الفصل الخامس

عشتار العذراء

يوم أحيلُ إلى فَناء كل ما قد خلقت،
ستعود الأرض محيطًا بلا نهاية كما في البدء.
وحدي، أنا، أبقى،
فأستحيل إلى أفعى كما كنت،
خفية عن الإفهام.١

هذا ما تحدثت به عن نفسها الأم المصرية الكبرى، مختصرة مبدأ الأشياء وحالها ونهايتها، فقبل البدء كان العماء، الظلمة الأزلية، الأوقيانوس المائي بلا سطح أو قرار، التماثل الساكن قبل أن تخرج منه الأشكال، الواحد قبل أن يتولد منه الكثير، التركيب المطلق قبل نشوء المتناقضات، النقطة التي تملأ كل فراغ، الرحم المظلم الخصيب بكل الممكنات، الأم الأزلية عشتار العذراء، الأفعى الكونية التي تستدير على نفسها فتعض على ذيلها واصلة مبتدأها بمنتهاها.

هذه الحالة الأولى التي تتداخل فيها الظلمة والمياه والسكون، هي الهيولى البدئية والمدار الأعظم الذي رمزت إليه ميثولوجيا الشعوب بشكل الحية التي تعض على ذيلها (الشكل ٥-١) دلالة الاكتمال الأزلي للمطلق قبل أن ينحل إلى مظاهر الكون المختلفة. فعشتار كانت ولا شيء معها، قيومة بذاتها، مكتملة بنفسها، غنية عن العالمين. وكانت عذراء لأنها ابتدأت الكون، فيما بعد، من خصبها الذاتي دون معونة من مبدأ ذكري مشارك لها في أزلها، فتولدت عنها الموجودات كما يتولد النور من مصدر الاحتراق، وإليها تعود الموجودات في نهاية الأزمان لتفنى فيها، وتبقى وحدها لتلتف على نفسها، كما كانت، دائرة مكتملة، بعد أن يهدأ صخب الوجود وتسكن حركة السالب والموجب وتتصالح المتناقضات.
fig59
شكل ٥-١: الأوروبورس — الأفعى الكونية.
خرجت الدارة الأولى عن سكونها واكتمالها الأزلي لكي تظهر الكون إلى الوجود، فتحركت على محورها ونتج عن حركتها السالب والموجب، اللذان نجم عن تناوبهما وتناقضهما كل الموجودات تباعًا، بدءًا من أول نقيضين هما السماء والأرض؛ السماء الموجبة والأرض السالبة؛ ففي الأسطورة السومرية كانت الأم «نمو» محيطًا بلا بداية أو نهاية أو قرار، ثم إن هذه الإلهة أنجبت في أعماقها المظلمة كتلة هي جبل السماء والأرض. من لقاح السماء للأرض ولد الهواء الذي تمدد فباعد بين أبويه، وهكذا ظهرت معالم الكون الأولى.٢ هذه الحركة الأمومية التلقائية التي خرج بها المطلق المؤنث عن سكونه وانحلَّ إلى الكون المادي، تكررها أسطورة التكوين البابلية إبان نضج الثقافة الذكرية، بشكلٍ مختلف يتفق مع معطيات الثقافة الجديدة. فخروج الأم الأولى من حالة العماء والهيولى الأولى لا يتم إلا كرهًا، حيث يشن عليها أولادها الذكور، الذين ولدتهم في أعماق رحمها المائي، حربًا شعواء بقيادة كبيرهم مردوخ الذي يقتلها ويشطر جسدها إلى قسمين؛ واحد يرفعه فيجعله سماء وثانٍ يبسطه أرضًا وبحارًا. ولكن الحبكة الذكرية للأسطورة لا تخفي أصلها الأمومي القديم الذي أعطتنا الأسطورة السومرية صورة قريبة منه، حيث يتم الخروج من حالة الأوروبوروس المغلق إلى حالة الكون المتحرك طوعًا ورغبة من الأم الأولى في إنجاب العالم.

تشير أسطورة التكوين البابلية إلى الأم تعامة باسم الأم «هابور» خالقة الأشياء جميعًا. ونفهم من سياق النص أنها كانت على هيئة تنين أو أفعى، وفي نفس الوقت يقدمها مطلع الأسطورة على أنها المياه البدئية:

عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء.
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض،
لم يكن سوى آبسو أبوهم،
وممو وتعامة التي حملت بهم جميعًا،
يمزجون أمواههم معًا.٣

يقدم لنا هذا المقطع المكثف صورة كاملة عن حالة الأقيانوس المائي البدئي المنكفئ على نفسه في صمت وسكون أزلي. فالأم الأولى تعامة قد أنجبت في داخلها «آبسو» وتزوجته، وعنهما نتج «ممو»، إلا أن هذين الاثنين لم يكونا إلا من ذات طبيعتها، ووجودهما كان مكملًا لوجودها. ولم تبدأ الحركة ويخرج الأوروبوروس عن تمامه إلا مع الجيل الثاني والثالث من الآلهة الذين بدءوا يهزون جوف تعامة ويملئون بطنها صخبًا وضجيجًا.

وتجمع الصحب المؤلهون،
أزعجوا بحركتهم جوف تعامة،
يروحون جيئة وذهابًا في مسكنهم المقدس.

هنا تحصل المواجهة بين السكون الأزلي والحركة التي تريد كسر الدارة والخروج إلى حالة جديدة:

فتح آبسو فمه قائلًا لتعامة بصوت مرتفع:

لقد غدا سلوكهم مؤلمًا لي،
في النهار لا أستطيع راحة وفي الليل لا يحلو لي رقاد،
لأدمرنهم وأضع حدًّا لفعالهم،
فيخيم الصمت ونخلد بعدها للنوم.

