الأرضي، ويستعدون لتلقي جسد المخلِّص. وفي نهاية الصيام يؤتى لهم بطعام في أوعية تشبه الطبول، وشراب في أوعية تشبه الصنوج، وذلك على غرار الأداتين الموسيقيتين اللتين تستعملان في احتفالات آتيس الصاخبة المملوءة بالعنف ومشاهد الدم. وإلى جانب العشاء السري، كان من أبرز طقوس العبور إلى الأسرار الآتيسية، طقس العماد بالدم، حيث يؤتى بالمريد الجديد وينزل به إلى حفرة تغلق فوهتها بألواح من خشب، ثم يؤتى بثور فينحر فوق الفوهة المغطاة، ويترك دمه ينسال من شقوق الألواح فيتلقاه المريد مخضبًا به جسده، ثم يخرج وقد غطاه الدم بين تهليل أقرانه وصلواتهم. فلقد غسل بدم الثور خطاياه الماضيات ووُلد من جديد بعد موته الرمزي، وبُعث حيًّا في آتيس. يبدو أن هذه الطقوس كانت تقام في روما في معبد الإلهة سيبيل الرئيسي الذي كان قائمًا على تلة الفاتيكان، وفي نفس المكان الذي شيدت فيه كنيسة القديس بطرس؛ فقد تم العثور عام ١٦٠٨ خلال أعمال توسيع كنيسة الفاتيكان على مخطوطات تتعلق بطقوس آتيس المخلِّص.١٥

إذا انتقلنا إلى الشرق الأدنى القديم وجدنا في الديانة الأوزيرية المصرية أوضح مثال على معتقدات الخلاص الشرقية. فهنا تطور الإله أوزوريس، كغيره من آلهة الخصب، من إله قمري إلى إله للدورة الزراعية، وأخيرًا إلى إله مخلِّص يحكم العالم الأسفل ويتلقى الموتى، فيحاسبهم على ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا، ويزن حسناتهم وسيئاتهم فيرسل بالمحسنين إلى النعيم وبالمفسدين إلى الجحيم. وفي شكله الأخير هذا، صار أوزوريس أكثر الآلهة شعبية في مصر خلال الألف الأول قبل الميلاد، وطغت عبادته تدريجيًّا على عبادة الآلهة الرسمية.

في بداية التاريخ المصري كان الخلاص وقفًا على الملك الذي يعتبر تجسيدًا بشريًّا لأوزوريس، وكانت قصة حياة الإله القصيرة وآلامه وموته وبعثه، تتلى من قبل الملك شخصيًّا لضمان خلاصه وخلوده من دون بقية البشر. وما لبث بعض الأفراد من الأسرة الملكية ومن علية القوم أن شاركوا في ذلك الطقس، فاتسعت دائرة الناجين وتأسست عبادة أوزوريس السرية التي بقيت في توسع مستمر، حتى شملت أخيرًا كل عابد صادق راغب في خلاص نفسه.١٦ وكان المحظوظ بين الناس مَن يجد له قطعة صغيرة من الأرض يحفرها قبرًا له في الأرض المقدسة التي تضم قبر الإله وهيكله المقدس، فيشارك الإله بعثه وخلوده.١٧ هذا وتشير عادات الدفن إلى الأمل الذي يعقده الميت على أوزوريس الذي سيبعثه كما انبعث هو في سنابل القمح الجديدة. ففي كثير من القبور تم العثور على دمى مصنوعة من القماش، محشوة بحبوب القمح موضوعة في تابوت خشبي أو فخاري قرب تابوت المتوفى، كما عثر على نوع آخر من الدمى، مصنوع وجهها من الشمع الأخضر المحشو بحبوب القمح. وقد توضع بين ساقَي المومياء دمى من طين زرعت فيها حبوب قمح قد انتشت وبرزت سيقانها الصغيرة.١٨ وإلى جانب عادات الدفن هذه، تزودنا الصلوات والأدعية الأوزيرية من كتاب الموتى المصري، بفكرة عن أصول معتقد الخلاص الأوزيري نقرأ في إحداها: «أي أوزوريس، يا أبي المقدَّس، احفظ أعضاء جسدي فلا أفنى. لم أفعل في حياتي أمرًا تكرهه، فلا تجعلني أصير إلى الديدان، خلصني كما خلصت نفسك، ولا تتركني إلى الفساد كبقية الأحياء؛ أي أوزوريس يا أبي المقدس، جسدك لم يتحلل، لم يدركه الهلاك، فاجعلني مثلك، دعني أحيا، دعني أستيقظ في سلام.»١٩
ورغم أن عبادة الخلاص الأوزيرية قد صارت مفتوحة أخيرًا أمام الجميع، فإن هناك من الأدلة على أن الأسرار القديمة قد حافظت على استمرارها ضمن تيار الأوزيرية العام؛ ذلك أن الخلاص الذي تقدمه طقوس الأسرار يقود أصحابه نحو درجات أعلى من مجرد الاستمرار في حياة ما بعد القبر. والأسرار الأوزيرية في ذلك، إنما تشبه طرائق التصوف التي تقدم لأتباعها مفتاحًا لعوالم لا يصل إليها المتعبد العادي الذي يقصد بعبادته مجرد شراء مكان له في الجنة السماوية. وهكذا يحدثنا شاهد عيان هو المؤرخ الإغريقي «هيرودوتس» عن الطقوس السرية الأوزيرية المحجوبة عن العامة، فيقول باقتضاب: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا، يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق اسمه. ورغم شهودي لكل مأتم في ذلك المكان، فإنني لن أزيد في القول عنه شيئًا، وأمسك لساني كما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس؛ ولكني أستطيع القول فقط، دون أن أقع في التجديف، إن بنات دانيوس هنَّ من أتى بهذه الطقوس من مصر ودربن نساء بيلاسيان عليها.»٢٠
وعندما انتقلت عبادة إيزيس وأوزيريس إلى العالم اليوناني-الروماني عقب فتوح الإسكندر، لعبت دورًا كبيرًا في الحياة الروحية هناك، وبقي تأثيرهما قائمًا إلى ما بعد القرن الثاني الميلادي، وكان لكلٍّ من إيزيس وأوزوريس أسراره الخاصة ومعابده وعباده، وقد وصلَنا من القرن الثاني للميلاد، وصفٌ حي لطقوس العبور في ديانة إيزيس المخلِّصة، بقلم الكاتب الروماني «أبوليوس» الذي يعتبر من كبار مثقفي تلك الفترة الحافلة بتمازج الثقافات والديانات، والذي تحول فيما بعد إلى كاهن لإيزيس عقب مروره بأسرارها. نقرأ في كتابه المعروف بعنوان (The Golden Ass) عن تجربته الشخصية ما يلي:
«في الصباح، قادني الكاهن الأعظم من يدي إلى المعبد الكبير، وعندما فتح أبوابه قام بأداء شعائر الصباح المعروفة، ثم مضى إلى الحرم وأحضر معه كتبًا مكتوبة بخط غير مألوف، لمحتُ في بعضها كتابة على شكل رسوم لحيوانات وما إليها، وفي بعضها الآخر كتابة بخط عادي جرى وصل حروفه بعضها ببعض، ودوائر من شأنها إخفاء مدلولها على غير الخبير بها، ثم قرأ عليَّ تعليمات تتعلق بما يلزم التزود به من ثيابٍ وحاجيات أخرى لازمة لطقس العبور المقبل، فمضيت لتوِّي وحصلت عليها كما أشار. وعندما حلَّ الموعد المحدد جاءني الكاهن الأعلى فقادني إلى الحمام ومعه كهنة آخرون كانوا يحفون بي طيلة الطريق، وهناك أتممت غسلي المعتاد، ثم قام الكاهن نفسه بسكب ماء مقدس خاص على جسدي وهو يتلو صلوات وأدعية خاصة. فلما انتهينا أعادني إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة، وأعطاني تعليمات مقدسة لا أجرؤ الآن حتى على الهمس بها، ثم ألزمني صيامًا خاصًّا فلا أقربُ اللحم والخمر عشرة أيام، أقتصرُ خلالها على الطعام البسيط اللازم لسد الرمق، ففعلت ذلك كله. وعندما حلَّ مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهان يتقاطرون عليَّ من كل زوايا المعبد، وفي يد كل منهم هدية تهنئة، على ما تقتضيه العادة القديمة. ثم جاء الكاهن الأعظم فأمر بانصراف كلِّ من لم يمر بطقوس العبور، ثم ألبسني عباءة قطنية، وقادوني إلى قدس أقداس المعبد. لا أشك في هذه اللحظة أن قارئ كلماتي هذه قد أخذه الشوق ليعرف ما جرى لي هناك، ولكني لو سمحت للساني بالنطق، وسمحت أنت لأذنك بالسمع، فإن لساني سيلقى جزاءً بما نطق، وأذنك جزاءً بما سمعتْ. ومع ذلك فإني أستطيع الإفضاء لك بما هو مسموح لي أن أفضي، شريطة أن تكون مستعدًّا لتصديق كل كلمة فيه. فاستمع إليَّ: لقد دنوت من حافة الموت الفعلي ووضعت قدمي على عتبة بيرسفوني، ثم سُمح لي أن أعود القهقرى سابحًا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدتُ الشمس ساطعة كوقت الهاجرة. مثلت في حضرة آلهة العالم الأسفل، وكان آلهة العالم الأعلى يقدمون لهم فروض الولاء. هكذا كان، وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس القداس وعليَّ اثنا عشر ثوبًا، فأمرني الكاهن أن أصعد إلى المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الآلهة، وأمسكني مشعلًا باليد اليمني، ووضع على رأسي إكليلًا من أغصان النخيل، ثم رُفعت الستارة التي تحجب المنبر من أمامي لتقع عليَّ عيون الجمع المحتشد …»٢١
أما الإله أوزوريس فقد رحل إلى العام اليوناني-الروماني تحت اسمه الجديد «سيرابيس» المأخوذ عن الاسم المصري أوزوريس-آبيس. (والاسم آبيس، كما مر معنا سابقًا، هو اسم الثور المقدس الذي يمثل أوزوريس). وقد أسس عبادته أول ملوك البطالمة في الإسكندرية، ومنها انتقل إلى روما منذ عام ٣٠٠ق.م. واستمرت عبادته قائمة حتى عام ٣٠٠م. وفي روما حاول أتباع سيرابيس رفعه إلهًا كونيًّا شموليًّا، نقرأ في أحد النصوص عن لسان سيرابيس: «السماء رأسي والبحر بطني، والأرض قدمي، والشمس عيني.» كما طمحت عبادته لأن تكون ديانة أممية عالمية، فاستعارت لإلهها ملامح وخصائص آلهة متعددة من مصر وسوريا وإيطاليا، الأمر الذي نشر عبادته على أوسع نطاق ممكن، فكانت صوره تُعلق في أعناق الرومانيين وتماثيله تنصب في المرافئ، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين لعبادته، مشجعين على انتشارها، مثل كاليجولا وتيتوس وفسبازيان. ويُروى أن الأخير كان يشفي العميان والمرضى بقوة إلهه سيرابيس.٢٢

