أخلفت الموعد

دق جرس التليفون في منزل الأديب الكبير الأستاذ شريف لطفي، ورفع الأستاذ سماعة التليفون فبلغ سمعه صوت ناعم حلو: مَن؟ الأستاذ شريف؟

– أنا هو.

– صباح الخير يا أستاذ.

– صباح الخير.

– أنا يا أستاذ إحدى المعجبات بكتابتك، وأتمنى أن أراك، أرجوك أن تحدد لي موعدًا.

وارتبك الأستاذ بعض الحين، فهذه أول مرة تكلمه فيها سيدة على غير معرفة، وكاد يغيب في طوايا ذكريات سعيدة لولا إحساسه أن هناك من ينتظر رده فسارع يقول: متى تريدين الموعد؟

– الآن، في هذه اللحظة إن أمكن.

– الآن! في هذه اللحظة؟

– يا أستاذ أنا أكلمك بعد تردد طويل، كنت أخاف أن أضايقك ورددت نفسي عن تليفونك أيامًا بلغت شهورًا، وأخيرًا جمعت جرأة لا أعرف من أين حصلت عليها لعلها من كتابك الأخير، واستطعت أن أكلمك، وأريد أن …

– أنت غير محتاجة إلى هذا الاعتذار الطويل يا …

– منى، اسمي منى.

– يا آنسة؟

– نعم، آنسة منى إذا شئت، وما أحب إلا أن تقول منى، منى بغير شيء قبلها ولا بعدها.

وخفق قلب شريف خفقًا عنيفًا وهو يقول: طيب يا منى، أراك الآن ولكن أين أنت؟

– أنا في الجيزة.

– طيب أنا سأنتظرك في جروبي.

– متشكرة يا أستاذ، متشكرة جدًّا يا أستاذ.

ووضعت منى السماعة وظل الأستاذ لحظات ممسكًا بالسماعة، ثم قفز إلى ذهنه خاطر أرسله يقول: «يا منى، يا منى» ولكن هيهات فقد انقطع الخط وانتهى الأمر. فوضع شريف السماعة وهو حائر! كيف سيعرفها أو كيف ستعرفه؟ وهما لم يلتقيا، أتراه صديق يمزح معه؟! ولكن لا، فما عوده الأصدقاء هذا المزاح، وإن مكانته لا تسمح بمثل هذه الصغائر، على أية حال ماذا عليه لو ذهب إلى جروبي وجلس إلى إحدى موائده فطالما جلس إلى موائده، فإنه هناك وفي جروبي بالذات يستطيع أن يستعيد الذكريات، وسمع الأستاذ نفسه تضحك منه ضحكة ساخرة هازئة، ذكريات؟ أي ذكريات يا أستاذ؟ وهل لك ذكريات؟ لقد قطعتها حياة خالية بلا حياة فيها ولا ذكريات، أي ذكريات، يا أستاذ؟!

وغضب الأستاذ من نفسه وزجرها في عنف، وحاول أن يجيب ولكنه وجد نفسه وجهًا لوجه أمام كرسي جروبي، وقد وقف الخادم أمامه يبدو عليه أنه ينتظر أمره، ويفرض عليه في الوقت ذاته أن يطلب شيئًا، وانصرف الخادم وخلا الأستاذ إلى نفسه.

أليس لنا ذكريات أيتها النفس، كم أنت خبيثة تنكرين الماضي وتتنكرين للأيام الخوالي، أما تذكرين أيام الهوى؟! أيام أن كنت خالية إلا من الحب، فارغة إلا من الأمل، خفيفة إلا من الأحلام.

وأمعنت نفس الأستاذ في الإساءة إليه، وراحت تجيبه في سخرية، متى؟ متى يا أستاذ كان لي حب، أو أمل، أو أحلام؟ فإني والله منذ عرفتك خالية بلا حب، فارغة بلا أمل، خفيفة بلا أحلام، وها أنا ذا اليوم بلا ذكريات، أستاذ أتراك تريد أن تضحك مني أيضًا كما تضحك من قرائك، فتؤلف قصة تجعل من نفسك بطلها، وتريدني أن أصدق ما تقول؟

وأجاب الأستاذ في غير احتفاء بهذه السخرية؛ فقد غمرته الذكريات فهو منها في طوفان.

أما تذكرين، أما تذكرين؟

وقالت النفس، لا، لا أذكر. ولكن الذكريات راحت تنهال في خاطر شريف كجدول مزدحم الأمواج.

كان إذ ذاك صبيًّا مشرفًا على الشباب، ملهوفًا إلى الغد، لا أمس له ولا حاضر، وإنما عيناه شاخصتان إلى المستقبل يرقبه من خلال الغيب عجلان، يود لو أن الأيام تقاصرت، ولو أن الليالي انحسرت، يحب الشمس المشرقة ثم ما يلبث أن يكرهها ويرى فيها قديمًا لا بد أن يزول لتأتي الشمس الجديدة شمس الغد شمس الشباب.