ولكن آبسو يخسر المعركة فيقتله الإله «إنكي» ويأسر ابنه ممو. وتجد تعامة نفسها أمام المعركة الفاصلة التي يتوجَّب عليها دخولها كارهة ضد أبنائها الآلهة بقيادة الإله الشمسي مردوخ:

الابن الشمسي، وشمس السماوات،
مثل نوره كنور عشرة آلهة معًا. جبار عتي،
(ولكنها تخسر المعركة ويُجهز عليها مردوخ بعد معركة مهولة):
نشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهبُّ وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في فمها الرياح الشيطانية فلم تقدر له إطباقًا،
وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة،
فبطنها منتفخ وفمها فاغر على اتساعه،
ثم أطلق الرب من سهامه واحدًا مزق أعماقها،
تغلغل في الحشا وشطر منها القلب،
فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها،
طرح جثتها أرضًا واعتلى عليها،
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.

بعد ذلك يشطر جسدها فيصنع منهما السماء والأرض ويتابع، من ثم، بقية أعمال الخلق.

إن هذه الملحمة المليئة بالزخرف والتهويل لا تعدو أن تكون بناء مصطنعًا فوق الأساس البسيط الذي رأيناه في أسطورة الأم السومرية «نمو». فإذا نحَّينا جانبًا المداخلة الذكرية التي أقحمت الذكر الأسمى مردوخ على سياق الأسطورة الأصلية، موكلة إليه مهمة الخلق وإخراج الكون من العماء بالعنف والقتل، لوجدنا أنفسنا أمام نفس العناصر: الأم العذراء المكتملة، حركة في داخلها تنتج السالب والموجب، انحلالها إلى السماء والأرض وبقية الموجودات. إن فكرة القتل الواردة في هذه الملحمة ليست إلا تحويرًا بلغة العقلية الذكرية لفكرة تجاوز المطلق حالته الساكنة وتحرك الأقطاب في داخله، وانتقاله إلى حالة دينامية جديدة تنطلق منها المادة غير المتشكلة التي ما تلبث أن تتشكل وتتكون. إن الكون بعد الخلق ليس إلا العماء البدئي، وقد خرج من حالةٍ إلى حالة دون أن يفقد جوهره الأصلي، الذي يبقى قائمًا في منطقة ثابتة يدور حولها الوجود، كما تدور العجلة على المحور الساكن.

في شرحه لنظرية التكوين الفينيقية المنسوبة لكاهن كنعاني غامض عاش في القرن الرابع عشر ق.م. اسمه «سانخو نياتن»، حاول الفيلسوف السوري «فيلو» في القرن الأول الميلادي تقديم ملخص عن أفكار الفينيقيين في التكوين فقال: «في البدء لم يكن هناك سوى ريح وعماء وظلمة، ثم إن هذه الريح وقعت في حب مبادئها الخاصة وتمازجت. ذلك التمازج كان الرغبة. هكذا كان مبدأ خلق الأشياء جميعًا، ولم يكن للريح معرفة بما فعلت. نتج عن تمازج الريح «موت» الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وكان بذرة الخلق.»٤ في هذه النظرية المصاغة بطريقة فلسفية، نعثر على نفس العناصر التي وجدناها في الأسطورة السومرية والبابلية. فهناك العماء البدئي المظلم الذي ولدت في أعماقه «الرغبة». بالرغبة تحركت الأقطاب الساكنة، فتمازجت الريح وواقعت نفسها بعد أن انفصلت إلى سالب وموجب، فأنجبت الكتلة الأولى البيضة الشبيهة بجبل السماء والأرض التي أنجبتها الأم السومرية الأولى «نمو»، عن هذه البيضة الكونية صدرت كل الأشياء.
فإذا عدنا إلى الميثولوجيا المصرية، وجدنا التقاليد الذكرية تطلق على العماء البدئي اسم «نون» وهو الأوقيانوس الذي كان قبل السماء والأرض. في أعماق هذا الأوقيانوس كانت تحوم روح بلا شكل أو هوية. ثم تركزت في داخلها تدريجيًّا كل ممكنات الوجود، وصار اسمها «آتوم» الذي يعني العدم وأيضًا «الاكتمال»، وهو الإله الذي تجلى ذات يوم تحت اسم آتوم-رع، وأخرج إلى الوجود الآلهة والبشر وكل شيء حي. وفي نصٍّ آخر نجد أن إله الشمس «رع» كان كامنًا في حضن المياه الأولى «نون» تحت اسم «آتوم». ولخوفه على بريقه من الانطفاء انطوى داخل برعم اللوتس الذي ظل هائمًا على غير هدى في الأعماق المائية، إلى أن جاء يومٌ سئم فيه من حالته الشبيهة بالعدم، فانبثق بإرادته وتجلى تحت اسم «رع»، ثم أنجب الهواء «شو» وتوأمه الإلهة «تفنوت»، اللذين أنجبا بدورهما الأرض «جيب» والسماء «نوت».٥ إن برعم اللوتس في هذه الأسطورة هو جبل السماء والأرض، البيضة الكونية التي تنطوي في داخلها على ممكنات الوجود، والكتلة الأولى المولَّدة من الأوروبوروس الكوني التي انقسمت إلى السماء والأرض وبقية مظاهر الكون. ونحن ما زلنا حتى الآن ضمن العناصر الأسطورية الأولى التي وضعها النص السومري ومن بعده البابلي. ولسوف نتابع هذه العناصر في ميثولوجيا شعوب أخرى.

