الفصل الثالث

ثرثار يُخْبِرُ طَائِرَ السِّنْدِيَانِ سامي عَنِ ابْنِ عِرْسٍ شادو

انْطَلَقَ ثرثار لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ عَبْرَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَكَانَ يَسِيرُ بِلَا هُدًى. وَلَمْ تَشْغَلْ بَالَهُ سِوَى فِكْرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ أَلَا وَهِيَ الِابْتِعَادُ عَنْ شادو قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِ. وَكَانَ كُلَّمَا خَطَرَ شادو بِبَالِهِ سَرَتِ الْقُشَعْرِيرَةُ فِي جَسَدِهِ كُلِّهِ.

وَتَعَالَى صَوْتٌ مِنْ شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ مَرَّ بِهَا قَائِلًا: «يَبْدُو لِي أَنَّكَ فِي عَجَلَةٍ مِنْ أَمْرِكَ.»

وَقَدْ عَرَفَ ثرثار ذَلِكَ الصَّوْتَ دُونَ النَّظَرِ لِلتَّحَقُّقِ مِنْ هُوِيَّةِ صَاحِبِهِ؛ فَجَمِيعُ مَنْ فِي الْغَابَةِ يَعْرِفُونَ ذَاكَ الصَّوْتَ؛ فَقَدْ كَانَ صَوْتَ طَائِرِ السِّنْدِيَانِ سامي.

وَصَاحَ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي فِي اسْتِهْزَاءٍ: «يَبْدُو لِي وَكَأَنَّكَ كُنْتَ تَهْرُبُ مِنْ أَحَدٍ مَا.»

رَغِبَ ثرثار فِي التَّوَقُّفِ وَافْتِعَالِ مُشَاجَرَةٍ مَعَ سامي، كَعَادَتِهِ مَتَى الْتَقَى بِهِ، وَلَكِنَّ الْخَوْفَ مِنْ شادو كَانَ مَا زَالَ يَتَمَلَّكُهُ.

فَرَدَّ بِصَوْتٍ خَفِيضٍ لِلْغَايَةِ: «ﻧَ… ﻧَ… نَعَمْ.»

بَدَا سامي وَكَأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ أَخْطَأَ السَّمْعَ؛ فَهُوَ لَمْ يَرَ ثرثار يُقِرُّ بِخَوْفِهِ قَطُّ، فَثرثار — كَمَا تَعْلَمُونَ — مُخْتَالٌ كَبِيرٌ. لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَخَافَهُ هَكَذَا أَمْرًا خَطِيرًا جِدًّا.

فَسَأَلَهُ سامي بِحِدَّةٍ: «مَا الْأَمْرُ؟ لَطَالَمَا عَرَفْتُ أَنَّكَ جَبَانٌ، وَلَكِنَّهَا أَوَّلُ مَرَّةٍ أَرَاكَ تُقِرُّ بِذَلِكَ. مِمَّنْ تَهْرُبُ؟»

فَأَجَابَهُ ثرثار بِصَوْتٍ مَا زَالَ خَفِيضًا جِدًّا، كَأَنَّهُ خَائِفٌ مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ: «ابْنِ عِرْسٍ شادو.» وَأَرْدَفَ: «لَقَدْ عَادَ ابْنُ عِرْسٍ شادو إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَأَفْلَتُّ مِنْهُ بِصُعُوبَةٍ بَالِغَةٍ!»

فَصَاحَ سامي: «أُوهْ! إِنَّهُ لَأَمْرٌ يَسْتَدْعِي الِاهْتِمَامَ. كُنْتُ أَظُنُّ شادو بِالْأَعْلَى فِي الْمَرْعَى الْقَدِيمِ. إِذَا كَانَ قَدْ عَادَ لِلْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ الْغَابَةِ بِالْأَمْرِ. أَيْنَ هُوَ الْآنَ؟»

تَوَقَّفَ ثرثار وَحَكَى لِسامي كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِرَارِهِ الصَّعْبِ وَكَيْفَ تَرَكَ شادو فِي فُتْحَةٍ صَغِيرَةٍ دَاخِلَ شَجَرَةِ كَسْتَنَاءَ وَالصَّقْرُ أَحْمَرُ الذَّيْلِ يَتَرَقَّبُ خُرُوجَهُ. فَبَرَقَتْ عَيْنَا سامي عِنْدَمَا حَكَى ثرثار كَيْفَ شَدَّ ذَيْلَ الْعَجُوزِ أَحْمَرِ الذَّيْلِ. وَأْنَهَى ثرثار حَدِيثَهُ بِابْتِسَامَةٍ صَغِيرَةٍ وَاهِنَةٍ قَائِلًا: «وَهُوَ الْآنَ لَا يَدْرِي مَنْ فَعَلَهَا، يَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ شادو.»

