لقاء ولا وداع

هو : وحدك؟
هي : وحدي.
هو : وتحبينني؟
هي : وأحبك!
هو : وأنت على هذا الجمال الآسر، حتى ليخيَّل إليَّ أنك صنعتِ جسمك بيدك، أو ليخيل إليَّ أنك مكثتِ في عالم الغيب أجيالًا عدة تسألين الله أن يخلقك نوعًا وحدك من الجمال، فسمع سبحانه سؤالك وأجاب سؤالك، فكنت على ما أرى الآن لونًا فريدًا من الجمال بلا شبيه ولا قرين، بل إنك حتى في رفيع سمائك لا يليك من ألوان الجمال تالٍ، فسماؤك شاهقة الرفعة، قريبة كل القرب من بارئك، وسموات الجمال الأخرى بعيدة عنك كل البعد، فكأنما هي الأرض منك إن جاز لي أن أقارن.
هي : شاعر أنت؟
هو : لا شأن لكِ بي، أجيبني أنتِ، كيف أمكنك أن تكوني على هذا الجمال؟ ثم كيف خرجت به غير مستور إلى الطريق وحدك بلا رقيب عليه عاتٍ شديد؟
هي : أغيرة ولم نتعارف؟
هو : إنما هو عجب، أليس لك زوج؟ أليس لك محب؟ هل بلغ العمى بالعباقرة النابغين وبالأغنياء واسعى الغنى إلى حد أن واحدًا منهم لم يرَكِ فيلقي بجبهته عند أقدامك عابدًا مكبرًا؟
هي : بل هناك من كان يفعل ذلك.
هو : كان ثم لم يعد، فعزاء يا سيدتي، وهل مات منذ عهد قريب؟
هي : بل إنه ما زال حيًّا.
هو : حيًّا ويتركك تخرجين وحدك؟ حيًّا ويجعل منك هذه الشقية التي تجيب أول متحدث إليها؟ حيًّا! لعل أنفاسًا تتردد في جسمه بين ذهاب وأوبة، ولعله يسير ويأكل، ويشرب، وينام. ولكنني ما زلت مصرًّا على أنه مات، هو ميت وإن كان يملأ الدنيا بالحياة!
هي : وأي عجب في ذلك، ها أنت ذا وحدك، وأنت جميل، ألست حلو الحديث، وحدك أرى وحدتك على وجهك، وأراها في حديثك المندفع الطويل الذي آده الصمت الطويل. وحدك أكاد لم أرَ شخصًا تحيط به كل هذه الوحدة التي تحيط بك، أليست لك زوجة أو صديقة تلقي إلى واحدة منهما هذا الحديث الذي ألقيته إلى الآن؟
هو : أنا يا سيدتي لا أزوِّق لك الكلام تزويقًا، ولا أختلقه اختلاقًا، وإنما رأيتك وحدك فأخذني جمالك ثم حادثتك فأجبتني فأخذتني وحدتك.
هي : وحدة أحاطت فخرجت أبددها فكنت أنت.
هو : فهي وحدة طارئة!
هي : بل وحدة دائمة سئمتها فحزمت أمري على هجرانها، وأنت؟
هو : وحدة طالما تمنيت أن أبددها فعجزت، وكيف كان يمكن أن أبددها؟ إنني أبحث عن امرأة، وأريدها جميلة، أراها فأرى سعادتي في وجهها، وأريدها ذكية، أحادثها فيعود إليَّ حديثي يحمل منها فهمًا وعطفًا وهوًى، والنساء يا أخت الوحدة: إما ساقطة تعرض نفسها في السوق، وأنا لا أشتري أخوتي في الآدمية، أو جميلة لها زوجها أو خطيبها فلا أمل لي فيها ولا رجاء، أو قبيحة لا بد أن أروض نفسي على قبحها، وبحسبي من الشقاء وحدتي فلا خير لي عندها! كذلك كنت يا أخت الوحدة قبل أن ألقاك! وأقسم بالفنان الذي أبدعك ما كلمت واحدة قبلك دون تعارف، وأقسم ما هممت بذلك حتى رأيتك فقلت انطق، فإن صمت فلا أحد يرى خزيي، وإن تكلمت.