لم تكن ديانة سيرابيس المخلِّص الوحيدة التي تسعى نحو الشمولية والأممية، فإلى مثل هذه الشمولية والأممية كان طموح الديانة الأورفية أيضًا. فكانت هذه بمظاهرها البسيطة وتجنبها بناء المعابد، وإقامة صلواتها وطقوسها في البيوت العادية، نموذجًا لحركة المسيحيين الأوائل. فإذا أضفنا إلى ذلك حشد الآلهة المخلِّصين الذين امتلأت بهم ثقافات الشرق القديم والبحر المتوسط، اكتملت أمام أعيننا صورة المشهد الذي شكل أرضية لملحمة انتصار ديانة الخلاص الجديدة المتركزة حول آخر المخلِّصين، يسوع المسيح، الذي ما زال وعده قائمًا على الأرض.

يسوع المخلِّص

لكي نفهم معتقد الخلاص الذي قدمه يسوع للبشرية، لا بدَّ لنا من الرجوع إلى نظرية التكوين المسيحية كما بناها آباء الكنيسة الأوائل انطلاقًا من العهد القديم، وسيرة يسوع وأقواله، وأعمال الرسل وخاصة بولص، وفكر أولئك الآباء المتأثر بحصيلة الثقافة المتوسطية في تلك الفترة الخصبة.

فقبل ظهور المكان وجريان الزمان، ومنذ الأزل، كان هناك الإله الأب والإله الابن والروح القدس، ثلاثة في واحد. في أزمان ما قبل الأزمان تلك، وقبل أن يتجسد الابن في هيئة بشرية ليغدو يسوع الناصري، وقبل أن يهبط الروح القدس في هيئة حمامة نارية مبشرًا مريم، كان الإله الابن الكلمة-اللوغوس، المولود الوحيد للإله الأب، يصدر عنه منذ الأزل ومنذ الأزل كان الروح القدس ينبثق منهما معًا ويغلق الدارة بينهما. ثلاثة في واحد إله قديم غير مخلوق، لم يظهر أقنوم من أقانيمه قبل ظهور الآخر، ولم يمر وقت لم يكن فيه الثلاثة معًا في واحد. دارة حب مغلقة مكتملة مكتفية، فاض بها العطاء فأرادت أن تخلق، لا عن حاجة إلى الخلق وإنما عن حرية مطلقة، وهكذا، وبأمر من الكلمة، تم خلق أولى الكائنات المفارقة للطبيعة الإلهية وهم الملائكة؛ مخلوقات نورانية أحاطت بالنور الأعظم في هالات، هالة بعد هالة، كل هالة تحتوي على رتبةٍ من رتب الملائكة، أعلاها رتبة الكيروبيم، يليها السيرافيم، وصولًا إلى الملائكة العاديين.٢٣

بين هذه المخلوقات النورانية التي تحيط بالإله وتسبح بحمده، كان هناك ملاك من المرتبة الأولى اسمه لوسيفر، أي الوضَّاء، وكان فائق الجمال، مكتمل الصنعة الملائكية، معجبًا أشد العجب بما وهبه الله من عظمة، واعيًا أشد الوعي لها، معتقدًا أنه من الصعب على الخالق أن يصنع ما هو أعظم منه؛ لأنه مثال على معجزة الخلق. وقد كان لوسيفر دائم التحديق إلى مركز النور الأعظم، حتى إنه أخذ يشاركه في رؤى المستقبل. فكان أن عرف أن الإله يُعد لإيجاد مرتبة أعلى من مرتبة الكيروبيم والسيرافيم، يضع فيها مخلوقات فظة وجلفة من لحم ودم يكسو جلدها الشعر، وأن امرأة من هؤلاء ستغدو في المستقبل ملكة عليه. كما عرف، ويا للعجب، أن الابن نفسه سوف يغدو إنسانًا منهم ويلبس جسدًا آدميًّا.

وهنا، وانطلاقًا من إرادته الحرة، فضَّل أن يلتزم مجده الملائكي الذي وهبه له الرب، فيقدمه على القصد الإلهي ويظهر تمرده على الله؛ رغم علمه الكامل بما سيجر عليه هذا التمرد من لعنة أبدية مقيمة. وهكذا كان؛ إذ أدار لوسيفر ظهره لنور الخالق، وتبعه في ذلك عدد كبير من الملائكة الآخرين، ممن أثار فيهم موقفه مشاعر مماثلة، فتطوَّح الجميع في مهاوي الظلام الخارجي، وتحول لوسيفر إلى إبليس ومن تبعه إلى شياطين، وصار حاكمًا لمملكة الظلام عدوًّا للخالق، آخذًا على عاتقه إحباط صنائع الله، وإفساد البشر الذين أُعدت لهم تلك المكانة العالية.٢٤
بعد ذلك تأتي مرحلة خلق الكون؛ فكان أول ما ظهر المادة البدئية الهيولية التي هي المياه الأولى بلا شكل ولا حدود، والرحم المظلم الذي كان روح الأب يرف فوقه على غير هدى. ثم أخذت الكلمة تخلق الكون انطلاقًا من تلك المادة الأولى، فاكتمل في ستة أيام. وكان اليوم السادس يوم خلق الحيوانات الدابة على سطح الأرض وخلق الإنسان الأول كذلك. جبل الإله آدم من تراب الأرض فسواه على صورته ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فجاء في صورة مادية كاملة وروح خالدة، ثم صنع له جنة في مركز الكون أسكنه فيها. وكان في وسط الجنة شجرة الحياة، وشجرة المعرفة. وقال الله لآدم أن يأكل من كل شجر الجنة عدا شجرة المعرفة؛ لأن الأكل من ثمرها سيجلب عليه الموت. ثم وهبه المرأة حواء التي صنعها من ضلعه وهو نائم، وتركهما يرتعان في أرجاء الجنة التي سخر لهما كل ما فيها، فعاشا فيها بعيدًا عن كل همٍّ أو ألمٍ أو حاجة إلى كدح وعمل، عاريين لا يخجلان من عريهما. إلى أن تسلل لوسيفر إلى الجنة في هيئة الأفعى، والتف حول شجرة المعرفة منتظرًا مرور المرأة حواء. فلما مرت من قرب الشجرة لفت نظرها وجود الأفعى، فاقتربت منها، فقالت الأفعى: أصحيح أن الرب قد منعكما عن ثمار الجنة؟ فقالت المرأة: بل نستطيع أن نأكل من كل شجر الجنة عدا هذه الشجرة؛ لأن الرب قد أمرنا ألا نأكل منها أو نلمسها كيلا نموت. فقالت الأفعى: لن تموتا، بل ستنفتح أعينكما إن أكلتما منها، وتصبحان كالآلهة فتعرفان الخير والشر. وهكذا رأت حواء أن الشجرة صالحة للأكل وممتعة للنظر، فمدت يدها وأكلت ثم نادت آدم وأطعمته كذلك. وما إن أكلا حتى انفتحت عيونهما وانتبها لعريهما فراحا يخصفان عليهما من ورق شجرة التين القريبة. وهنا مر الإله وعرف فعلتهما فقال لآدم الذي اختبأ وامرأته من وجهه: هل أكلت من الشجرة التي أمرتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: إن المرأة التي أعطيتني هي التي جعلتني آكل. فقال الإله للمرأة: أي فعل اقترفتِ؟ فقالت: الأفعى أغوتني فأكلت. وهنا ثار غضب الرب وصبَّ لعنته على آدم وحواء، تلك اللعنة التي انسحبت على عالم الطبيعة برمته؛ لأن آدم كان رأس ذلك العالم وسيده. وقدَّر الرب على حواء ومن يليها من نساء البشر أن يلدن أولادهنَّ بالوجع والآلام، وأن يكنَّ تَبعًا لأزواجهن. أما آدم فقد لعن الرب من أجله الأرض، فجعلها لا تنبت إلا بعمل الإنسان وكده وتعبه، وجعلها تنبت مع الزرع شوكًا وحسكًا، ثم قدر عليهما معًا الموت، وطردهما من الجنة إلى الأرض التي جُبلا منها فيكدحان عليها وذريتهما. منذ ذلك الوقت ظهر الموت إلى الوجود، وظهر الألم، وظهر الشر مخالطًا لنسيج الوجود المادي. وافترق الإنسان عن أصله الإلهي وسقط من عوالمه العلوية.٢٥