تقتفي أسطورة التكوين التوراتية أثر أسطورة التكوين البابلية، فتعزو شق المياه الأولى وتكوين السماء والأرض من مادتها إلى الإله يهوه، الذي قام من قبله مردوخ بالمهمة ذاتها. نقرأ: «في البدء خلق الرب السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف على وجه المياه. وقال الرب: ليكن نور؛ فكان نور. ورأى الرب أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهارًا والظلمة دعاها ليلًا. وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا. وقال الرب: ليكن جَلَد في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه. فعمل الرب الجَلَد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجَلَد، وكان كذلك. ودعا الرب الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يومًا ثانيًا. وقال الرب: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة وكان كذلك، ودعا الرب اليابسة أرضًا ومجتمع المياه دعاه بحارًا.» إذا تغاضينا عن التناقض الواضح في هذا النص، والذي يرجع في أصله إلى إدماج روايتين بعضهما ببعض، وجدنا حالة السكون الأولى والعماء البدئي ممثلة بالمياه والظلمة وروح الرب الذي يرف فوق سطح الماء، في تموج أبدي دونما هدف أو غاية. ومطلع الأسطورة يتشابه في جوهره العام وإيحاءاته مع مطلع التكوين البابلي عندما كان آبسو وتعامة وممو يمزجون أمواههم معًا في سكون مطلق وتناغم أزلي. كما أن روح الرب الذي يرف فوق سطح الماء يشبه تلك الروح التي كانت تحوم دون شكل أو قصد داخل الأوقيانوس البدئي في الأسطورة المصرية، كما يشبه برعم اللوتس الذي يرحل في أعماق المياه في حالة أشبه بالعدم. وكما جاء وقت سئم فيه الإله رع من كمونه فأظهر نفسه بإرادته الخاصة، كذلك يفعل يهوه الذي أظهر الضدين الأولين وهما النور في مقابل الظلام، وأتبعهما بالمذكر والمؤنث فشق المياه الأولى مكونًا من شقيها السماء والأرض، كما شق مردوخ جسد تعامة.

وفي بلاد اليونان تقوم أسطورة التكوين الإغريقية، وفقًا لهزيود: «إنه في البدء كان العماء، ظلمة وامتدادًا بلا نهاية، ومن العماء ظهرت الأرض «جايا»، ثم الحب والرغبة «إيروس». وبعدها أنجبت جايا، دونما زوج، بكرها السماء «أورانوس» الذي غطاها من كل جهاتها، ثم خلقت الجبال والمحيط بأمواجه المتناغمة. وكانت الأرض خالية من كل حياةٍ، فتزوجت جايا ابنها أورانوس وأنجبت منه الجيل الأول من الآلهة ثم الجيل الثاني، وهم الآلهة «التيتان».»٦ ويبدو أن الإلهة جايا كانت المعبود الأول للإغريق القدماء قبل فترة نضج الحضارة الإغريقية وظهور آلهة الأوليمب. فهي الأم الكبرى التي تهب الخصب للأرض والإنسان والحيوان، وهي خالقة الكون والآلهة والبشر، وكان آلهة الأوليمب يقسمون باسمها.٧
تقدم لنا نظرية التكوين الأورفية تقليدًا إغريقيًّا آخر. ففي البدء كان الزمن الذي أنجب البيضة الكونية الفضية. من هذه البيضة خرج الإله فانيس-ديونيسيوس المضيء، وكان إلهًا مؤنثًا ومذكرًا في آنٍ معًا، له رأس ثور وجناحان. في داخله انطوى على بذور الوجود جميعًا، خلق السماوات والأرض والشمس والنجوم وأنجب الآلهة. كانت «نيكس» أي الليل ابنته الأولى، وبعدها أنجبت «جايا» و«أورانوس» ثم «كرونوس».٨ أطلق الأورفيون على فانيس أسماء متعددة: منها «إيروس»، ومنها «زاغروس»، ومنها «زيوس». وزيوس الأورفي لا علاقة له بزيوس كبير آلهة الأوليمب كما تصوره ميثولوجيا هزيود وهوميروس. نقرأ في ترتيلة أورفية مرفوعة لفانيس-ديونيسيوس تحت اسم زيوس:
زيوس هو الأول والآخر، المشع بنور البرق،
زيوس هو الرأس، هو الوسط، هو اكتمالات الأشياء،
زيوس هو عماد الأرض والسماء ذات النجوم،
زيوس كان ذكرًا، وكان عذراء إلهية،
زيوس روح الكون، وشعلة لا تنطفئ،
زيوس بداءة البحر وهو الشمس وهو القمر،
زيوس هو الملك، القاهر فوق الجميع،
في داخله أوجد الأشياء كلها وأطلقها نحو النور المبارك،
من صميم قلبه المقدس أظهر فِعالًا باهرة.٩

من الواضح أن كل ما يعزوه الفكر الأسطوري الأورفي إلى فانيس-ديونيسيوس كان في أصله للأم الكبرى؛ خصوصًا وأن الأورفية قد تفرعت عن ديانة الخصب الديونيسية، شأنها في ذلك شأن ديانات الخلاص السرية التي نشأت في صميم ديانة الأم الكبرى ثم استقلت عنها. فالبيضة الكونية الفضية هي كتلة السماء والأرض، والإله الذي تقول الأسطورة إنه انبثق من البيضة بطبيعة مؤنثة ومذكرة، هو الأم الأولى، الأفعى الكونية، وقد أنجبت السالب والموجب، المذكر والمؤنث؛ فالليل والنهار؛ فالسماء والأرض. إن فانيس المذكر والمؤنث هو رمز لتحرك المتناقضات في أعماق الأم الأولى العذراء المكتملة. والمضاجعة النرجسية بين شقيه هي إذابة لحالة التكامل الأولى وتجاوزها إلى وضع دينامي جديد. هذه المضاجعة التي تذيب الوحدة الأصلية لتُذكِّرنا بالمضاجعة التي تمت بين آدم وحواء. فآدم في الأسطورة الذكرية هو المخلوق الأول في جنة التكامل والسكينة الأبدية. ورغم أنه كان ذكرًا إلا أنه كان يحتوي في داخله على بذور الأنوثة الكامنة التي تحققت عندما استُلَّت منه حواء، فحصل انقسام المخلوق الأول وولدت المتناقضات، وحدثت المضاجعة التي أفقدت الذكر والأنثى وحدتهما الأولى وتكاملهما، وقذفت بهما إلى عالم الخير والشر، عالم المتعارضات هذا. ورغم أن الأسطورة الأورفية، الآنفة الذكر، لا تشير إلى ولادة البيضة الفضية من الأفعى الكونية، فإن الأعمال التشكيلية الأورفية تُظهر البيضة التي انطلق منها فانيس فيما بعد، وقد التفَّت عليها الأفعى في حركةٍ لولبية. وهذه الحركة اللولبية تعادل في مدلول الرمز حركة الأفعى المنغلقة التي تعض على ذيلها.