هي : هه، وماذا إن تكلمت؟
هو : الحقيقة أنني لم أفكر فيما يكون عليه الأمر لو تكلمت، فما كنت أتوقع أن تتكلمي وإن نطق القدر.
هي : ولكن هذا اليأس يحيط بك طارئ، فأنا لا أعتقد أنك تحيا فيه طوال يومك لا بد أنه ابن ساعة ثم يمضي.
هو : ابن ساعة ويمضي ولكن كثيرًا ما يعود، يعود زاحفًا بالوحدة والضيق، فأرى نفسي وأنا بين الجموع منفردًا.
هي : أنت متزوج؟
هو : نعم.
هي : وزوجتك؟
هو : كنت أحبها حتى تزوجنا.
هي : فكرهتها؟
هو : لا وحقك فما عرفت الكره يومًا، ولكني أصبحت أرى فيها الشقاء، أن بلغ الشقاء ذروته، جامدة كالقدر، أنانية كالحيوان، لا شأن لها بي ولا يهمها أين اضطرب في هذه الحياة، كل شأنها أن تطلب فأجيب، فلا شكر ولا حمد ولا ثناء، ولا هي حتى تحبس سوء نفسها أو لسانها.
هي : كانت تلك حالك يا مسكين!
هو : ولا تزال، صدر لي ديوان شعر عدت به إلى بيتي فرحًا، أول كتاب يصدر لي، أعطيته لزوجتي فوضعته جانبًا وراحت تستجوبني في كل حقير تافه من أمورها فتركتها وخرجت لا أدري أين طريقي؟ هيه يا أخت الوحدة لقد بُحت لك بكل شيء.
هي : بل ليس بعد.
هو : ماذا؟
هي : فيمَ يدور شعر ديوانك؟
هو : رعاك الله يا أخت وحدتي، إن زوجتي لم تسألني ما سألتِه الآن، لا عليك وأخبريني أنت فيما خروجك وحدك وجمالك معجزة، والليل أسود والذئاب كثير؟
هي : أكبرته فتزوجته فأحببته.
هو : ما أسعدك! حب يقوم على الزواج، حب دائم.
هي : كان ذلك.
هو : ثم؟
هي : ثم راح الناس يمتدحون له جمالي فغاظه ذلك، وأصبح يرى أن من يمتدحني إنما يقصد إلى ذمه هو؛ فهو يعتقد أنه قبيح الوجه، كان جمالي وبالًا عليَّ وعليه، أبى أن يقنع من الدنيا بالمال الوافر والزوجة الجميلة فأراد أن يكون له من الجمال ما لم تهبه له الطبيعة، فكفر بكل السعادة التي تحيط به وأحال حياتي وحياته شقاءً مستعرًا.
هو : وأية حياة تقوم بينكما؟
هي : لا حياة بيننا، هو في عمله طول يومه، فإذا عاد عند المساء فالضيق والضجر وألوان من السخط وأفانين من العذاب، الزوجية بيننا هي هذا العذاب وليس في حياتنا من معانيها إلا الشجار المستمر والغضب المتلاحق.
هو : أشبهت حياتك حياتي، مسكينة!
هي : أومثل هذه حياة؟ إنها الموت.
هو : بل الموت خير منها، فإننا عند الموت لا نختلف ولا نحترق في كل يوم مرات، وإنما عند الموت لن نجد أجسامنا تلك تطالبنا بحقوقها بعد أن احترقت.
هي : فخرجت أنتقم.
هو : ولهذا خرجت أنا.
هي : أنتقم من زوجي الذي جعل شبابي شيخوخة، ومن نعمة جمالي نقمة ولعنة، أريد أن أنتقم.
هو : وأنتقم أنا من زوجتي التي قتلت أحلام صباي، ورؤى شبابي، وصرعت كل نجاح لي في ضجيج سخطها وتفاهة رغبتها، لن تجدي شخصًا صالحًا لتحقيق انتقامك مثلي أنا.

