حنان وهوى

كان الليل قد مد ظلاله على الصحراء، وكانت الخيل قد أضناها طول السفر، وكان الرجال قد هد المسير أجسامهم؛ فهم أشباح تسير تعلَّقت أبصارهم بالأفق، والأفق عنهم مستتر قد أسدل دونه المساء غلالة سوداء داكنة فهم لا يبصرون موضع الخطو من خيولهم ولكنهم مع ذلك يلقون إلى الأفق أبصارهم. وكان زعيم الركب «إياس» صامتًا لا ينطق، تحيط به المهابة ويلتف به الإجلال، يغضي عنه أصحابه فتصمت ألسنتهم لأتبين عما مسهم من نصب. كان إياس في صمته هذا وغموضه أشبه ما يكون بقطعة من الليل الذي أدركهم، كان قوي الاحتمال صلب العود، رمحه في يده يشرعه إلى السماء ممسكًا به في تحدٍّ فكأنما هما معًا تمثال من الصخر قدَّه فنان من الإغريق.

وطال الصمت واشتد الظلام وازدادت الجماعة وفرسانها نصبًا، ولكن الطبيعة تأبى هذا الصمت! ولا تحفل بقوة إياس أو صلابته أو جلاله، فما يلبث القمر أن يرتفع رويدًا من أقصى الأفق فيرى إياس رفاقه وقد مالت أعناقهم، وانحنت ظهورهم، وما يلبث أن يرى الخيل وقد تعثرت خطاها واضطرب مسيرها! فيدرك حينئذٍ أنه قد آن له أن يتعب وأن يروح إلى رفاقه ويشعل النار ليصطلوا بها، ويأذن لهم فيسمروا معه؛ فقد كان دأبهم معه ألا يبدءوا حديثًا لم يبدأه هو، فإذا طاب له أن يسمر فهو فرد منهم يبيح لهم أن يظهروه على خافية أنفسهم، وأن يسألوه فيجيب عن خاصة شأنه.

وأشار إياس إلى الصِّحاب وما هو إلا بعض الحين حتى كانت النيران تشق الليل عن ضياء. وألقى القوم أجسادهم على رمال الصحراء فأتاحت لهم مهادًا لينًا صلبًا يريح الجسم ولا يلقي فيه الكسل، وقال إياس: تعبتم اليوم يا رفاق؟!

فقال أحدهم: أجل وربك قد مسنا التعب!

– فماذا تشاءون، نومًا وسمرًا؟

– بل سمرًا؛ فما نظن النوم ليسعى إلى أجفاننا ونحن على هذا الإجهاد.

– ففيمَ تريدون أن تسمروا؟

– أتريد أن تسألنا عن شئوننا أم نسألك نحن؟

– بل أسألكم أنا.

– ولماذا لا تتيح لنا أن نسألك؛ فأنت تخفي عنا ما لا يجوز إخفاؤه عن قوم هم أقرب الناس إليك؟

– فاسألوا إذن.

– نراك لا تحب النساء ولا تميل إليهن! فإن عرضت لك إحداهن صرفتها عنك وانفلت إلى سائر مشاغلك، وأنت الرجل في زهوة الفتوة، وريعان الشباب، وبريق العمر! فمتى يتصل أمرك بامرأة إن لم يتصل اليوم؟

وأطلق إياس تنهيدة لاهية، وتراقصت في عينيه دموع سترها الليل أن تبين وقال: من أحب الناس إليك يا قاسم؟

– لا أفهم سؤالك، أيهن تقصد؟

– أقصد النساء جميعًا.

– هن جميعًا؟

– هن جميعًا.

– وتدخل فيهن أمك؟

– نعم؛ فأمي أحب النساء إليَّ.

– فتلك هي المصيبة عندي يا قاسم، لكل رجل أم بدأ بها حبه للنساء، أما أنا يا قاسم! أما أنا فلا أم لي.

– لا أم لك؟!

– مات أبي وأنا طفل لا أعي وتزوجت أمي رجلًا قاسيًا لا يرحم! فكانت تعينه في قسوته عليَّ، ورأيت على وجه الأم أقسى صور الحياة! يهون الخطب يا صديقي إن نزل بك من عدوك، وقد تحتمله إن أتاك ممن لا تعرف، وإنه يوجع إن وجَّهه إليك صديق، ولكنه لا يهون، لا يهون أبدًا يا أخي إن أنزله بك من تلتمس من عنده الرحمة والحنان! وهو قاتل يا أخي إن كان من أمك! عرفت النساء أول ما عرفتهن على يد أمي القاسية هذه. فكرهت أمي وكرهت فيها النساء جميعًا. هكذا يا أخي عرفت النساء وهكذا صرت معكم، أقطع الطريق الآمن على سالكيه، لا رحمة تأخذني، ولا ضمير يردعني، ولا وازع من خير يقعد بي، ومن أين لي بهذه المعاني وقد سمعتها سماعًا ولم أرها؟!