منذ البداية، كان الرب عارفًا بما ستجره حرية الاختيار التي وهبها للوسيفر الملاك وآدم الإنسان من فساد للكون، وكان عليه الآن أن يقدم الدواء للعالم الغارق في الظلمة الحقيقية والخطيئة والموت، وذلك بالحلول في عالم الخلق ودخوله هو نفسه في دورة الحياة والموت، من أجل رفع لعنة الموت وحمل خطايا البشرية؛ فهو الوحيد القادر على تقديم القربان الكامل الذي من شأنه تحرير الخليقة من لعنتها البدائية وخطيئتها الأصلية الأولى. وهكذا هبط الابن من عليائه وعاش بين الناس ردحًا قصيرًا، ثم مات على الصليب مقدمًا لمن آمن به حياة أبدية. فإذا كان بآدم الأول يموت الكل، فإنه بآدم الثاني يسوع المسيح الكل يحيا، وإذا كانت حواء الأولى قد قدمت ثمرة الموت، فإن حواء الثانية التي هي السيدة مريم قد حملت بثمرة الحياة.

نقرأ للقديس مار أفرام السرياني:
«إن البتول دعتني لأرنم سر بتوليتها العجيب، فأعطني يا ابن الله منك معجزة، ومن عطيتك هذه أغني على كنارتي فأرسم صورة والدتك بهيبة … البتول مريم ولدت ابنها بالقداسة وأرضعت حليبها مرضع البرايا، وحملت ركبتاها حامل الكون. وهي بتول وهي أم … فلتفرح بمريم جميع أجواق العذارى لأن واحدة منهنَّ قد أنجبت ووضعت الجبار الحامل البرايا، وبه البشرية المستعبدة حُررت. فليفرح بمريم آدم الأول الذي لسعته الحية، فمريم أعطته نبتة إن أكل منها سحق الحية، وبها يشفى من لسعة الحية القاتلة، فليفرح الكهنة بالمباركة التي انحنت، ووضعت الكاهن العظيم الذي صار ذبيحة وعفاهم من سائر الذبائح، وهو بإرادته صار ذبيحة وأرضى أباه.»٢٦
فآدم يرمز إلى المسيح وحواء إلى مريم، والمسيح هو آدم الجديد، منقذ البشرية ومعيدها إلى حالها الأول، ومريم هي حواء الجديدة، شريكة آدم الجديدة في إعطاء الحياة الفائقة الطبيعة. وصورة آدم وحواء المستقلين عن الله بالثورة والابتعاد عنه، قد محتها وبدلتها صورة المسيح والعذراء المرتبطين بالله. فالمسيح تخلى عن ذاته والتصقت حياته وإرادته بحياة الله وإرادته، فانتصر على الخطيئة وجاز الموت. وبموته وقيامه أقام معه البشرية كلها.٢٧
نقرأ في العهد الجديد: «مَن آمن بي وإن مات فسيحيا، وكل من كان حيًّا وآمن فلن يموت إلى الأبد»٢٨ … «الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إليَّ.»٢٩ وفي رسائل بولص الرسول نقرأ: «حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الرب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة؛ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته، عالمين أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطيئة، كي لا نعود نُستعبد أيضًا للخطيئة؛ لأن الذي مات قد تبرأ من الخطيئة، فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه.»٣٠ ولبولص الرسول نقرأ أيضًا: «مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان؛ إيمان ابن الله الذي أحبني وسلَّم نفسه لأجلي.»٣١

وهكذا تمَّ التحول من شريعة موسى الحديدية التي تهدف إلى اتقاء غضب الإله الرب، إلى الإيمان بالإله الابن وبحقيقة تجسده في المسيح. وهذا الإيمان هو الذي يهب الإنسان الخلاص ويجعله واحدًا مع المسيح الذي مات من أجل الإنسان، وقهر الموت لأجل خلاصه. كما تمَّ التحول من أخلاق العهد القديم، إلى النموذج الخلقي الذي تطرحه سيرة السيد المسيح من أقوال وأفعال وسلوك.

وفي الحقيقة، فإن معتقد التجسد في جوهره الرمزي يتجاوز في غاياته الكبرى مفهوم اللاهوت الرسمي، الذي ينظر بالدرجة الأولى إلى حادثة التجسد باعتبارها واقعة تاريخية زمنية حصلت ليسوع المسيح وحده، جاعلًا منها ماضيًا ميتًا لا آنًا حيًّا متجددًا؛ ذلك أن التجسد لا يقدم للبشرية، على مستوى الرمز، حقيقة تاريخية، بل حقيقة زمنية ماثلة أبدًا هنا والآن، إنه وحدة الإلهي والإنساني؛ فالإله الابن عندما تجسد في هيئة بشرية، قد امتزجت خصائصه الإلهية بخصائصه البشرية فرفع البشر إلى مستوى الألوهة، وهبط بالألوهة إلى مستوى البشر. وهو بحلوله في جسد بشري واحد هو جسد يسوع، قد حل في كل الأجساد البشرية مرة واحدة وإلى الأبد، فمن أدرك سر هذا المعنى أدرك سر الخلاص الذي قدمه يسوع.

خمر جديد في زقاقٍ قديمة

في قول للسيد المسيح من إنجيل لوقا نقرأ: «ليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زقاق عتيقة؛ لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فهي تهرق والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرًا جديدًا في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا.»٣٢ والزِّقاق جمع زِق، وهو قربة جلدية كبيرة تحفظ فيها السوائل. والخمر الجديد هنا هو تعاليم يسوع، أما الزِّقاق القديمة فهي تعاليم التوراة. والمقصود هنا هو أن ما جاء به يسوع ليس صيغة جديدة عن التعاليم التوراتية، ولا يمكن فهمه من خلالها. ولكن المسيحية في تطورها اللاحق قد وُضعت في صيغ قديمة فعلًا، كانت معروفة في عبادات الأسرار ومعتقدات الخلاص السائدة في ذلك الوقت، وهذه المعتقدات هي التي هيأت المسرح لمشهد انتصار معتقد يسوع المخلِّص، الذي جاء تتويجًا لها، وخاتمة لذلك المخاض الديني الروحي الطويل. يقول كليمنت الإسكندري، وهو أحد الدعاة الأوائل: «تعال إليَّ لأريك أسرار اللوغوس، وأشرحها لك من خلال صور مألوفة ومعروفة عندك.»٣٣ ولعل هذا القول يقدم لنا مفتاحًا ذهبيًّا لفهم معادلة الخمر الجديد والزقاق القديمة في تكوين المسيحية الناشئة.

تطرح دورة حياة يسوع المخلِّص، في خطوطها العامة، تشابهًا واضحًا مع دورة حياة الآلهة الأبناء المخلِّصين. ورغم أن موت يسوع وبعثه لا يتخذ طابعًا دوريًّا سنويًّا، كما هو شأن آلهة الخصب، فإن الاحتفال بتجسيده وميلاده وموته ثم بعثه عبر السنة الطقسية المسيحية، يجعل من دورة حياته سلسلة من الأحداث الحاضرة أبدًا، المتكررة إلى يوم الدينونة؛ ذلك أن الاحتفال بهذه الأحداث ليس إحياء لذكرى وقائع ماضيات، بل هو عيش لوقائع تحدث الآن والساعة، والسيد المسيح في مولده وموته وبعثه، إنما يجمع إلى شخصه خصائص المخلِّص الشمسي والمخلِّص القمري في آنٍ معًا، فميلاده شمسي، أمَّا بعثه فقمري.