في المعتقد المسيحي نجد فكرة الأوروبوروس البدئي والدارة المغلقة في الحالة التي كان عليها المطلق قبل خلق العالم. فكما رأينا في الفصل السابق: «كان المطلق قبل الأزمان ثلاثة: الإله الأب والإله الابن والروح القدس. وكان الابن موضوع حب الأب، أما الروح القدس فكان الحب الساري بينهما، وهو الذي كان وراء خلق العالم وهو الذي ميَّز علاقة الله بالكون.١٠ فالحب هنا، هو الذي يغلق المدار الأعظم البدئي، منتقلًا من الأب إلى الابن، ومن الابن إلى الأب في حركة أبدية تكرس السكون التام للمطلق المكتفي بذاته، اكتفاء الأقانيم الثلاثة: تعامة وآبسو وممو في الأسطورة البابلية. ولكن الحب الذي يغلق هذه الدارة هو الذي يكسرها فتنفتح لتشمل الكون الذي يتم خلقه بواسطة الإله الابن. وهنا يلعب الحب نفس الدور الذي لعبه في تكوين سانخونياتن عندما «وقعت الريح في حب مبادئها الخاصة وتمازجت، هذا التمازج كان الرغبة»، ونفس الدور الذي لعبه في التكوين الإغريقي عندما خرج إيروس من العماء الأول بعد جايا، وكذلك في التكوين الأورفي عندما كان إيروس أول من خرج من بيضة الأوروبوروس.

بدافع الحب خرج الإله الابن من الدارة المطمئنة والعلاقة النرجسية الأزلية، فرسم على سطح المياه التي كان روح الثالوث يرف فوقها قبل التكوين، دائرة الكون، البيضة الأولى. وهذا هو معنى الترتيلة التي ما زلنا نسمعها يوم الجمعة الحزينة: «اليوم عُلق على خشبة، الذي علق الكون على المياه.» وإلى هذا العمل الأول من أعمال الخلق، تشير بعض اللوحات الفنية التي تصور الإله الابن وقد أمسك بيده فرجارًا يرسم به كرة فوق سطح المياه الأولى، تحتوي بداخلها مادة الكون في شكلها الأوَّلي. ولكن ما طبيعة هذه المياه الأولى التي أنجبت كرة الكون بمعونة الإله الابن، هذه المادة التي كان الثالوث المقدس يرف فوقها في انسجامٍ مطلق، والمشاركة له في أزليته؟

إن كل هذه الرموز الأسطورية الخاصة بالسيدة مريم العذراء على غناها وتعقدها، لتشير بشكل سراني إلى أنها المادة الأولى العذراء، التي شقها الخالق لاستخراج مظاهر الكون من رحمها البدئي، فهي «النبع المختوم» و«الرحم المقدس»، وهي مياه الغمر الأولى، وهي البيضة البدئية التي كورها اللوغوس فوق المحيط، وهي زهرة العالم التي يفيض الوجود من مركزها. تصورها بعض الأعمال التشكيلية وقد خرجت من زهرة كونية تنفتح كما يتفتح الرحم عند الولادة (الشكل رقم ٥-٢)، وليس تجليها في الزمن تحت اسم مريم ابنة حنة ويواكيم، إلا مقدمة لدخول المطلق في التاريخ، من أجل تحقيق خلاص البشر. وفي القدَّاسات الخاصة بالسيدة مريم، وخصوصًا يوم صعودها إلى السماء تتلى الصلوات والتراتيل المأخوذة من العهد القديم، مع إسباغ معانٍ جديدة عليها تنطبق على السيدة مريم باعتبارها الأم التي كانت قبل العالم، والتي ستستمر بعد فنائه.١١ ونشير في هذا المجال خصوصًا إلى ذلك المقطع من سفر الأمثال الذي يتحدث عن حكمة الرب: «الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم، منذ الأزل مُسِحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض؛ إذ لم يكن غمر أُبدِئْتُ؛ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال أبدئت إذ لم يكن قد صنع الأرض ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبت السماوات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر.»١٢
يظهر رمز الدائرة العذراء والأوروبوروس في بعض الأعمال التشكيلية المسيحية. ففي الشكل (٥-٣) نجد البيضة الكونية تحيط بها الأفعى، ومنها ينبت الصليب. ربما أراد الفنان في هذه اللوحة أن يقول: إن العالم قبل هبوط الإله الابن كان مسرحًا للموت وللشيطان الذي تمثله الأفعى، وأن موت المسيح على الصليب قد خلص البشر من ربقة الموت ومن سطوة الشيطان. ولكن الرمز لا يستأذن عالم الشعور الفردي قبل أن ينبثق؛ لأنه يسير عبر السيكولوجيا الإنسانية من جيلٍ إلى جيل متبعًا مسالك اللاشعور الجمعي.
fig60
شكل ٥-٢: الأوروبوروس وشجرة الصليب – حفر على الخشب، فرنسا ١٨٣٠.
fig61
شكل ٥-٣: السيدة العذراء زهرة الكون – حفر على الخشب، ألمانيا القرن ١٦.