كذلك كان شريف، وكانت بثينة هي الجارة، فتاة في ربيع العمر من الشباب على وجهها حمرة الفرح، وعلى صدرها استكبار الواثق المزهو، ولفَّ الشباب عودها فهي عود مورق تعرف الأوراق أين تنبت فيه، وكيف تنبت؟! غضة كالغصن الجديد مشرقة كالزهرة، حلوة فتَّانة، تنظر إلى الغد بعين وسنانة حالمة وتلتذ كل لحظة تعيشها وتعتصر كل لذة في هذه اللحظة، وتنبت لنفسها ذكريات من الأمس ولا ذكريات لها ولا أمس، ولكنه الشباب يحب الماضي والحاضر والمستقبل.

كانت بثينة أكبر من شريف فلم تجد بأسًا أن يجلس إليها وأن تجلس إليه ولم يجد أهلها ولا أهله في ذلك بأسًا، وانعقدت بينهما صداقة كان هو فرحًا بها، وكانت هي فرحة به أيضًا، وكانت بثينة تحب الأدب والأدباء، وكانت تخص أديبًا معينًا بحبها، وكانت تقرأ على شريف لهذا الكاتب بالذات فتكثر القراءة وكان هو يُقبل على ما تقرأ في تكاسل وعزوف، ومرت الأيام ولم تلحظ بثينة أن الأيام مرت وأنها أطلعت في وجه شريف الغض شعيرات تتلوى، وأنها جعلته يشتري الكتب لكاتبها المفضل إن أصدر جديدًا، أو لغيره إن لم يُصدر هو.

أحب شريف الفتاة، وأحب الأدب في غمرة حبه الأصيل، وأحست الفتاة بحبه للأدب ولم تحس حبه لها.

ومضت الأيام حتى كان يوم فوجئ فيه شريف ببثينة تتزوج، وكان زوجها هو كاتبها المفضل.

ومنذ ذلك اليوم ولا أمل له في حياته إلا أن يصبح كاتبًا مثل زوج بثينة، وإلا لن يجد زوجة تُعجب به كما أعجبت بثينة بكاتبها.

ذهبت بثينة من حياة شريف وتركت له الأدب، وذلك الأمل الضخم الذي رصد حياته كلها لتحقيقه.

ومرت الأيام، وشريف عاكف على الدراسة والقراءة العنيفة التي لا تعرف الوهن، وسافر إلى الخارج يجمع إلى الأدب العربي الأدب الغربي، وجهد في الغرب، لم يقضِ لحظة مع فتاة ولم يترك هنيهة دون أن ينتفع بها، حتى إذا أتم ما أراد لنفسه أن يتم، عاد إلى مصر، وبدأ عمله أستاذًا للأدب في الجامعة، وكاتبًا في الجرائد والإذاعة ومؤلفًا للقصص الطويل منها والقصير.

وانهال إنتاجه على عشاق الأدب ضخمًا رائعًا كثيرًا متدفقًا فما هو إلا بعض العام حتى كان اسمه على كل لسان، تهمس به العذارى في وله، ويتشدَّق به شداة الأدب في إكبار، وينقده الأدباء في مرارة، وهو في شغل عن هذا جميعه بأدبه وبأمله في أن تحبه قارئة مثل بثينة وتُعجب به، وتقصد إليه تقدم بين يديه إكبارها وإعجابها وحبها، فيخطبها ويتزوجها ويُنشآن بيتًا كأحلام العذارى أو خيال الشاعر الولهان، أو كبيت بثينة وإن كان لا يدري ما فعل الله ببثينة.

ومرت الأيام وراح أهل شريف يلحُّون عليه أن يتزوج، وهو يصرفهم عن هذا الحديث كلما تحدثوا به، فإن ألحوا تركهم وخرج إلى مقعده في جروبي، هذا المقعد الذي يجلس إليه الآن فيستعيد الذكريات، ذكريات بثينة وقراءتها له وتسخر منه نفسه كلما حاول أن يجعل من الأيام الماضية ذكريات، ولكنه لا يحفل بسخريتها تلك بل هو يسترجع الذكريات، وقد كان خليقًا به في يومه هذا أن يذكر، فقد آن له أن يحقق الأمل، أمل حياته جميعًا، كم هو فرح، فرح؟!

ما أضعف الأديب حين يحاول أن يبين عن خالجة نفسه، أكل ما يصف به نفسه الآن أنه فرح! فرح فقط! وماذا تملك غيرها أيها الأديب، إنك لن تحاول أن تزوِّق الكلام لنفسك كما تزوقه لقرائك، والمشاعر الإنسانية معروفة (لا تتغير، أنت فرح ولن تحاول أن تعبر عن فرحك لنفسك) لأن نفسك تعرف مقدار فرحك فقد لازمتك منذ أن كنت صبيًّا إلى الآن، وها هو ذا أملك يتحقق فأنت فرحان ينتاب فرحك بين الحين والحين غُصة خوف ألا تعرفك الفتاة، وتطمئن نفسك بأن صورك تملأ الجرائد، ثم تخشى أن تختلف الصورة عن الحقيقة ثم تفكر في آخر صورة لك، ثم، ثم ها هي ذي الفتاة تقف إلى منضدتك، نعم إنها واقفة إلى منضدتك.