– بل أنت والله رقيق تسبق رحمتك شرَّك، ويدرك عفوك بطشك.

– أتراني هكذا؟ لعل القسوة التي رأيتها في أول العمر مست قلبي بشيء من الرقة، حدثتك عن نفسي يا صاحبي فأطلت، وأمامنا الصباح مليء بالعمل فهلم لعل هجعة من النوم تعيد إلينا بعض النشاط.

ونام القوم والقمر يأخذ سبيله إلى المغيب، وصحوا والشمس لم يبدُ فيها إلا شعاعات ضئيلة كحمرة في عين أصابها من السهر كلال.

وركب إياس وركب صحبه، وما كادت الخيل تسير حتى لاحت لهم قافلة ضخمة وما أسرع ما أمر إياس صحبه أن يتواروا خلف أكمة على الطريق! فما إن بلغت إليهم القافلة حتى خرج إياس وصحبه وأحاطوا بالقافلة، فما أبدت مقاومة بل سلَّم رجالها النساء والمال. وكان بالقافلة هودج ضخم أناخ به الجمل وخرجت منه امرأة رائعة الجمال بيضاء يشوب لونها حمرة، خرجت عاتكة وهي حائرة تحمل على صدرها الذهب واليواقيت، وليس فيها من جارحة إلا يكسوها من الذهب وكريم الأحجار ما لا يُقدَّر بثمن. ورأت رجلًا أمام هودجها فسألته: بربك من رئيس هؤلاء القوم؟

وأجاب إياس وقد أُخذ بجمالها: أنا، رئيسهم.

– أحقًّا ما تقول؟!

– إنه الحق.

– فإني لاجئة إليك لائذة برجولتك، وإني بنت الأكرمين، خذ الأموال فلا تبقِ منها شيئًا، خذ ما أحمله منها وما اقتنيته ولكن حريتي يا سيدي، لا تسلبني حريتي يا سيدي فما عرفت الأسر وما أظنني أطيقه، أتراك ترد مستجيرة بك لائذة بكرمك عائذة برجولتك؟

وأخذ إياس بهذه المرأة التي تلجأ إليه، وسرَّه أن تتوسم فيه خيرًا وهو يقود عصابة، وأحب أن يشكرها على هذا الخير الذي توقَّعته منه، وأوشك أن يذكر أمه وما قاسى منها، ولكن أين هذه من أمه؟ أين عينا أمه القاسية من هاتين العينين المسترحمتين؟ أين شفتا أمه المذمومتان لا تنفرجان إلا عن الإساءة من هاتين الشفتين المنفرجتين هونًا ترتعشان وتهتفان في طلب الرحمة، لا؛ إنه لا صلة بين أمه وهذه.

– من أنتِ، وما اسمكِ؟

– أنا عاتكة بنت حويطب، أبي يكرم الجار، ويُجير اللائذ، ويُعين على الزمان، ما ردَّ قاصدًا إليه، ولا قصَّر في معروف.

– اذهبي يا بنت الكرام، طليقة أنت وطليق مالك.

ثم التفت إلى إخوانه فقال لهم: هِبوا لي هذه القافلة.

ووهب الرفاق القافلة لإياس، وسألت عاتكة عن إياس فعرفته ومضت دون أن تشكره بغير نظرة لقيها إياس بقلبه فنفذت إلى الأعماق واستقرت.

وكان الأمير ما يزال يبحث عن إياس وعصابته، وكان جنده في إثر إياس يريدون أن يأخذوه لأميرهم ليحكم فيه حكمه ويرى رأيه، وكأنما أراد هذا اليوم الذي أطلق فيه إياس أسيرته أن يثبت في حياة إياس فلا يزول أثره.

ما كادت القافلة المطلقة تغيب، وما كاد إياس وجماعته ينفردون بالصحراء حتى أطبق عليهم جند الأمير من كل صوب، حاربوا، ولكن أين الجماعة من جند الأمير.

ومثل إياس أمام الأمير، قطعة من العجز والاستخذاء، آسفًا! كسيف الوجه، حطيم السيف لم يبقَ فيه من إياس الأمس بقية، إلا من قوة الشخصية لمحة وإنما هو راكع يستجدي العطف وقد كان يمنحه، ويسأل الشفقة وقد كان يمقتها، ويلتمس الغفران وما كان يعرفه، بقية رجل! بقية باقية من إياس الأمس الذي كان يملأ الصحراء عنفًا وقهرًا وجبروتًا! بقية هي الجسم بلا كرامة، وهي الدماء بلا عزة، وهي المشاعر بلا حياة.