وشعَّ في عينيها وميض كالشرر الساطع وهي تقول: أظنك على حق.

فأحاط هو ذراعها بذراعه وهو يقول: بل إني على حق.

– وماذا تريد؟

– هلمَّ بنا.

وسار الاثنان شعلتَين من الانتقام والرغبة تشقان طريقهما إلى الحريق، وكان الطريق طويلًا، وكانت الثورة في نفسيهما تبحث عن الطريق الطويل، وراح الحديث ينحدر بينهما في قوة عارمة، ثم ما لبث أن أصابه بعض وهن، فإذا هو حديث طبيعي بلا رعد ولا نيران ولا وعيد، ثم انتهى آخر أمره إلى حديث هامس حلو يدغدغ الأذن والقلب والعقل، وراح الناقمان يسكب كل منهما على صاحبه أسلوبًا من الفهم الهادئ الواعي، فترتاح نفس كانت ثائرة، ويهدأ مضطرب كان راعدًا، ويسيران الطريق، طويل طريقهما، ولكنه نجوى بلا غزل، وأفكار معربدة بلا لذة ووهج أحمر يحف به، ولكنه وهج النار وليس وهج النور. الحديث بينهما يتصل بكلمة أو لا يتصل، لم تسله إلى أين؛ فقد كانت الأمكنة جميعها تستوي، أما هو فقد كان يعرف طريقه، وإن كان يسلكه لأول مرة، إنها شقة صديقه التي طالما دعاه إليها أغراه بأن مفتاحها عند البواب متروك لأقرب الأصدقاء. وعند البواب قائمة طويلة بهؤلاء الأصدقاء الذين يسمح لهم باستعمال المفتاح وهو أول هؤلاء الأصدقاء.

نعم إنه يعرف طريقه.

وبلغا العمارة وسألا البواب عن المفتاح فأخذاه وصعدا وفتحا الباب ثم أغلقاه عليهما، منفردَين.

قلبت هي عينيها في المكان، وأمعن هو فيها النظر. ثم جذبها إلى صدره في عنف لم يكن بحاجة إليه فقد ألقت هي نفسها إلى صدره، ولفف شفتها فغاصت هي في أعماق قلبه تريد بها أن تنجو من عذاب زوجها وأيامها وجمالها وضميرها. وأحس هو الشفاه اللاهية، ولكنه أحس لهيب انتقام لا لهيب لذة، وأحست هي شفاهه الملتهبة، ولكنها لم تحس اللذة في هذا اللهيب وانفرجت الشفاه وتباعد الجسمان رويدًا، ثم ألقت بنفسها إلى كرسي وهي تقول: أحس راحة.

فقال وهو يراوغ في الإجابة: بل ليس بعد.

– بل إني أحس راحة ورضًا.

– إننا لم ننتقم من حياتنا بعد.

– أما أنا فقد انتقمت.

– لقد انتقمت بحديثي إليك، وقد كنت أحسب أنني واجدة جديدًا إذا ما جئت إلى هنا، لا، لا جديد، لقد استرحت، وانتقمت.

ويقول الشاعر مستخزيًا: وإني ولله مثلك، لقد ارتحت بحديثي إليك وانتقمت، وما عدت أرجو بعد ذلك لذة.

أترى، لم تبقَ لنا لذة، لقد انتقمنا بالحديث، وبالحديث بلغنا أقصى غايات اللذة، فما بقاؤنا الآن؟

– نعم، ما بقاؤنا الآن؟

فهلمَّ.

– إلى أين؟

أنت إلى طريقك وأنا إلى طريقي.

– بلا …

– بلا شيء على الإطلاق.

– ولا وعد على اللقاء؟

– ولا وعد.

– ولا وداع؟

– ولا وداع.

– فما في الوداع؟

– فيه أنك ستقيم منه رؤًى وخيالات، وفيه أننا سنغذي عاطفة لعلها الآن تهم بالظهور، فسلامًا ولا وداع.

– سلام، ولا وداع.

وعند الباب الخارجي فوجئ البواب بالشاعر يلقي إليه المفتاح إلقاء، ثم فوجئ به يميل يمينًا بينما تميل صديقته شمالًا، ويسيران بلا تحية ولا سلام ولا وداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