– الأستاذ شريف، صباح الخير.

ويقف الأستاذ شريف ذاهلًا حائرًا فما كان يتوقع أن يرى كل هذا الجمال، لا، فما بثينة بهذا الجمال، لا ولا أمِلَ هو يومًا أن تكون فتاته بهذا الجمال، لا، وقبل أن يسترسل به الخيال يفيق إلى وقفتها ووقفته فيقول: الآنسة، آسف، أقصد منى.

– أنا هي.

– أهلًا وسهلًا، تفضلي، اقعدي.

وتقعد منى ثم ما تلبث أن تضحك ضحكة عالية مرحة منطلقة خالية لا يمسك بها شيء فهي رنين حلو، ولكن شريف ينظر إليها في تعجب.

– خيرًا، ماذا حدث؟

– انظر.

– ماذا؟

– لقد طلبت جلاس وتركته يذوب حتى ملأ المنضدة ولم تلتفت إليه، أعرف أن الفنانين يسرحون ولكن لم أكن أعتقد أنهم يسرحون إلى هذا الحد.

وارتبك شريف فما يدري ماذا يقول أو يفعل! وراحت منى تتحدث في حديث آخر بعد أن نظَّف الخادم المنضدة، راحت تشرح له إعجابها به وبكتبه ومقالاته، وراح هو في خجل حيران وفي نشوة فرحانة يسألها عما أعجبها وهو يتمنى أن تسكت فقد بلغ به الخجل مداه، ويتمنى ألا تسكت فما لقي هذه السعادة جميعها قبل اليوم، وبين رغبته في سكوتها وأمله في استرسالها راحت منى تتحدث في انطلاق مرح في إعجاب كبير وهي تنظر إليه نظرات يملؤها الإكبار؛ فقد كانت ترى في جلستها تلك إليه أملًا لا سبيل إلى تحقيقه.

وطال الحديث وشريف ينظر إلى الفتاة لا يحوِّل عينيه عنها والسعادة تغمره من كل جانب، فجمال الفتاة معجزة وإعجابها به يفوق إعجاب بثينة بكاتبها لم يبقَ له من أمل بعد هذا. لا، لا أمل له أكثر من هذه السعادة التي يعيشها الآن ويتنفسها ويلتذ بكل نسمة فيها.

وتمكنت منه رغبة في الانطلاق فما يطيق أن يستقبل كل هذه السعادة جالسًا إلى كرسي، إنه يريد أن ينطلق إلى الشوارع إلى الميادين، إلى الفضاء بل إلى الزحام، إلى الدنيا جميعًا في هدوئها وضجتها، في سكونها وحركتها، إلى كل الدنيا.

قال لمنى: هلم بنا.

– إلى أين؟

– إلى الشارع، أريد أن أسير، هلم.

– إلى أين؟

– إلى أي مكان.

– ولكني لا أستطيع.

– لماذا؟

– لأنني أنتظر خطيبي هنا، فقد طلبت إليه أن يأتي إلى هنا.

ولم يسمع شريف شيئًا مما قالت بعد خطيبي، فقد جمدت عيناه تنظران إلى عينيها وجمدت شفتاه لا هما مفتوحتان ولا هما مغلقتان.

وجمدت خلجات وجهه بين الدهشة والألم وبقايا فرحة تنحسر لتفسح مكانًا لألوان شتى من المشاعر لا مجال فيها لفرح أبدًا.

وبعد فترة لا يدري أقصرت أم طالت انتبه إلى نفسه ناظرًا إليها فوجد صورته في عينيها الشابتين، وجد صورته الجازعة مطبوعة على عينيها الضاحكة المستبشرة، رأى صورته في عينيها فأطال التحديق، لقد نسي الأستاذ شريف شيئًا وذكَّرته صورته ما نسي، نسي ذلك الشيب الذي اشتعل في رأسه فحرق مستقبله، وفى لحظة وامضة أدرك الأستاذ شريف ألا مستقبل له، وأدرك ألا ماضي له أيضًا، لقد أكل الأدب ماضيه ومستقبله، وألهاه عن السنوات التي تمر لا تراعي القلب الشاب ولا الأمل الطفل وإنما هي تدمغ حيث تمر فتجعل من صبي الأمس عجوز اليوم.

كان الأستاذ شريف يقترب إلى الخمسين من عمره ولا يحس.

ولم يفق الأستاذ شريف إلا حين جلس إلى مكتبه وأخرج ورقة وقلمًا وكتب عنوان قصته الجديدة: «أخلفت الموعد».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