وفي زاوية من زوايا الحجرة ألقى به الحراس كقطعة من الهمل وشاء الملك أن يزيده ذلًّا فما التفت إليه، بل هو ينظر في أمور دولته يقيم من أمورها ما شاء ويصرف من شئونها ما يبغي حتى إذا فرغ ولم يبقَ له من عمل يعمله، التفت إلى إياس في ازدراء مهين ثم رفع نظره وقال للحراس: لماذا جئتم به إلى هنا، ألم آمر أن تلقوا به إلى السيَّاف.

وامتقع وجه إياس، وراح الحراس يتهامسون يلقي كل منهم التبعة على صاحبه، وتحسس إياس صوته بكلمات تحركت بها شفتاه بعض الحين حتى استطاع آخر الأمر أن يكتمل الصوت هونًا ويخرج إلى الفضاء ليبلغ مسامع الأمير.

– ألتمس عفوك يا مولاي.

– أي عفو تريد وقد كنت تملأ الصحراء رعبًا؟

– يعلم الله وحده ما عدوت على وحيد، ولا قسوت على فقير.

– ومال الأغنياء، أظننت نفسك إلهًا تقسم الأرزاق؟

– رضعت يا مولاي الحقد وأنا طفل صغير؛ كرهت أمي فكرهت الناس جميعهم.

– وماذا جنى الناس حتى تصيبهم ببلائك؟

– سعد الناس وما سعدت، ورأوا العطف وذقت الهون.

– فشارك الناس سعادتهم وانسَ حقدك. اعمل في شريف الأعمال تنَل السعادة التي تبغيها، أما أن تسرق وتنهب وتقطع الطريق الآمن على سالكيه فهذا اغتصاب للسعادة. والسعادة لا تغتصب، أكنت حين تنام وتخلو إلى وسادتك ونفسك تحس أنك أبلغت نفسك مناها، ونلت من السعادة ما فقدت؟!

– شهد الله يا مولاي، لا.

– فأي سعادة تلك التي تراءى وتهرف عن فقدانك لها، أنت لص، خرج عن أوامر الدين ولا بد من عقابك.

– مولاي، إن الله يقبل التوبة فوالله الذي خالفت أوامره والذي ما أشركت به يومًا لو لم يمسك بي جنودك لكنت الآن في موقفي هذا منك أطلب العفو تائبًا راجعًا إلى الله.

– وأي جديد قد ألمَّ بك حتى تسلم نفسك بلا جنود؟

– عرفت طريقي إلى السعادة الحقة يا مولاي وقد كنت موشكًا أن أسير فيه.

– وما الذي منعك؟

– جنودك يا مولاي، توبتي أمامك الآن تخالها منبعثة من الخوف، والله لا يبعثها إلا خوفي من أن ألقى الله بلا توبة في الحياة.

– إيه إياس، لا تخشَ هذا فإن الله يعلم ما في القلوب، وأما نحن فما نعرف غير الأعمال الظاهرة فإن قتلت الآن فالله سبحانه وتعالى سيقبل توبتك في الآخرة.

– إنه سبحانه يقول إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا، وإني يا مولاي أتوب الآن، وما كفرت بالله حتى أعود إلى الإيمان، وأما العمل الصالح فكل رجائي يا مولاي أن تتيح لي الفرصة أن أعمله.

– ما أرى إلى ذلك سبيلًا.

– هيِّئ لي الحياة يا مولاي أعمل صالحًا قبل لقاء ربي.

– ألم تعمل في حياتك عملًا صالحًا؟

– لعلي يا مولاي عملت، ولكني أتبعت الحسنة بالسيئة والسيئات يا مولاي يُذهبن الحسنات، مولاي هب لي الحياة، تهب للحياة إنسانًا نادمًا على شر أو غل فيه، مقبلًا على خير يهفو إليه.

– وحياة الآمنين الذين روَّعت، وأموال المسافرين التي نهبت.

– إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا.

– وماذا أقول أنا لربي إن لقيني عافيًا عن مجرم، صافحًا عن لص؟

– إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا.

والتفت الأمير إلى حراسه يقول لهم: ألقوا به في السجن.