لعل أجمل تعبير عن المدار الأعظم الذي تجاوز نفسه، فأنتج الكون بعد أن تحركت في صميمه المتناقضات، قد أنتجته الحكمة التاوية في الصين، تلك الحكمة التي تخللت الثقافة الصينية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وسيطرت على الحياة الروحية في الشرق الأقصى. نقرأ للحكيم لاو تسو واضع أسس التاوية في كتابه: تاو تي تشينغ الذي يعتبر إنجيل المذهب التاوي، النص الآتي:

شيءٌ ما لا شكل له،
موجود قبل السماوات والأرض،
صامتٌ وخاوٍ،
قائم وحده لا ينتابه تغيير،
يدور على نفسه ولا يبلى،
إنه بحق أم هذا الكون،
لا أعرف اسمه، فأدعوه اﻟ «تاو»،
لا أستطيع وصفه، فأقول: العظيم،
عظمته امتداد في المكان،
الامتداد في المكان، يعني امتدادًا بلا نهاية،
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة البدء.١٣
هذا المطلق القديم الساكن الصامت، الذي يمتد في المكان امتدادًا لا نهائيًّا فيعود إلى مبدئه، كأنه في حركة ولكنه ثابت مستقر، قد عبَّر عنه التصوف الإسلامي بلسان ابن عربي عندما قال: «ولهذا يرجع فخذ البركار في فتح الدائرة عند الوصول إلى غاية وجودها إلى نقطة البداية، فارتبط آخر الأمر بأوله وانعطف أبده على أزله، فليس إلا وجودًا مستمرًّا، وشهودًا ثابتًا مستقرًّا.»١٤ ولكن هذه الدارة الفارغة التي رمز إليها الفكر التاوي بدائرة كاملة، قد أنتجت في داخلها القوتين الكونيتين العظيمتين: قوة «يانج» الموجبة، وقوة «ين» السالبة. وراحت أعماقها تضطرب بحركة هاتين القوتين، وتناوبهما الذي نشأت عنه كل الموجودات. وتحولت دائرة التاو الفارغة إلى دائرة اليانج-ين المؤلفة من مساحتين متداخلتين في حالة دورانية (الشكل ٥-٤) وكأنهما سمكتان ملتفَّتان على بعضهما؛ واحدة بيضاء ترمز لليانج الموجب المذكر، والأخرى سوداء ترمز للين السالب المؤنث. وفي كل مساحة توجد دائرة صغيرة بلون المساحة المقابلة تأخذ شكل العين من السمكة للدلالة على تداخل القوتين، ووجود بذرة كل منهما في الأخرى. ففي كل مظهر من مظاهر الكون المادي والحيوي، هناك مقدار من اليانج ومقدار من الين يتفاعلان دون أن يلغي أحدهما الآخر.
fig62
شكل ٥-٤: دائرة اليانج-ين.
تعود بنا دائرة اليانج-ين إلى شكل الصليب الذي يأخذ الآن معنى جديدًا، وهو تقاطع القوتين العظميين في الوجود عند نقطة المحور، وإلى شكل السواستيكا (الصليب المعقوف) الذي يمثل هاتين القوتين في حركتهما الدورانية. إن ذراعَي صليب عشتار المعقوف في وضع الحركة ضمن الدائرة، لهما دلالة مشابهة لدلالة اليانج-ين في مدار التاو. فهما النقيضان المولودان عن الدائرة العذراء. وهما ما حدَّث عنه التصوف الإسلامي بلسان الشيخ عبد الكريم الجيلي إذ قال: «واعلم أن الوجود والعدم متقابلان وفلك الألوهية محيط بهما؛ لأن الألوهية تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق والخلق والوجود والعدم، فيظهر فيها الواجب مستحيلًا بعد ظهوره واجبًا، ويظهر المستحيل واجبًا بعد ظهوره فيها مستحيلًا.»١٥ ولذا فقد كان الصليب المعقوف رمزًا لرحلة البوذا الروحية في الفكر الشرقي؛ لأن السعي الروحي نحو المطلق هو خروج من المتناقضات ودخول في الأبدية الكاملة؛ خروج من دورة السالب والموجب ورحيل نحو المدار المنغلق الساكن، أو نحو مركزه الثابت الذي يدور حوله الوجود المتحرك، وحركة السواستيكا التي أظهرت المكان والزمان والعوالم المادية هي التي تحمل العارف بحركتها العكسية إلى ما وراء المكان والزمان والمادة.
fig63
شكل ٥-٥: سواستيكا وماندالا من الفن البوذي.
fig64
شكل ٥-٦: صليب وماندالا من الفن المسيحي.
يُظهر الشكل (٥-٥) وهو عمل تشكيلي من الفن البوذي، «ماندالا» وفي مركزها سواستيكا. أما الشكل (٥-٦)، وهو عمل تشكيلي من الفن المسيحي، فيُظهر «ماندالا» وفي وسطها دائرة فارغة وصليب. ويكاد العملان يتشابهان في كل عنصر من عناصر التكوين الفني فيهما. إن ما يريد هذان العملان أن يفضيا به، قد أفضى به إنسان الثقافة النيوليتية في سوريا منذ الألف الخامس قبل الميلاد، عندما ابتكر لأول مرة الشكل الزخرفي الذي عُرف فيما بعد باسم الماندالا، وهو دائرة تنقسم إلى أجزاء متناظرة تشد كلها نحو المركز، أو تشع عنه في تكوين جمالي متماسك. وقد استعملت الماندالا على الدوام، ولدى جميع الثقافات فيما بعد، في الرسوم الدينية، وما زال حكماء الشرق الأقصى إلى اليوم يستغرقون في تأملاتهم أمامها. ففي الشكل (٥-٧) الذي تظهر فيه ماندالا من تل حلف، نجد صليبًا يقسم الدائرة إلى أربعة أقسام متناظرة متساوية، بينما يتألف محيط الدائرة الخارجي من خط يرسم تموجات صغيرة كأنها أمواج البحر. أما الشكل (٥-٨)، وهو ماندالا من سامراء على نهر الدجلة، فنجد الصليب الساكن والصليب الدائر/السواستيكا (الذي يوحي بالدوران) وقد تطابقا في تكوين واحد ضمن دائرة الأوروبوروس الكلي.
