أحببت وهمي

لا تلُمني يا صديقي وأنت كثير اللوم. نعم إني أُسرف في إنفاق المال وأرمي به في كل متجه، لا أفكر في العاقبة ولا أريد أن أفكر فيها، ولكن لا تلمني فما تدري أنت مقدار السعادة التي أحس بها وأنا أقذف بهذا المال، لا، لا تدري وأرجو الله ألا تدري أبدًا، وأرجو الله ألا تحس بهذه السعادة التعسة التي أحسست بها.

قد انقطعت عنك شهورًا فما تعلم من أمري شيئًا، وقد كان آخر ما بيني وبينك أنك عرفت بخطبتي وهنَّأتني في لقاء عابر سريع، ثم درت أنا في هذه الدوامة التي لم أفرغ منها إلا اليوم.

لم تعرف شيئًا عن خطيبتي، نعم لم تعرف شيئًا عن ندى، أحببتها يا أخي منذ أنا صبي يدرج إلى باكر الشباب وأحبتني، رأيت فيها فتاة منسوجة من الإشراق، فهي حيثما تحل فرِحة نشوى، المرح مجالها، والنور مسبحها، والصفاء محياها، والطهر هي …

أحببتها يا أخي فخطبتها فازددت حبًّا لها، وأي عجب أن أحب خطيبتي، ومرت بنا في أيام الخطبة فترة وسنانة حالمة حييت فيها بقلب خافق ينتابه الذعر من الغد؛ فقد اعتادني الذعر منذ غمرتني هذه السعادة. ولكنني كنت حين أسير معها أنسي سعادتي وذعري، ولا أذكر إلا أنني أسير مع ندى وقد التف ذراعها على ذراعي فأحس كأن ذراعها ستار يحجب عني من الدنيا شرورها، ويفسح أمامي مجالات الجمال فيها والإشراق.

كان هذا يا صديقي، ثم كانت ليلة اتفقنا فيها على أن نذهب إلى السينما في الغد، وتركتها وأنا أفكر في هذا الغد وأنتظره حتى جاء فاشتريت التذاكر، وذهبت إليها قبل الموعد وانتظرتها على أسفل السلم في بيتها. وطالت بها الغيبة فأخذت أصيح في مزاح جاد وأخذ أهلوها يضحكون من ثورتي المرحة ويشاركونني فيها حتى بدت أخيرًا على رأس السلم مشرقة حلوة ضاحكة مشاركة في الصياح المرح، وراحت تنزل السلم وثبًا، ولكنها توقفت في منتصفه هنيهة لم يلحظها إلا أنا، وتابعت وثبها إلى أسفل حتى أدركتني.

وسحبتها من يدها إلى الخارج دون أن أتيح لها أن تعرض أناقتها على أمها وأبيها. واحتوانا الطريق وفي نفسي غصة جاهدت نفسي على إخفائها بعض الحين ثم لم أطق السكوت: ندى …

– هيه …

– لماذا توقفت وأنت تنزلين السلم؟

وكان السؤال مفاجأة لها فقد كانت تأمل ألا يرى أحد توقفها.

فقالت في تردد: أنا؟

– نعم أنت، لماذا توقفت؟

– يا أخي، مسألة بسيطة، ألا يفوتك شيء أبدًا؟! وماذا ستفعل؟!

– أتخفين عني؟ عني أنا؟! أنا طبيب فإن كنت لا أعجبك فدعيني أذهب بك إلى أي طبيب يعجبك.

– يا سيدي الحكاية لا تحتاج إليك والحمد لله. ابعد عني وابحث عن رزقك مع غيري.

– بل معك أنت.

– يظهر أن الزبائن انفضوا عنك في هذه الأيام، على أي حال أمرك.

وذهبت بها إلى العيادة وكان اليوم إجازة فانفردت بها في عيادتي ورحت أسألها في دقة عن كل ما تحس به، وأخذ قلبي يزداد خفوقًا مع كل إجابة، واتصلت بأحد أطباء التحليل من أصدقائي وطلبت إليه أن يذهب إلى عيادته فورًا، وذهبنا، النتيجة سرطان في الدم، عرفت أنا النتيجة ولم تعرفها هي.

وعدت بها إلى المنزل، نعم أنا طبيب، وأعرف ألا أمل مطلقًا، لكنني إنسان أيضًا يا أخي، ومحب، أنا لا أطيق الحياة خالية من هذه المريضة، لا، لا أطيقها.

لم أخبر أحدًا من أهلها بمرضها، وحملت العبء وحدي وأنا وحدي بين الناس جميعًا الذي كان خليقًا أن يتهاوى تحت هذا العبء ولكني حملته.

تركتها في البيت وخرجت وحدي إلى الطريق إلى قلبي المحطم، أمرن لساني على ما سيقول، وأهيِّئ نفسي للطريق الذي اخترته. ولكنني في وحدتي هذه لم أشعر بحيرة، ولم أفكر في طريق آخر غير الطريق الذي رسمته لنفسي في سرعة خاطفة واستقر أمري عليه.

ذهبت في اليوم التالي إلى أهلها وأخبرتهم أني مسافر إلى الخارج في مهمة علمية، ورحت أدور بالحديث معهم حتى أقنعتهم أنه لا بد من الزواج العاجل، وجاءت هي بعد أن انتهينا إلى هذا القرار، وفوجئت به ثم ما لبثت أن دخلت غرفة وحدها ونادتني فذهبت إليها:

– أحمد، ماذا عرفت أمس من تحليل الدم؟

كنت قد أعددت نفسي لكل مفاجأة؛ فصنعت ضحكة كبيرة وقلت: عرفت أنه لا بد من الزواج السريع.