ضَحِكَ سامي قَائِلًا: «هَا هَا هَا! لَيْتَنِي كُنْتُ هُنَاكَ لِأَرَى ذَلِكَ الْمَشْهَدَ.»

ثُمَّ كَسَتِ الْجِدِّيَّةُ وَجْهَهُ بَغْتَةً، وَقَالَ: «قَطْعًا لَا بُدَّ مِنْ إِخْبَارِ الْآخَرِينَ بِعَوْدَةِ شادو إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ لِكَيْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ؛ فَإِذَا أَمْسَكَ بِهِمْ، فَلْيَتَحَمَّلُوا هُمْ مَسْئُولِيَّةَ ذَلِكَ. أَظُنُّنِي سَأَذْهَبُ لِنَشْرِ الْأَنْبَاءِ.» فَسامي، عَلَى كُلِّ لُؤْمِهِ، يَتَمَتَّعُ بِجَانِبٍ خَيِّرٍ — كَمَا هُوَ حَالُ الْجَمِيعِ — وَهُوَ مُولَعٌ بِنَقْلِ الْأَنْبَاءِ الْمُهِمَّةِ.

فَقَالَ ثرثار مُتَرَدِّدًا: «أَ… لَيْتَكَ تَذْهَبُ أَوَّلًا لِإِخْبَارِ ابْنِ عَمِّي، السِّنْجَابِ الرَّمَادِيِّ جاك السَّعِيدِ.»

فَمَالَ سامي عَلَى ثرثار وَنَظَرَ إِلَيْهِ بِحِدَّةٍ قَائِلًا: «مَا كُنْتُ أَظُنُّكَ وَجاك السَّعِيدَ صَدِيقَيْنِ. أَرَاكُمَا دَائِمَيِ التَّشَاجُرِ.»

بَدَا ثرثار حَيْرَانَ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِسُرْعَةِ بَدِيهَةٍ فَائِقَةٍ، فَأَسْرَعَ بِالرَّدِّ قَائِلًا: «هَذَا هُوَ بَيْتُ الْقَصِيدِ، هَذَا هُوَ بَيْتُ الْقَصِيدِ! إِذَا أَصَابَ جاك السَّعِيدَ سُوءٌ، فَلَنْ أَجِدَهُ لِأَتَشَاجَرَ مَعَهُ، وَكَمْ أَجِدُ مِنْ لَذَّةٍ فِي إِثَارَةِ غَضَبِهِ!»

وَبِالطَّبْعِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ وَرَاءَ رَغْبَةِ ثرثار فِي تَحْذِيرِ جاك السَّعِيدِ هُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْمَاقِهِ خَجِلًا مِنَ الْفِكْرَةِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي خَطَرَتْ لَهُ؛ وَهِيَ أَنْ يَقُودَ شادو إِلَى بَيْتِ جاك السَّعِيدِ؛ حَتَّى يَتَمَكَّنَ هُوَ نَفْسُهُ مِنَ الْهَرَبِ. وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ فِكْرَةً كَرِيهَةً وَجَبَانَةً، وَقَدْ أَخْجَلَهُ حَقًّا أَنْ تَخْطُرَ مِثْلُ تِلْكَ الْفِكْرَةِ عَلَى بَالِهِ أَصْلًا. وَرَأَى فِي ذَلِكَ الْحِينِ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ تَقَدِيمِ أَيِّ شَيْءٍ لِجاك السَّعِيدِ، فَسَيَصِيرُ أَفْضَلَ حَالًا.

وَقَدْ وَعَدَهُ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي بِالتَّوَجُّهِ إِلَى جاك السَّعِيدِ مُبَاشَرَةً وَإِنْذَارِهِ بِعَوْدَةِ شادو إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، ثُمَّ حَلَّقَ مُبْتَعِدًا رَافِعًا عَقِيرَتَهُ بِالْأَنْبَاءِ أَثْنَاءَ تَحْلِيقِهِ؛ حَتَّى يتَسَنَّى لِجَمِيعِ سُكَّانِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ الصِّغَارِ الْعِلْمُ بِهَا. فَأَصْغَى ثرثار إِلَيْهِ بِضْعَ دَقَائِقَ ثُمَّ انْطَلَقَ فِي طَرِيقِهِ.

وَغَمْغَمَ قَائِلًا: «أَيْنَ أَذْهَبُ؟ أَيْنَ أَذْهَبُ؟ لَا أَجْرُؤُ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ فَالْآنَ شادو لَنْ يَهْدَأَ لَهُ بَالٌ حَتَّى يُمْسِكَ بِي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