لم يرد في الأناجيل الأربعة ما يشير إلى تاريخ مولد المخلِّص يسوع، ولم تحتفل به الكنيسة في مطلع عهدها. ولكن المسيحيين في مصر بدءوا يحتفلون بعيد الميلاد في يوم السادس من كانون الثاني (يناير)، وعنهم أخذت الكنائس الشرقية هذا التقليد. حتى إذا حلَّ القرن الرابع الميلادي تبنَّت الكنيسة الغربية، التي لم تحتفل من قبل بعيد الميلاد، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) كتاريخ رسمي لميلاد السيد المسيح. وكان لهذا التاريخ في ذلك الوقت دلالات دينية في العالم اليوناني-الروماني، وفي الشرق الأدنى القديم على حد سواء. فيوم الخامس والعشرين من كانون الأول هو يوم الانقلاب الشتوي حسب التقويم الجولياني، فيه تصل الشمس آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، ويبلغ النهار أقصره، ولذا فقد اعتبر يوم ميلاد للشمس ولآلهة الشمس؛ لأن اليوم الذي يليه هو يوم صعود الشمس من جديد نحو كبد السماء، واستطالة النهار على حساب الليل. فكان أتباع المخلِّص الشمسي «ميترا» يحتفلون بميلاد مخلِّصهم في ذلك التاريخ، وكذلك السوريون الذين تحول مخلِّصهم إلى إله شمسي في الفترات المتأخرة، وفي المناطق التي تأثرت بالثقافة الرومانية مثل بعلبك. ففي ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، عند منتصف الليل، كانت صرخة الميلاد تنطلق من حجرات قدس الأقداس معلنة ميلاد المخلِّص: «ها هي العذراء تلد ابنًا والنور ينتشر»،٣٤ والعذراء المعنية هنا هي الأم الكبرى عستارت، سيدة السماوات. وفي الأناجيل هناك عدد من الإشارات والرموز السرية القديمة التي تربط الابن المخلِّص بالشمس وميلاده بميلادها. ومنها حادثة اعتماد السيد المسيح بمياه الأردن.
فعماد السيد المسيح هو ميلاده الثاني، وكل مسيحي يجب أن يولد ثانية بعد التعميد بالماء: «الحق، الحق أقول لك. إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.»٣٥ أما عن حادثة الاعتماد فنقرأ «حينئذٍ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلًا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ؟ فأجاب يسوع وقال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر، حينئذٍ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به.»٣٦ وفي الحقيقة فإن طقس الاعتماد الذي كان معروفًا في الديانات السرية، يرجع في أصله إلى عبادة إله الماء السومري-البابلي «إيا» الذي يعني اسمه إله بيت الماء، وكانت طقوس الاعتماد بالماء تتم في معبده، بيت الماء ذاك، وكان البابليون يرمزون للإله إيا بحيوان خرافي، نصفه الأعلى لجدي ونصفه الأسفل لسمكة، كما كانوا يرمزون لبرج إنكي السماوي بنفس الحيوان، وهذا البرج ما زال معروفًا إلى يومنا هذا ببرج الجدي، وهو البرج الذي لاحظ البابليون القدماء أن الشمس تدخله وقت الانقلاب الشتوي، لتجتازه بعد ذلك صاعدة في دورتها الجديدة نحو منتصف السماء. فإذا علمنا أن الاسم الذي عُرف به الإله إنكي في الفترات المتأخرة هو «أوانيس» الذي يلفظ باليونانية «يوانيس»، وباللاتينية «يوحانيس»، وبالعبرية «يوحنان»، لأدركنا العلاقة السرانية بين إله الماء إنكي ويوحنا المعمدان في الإنجيل.٣٧ وهذه العلاقة إنما تربط في الوقت نفسه بين يوحنا المعمدان الذي يعمد بالماء، وبرج إنكي الذي تمر فيه الشمس قبل ولادتها الجديدة في السماء. وتجعل من حادثة اعتماد السيد المسيح انعكاسًا للحدث الفلكي. فالسيد المسيح بعد اعتماده بماء الأردن على يد يوحنا وولادته الجديدة، يصعد من الماء ويجتازه ليهبط عليه الروح القدس، ويكرسه ابنًا للإله وقاهرًا برسالته للظلام، تمامًا كما تلد الشمس في يوم الخامس والعشرين من ديسمبر مجتازة برج الماء في ميلادها السنوي الجديد.
أمَّا بعث السيد المسيح فقمري، وتسير حادثة موته وقيامته على خطا موت وبعث الآلهة القمرية القديمة، التي تغيب في اليوم الأول وتظهر في يومها الثالث. وكما كان الآلهة القمريون آلهة للخصب ودورة الزراعة أيضًا، يبعثون إلى الحياة مع الانقلاب الربيعي، كذلك هو السيد المسيح الذي يبعث في يوم الفصح الربيعي. ففي البلدان الناطقة باللاتينية حيث شاعت عبادة الإله آتيس ابن الأم الكبرى سيبيل، جرت العادة على الاحتفال بيوم آلام المسيح وموته في الخامس والعشرين من آذار (مارس) المصادف ليوم الانقلاب الربيعي حسب التقويم الجولياني، وبقيامته في يوم الفصح الموافق للسابع والعشرين من آذار. وهذه التواريخ مقاربة لتواريخ احتفالات آتيس، حيث يصادف يوم الثاني والعشرين من آذار يوم الاحتفال بموت آتيس والخامس والعشرين منه يوم بعثه، وقد كان هذا التطابق بين المناسبتين مدعاة لجدل طويل بين أتباع الديانتين، فبينما اتهم أتباع آتيس المسيحيين بالتقليد، لجأ المسيحيون إلى اتهام الشيطان الذي يقلب موازين الأمور ويغطي الحق بالباطل ليزيغ به القلوب.٣٨ أما اليوم فيتم الاحتفال بعيد الفصح في الكنائس الشرقية في أول يوم أحد يلي القمر البدر، عقب الانقلاب الربيعي مباشرة. وبذلك يجمع الفصح إلى نفسه البعثين؛ بعث القمر وبعث الطبيعة.
وكما تحول أبناء الأم الكبرى، من آلهة قمح يهبون جسدهم لدفع غائلة الجوع عن البشر، إلى آلهة خلاص يهبون نفس الجسد القديم لخلاص الروح، كذلك السيد المسيح، فجسده الذي وهبه من أجل البشر هو قمح الحياة الأبدية: «أنا هو خبز الحياة، من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا»٣٩ … «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.»٤٠ وجسد المسيح أيضًا هو ثمر الأرض الذي صار ثمر الخلاص: «أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام.»٤١
على أن الإيمان بتجسيد الإله الابن وظهوره على الأرض في هيئة يسوع الناصري، والإيمان بدورة حياته التي انتهت بالموت على الصليب والقيامة من بين الأموات، واتِّباع مثاله الخلقي في الحياة، كل ذلك لا يكفي لجعل المؤمن واحدًا مع المسيح ونيل الخلاص. فهناك عدد من الأسرار التي لا بدَّ من المرور بها، وطقوس عبور لازمة لكل راغب في التحول للمسيحية. من ذلك سر التناول وسر العماد وسر المسحة وغيرها. وسنقوم فيما يأتي بعرض سريع لسر التناول باعتباره السر الأساسي المركزي في الطقس المسيحي. فمن بين سلسلة أحداث حياة المسيح التي تتابعت لتحقيق الخلاص، كان العشاء الأخير من أكثرها إثارة لعواطف المؤمنين، ووعدًا قائمًا بالخلاص عن طريق التوحد مع الفادي. نقرأ في إنجيل متى: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا: اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا.»٤٢ وفي إنجيل لوقا: «ثم تناول كأسًا وشكر وقال خذوا هذه واقتسموها بينكم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله. وأخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلًا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري، وكذلك الكأس أيضًا بعد العشاء قائلًا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم.»٤٣ وفي رسائل بولص الرسول: «إن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضًا بعدما تعشوا قائلًا: هذا الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري، فإنكم إن أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.»٤٤
إن طقس التناول ليس استعادة لذكرى فداء المسيح، بل هو إعادة. فالسيد المسيح لم يبذل جسده ودمه في لحظة معينة من التاريخ، بل إنه يبذلهما من أجل البشر في كل مرة يجتمعون من أجل المناولة إلى فناء الأكوان، والخبز والخمر اللذان يتناولهما المجتمعون، هما خبز وخمر من النوع العادي الذي يألفونه في حياتهم اليومية، إلا أن إيمانهم بسر الفداء يعطي لهذه المادة العادية رمزًا كبيرًا ويحولها إلى فكرة؛ ذلك أن أكل جسد المسيح في شكل خبز القربان المقدس، وشرب دمه في شكل خمرة الكرمة، ليس توحدًا مع المسيح في الجسد، بل توحد معه في الجوهر من طريق الإيمان، وتثبيت للإلهي في الروح البشرية. نقرأ في إنجيل يوحنا: «اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضًا، إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير.»٤٥ إن اللحظة التي يتناول فيها المجتمعون الخبز والخمر في إيمان كامل بأن ما يأخذونه إليهم هو جسد الفادي ودمه، لتضعهم خارج الزمان وخارج المكان في ومضة خاطفة، وتفتح لهم بوابة على الأبدية، وتجدد العهد ما بينهم وبين المخلِّص.