fig65
شكل ٥-٧: ماندالا وصليب ساكن – أريدو، بلاد النهرين، الألف الرابع ق.م.
fig66
شكل ٥-٨: ماندلا وسواستيكا – سامراء، الألف الرابع ق.م.
لم يترك لنا إنسان العصر النيوليتي نصوصًا تأملية تشرح لنا رموز الماندالا الأولى ودلالتها، ولكنها في رأينا أول محاولة تأملية للإنسان في المطلق الساكن القديم، الذي أنجب القوتين العظميين اللتين تناوبتا لإظهار الكون المادي. إن سواستيكا سامراء ودائرة اليانج-ين الصينية، ليستا إلا تبدِّيان لرمز واحد. يدعم وجهة نظرنا هذه أن الصليب والسواستيكا ما زالا مرتبطين إلى اليوم بأفكار الخلق والتكوين عند بعض الثقافات، التي كانت إلى عهد قريب تعيش في المرحلة الشبيهة بالنيوليتية.١٦ ففي الشكل (٥-٩) نجد تكوينًا يرمز به الهنود الحمر في أوكلاهوما إلى خلق العالم. في مركز الشكل سواستيكا صغير ضمن دائرة وحوله سواستيكا أكبر تأخذ أذرعه شكل رءوس الطير. وفي الشكل (٥-١٠) الذي يعتبر من الرموز المقدسة لدى هنود أوكلاهوما أيضًا، نجد في وسط التكوين صليبًا ضمن دائرة صغيرة يحدد خطاه المتقاطعان مركز المدار، وحول الدائرة الصغيرة تلتف أربع أفاع في حركة دورانية سواستيكية.
fig67
شكل ٥-٩: سواستيكا خلق العالم عند الهنود الحمر.
fig68
شكل ٥-١٠: الأفعى السواستيكا عند الهنود الحمر.
هذا وقد ارتبطت فكرة المطلق لدى متصوفة المسلمين برمز المدار المغلق الأعظم، نقرأ للشيخ عبد الكريم الجيلي من القرن السابع الهجري: «واعلم أن أبده عين أزله، وأزله عين أبده. وهما وضعان لله أظهرتهما الإضافة الزمانية لتعقل وجوب وجوده، وإلا فلا أزل ولا أبد. كان الله ولا شيء معه. فلا وقت له سوى الأزل الذي هو الأبد، الذي هو حكم وجوده باعتبار مرور الزمن عليه، وانقطاع حكم الزمن دون التطاول إلى مسايرة بقائه، فبقاؤه الذي ينقطع الزمان دون مسايرته هو الأبد، فافهم …»١٧ إن أزل المطلق الذي يمتد بلا نهاية، وفق هذا النص، ليتحول إلى أبد راجعًا إلى نقطة مبتدئه. ودارته هذه هي دارة التاو الذي حدثنا عنها لاوتسو عندما قال: «الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة البدء.» فهي دارة تنقل الأبد إلى الأزل إلى الأبد، وهي في الوقت نفسه مجرد نقطة؛ لأن هذه الحركة اللانهائية بين الأزل والأبد تجعلهما متطابقين، ويصير مركز الدائرة منها المحيط والمحيط منها المركز، لهذا يعبر العقل العربي عن مفهوم الصفر بنقطة، ويعبر عنه العقل الغربي بدائرة فارغة.
عن النقطة المطلقة التي صدر — فيما بعد — عنها الوجود، نقرأ للجيلي أيضًا: «واعلم أن النون عبارة عن انتقاش صور المخلوقات بأحوالها وأوصافها، كما هي عليه جملة واحدة. وذلك الانتقاش عبارة عن كلمة الله تعالى لها: كن؛ فهي تكون حسبما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. فلهذا قلنا: إن النون مظهر كلام الله تعالى. واعلم أن النقطة التي فوق النون هي إشارة إلى ذات الله تعالى الظاهرة بصورة المخلوقات. فأول ما يظهر من المخلوقات ذاته، ثم يظهر المخلوق؛ لأن نون ذاته أعلى وأظهر من نون المخلوق … فإذا علمت أن النقطة إشارة إلى ذات الله تعالى، فاعلم أن دائرة النون إشارة إلى المخلوقات»، وأيضًا: «فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان. فهو في عالم المثل كالدائرة التي أشار إليها الهاء. فقل ما شئت؛ إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق؛ فهو حق وهو خلق.»١٨ ولمحيي الدين ابن عربي عن دائرة الحق والخلق نقرأ: «دائرة الوجود أولها حب وافتراق، وآخرها حب وتلاق. ومحورها الحق ومحيطها ما لا يحصى من مجالي الوجود. الكل يخرج من المركز والكل يعود إليه.»١٩ فالحب أول ما خرج من دائرة العماء المغلقة، وبه تم خلق العالم وافتراقه عن المدار الأعظم، وبالحب تعود الموجودات لتلتحم بمصدرها وتذوب فيه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ قرآن كريم.٢٠

لقد لخص الرقص الديني لدى بعض فرق المتصوفة المسلمين، هذا السعي الروحي للوصول إلى المطلق بإدراك سر الدائرة وسر الحركة الدورانية للسواتيكا. ففي طقوس فرقة «المولوية» التي أسسها جلال الدين الرومي في القرن السابع الهجري، وما زالت حية إلى اليوم في تركيا وسوريا، يقوم الراقص على إيقاع الدفوف بالدوران على قدمٍ واحدة، باسطًا ذراعيه اللذين يرسمان حوله دائرة يضع نفسه في مركزها. وبتسارع الحركة يرحل من محيط الدائرة إلى مركزها، من الظاهر نحو الباطن، من محيط الخلق إلى مركز الحق. إن ما يقوم به الصوفي بالدوران حول مركز الحق الذي يتلمسه في داخله، إنما يقوم به كل مسلم يؤدي فريضة الحج عندما يدور حول الكعبة؛ مركز الحق الذي يتلمسه أهل الظاهر في الخارج.

