الفصل العاشر

بصيص أمل

قالت بيبي: «الآن هو الوقت المناسب؛ فالتيار الكهربائي مقطوع.» لم يسبق لي أن أجريت مقابلة شخصية مع عارضة أزياء شهيرة أو حتى تحدَّثتُ مع إحداهن من قبل في هذا الشأن. ولم أتوقع مُطلقًا وجودها في هذا المكان؛ جالسة في الظلام في شقَّة في الطابق الثالث وسط شوارع دكا الفوضوية.

حين هبَّت واقفة كدتُ أقول لها: «يا إلهي، أنتِ طويلة ونحيفة جدًّا.» ولكني لم أفعل. كنت بصدد قول شيء أسخف من ذلك لاحقًا.

«هل تُدخن؟» سألتني بصوتها الرخيم الذي ينمُّ عن كونها مدخنة مُحنَّكة.

أجبتها: «كلا …»

قالت: «حسنًا!»

فقلت لها: «ولكن تفضَّلي.» كما لو أنها تحتاج إلى إذنٍ مني لتُدخِّن في مكتبها الخاص.

تخرَّجت بيبي راسل في كلية لندن للأزياء عام ١٩٧٥. وبناءً على اقتراح معلمتها، قدمت بنفسها بعض أعمالها في عرض الأزياء الخاص بها. وتمَّ اكتشافها وسرعان ما صارت عارضة أزياء عالمية تظهر صورُها على أغلفة مجلات الموضة الشهيرة مثل فوج وكوزمو وهاربر بازار. ثم فعلت شيئًا غريبًا؛ ففي عام ١٩٩٤ عادت إلى أرض وطنها بنجلاديش (شكل ١٠-١).

قالت بيبي: «كيف لي أن أنسى كل هذا؟ هذا هو المكان الذي نشأتُ فيه.»

إنها تحب شعب بنجلاديش، أو كما قالت: «كل شيء أفعله من أجلهم. لقد جعَلوا مني «بيبي» عارضة الأزياء الشهيرة؛ ومِن ثم فأنا مَدينة لهم بكل ما أمتلكه.»

وبيبي تردُّ لهم الجميل ببذل الكثير والكثير؛ فمن خلال شركتها، بيبي برودكشنز، تدير عمل النساجين المحليِّين في قرًى مختلفة في أنحاء بنجلاديش والهند؛ فالنساجون لا يعرفون ما يُحقق مبيعات وما يُساير الموضة، أما بيبي فتعرف ذلك جيدًا، فهم ليس لديهم وسيلة لدخول السوق العالمية، وبيبي تمنحهم إياها.

fig7
شكل ١٠-١: بيبي راسل عارضة الأزياء وخبيرة الموضة.

«كل شيء ينبع من أبناء الشعب البسطاء؛ كل شيء.»

وبطريقةٍ ما، ثمة تشابه بين بيبي والعلامات التجارية الكبرى للملابس؛ من حيث توجيه المصانع من خلال شركات التوريدات فيما يَتعلَّق بما يُريدون تصنيعه وكيف يصنعونه، وفي النهاية شراء المنتج النهائي.

وعلى الرغم من ذلك، ثمة اختلاف واحد كبير بينها وبين العلامات التجارية يتَّضح في قولها: «إننا نساعد الناس على النجاة من الفقر عبر الشعور بالكرامة.»

يمكنك القول بأن التجارة الرائجة للملابس الجاهزة توفر لبنجلاديش ٢٫٥ مليون فرصة عمل لم تكن لتتوافر عبر قنوات أخرى؛ ومن ثم فهي بمنزلة نعمة في بلد فقير. ولكن الأجور متدنية للغاية لدرجة أن معظم عمال الملابس، في أحسن الأحوال، يناضلون من أجل القيام بشيء أشبه بالسير على الماء. فإذا مرض فرد من الأسرة، أو صار العمال أنفسهم غير قادرين على العمل، غرق الجميع. هكذا تُعدُّ بنجلاديش بلد الحقائق العارية.

رأيت أنا ودالتون ذات مرة سائق عربة ريكشا ذا ساق واحدة. لم يُلحَّ علينا بالركوب. جلس وحسب في مكانه يُشاهدنا نمر أمامه. لقد فقد ساقه بسبب عدوى، إلا أنه لا يزال مُضطرًّا لإعالة أسرته. إن مهمة جرِّ عربة الريكشا خاصته تحتاج إلى شخص في كامل لياقته البدنية ليُؤدي المجهود اللازم لذلك، ومع ذلك لا تكاد تُميِّز حتى أنه فقد ساقه. ولكنك لن تنسى قط ما رأيته.