إن تفرُّد سر التناول المسيحي، في مضمونه وغاياته، لا ينفي اعتماده على الأسرار السابقة والمعاصرة له إبان تشكله، وعلى طقوس دينية أخرى موغلة في القدم. ففي الفصل السابق رأينا كيف أن القربان البشري لم يكن إلا تمثيلًا للقربان الإلهي. كما رأينا أن التضحية بالملك الذي حلت فيه روح الإله، أو في ابنه، أو في أي قربان بشري آخر يقوم مقامه، ليست إلا حدثًا يجري في تزامن وتواقت مع موت الإله نفسه. لذلك كان لجسد القربان البشري طابع القداسة، فما إن يتم تنصيب الملك الجديد الذي سيُقتل بعد مدة محددة، أو يتم تخصيص شخص ما ليكون موضوعًا للقربان، حتى يفقد الشخص المهيأ للموت مع الإله خصائصه البشرية، ويغدو جزءًا من الإله نفسه. من هنا كان أكل جزء من جسد القربان عقب قتله، هو أكل لجسد الإله نفسه في سعي للتوحد معه. والشيء نفسه ينطبق على القربان الحيواني الذي يُقتل كممثل للإله، ثم يؤكل لحمه طقسيًّا لاكتساب القداسة التي حلت فيه. وفي هذا المجال نذكِّر بطقوس ديونيسيوس التي كان عبَّاده خلالها يأتون بثور حي يمثل الإله فيمزقونه إربًا ويأكلونه. كما كان عباد أدونيس في سوريا يذبحون في عيده الخنزير، وهو رمز الإله نفسه، ويأكلونه في وليمة طقسية رغم أن لحمه كان محرمًا عليهم في الأوقات العادية، وخارج هذه المناسبة.

على أن التضحية الفعلية بإنسان أو حيوان، لم تكن دومًا عنصرًا أساسيًّا في طقوس التناول؛ ففي بعض ديانات الخلاص كان يُكتفى بصنع نوع خاص مقدس من الخبز يمثل جسد الإله، يتم أكله في الاحتفال الديني، كما هو الأمر في طقوس ديمتر أُم القمح، التي أشرنا إليها في مكان آخر من هذا الفصل، وفي طقوس ميترا حيث تُظهر بعض الرسوم القائمين بالطقس، وقد وضعوا أمامهم على المائدة أرغفة رُسم عليها شكل الصليب.٤٦ وبعيدًا عن حضارات العالم القديم، فإن ثقافات القارة الأمريكية تمدنا بأمثلة عدة عن طقوس أكل جسد الإله. ففي ثقافة الآزتيك في المكسيك، كانت طقوس العشاء المقدس تتم مرتين، الأولى في كانون الأول (ديسمبر)، والأخرى: في أيار (مايو)، حيث يصنع المحتفلون في كل مرةٍ دميةً من عجين مصنوع من دقيق عدد متنوع من الحبوب، تمثل الإله الأكبر، ثم توضع الدمية على المذبح الرئيسي في المعبد ليلة الاحتفال، ويحرق حولها البخور طيلة الليل، ويقيم أمامها الكهنة طقوسًا خاصة، حتى إذا جاء الصباح حُملت إلى قاعة كبيرة يحتشد فيها النساء، ويأتي الكاهن الأكبر فيرمي صدر الدمية بسهمٍ ويتقدم فينتزع قلبها ويقدمه للملك، ثم يقسم بقية الجسد إلى قطع صغيرة يوزعها على بقية الموجودين فيأكلونها في حزن وخشوع، ويصلون قائلين: إنهم يأكلون جسد الإله وعظامه.٤٧
وقد بقي من طقوس أكل جسد الأم الكبرى ديمتر في هيئة خبز القربان بقية في عادات مزارعي القمح في أوروبا حتى العصر الحديث. فإلى وقت قريب كان المزارعون يقيمون بعد الحصاد وليمة تُدعى بعشاء الحصاد، حيث يقوم رب الأسرة بعجن رغيف كبير مأخوذ من آخر حزمة قمح (وهي الحزمة التي رأينا سابقًا أن روح القمح تسكن فيها)، ثم يجعله على هيئة دمية نسائية، ويخبزه في النار، ثم يجلس وأسرته إلى عشاء الحصاد حيث يأكلون الدمية. وفي بعض المناطق تصنع دمية من العجين تعلق على غصن شجرة مقطوع، ثم تنقل في آخر عربة حصاد راجعة من الحقل، فتؤخذ إلى بيت عمدة القرية، الذي يقسمها بين الناس المجتمعين في بيته لهذه المناسبة. وفي بعض المناطق التي لا تصنع دمى خاصة لعشاء الحصاد، تقوم عائلة المزارع بصنع خبز خاص لهذه المناسبة، يأكله الجميع في خشوع وهم يرفعون أدعية موجهة لله وللأرض الخصيبة في آنٍ معًا.٤٨
ننتقل الآن إلى الجانب الآخر لمعتقد الخلاص المسيحي، والمتمثل في الإيمان بيسوع المسيح كحامل لخطايا البشر ومحرر لهم من الذنوب الماضيات. نقرأ في رسائل بولص الرسول: «وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء. بر الله بيسوع المسيح وإلى كل وعلى كل الذين يؤمنون؛ لأنه لا فرق؛ إذ الجميع أخطئوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله.»٤٩ وأيضًا: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في المسيح … الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا.»٥٠ وفي رسائل يوحنا الرسول نقرأ: «يا أولادي أكتب لكم هذا لكيلا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب، يسوع المسيح البار الذي هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا بل لخطايا كل العالم أيضًا.»٥١ وفي رؤيا يوحنا اللاهوتي نقرأ: «… يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات، ورئيس ملوك الأرض الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين …»٥٢ وفي إنجيل يوحنا نقرأ: «وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلًا إليه فقال: هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم.»٥٣ وفي إنجيل يوحنا أيضًا: «… فقال لهم واحد منهم وهو قياف، وكان رئيسًا للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة بأسرها. ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل لجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.»٥٤

إن فكرة الإله القتيل حامل الخطايا هنا، رغم تفرُّدها في المضمون والغايات، فإنها تحمل أيضًا تاريخًا طويلًا من معتقد الإنسان وطقسه. وسنقوم فيما يأتي برسم صورة عن الزِّقاق القديمة التي صب فيها هذا المعتقد الجديد.