ليس طقس المولوية بالجديد في تاريخ الطقوس الدينية؛ فالرقص الدائري كان شائعًا في ديانات الأسرار الشرقية، وازدهر لدى بعض الفرق الغنوصية، وقد قام السيد المسيح برقصة دائرية مع أصحابه قبل أن يُقاد إلى الصليب وفقًا لكتاب «أعمال يوحنا»، وهو جزء من أعمال الرسل رفضته الكنيسة واعتبرته من الأعمال المنحولة. يعود هذا الكتاب بتاريخه إلى مطلع القرن الثالث الميلادي، وهي الفترة التي اتخذت فيها الأناجيل شكلها الأخير. فيه يتحدث يوحنا الإنجيلي عن سيرة المسيح بطريقة أقرب إلى الفكر الغنوصي منها إلى النمط الإنجيلي المعروف، وفيه نقرأ أن السيد المسيح قبل أن يسلم نفسه، قد جمع حوارييه الاثني عشر لرفع صلاة للإله الأب، وتأدية رقصة دورانية كان هو قائدها. من كلماته في تلك الصلاة: «دأب الألوهة الدوران … سأنفخ في المزمار لترقصوا كلكم دورانًا. من تقاعس عن الرقص فاته سر هذا الاجتماع»، وبعد الانتهاء يمضي السيد إلى المحاكمة والصلب ويتفرق الحواريون. أما يوحنا فيأوي إلى كهف في جبل الزيتون يبكي. وفي الساعة السادسة للصلب يخيم الظلام على الأرض كلها، ولكن المسيح يتجلى ليوحنا فيضيء الكهف، ويتوجه إليه بالكلام قائلًا: «بالنسبة للحشود المجتمعة هناك، أنا مصلوب وأوخز بالرماح وأتجرع الخل والمرار … ولكن الصليب الذي ستراه وأنت هابط ليس هو الصليب … ولست أنا من تراه معلقًا على الخشبة.»٢١

النبع المختوم

تتجلى الأم الكبرى باعتبارها الطبيعة الكلية بعد أن تجلت باعتبارها العماء البدئي. وكما أنتجت من دارتها العذراء المكتملة الكون، كذلك يُنتج اكتمالها على المستوى الطبيعي كل ما يحفظ الكون ويديم استمراره، فتعطي دون أن تنقص وتهب دون أن تنفد، كنبع مختوم أو كإناء فخاري مغلق، تخرج مياهه دون أن يُكشف غطاؤه. فهي خصب الأرض وكل ما يخرج منها، وهي مياه الأمطار العلوية ومياه الأعماق الباطنية التي تتفجر أنهارًا وعيونًا، وهي نبعة الحياة والطاقة الكامنة خلف كل متحرك. وكل ما يصدر عنها هو فيض ذاتي متولد عنها دون علة خارجة عنها فاعلة فيها. وهذا هو مدلول عذرية الأم الكبرى على المستوى الطبيعي.