– أهذا وقت الضحك؟

– وماذا أعمل مع خطيبتي العبيطة التي تربط تعجيلي الزواج بتحليل الدم؟

– لماذا لم تخبرني أمس عن رحلتك إلى الخارج، أنت لم تُخفِ عني شيئًا.

– أخفيت هذا الشيء.

– لماذا؟

– لأنني اعتقدت أنه لو تم لهيأ لي مفاجأة سارة أفاجئك بها، وخشيت أن أخبرك ثم لا يتم فيسبب لك هذا ضيقًا لا أريده لك أبدًا.

– أحمد، هل أنت صادق؟

– وهل كنت عمري كاذبًا؟

– أحمد إني خائفة.

ولم أستطع أن أتحكم في لساني وهو يقول: وأنا أشد خوفًا.

وارتاعت المسكينة فانتفضت تقول: لماذا، لماذا يا أحمد؟

واستعدت نفسي الجازعة وقلت لها: أخاف من السعادة التي تغمرني، أخاف من السعادة يا ندى.

واغرورقت عيناي بالدموع، وتعلقت بجفنيها دمعتان، فأما دموعي فبعض الألم الذي أُخفيه، وأما دموعها فمن حديثي إليها عن سعادتي.

والتقت الدموع، دموع الألم ودموع السعادة، فاعجب معي يا أخي من إحساسَين على طرفَي نقيض كان التعبير عنهما واحدًا!

أتسخر مني يا صديقي؟ بربك لا تفعل فإنه يحلو لنا حين نغوص في أحزاننا أن نجعل من أنفسنا فلاسفة، وإن كنا في عميق إحساسنا نعرف أننا لسنا من الفلسفة في شيء.

ولكننا نخادع أنفسنا ونرتاح إلى هذا الخداع مع علمنا أنه خداع.

أتسخر مني يا صديقي، لا تتعجل السخرية، فسوف أفسح لك مجالًا للسخرية لا ينتهي أمده، لا تفرغ سخريتك كلها، فإن كان فيما قلت ما يثير هذه الابتسامة الهازئة التي تضعها على فمك فإن فيما عملت ما يثير قهقهتك الساخرة العالية؛ فاحتفظ ببعض سخريتك ولا تفرغها جميعًا فإن ما قمت به بعد ذلك يحتاج إلى كل السخرية التي تزدحم في نفسك.

سافرت إلى أوروبا مع زوجتي، نعم سافرت بعد أن أعدت قراءة ما كتب عن مرض زوجتي وبعد أن تأكدت ألا فائدة ترجى من السفر، إلا أنني وجدت مجلة غير علمية تقول إن هناك بحثًا يدور عن هذا المرض، سافرت إلى هذا البحث، ألم أقل لك احتفظ بسخريتك؟!

توهمت أنني قد أجد أملًا بجانب هذا البحث الدائر، وإلى هذا الأمل سافرت، وتجسم الأمل في نفسي حتى كاد أن يصبح حقيقة، وفي أوروبا أنكرت أنني طبيب، وأصبحت أفعل ما يقول به الأطباء ملتمسًا في كل كلمة أملًا أزيد به أملي، مكثت مع زوجتي ولا عمل لي إلا تنفيذ ما يقول به الأطباء الباحثون لا أناقشهم في شيء، ولا أفكر إلا فيما يقولون، وقد أعلم أنهم مخطئون ولكنني أخطئ نفسي وأصدقهم، وأُخفي على زوجتي ما يقولون وما أعلم، وأوهمها أنني أعمل في البحث الذي جئت من أجله، وأوهمها كلما عرضتها على طبيب أنه صديق لي يريد أن يفحصها، ليست زوجتي غبية أيها الصديق، لقد عرفت أنها مريضة، وعرفت أن مرضها خطير ولكنها لم تشأ أن تشعرني بمعرفتها حتى لا تنغص عليَّ فرحتي بأنني استطعت أن أُخفي عنها مرضها، وكانت تراني أمامها سعيدًا دائمًا فلم تشأ أن تشعرني أنها عرفت بمرضها حتى لا تقطع هذه السعادة المصطنعة التي كنت أخلقها لنفسي أمامها، أكانت كاذبة هذه السعادة جميعها أم كان بعضها حقًّا، لا تسخر يا صديقي، لقد استطعت — وأنا الطبيب — أن أقنع نفسي أن الأطباء سيشفون زوجتي من المرض.

نعم، توهمت هذا، وأحببت وهمي وعشت فيه، حتى أصبحت السعادة التي كنت أفتعلها، حقيقة أومن بها لا تقبل مني شكًّا ولا نقاشًا.

وتلومني لأني طلبت إليك أن تبيع كل ما أملك، وتلومني اليوم لأني طلبت إليك أن تبيع أدوات العيادة، لا، لا تلمني يا صديقي، لقد اشتريت بما أرسلت إليَّ من نقود أملًا ضخمًا ووهمًا حلوًا أحببته، وأحببت العيش فيه وبه.

واليوم يا صديقي ماتت زوجتي، ومات الأمل، ومات الوهم وطالعتني الحقيقة بلا خداع ولا كذب ولا وهم.

لقد أسرفت في الإنفاق، وما أقل ما أنفقت في سبيل هذه الأيام التي تخليت فيها عن الحقيقة وعن العلم وفرغت إلى هذا الأمل الذي أنشأته وذلك الوهم الذي أحببته.

أتسخر مني؟ اسخر ما شاءت لك السخرية، أما أنا فأقسم لك، أقسم بها، لو عادت الأيام إلى الوراء لفعلت ما فعلته ثانية وثالثة وألفًا، أيها الصديق لقد كرهت الحياة وأحببت الوهم فمن لي بهذا الوهم، من لي به؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