اعتقد الإنسان القديم بإمكانية التخلص من آلامه وأحزانه وآثامه وسوء طالعه وما إلى ذلك، عن طريق تحويلها إلى موضوع خارجي قد يكون إنسانًا، أو جمادًا، أو حيوانًا، وذلك كما ينقل الواحد ثقلًا ماديًّا ليضعه على كاهل الآخر. ونستطيع متابعة هذا الاعتقاد في ممارسات الإنسان وطقوسه عبر أزمنة وأمكنه مختلفة. ففي بعض أجزاء جنوب الهند يتم نقل خطايا الميت إلى عجل صغير يؤتى به ليقف عند رأس جسد المسجى، ثم يقوم كبير القبيلة بتلاوة لائحة الآثام التي ارتكبها بطريقة ترتيلية قائلًا: لقد ارتكب كذا وكذا … وإنها لخطيئة. فيردد الجمع المتحلق حول المتوفى: إنها لخطيئة. ثم يضع يده على رأس العجل فتنتقل الخطيئة من الميت إلى الحيوان، ثم يتابع ترتيله ويتابع الآخرون الترداد وراءه، حتى ينتهي من تلاوة الاعترافات نيابة عن الميت، فإذا انتهى أحنى رأس العجل، ووضع كفَّي الميت عليه ليتطهر من بقايا ذنوبه، ثم يقول بصوت عالٍ: تستطيع الآن أن تلجأ إلى قدمَي ربك الطاهرتين. أما العجل فيطلَق ليهيم على وجهه في البراري بعد أن ترسم عليه علامة معينة، ويمنع على من يلتقي به أن يستخدمه لأي غرض دنيوي؛ لأنه قد غدا مقدسًا. وهم يعتقدون أنه لن يلبث طويلًا حتى يختفي ويتلاشى. وفي أجزاء أخرى من الهند، كان المهراجا وزوجته يتخلصان من آثامهما بنقلها إلى أحد المجرمين المحكومين، الذي كان يشتري حريته بالتطوع لهذه المهمة. وكان طقس نقل الخطايا يتم على الوجه الآتي: تنصب للشخصيتين الملكيتين منصة خشبية يوضع المتطوع تحتها، ثم يصعد إليها المهراجا وزوجته وهما في أبهى حلة وأفخر ثياب، فيسكب فوقهما ماء يغسلهما، ويتسرب من بين شقوق المنصة ليبلل المجرم القابع تحتها، ناقلًا بذلك خطاياهما إليه. وفي طقس آخر يتطوع أحد رجال البراهما الصالحين ليحمل خطايا المهراجا وهو في نزعه الأخير، فيأتي إلى سريره ويعانقه قائلًا: إنني أحمل عنك أيها الملك كل خطاياك وآثامك. فإذا أسلم الروح تم إبعاد حامل خطاياه إلى ما وراء حدود المملكة، ولا يسمح له بالعودة بعد ذلك.٥٥
وجرت العادة لدى بعض قبائل النيل الأبيض في أفريقيا، على أن تقوم بعض العائلات باقتناء بقرة مقدسة تحتفظ بها إلى أوقات الأزمات العامة، فإذا حلت بالقبيلة شدة أو انتشر وباء، قام زعيم القبيلة باختيار إحدى هذه البقرات لتحمل عن القرية آلامها، عند ذلك تأتي نساء القرية بالبقرة المقدسة فيسُقْنها بين بيوت القرية بيتًا بيتًا، ثم يدفعنها عبر النهر إلى الشاطئ الآخر، حيث تُترك نهبًا للوحوش الضارية، حاملة معها المصائب والرزايا. ولدى بعض قبائل أفريقيا الشرقية، إلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كانت تسود عادة التضحية بكبش فداء بشري يحمل عن القبيلة خطاياها. فكانوا يحتفظون بالرجل المفرد للقربان مدة من الزمن يجري خلالها تغذيته والعناية به على أكمل وجه، حتى إذا حل الموعد المضروب، سيق في طرقات القرية وقد أُخفيت ملامحه بطبقة من الأصباغ، فيتزاحم الجميع حوله واضعين أيديهم عليه، لينقلوا إليه آثامهم وأمراضهم وسوء طالعهم. ثم يؤخذ إلى المعبد حيث يذبح، فإذا تصاعدت أنَّاته وحشرجاته ارتفعت أصوات المجتمعين، خارجًا بصرخات الفرح والتهليل؛ لأن موت القربان البشري سيعطيهم راحة الضمير وسكينة النفس.٥٦
وفي التيبت، كان نقل الخطايا إلى كبش فداء بشري، يتم دوريًّا مع مطلع كل سنة جديدة، حيث يلقي الناس عن كاهلهم شرور السنة القديمة، ويتقون مجهول السنة القادمة. فكانوا في عيد رأس السنة يأتون بالرجل المخصص للفداء، فيُدهن وجه بالأبيض والأسود، ويُلبس ثوبًا من جلد ويُطلق عليه اسم «ملك السنة». ثم يأخذونه إلى أزقَّة المدينة وأسواقها، حيث يسير بين الناس وبيده ذيل ثور أسود يهزه فوق رءوس المتقاطرين إليه من كل مكان، فيأخذ إليه خطاياهم وحظوظهم العاثرة. بعد ذلك يوضع على حصان أبيض وينطلقون به إلى جبال جرداء قريبة، بين صراخ الناس وشتائمهم وطلقات البنادق والسهام الموجهة نحو الأعلى، هناك يوضع الرجل في كهف مهجور، ويُمنع من مغادرة المنطقة حتى موعد رأس السنة القادمة، حيث يأتون إليه مرة أخرى، فإن وجدوه ميتًا اختاروا شخصًا جديدًا كملك للسنة، وإن وجدوه حيًّا اقتادوه لتمثيل الدور نفسه.٥٧ وهنا يستوقفنا لقب «ملك السنة» الذي يُطلق على كبش الفداء في الطقس التيبتي، ويحضر في ذاكرتنا طقوس قتل الملوك الذين تتجسد فيهم روح إله الطبيعة المستعد للموت من أجل تجديد دورة الطبيعة. ولعلنا نستطيع الافتراض ببعض الثقة أن ملك السنة كان في بداية ظهور الطقس بديلًا للدالاي لاما كاهن التيبت وملكها، وأن الملك نفسه كان في الفترات الأقدم عهدًا هو موضوع القربان حامل الخطايا ومجدد روح الطبيعة في آنٍ معًا.
وفي ثقافة الإغريق نجد حشدًا من الأمثلة على الكبش البشري؛ فعلى سبيل المثال كان الأثينيون يحتفظون بعدد من الأرقَّاء عديمي الفائدة والقيمة العملية لأوقات الأزمات، حتى إذا أرادوا صد شر وباء أو كارثة محدقة، أخرجوا اثنين من هؤلاء وضحَّوا بهما فداءً عن الجميع. وفي بعض الأوقات، كانت هذه التضحية تتم دوريًّا في كل سنة حيث تقاد الضحيتان خارج أسوار المدينة وتُرجمان بالحجارة حتى الموت. وفي تراقيا القريبة من بلاد اليونان، كانت مدينة إبديرا تطهر نفسها سنويًّا بقتل كبش فداء بشري رجمًا حتى الموت، وقبل قتل الضحية كان يُعلن أمامها وعلى مسمع من الجميع أنها تموت لكي تحمل وحدها خطايا الناس جميعًا.٥٨
وفي روما القديمة كان طقس الفداء البشري يقام في أول ليلة قمر كامل تعقب رأس السنة الرومانية، التي تبدأ في الأول من شهر آذار (مارس). ففي تلك الليلة كان يتم اقتياد رجل يرتدي الملابس الجلدية في موكب يخترق شوارع المدينة، وخلال المسيرة يقوم أفراد الموكب بضرب الرجل بعصيٍّ طويلة بيضاء حتى يصلوا به أطراف المدينة، حيث يُلقون به خارجًا ويطلقون عليه اسم «مارس القديم».٥٩ ومارس هو اسم لأول شهور الربيع، وبنفس الوقت اسم للإله الروماني المعروف بإله الحرب. ولعل إلقاء مزيد من الضوء على شخصية هذا الإله يساعدنا على فهم خفايا هذا الطقس الروماني وأصوله البعيدة. فالإله مارس لم يكن في مطلع عهده إلهًا للحرب؛ بل إلهًا للخصب وفصل الربيع وتكاثر القطعان، وكانت عبادته مقدَّمة على عبادة جوبيتر الذي صار فيما بعدُ رئيسًا للبانثيون الروماني. وتروي الأسطورة أن أمه قد أنجبته دون لقاح من ذكر، بل من لقاء بينها وبين زهرة خرافية، ولم يتحول مارس إلى إله للحرب إلا في الفترات الرومانية المتأخرة، حيث نزعت عنه خصائص الخصب وأعطيت إلى آلهة أخرى، ولكن اسمه بقي مع ذلك يطلق على أول شهور الربيع.٦٠ من هنا نستنتج أن كبش الفداء الروماني الذي يضرب في شوارع المدينة تحت اسم مارس القديم، ثم يُرمى به خارجًا، لم يكن في بداية عهده سوى ممثل لإله الخصب الذي يموت في كل عام لضمان دورة الزراعة. كما نستطيع أن نستنتج أن إله الخصب كان يلعب في الوقت نفسه دور كبش الفداء حامل الخطايا، فعنده قد اجتمع الطقسان المستقلان في طقس واحد، فإذا كان لا بد من موت إله الخصب، فلماذا لا يتم تحميله في الوقت نفسه كل آثام الجماعة وشرورها وخطاياها ليخلصهم منها في كل عام. هذا الدور المزدوج لإله الخصب، رغم عدم وضوحه في ديانات الخصب في شكلها المتأخر وديانات الخلاص المتفرعة عنها، إلا أنه متضمن في الموقف النفسي للمشتركين في الاحتفالات الدينية السنوية. فالبكاء الحقيقي الصادر من أعماق القلب والتفجع، ليس فقط حزنًا على الإله الميت وندبًا لموته، بل ينطوي على أبعد من ذلك، إنه نوع من الإحساس بالخطيئة والاعتراف بها، والندم عليها، وتحويلها إلى الإله ليحملها معه ويريحهم منها.
أخيرًا، يكتمل إرث الشكل والقالب القديم لمعتقد الخلاص الجديد، إذا عرفنا أن يسوع المخلِّص إنما يموت في صفة الملك. نقرأ في إنجيل يوحنا: «فقال له بيلاطس: أفأنت إذن ملك؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك؛ لهذا قد وُلدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كلُّ من هو من الحق يسمع صوتي. قال له بيلاطس: ما هو الحق؟ ولما قال هذا خرج أيضًا إلى اليهود وقال لهم: أنا لست أجد فيه علة واحدة. ولكم عادة أن أطلق لكم واحدًا في الفصح. أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فصرخوا جميعهم قائلين: ليس هذا، بل باراباس. وكان باراباس لصًّا» … «وكان استعداد للفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: هو ذا ملككم، فصرخوا: خذه … خذه اصلبه» … «وكتب بيلاطس عنوانًا ووضعه على الصليب، وكان مكتوبًا: يسوع الناصري ملك اليهود.»٦١ وفي نجيل متى نقرأ أن يسوع قد لقب منذ مولده بملك اليهود: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، إذا مجوس من الشرق قد أتوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟»٦٢ وهو تحت لقب ملك اليهود يُصلب ويموت: «فأخذ عسكر الوالي يسوع على دار الولاية، وجعلوا عليه كل الكتيبة فعرَّوه وألبسوه رداء قرمزيًّا، وضفروا إكليلًا من شوك ووضعوه على رأسه وقصبة على يمينه. وكانوا يجثون قدامه ويستهزئون به قائلين السلام يا ملك اليهود.»٦٣ ومن ناحية أخرى فإن نصوص العهد الجديد تشير إلى النسب الملكي ليسوع الناصري وتربطه بأسرة الملك داود. فرسائل بولص الرسول توضح أن المسيح بحسب الجسد هو من ذرية داود.٦٤ وفي إنجيل لوقا نجد أن الملاك يبشر مريم بابنٍ يرث كرسي مُلك أبيه «لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيمًا وابن العلي يدعى. ويعطيه الرب كرسي داود أبيه.»٦٥
fig96
شكل ١٠-١: أورفيوس على الصليب وفوق رأسه الهلال والكواكب السبعة — ٣٠٠ بعد الميلاد.
على أنه لا بدَّ من القول: إن معتقد الخلاص الجديد قد مارس بدوره تأثيرًا قويًّا على معتقدات الخلاص التي نافسته ردحًا من الزمن قبل أن تنهزم أمامه إلى الأبد، فبعض معتقدات الخلاص الغنوصية التي نشأت في الشرق القديم، وامتدت إلى العالم اليوناني الروماني خلال القرون الثلاثة التالية للميلاد، قد جعلت من السيد المسيح نفسه مركزًا لطقسها ومعتقدها. كما قامت المعتقدات الأقدم بانتحال بعض خصائص المخلِّص الجديد ونسبها إلى آلهتها. فأتباع الأورفية مثلًا قد أخذوا يصورون في أعمالهم التشكيلية أورفيوس معلقًا على الصليب (الشكل رقم ١٠-١)؛ مما يدل على أن كل ديانة كانت تحاول استمالة أتباع الديانة الأخرى، عن طريق الاستعارة منها، وصب رسالتها في قوالب مفهومة لديهم ومقدسة عندهم.