وعندما أخذت الثقافة الذكرية توطد أركانها، وبدأ الرجل بالصعود ليشارك المرأة سلطانها في حياة الجماعة، ولدت العذراء ابنًا دونما نكاح، بقواها الذاتية، وخصبها الذي يحتوي في صميمه بذور الأنوثة والذكورة معًا. وكما كانت عشتار عذراء قبل الولادة، كذلك هي عند الولادة؛ لأن عذريتها رمز اكتمالها وغناها عمن سواها، ورمز لأسبقية المبدأ الأنثوي على المبدأ الذكري. وأختام عشتار لم تُفض لزرع بذرة الإله الابن، ولم تُفض لخروجه، ولن تُفض بعد ذلك بالممارسة الجنسية؛ لأن أختامها رمز اكتمالها وغناها واغتنائها، ورمز لسيطرتها على جسدها الذي لا ينقص منه الجماع، ولا يترك فيه ذكَرٌ علامة. لذا فقد حملت إلهات الطبيعة لقب العذراء. فهذه إنانا السومرية في أكثر من نص تُخاطَبُ بالعذراء، أو تتحدث عن نفسها كعذراء؛ ففي حوارية بينها وبين أوتو إله الشمس حول زواج الإلهة المرتقب نقرأ: «أي أختاه عليك بالراعي الكثير الأنعام، إنانا أيتها العذراء لماذا تُعرضين عن الراعي …؟ أنا العذراء سأتزوج المزارع، الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة.»٢٢ في نصوص بعل وعناة الأوغاريتية نقرأ عن لقاء الإلهين الحبيبين: «في توق شديد أمسك بفرجها، في توق شديد أمسكت بقضيبه، عليان بعل قام بفعل الحب آلاف المرات مع العذراء عناة.»٢٣ إن آلاف المرات من المضاجعة بين بعل وعناة لا تذهب ببكارة الإلهة المتجددة؛ لأن بكارتها رمز للدافع الجنسي الكوني الذي يدفع الكائنات الحية بعضها إلى بعض، ويساهم في استمرارها وبقائها. ومن أسماء الأم الكريتية الكبرى «بريتوماريتس» أي: العذراء العذبة.٢٤ وهي التي تبدو في معظم رسومها، وعلى حضنها أو ذراعها ابنها الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الرجولة والاستقلال عن الأم طيلة فترة الحضارة المينوية. وفي معابد الخصب الكنعانية كان ميلاد الإله الابن يعلن بصرخة ابتهاج عالية عند منتصف الليل: «ها هي العذراء تلد ابنًا والنور ينتشر»، وذلك عند منتصف ليلة الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)٢٥ وهي الليلة التي ولد فيها يسوع الناصري فيما بعد؛ تحقيقًا لبشارة الملاك ليوسف النجار: «لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم؛ لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.»٢٦
وعندما ولدت عشتار ابنها، شِقها الذكري الكامن فيها منذ الأزل، تزوجته لتخصب نفسها به فتستعيد إلى نفسها قوتها الإخصابية الذاتية التي أطلقتها نحو الخارج. ولذلك كان الإله الابن ابنًا للأم الكبرى، وزوجًا أو حبيبًا في نفس الوقت. هذا هو شأن تموز ابن عشتار البابلية، وأدونيس ابن عشتار الكنعانية، وأوزوريس في شكل حورس ابن إيزيس المصرية، وآتيس ابن سبيل وزيوس ابن رحيا الكريتية. وبعيدًا عن الشرق القديم والعالم الهيليني نجد الأم العذراء وابنها قد وصلا إلى شواطئ العالم الجديد مع وصول الزراعة إليها. ففي ثقافة الأزتيك٢٧ نجد الأم العذراء إلهة الطبيعة والخصب وقد حملت بابنها دون نكاح، ثم أسلمته للموت من أجل استمرار دورة الزراعة، فكان يموت مع بذار الذرة وينتعش مع ظهور عيدانها الجديدة. وفي الطقوس الخاصة بهذا الإله، كان عُبَّاده يصنعون تماثيل صغيرة له من عجين ممزوج بدماء الضحايا فيأكلونها على أنها جسد الإله ودمه. وفي أسطورة صينية٢٨ كانت الإلهة الأم تجلس وحيدة على عرش الكون، وهي التي وطَّدت النظام ويسرت أسباب الحضارة بعد الطوفان الكبير الذي اجتاح الأرض، مبتدئة بذلك تاريخ الثقافة الصينية. ثم إن هذه الأم العذراء أنجبت ابنًا وتزوَّجته، ولكن أبناءها استطاعوا فيما بعد إقصاءها ومشاركتها في سلطاتها.
إن تفسيرنا لمفهوم الميلاد العذري، وعلاقة الابن-الحبيب بين عشتار وابنها، ليجد دعمًا له في المكتشفات الأثرية الجديدة التي قدمت لنا أعمالًا فنية من العصر النيوليتي تُظهر الإله الابن تارة بين ذراعَي أمه كطفل، وتارة أخرى في وضع جنسي شبقي معها، راجع الشكل (٩-٣) والشكل (٩-٤)، فصل تموز الخضر.

عند هذا الحد نستطيع مراجعة المعاني والمستويات المتعددة لعذرية عشتار، فهي عذراء على المستوى البدئي؛ لأنها الأوروبوروس المغلق الذي انحلَّ إلى عالم المادة المتنوع، وهي عذراء على المستوى الطبيعي يفيض خصبها على العالم دون مؤثر خارجي، وهي العذراء التي أنجبت لأول مرة دون إخصاب من ذكر، وهي العذراء السيدة التي تبقى بكارتها رمزًا لسلطانها على نفسها وجسدها، ولا يقوم إلى جانبها زوج يساويها أو يعلو عليها، أو ينقص من اكتمالها. وعند جميع هذه المستويات، لا علاقة للعذرية العشتارية بمفهوم التبتُّل الجنسي.

١  Erich Neumann, The Great Mother, p. 217.
٢  S. N. Kramer, Sumerian Mythology.
٣  Alexander Heidel, The Babylonian Genesis.
٤  L. Dellaport, Phoenician Mythology, p. 82.
٥  J. Viaud, Egyptian Mythology, p. 11.
٦  F. Guirand, Greek Mythololgy, pp. 11–12.
٧  ibid, p. 12.
٨  Walter Willi, The Orphic Mysteries and the Greek Spirit. p. 73.
٩  Hans Leisebang, The Mystery of the Serpent, p. 215.
١٠  Allan Watts, Myth and Ritual in Christianity, pp. 30–31.
١١  Allan Watts, Myth and Ritual in Christianity, pp. 30–31.
١٢  العهد القديم، سفر الأمثال، ٨: ٢٢–٣٠.
١٣  Lao Tzu, Tao Te Chikg p.
١٤  محي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٢٢.
١٥  الشيخ عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، ج١ ص٣٨.
١٦  Joseph Campbell, Primitive Mythology, pp. 232–234.
١٧  الشيخ عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، ج١ ص١٠٣.
١٨  نفس المرجع السابق: ص٣٦، ص٣١.
١٩  محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ج١ ص٢٢٠.
٢٠  قرآن كريم (سورة الرحمن: ٢٦، ٢٧).
٢١  Max Pulver, Jesus Round Dance, pp. 178–181.
٢٢  راجع مؤلَّفِي مغامرة العقل الأولى، فصل قابيل وهابيل.
٢٣  راجع مؤلَّفِي: مغامرة العقل الأولى، فصل الإله الميت.
٢٤  F. Guirand, Greek Mythology, p. 10.
٢٥  James Frazer, The Golden Bough, p. 416.
٢٦  العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح ١: ٢٠–٢٥.
٢٧  Erich Neumann, The Great Mother, p. 199.
٢٨  Sukie Colegrare, The Spirit of the Valleys p. 33.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