وألقي إياس إلى السجن ينتظر الحكم عليه، هكذا المصير! لم يجفل من السجن ولم يخَف فقد كان يرى فيه إحدى نهايتين لطريقه الذي اختاره لنفسه من الحياة، كان يعلم أنه طريق لا بد أن ينتهي به إلى السجن أو إلى الموت. وقد كان السجن أقرب النهايتين وهو ذا فيه. ومن يدري لعله يؤدي به إلى الطريق الآخر، فيجمع النهايتين في واحدة والأمر لله من قبل ومن بعد.

هكذا كان يفكر إياس حين دخل السجَّان يحمل كيسًا مليئًا بالمال وسأله إياس: ماذا تريد؟

– امرأة تريد أن تلقاك.

– تلقاني أنا؟

– نعم، لقد رفضت أن أدخلها إليك، ولكنها أعطتني هذا الكيس وبه مائة دينار، ولم أرَ في حياتي حجة مقنعة مثل هذا المال الذي أحمله الآن، مائة دينار يا سيدي، إنها ستلقاك، ستلقاك حتى وإن رفضت أنت أن تلقاها.

– ومن هي؟ ما شأنها؟ ماذا تريد؟

ولم يلتفت إليه السجان بل قال للمرأة: ادخلي يا سيدتي، هذا هو طلبتك.

ودخلت المرأة محجبة لا يبين منها شيء، وما انحسر النقاب عن وجهها حتى عرفها إياس.

– عاتكة! ماذا جاء بك إلى هنا؟ إني في السجن والعيون رواصد لو رآك أحد فأبلغ الأمير أو أبلغ أباك فماذا أنت قائلة؟

– وماذا يمكن أن أقول، أأسمع أنك سجين ولا أسارع إليك؟ فلست إذن بنت الكرام.

– شكرًا لله يا عاتكة.

– قد جئتك بثياب وطعام، وجئتك بمال حتى لا تقف بك قلة المال أن تعطي السجان أو من تشاء.

ورأى إياس في عاتكة الرحمة التي لم ينلها من أمه، وهاجت إليها في نفسه نوازع لا يدري كنهها، أهي حب؟ ومن أين له أن يدري الحب ولذته؟ أهي إذن عواطفه نحو أمه لم تجد أمًّا فجاشت إلى هذه الفتاة في ربيع العمر؟ ومن أين له أن يدري عواطف البنوة إلى الأمومة؟ فما هذه الصبوة التي ترقى في مشاعره وما هذا الخفق الذي يأخذ بقلبه، وما هذا العجز الذي يمسك بلسانه، أهكذا الحب؟

– لا تخفِ من أمرك شيئًا يا إياس.

– أنا لا أخفي شيئًا.

– هيه إياس، لعلك تريد أن تبوح لي بشيء.

– هيهات، وكيف لي أن أبوح، وأنا بين يدي الغيب لا أدري ما يحمله لي في غده أموتًا، أم عيشًا الموت خير منه؟! هنا من وراء الحياة مع الحديد والقضبان، بماذا أبوح يا عاتكة؟!

– قل ما بنفسك ودع الغد يأتي بما يشاء.

– بربك يا عاتكة لا أطيق، إن قلت ما أريد فأنا بين اثنتين، إما أن تحبيني فلا والله لا أطيق العيش بعدها والقيد في قدمي لأطير إليك، وإما أن تمنعيني فترداد نفسي كرهًا لنفسي، ولا والله لا ألومك إن أنت أقصيتني عنك، وإني قاطع طريق، لص أضعت حياتي في رمال الصحراء.

– بروحي أنت يا إياس، لا تقل شيئًا، وعهد الله بيني وبينك لا أسمع منك شيئًا إلا وأنت طليق.

وأخذت عاتكة سمتها إلى الأمير وكان وجهها مقرَّبًا إليه فما وقفت بالباب حتى أذن لها الأمير وبين يديه وقفت.

– أيها الأمير، أحمل إليك توبة، وأنت ظل الله في الأرض فاقبل التوبة تُرضِ الله.

– توبة من؟

– توبة إياس.

– وما شأنك به؟

وقصَّت عاتكة على الأمير ما كان من إياس حين هو في الصحراء وحين هو في السجن، كانت تروي قصتها وجسمها ينتفض من الألم، ولسانها يهدر وكأنها تروي لنفسها فما إن انتبهت إلى نفسها واقفة في رحاب الأمير وقد بلل الدمع لحيته. إلا وقد انتهت من قصتها، وأشرقت دموع الأمير في عين عاتكة فما تمالكت نفسها أن تصيح.

– عفا والله الأمير.

وطلع القمر على زوجين يسيران إلى الكعبة المقدسة، هناك حيث يخلص إياس من ماضيه ليستقبل حياة جديدة هو فيها وليد جديد، حياة فيها رحمة وفيها حنان، وفيها هوًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