وبعد، لعل الزِّقاق القديمة، كما رأينا، لم تفسد الخمر الجديدة، والخمر الجديدة لم تشقق الزِّقاق القديمة، بل لقد حفظت الزِّقاق خمرها جاهزة في كل آنٍ للمؤمنين بجوهر الإلهي لا بحرفية اللاهوت وطرائق الكهنوت.

مريم المخلِّصة

لا تمدنا الأناجيل الأربعة الرسمية بمعلومات كافية عن السيدة مريم، التي تبدو شخصيتها غامضة وغير واضحة المعالم عبر سيرة السيد المسيح. فبشارة الملاك لمريم بالمولود الإلهي لا ترد إلا في إنجيل لوقا. وفي القليل الذي أورده إنجيل متى عن طفولة المسيح، لا تتضح العلاقة بين الأم والابن، ولا دور الأم في تربية وتنشئة ابنها. وعندما تريد المشيئة الإلهية إنقاذ العائلة المقدسة من بطش الملك هيرودوس يهبط الوحي على يوسف النجار ليأمره بالهرب إلى مصر هو وأسرته، وعندما يموت هيرودوس يهبط عليه ثانية ليأمره بالعودة. وفي كلا الإنجيلين تنتقل بنا الأحداث بسرعة عبر طفولة المسيح الغامضة، لنجد أنفسنا فجأة أمام يسوع الرجل يعتمد بماء الأردن. أما إنجيلا مرقس ويوحنا فيبتدئان بحادث الاعتماد، وما يليه من بدايات التبشير دون أي ذكر لميلاد يسوع وطفولته وحداثته.

وعبر حياة السيد المسيح التبشيرية القصيرة، لا نستطيع أن نتبين للسيدة مريم دورًا خاصًّا. وفي المواقف التي تجمع يسوع بأمه، لا نجد أصحاب الأناجيل يصرفون الأذهان إلى مريم، بل يبقى الابن في مركز الصورة وبؤرتها. نقرأ في إنجيل مرقس على سبيل المثال: «فجاء حينئذٍ إخوته وأمه ووقفوا خارجًا وأرسلوا إليه يدعونه، وكان الجميع جالسًا من حوله، فقالوا له: هو ذا أمك وإخوتك خارجًا يطلبونك، فأجابهم قائلًا: من أمي وإخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أمي وإخوتي … لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي.»٦٦ وفي إنجيل لوقا نقرأ: «وفيما هو يتكلم بهذا، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين أرضعاك. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه.»٦٧ وعندما يتكلم الابن والأم مع بعضهما البعض، لا تنبي طريقة تخاطبهما بعلاقة خاصة، بل العكس؛ إذ يسود جو من الموضوعية بينهما. ولعل في حادثة عرس قانا، الذي دُعيت إليه مريم كما دُعي إليه يسوع وتلاميذه في اليوم الثالث لهبوط الروح القدس؛ مثالًا على ذلك: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر، قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر. فقال يسوع: ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد.»٦٨ ولا يشذ إنجيل يوحنا عن الأناجيل الأخرى في طمس ملامح السيدة مريم، وذلك رغم أن يوحنا قد تعهَّد مريم بعد موت ابنها وضمها إلى بيته؛ تنفيذًا لوصية يسوع وهو على الصليب: «فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفًا، قال لأمه: يا امرأة، هو ذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هو ذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته.»٦٩

إلا أن تحولًا جذريًّا أخذ يطرأ على صورة السيدة مريم فيما بين القرن الأول والقرن الرابع للميلاد، بتأثير العاطفة الشعبية التي تركزت لأجيال طويلة حول الأم الكبرى، وبتأثير بعض القديسين الأوائل ممن أسسوا بكتاباتهم المبكرة وأشعارهم وصلواتهم لعبادة السيدة العذراء. ومن هؤلاء القديسين يوحنا الفم الذهبي، ومار أفرام السرياني، وميتوديوس وغيرهم. نقرأ في ترتيلة للقديس ميتوديوس:

«إن اسمك يا مريم، يا أم الله، ممتلئ نعمة وبركة إلهية. أنت أم المؤمنين. لقد أدركتِ ما لا يُدرَك، وحويت من لا يحده مكان. أنت أم الخالق، ومغذية مغذي الجميع. وقد حملتِ مَن بكلمته يحمل الجميع. لقد أقرضتِ الله الذي لا يعوزه شيء جسدًا ليظهر به للبشر. القدير على كل شيء، قد رضي أن يصير إنسانًا ويُعرِّف الناس إليه. أي شيء أعظم من هذا الشرف، وهو أن المالئ السماوات والأرض، والمالك كل شيء قد رضي أن يصير فقيرًا فيحتاج إليك. أنت أقرضت الله ثوبًا وجسدًا لم يكن له من قبل. ابتهجي يا أم الله وأمَته، فإن دائن الخليقة كلها قد صار مدينًا لك. نحن كلنا مدينون لله وهو صار مدينًا لك. والذي قال: أكرم أباك وأمك، شاء أن يحفظ هذه الشريعة التي سنَّها. لهذا غمر أمه نعمة شرفًا لأنها ولدته ميلادًا جديدًا.»٧٠
إلا أن أمومة مريم الإلهية قد بقيت موضوع خلاف بين المذاهب المسيحية الأولى، حتى انعقاد مجمع إفسوس الذي انتصر فيه التيار الغالب المؤمن بالأمومة. وقد رأس المجمع القديس كيرلس الإسكندري الذي أثرت تعاليمه على قرارات المجمع حول هذه النقطة. وكان من جملة أقواله التي ساقها في فترة التمهيد لعقد المجمع وخلاله: «إني أعجب من أولئك الذين يتساءلون: هل يجوز لهم أن يسموا القديسة العذراء أم الله أم لا؟ بما أن سيدنا يسوع المسيح هو الله، فكيف لا تكون التي ولدته أم الله؟ تلك هي العقيدة التي نقلها إلينا الرسل القديسون، ولو أنهم لم يستعملوا هذه العبارة.» وبعد انتهاء مداولات المجمع بحضور ١٥٠ أسقفًا تمت الموافقة على عقيدة الأمومة الإلهية، وتمَّ إطلاق اسم «أم الله» رسميًّا على السيدة مريم. وكان شعب مدينة إفسوس واقفًا تحت نوافذ قاعة الاجتماعات يترقب تحديد العقيدة وإعلانها. وما إن تم ذلك، حتى خرج الشعب كله إلى الشوارع، وسار الجميع وعلى رأسهم الأساقفة يقطعون شوارع المدينة والمشاعل في أيديهم والنساء يحملن المباخر، والجميع ينادون بأن مريم والدة الإله وينادون: يا مريم يا أم الله.»٧١

لقد فتح هذا اللقب الجديد الباب واسعًا أمام العاطفة الشعبية لتكريس السيدة مريم أمًّا كبرى. إن أمومة مريم الإلهية ليست أمومة للطبيعة الإلهية، ولا لكيان الابن القديم؛ لأنه الكلمة الذي كان عند الله بلا بداية، بل هي أمومة للإله الكلمة المتأنس يسوع. ومع ذلك فإن لقب أم الله قد وضعها في مصاف الأم الكبرى التي تُدعى لدى كل الثقافات بأم الإله. وبدأ الخيال الشعبي يسبغ عليها ويستعير لها كل خصائص وصفات الأمهات اللواتي كنَّ موضع عبادة في الديانات السابقة، واتخذت مقامًا في العبادة يأتي مباشرة بعد الثالوث المقدس. وذلك يرجع في رأينا إلى نزوع نفسي متأصل في الطبيعة البشرية لعبادة القوى الإلهية في تجليها الأنثوي، إلى جانب عبادتها في تجليها الذكري. ولقد استعرضنا عبر فصول هذا الكتاب رحلة السيدة مريم من قديسة إلى أم كبرى، ولا نجد حاجة لتقديم ملخص شامل حول هذا الموضوع.

ولقد ساهمت الأعمال الفنية والتشكيلية في رسم هذه الصورة الجديدة للسيدة مريم، وقدمتها كأبهى ما تكون الأم الكونية الكبرى. من فيض هذه الأعمال نشير إلى عملين يقدمان في رأينا فكرة عما حاولت بقية الأعمال أن تقول. ففي تمثال خشبي بالحجم الطبيعي من فرنسا القرن الخامس عشر،٧٢ نجد السيدة العذراء في وضعية الجلوس تحمل في يدها اليسرى كرة الكون، وتضم بيدها اليمنى الوليد الإلهي الواقف على ركبتها. إلا أن سر التمثال يكمن في أنه مجوف من الداخل وله مصراعان قابلان للفتح، فللوهلة الأولى يبدو التمثال عملًا عاديًّا من النوع المألوف، فإذا فتح المصراعان كشف التمثال عن معانيه السرانية، إذ نجد في داخله الإله الأب ممسكًا بيديه الاثنتين الصليب، والإله الابن معلقًا عليه، وكلاهما متضمنان في كون العذراء الرحيب. أما العمل الثاني فلوحة زيتية من روائع الفنان الإسباني فلاسكيز محفوظة في متحف مدريد تحت اسم تتويج السيدة. في هذه اللوحة نجد الثالوث المقدس مؤلفًا من الأب والابن والعذراء التي تتوسط الاثنين، شاغلة مركز الصورة وأكبر مساحة فيها، ويمسك الأب والابن بتاج يضعانه على رأس السيدة.
هذا الدور الكبير للسيدة العذراء قد جعلها شريكة كاملة للإله الابن في سر الفداء والخلاص، فبدونها لم يكن ممكنًا لملحمة الخلاص أن تتم وتستكمل شروطها. نقرأ في أناشيد الكنيسة الشرقية وصلواتها: «بما أنك كنز قيامتنا يا جديدة بكل تسبيح، انشلي الواثقين بك من قعر جب الزلات، فإنك أنت خلصت الحاملين تبعة الخطيئة بولادتك الخلاص. يا من هي قبل الولادة عذراء وبعد الولادة عذراء» … «السلام عليك يا فرحنا وسترنا وخلاص نفوسنا. إن أجناس الأرضيين كافة يلتجئون إلى سر معونتك» … «سهلي لي مناهج الخلاص يا والدة الإله؛ لأني دنست نفسي بخطايا سمجة، وأفنيت عمري كله بالتواني» … «لما حياك جبرائيل أيتها البتول، تجسد مع صوته سيد الكل فيك، أيها التابوت المقدس، وظهرتِ أرحب من السماوات إذ حملتِ خالقك. فالمجد للذي سكن فيك، المجد للذي أتى منك، المجد للذي حررنا بولادته منك.»٧٣ وفي المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أعلن الدستور العقائدي للكنيسة، ثم تناول شخصية السيدة مريم ودورها في تدبير الخلاص، وذلك في الفصل الثامن من الدستور الفقرة (٦٠) حيث نقرأ: «عن العذراء الطوباوية التي أُعدت منذ الأزل في تصميم تجسد الكلمة كي تكون أم الله، غدت إلى الأرض بتدبير العناية الإلهية أمًّا حبيبة للمخلِّص الإلهي وشريكة سخية في عمله بصفة فريدة أبدًا، وأمًّا للرب وديعة. بالحبل بالمسيح وبوضعها إياه في العالم وبتغذيتها له، وبتقدمته في الهيكل إلى أبيه، وتألمها مع ابنها الذي مات على الصليب، ساهمت في عمل المخلِّص مساهمة لا مثيل لها.»٧٤

وفي الواقع، فإن مثل هذه الكلمات التي تصدر عن أعلى سلطة رسمية كاثوليكية، لا يمكن إلا أن تكون ذات صيغة توفيقية بعيدة عن التطرف، وذلك حفاظًا على الروابط مع بعض الكنائس التي ليس لعبادة العذراء فيها المكانة نفسها، وتدعيمًا لسبل الوحدة المسيحية، ولعل في قول الكردينال الفرينك خلال مناقشات المجمع الفاتيكاني الثاني الآنف الذكر، ما يشير إلى الاختلاف بين الصيغة الرسمية للعقيدة والممارسة الشائعة؛ إذ قال: «إن التعبد للعذراء مريم شيء، والتعبير عن إيمان الكنيسة وتعاليمها شيء آخر.»

وبعد، لقد كانت السيدة مريم العذراء آخر تجلٍّ للألوهة المؤنثة في ضمير الإنسان، ويبدو أنها باقية معه على مرِّ الأزمان.

١  Robert Breffault, The Mothers, pp. 310–311.
٢  لمزيد من التفاصيل حول فكرة الموت والعالم الأسفل في أسطورة الشرق القديم، راجع مؤلَّفِي «مغامرة العقل الأولى»، سفر العالم الأسفل.
٣  George Every, Christian Mythology.
٤  Paul Schmitt Ancient Mysteries and their Transformation, p. 95.
٥  Walter Otto, The Meaning of Eleusinian Mysteries, p. 14.
٦  ibid, p. 15.
٧  F. Guirand, Greek Mythology, p. 108.
٨  Erich Neumann, The Great Mother, p. 323.
٩  Walter Otto, The Meaning of Eleusinian Mysteries, p. 39.
١٠  العهد الجديد، إنجيل يوحنا، ٣: ١٦.
١١  Walter Wili, The Orphic Mysteries, p. 67.
١٢  F. Guirand, Greek Mythology, p. 149.
١٣  Walter Wili, The Orphic Mysteries, pp. 70–75.
١٤  العهد الجديد، إنجيل متى ٤: ١٨–١٩.
١٥  James Frazer, The Golden Bough, pp. 408–409.
١٦  M. E. Harding, Woman’s Mysteries, p. 176.
١٧  J. Viaud, Egyptian Mythology, p. 17.
١٨  James Frazer, The Golden Bough, pp. 437–438.
١٩  Erich Neumann, The Great Mother, p. 166.
٢٠  George Nagel, The Mysteries of Osiris, p. 132.
٢١  Apuleius, The Golden Ass, pp. 240–241.
٢٢  Paul Schmitt, Ancient Mysteries, pp. 106–108.
٢٣  Allan Watts, Myth and Ritual in Christianity, pp. 27–23.
٢٤  ibid, pp. 41–43.
٢٥  ibid, pp. 51–54.
٢٦  الأب متري هاجي أثناسيو، الموسوعة المريمية، ص١٤٤–١٤٥.
٢٧  نفس المرجع: ص٣٥.
٢٨  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ١١: ٢٥–٢٦.
٢٩  نفس المرجع: ١٢: ٣١–٣٢.
٣٠  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهل رومية ٦: ٣–٩.
٣١  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهل غلاطية ٢: ٢٠.
٣٢  العهد الجديد، إنجيل لوقا ٥: ٣٧–٣٨.
٣٣  Joseph Campbell, The Mysteries (Edited), p. 337.
٣٤  James Frazer, The Golden Bough, p. 416.
٣٥  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ٣: ٥.
٣٦  العهد الجديد، إنجيل متى ٣: ١٣–١٧.
٣٧  Joseph Campbell, Oriental Mythology, p. 107.
٣٨  James Frazer, The Golden Bough, pp. 405–407, 407–419.
٣٩  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ٦: ٣٥.
٤٠  نفس المرجع: ٦: ٥١.
٤١  نفس المرجع: ١٥: ١.
٤٢  العهد الجديد، إنجيل متى ٢٦: ٢٦–٢٨.
٤٣  العهد الجديد، إنجيل لوقا ٢٢: ١٧–٢٠.
٤٤  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهالي كورنثوس ١١: ٢٣– ٢٦.
٤٥  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ١٥: ٤–٥.
٤٦  C. G. Jung, Transformation Symbolism in the Mass, p. 292.
٤٧  James Frazer, The Golden Bough, pp. 566–568.
٤٨  ibid, pp. 558–559.
٤٩  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهالي رومية ٣: ٢١–٢٥.
٥٠  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهالي إفسوس ١: ٣–٧.
٥١  العهد الجديد، رسالة يوحنا الأولى ٢: ١–٢.
٥٢  العهد الجديد، رؤيا يوحنا اللاهوتي ١: ٥–٦.
٥٣  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ١: ٢٩.
٥٤  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ١١: ٤٩–٥٢.
٥٥  James Frazer, The Golden Bough, pp. 628–629.
٥٦  ibid, pp. 655–660.
٥٧  ibid, pp. 662–663.
٥٨  ibid, p. 670.
٥٩  ibid, p. 669.
٦٠  F. Guirand, Roman Mythology, p. 202.
٦١  العهد الجديد، إنجيل يوحنا: ١٨: ٣٧–٤٠، و١٩: ١٤–١٥، و١٩.
٦٢  العهد الجديد، إنجيل متى ٢: ١–٢.
٦٣  نفس المرجع ٣٧: ٢٧–٢٩.
٦٤  العهد الجديد، رسالة بولص إلى أهل رومية ١: ٣.
٦٥  العهد الجديد، إنجيل لوقا ١: ٢٩–٣٢.
٦٦  العهد الجديد، إنجيل مرقس ٣: ٣١–٣٥.
٦٧  العهد الجديد، إنجيل لوقا ١١: ٢٧–٢٨.
٦٨  العهد الجديد، إنجيل يوحنا ٢: ١–٤.
٦٩  نفس المرجع: ١٩: ٢٦–٢٧.
٧٠  الأب متري هاجي أثناسيو، الموسوعة المريمية، ص١٨٤.
٧١  نفس المرجع: ص٣٢٨–٣٢٩.
٧٢  Erich Neumann, The Great Mother, p. 331, see plates 176, 177.
٧٣  الأب متري هاجي أثناسيو، الموسوعة المريمية، ص٣١١، ٣٩١، ٣٩٩.
٧٤  نفس المرجع: ٥١٣–٥١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