وقد اختارت بيبي العودة إلى أرض الوطن للتعامل مع مثل هذه الأمور، ولتُحدث فارقًا، ولتترك وراءها عالم الأزياء بأضوائه البرَّاقة والمثيرة من أجل هذا.

ذات مساء ذهبت لتناول الشاي معها في شقتها التي تدفع والدتها إيجارها. كرَّست بيبي نفسها وكل ما كانت تُمثله من قيمة مالية للعمل الخيري. ويُساعدها إخوتها وأخواتها والأولاد على سداد نفقاتها اليومية. والدتها تظنُّ أنها تُؤثِر الآخرين على نفسها على نحو مُبالَغ فيه. وقبل بضع سنوات كُسر رسغها أثناء تقديمها المساعدة في إندونيسيا لضحايا تسونامي عام ٢٠٠٤. أعطتها والدتها المال لإجراء العملية الجراحية اللازمة، ولكن بيبي تبرَّعت بالمال. كان يوجد رجل في إحدى القرى، التي عملت بها، أُصيب بنوبة قلبية واستلزمَت حالته إجراء جراحة تغيير شريانين بالقلب. وتقديرًا لنزعتها الإيثارية، عُيِّنت في منصب مبعوث خاص لليونسكو: مُصمِّمة من أجل التنمية.

جلست في غرفة معيشتها وشربت عصير بطيخ وتناولت كعكات رقيقة محلاة. كانت شقَّتها مُزيَّنة بأدوات محلية مصنوعة من الخشب والمعدن. وقفت عربة الريكشا المزينة في إحدى الزوايا. أشارت إلى صورة لغاندي، وسألتُها إذا كانت قد التقت به.

أخبرتني بكل أدب قائلة: «لقد تُوفي في أربعينيات القرن العشرين.»

فاستدركت قائلًا: «حسنًا، لو كان على قيد الحياة، لكنتِ التقَيتِ به على الأرجح.» كنت أحمق، ولا يُمكنني فعل أو قول شيء لأغير هذه الحقيقة. (رغم أن ما يُبرر موقفي من وجهة نظري أن بِن كينجسلي — الذي أدى دور غاندي في الفيلم — لا يَزال على قيد الحياة.)

قالت بأدب: «كنتُ سأفعل على الأرجح.»

كانت أقرب شخصية التقيتُ بها في حياتي إلى القدِّيسين. كانت تُحبُّ بلدها، وتؤمن به.

•••

محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام، يؤمن ببنجلاديش أيضًا؛ حيث أسَّس بنك جرامين الذي يُقدم قروضًا متناهية الصغر لمن لا يستطيع الحصول على قروض من البنوك التقليدية. ذهبت مع أحد مُمثِّلي البنك لأرى البرنامج يُنفَّذ على أرض الواقع.

جلستْ ثلاثون سيدة مُتجاورات كتفًا بكتف على مقاعد خشبية في بناية جرداء ذات إطار خَيْزُراني ومغطاة بصفائح معدنية مُتموِّجة. نادى المدير الإقليمي للبنك الأسماء من سجله. اقتربت السيدات، واحدةً تلو الأخرى، من طاولته في مقدمة القاعة ودفعْنَ قسط القرض الجماعي الخاص بهنَّ.

لكي تَحصل المرأة على قرض من البنك، يجب أن تبحث عن امرأة أخرى لتكوين مجموعة صغيرة؛ حيث إن التعثر في السداد يضرُّ بفُرص النساء الأخريات في الحصول على قروض مستقبلية. والمقترضة التي لا تتمكَّن من السداد تُؤثِّر بالسلب على مجموعتها. ورغم ذلك، تكون هذه هي العقوبة الوحيدة؛ فالبنك لا يَحجز على بيوتهنَّ أو ماشيتهن؛ فلا توجد ضمانات.

من المدهش أن ٩٨ بالمائة من القروض يتمُّ سدادها، ويُقرض البنك أكثر من ٧ ملايين مقترض.

تبلغ لوفلي من العمر ٥٥ عامًا فقط، إلا أنها تبدو وكأنها في الخامسة والسبعين من عمرها. وهذا ما ستفعله بك حياة التسول. استخدمت أموال القرض لشراء أكياس حلوى جيلاتينية وبيعها لتُحقِّق ضِعف المبلغ الذي كانت تكسبه من التسول.

اشترت شوكينان بقرةً بأول قرض لها. وبعد أن سدَّدت القرض، اشترت منزلًا. وبعد أن سددته، بَنَتْ غُرَفًا بالقرب من منزلها بغرَضِ تأجيرها. الآن هي تمتلك أكثر من ٦٠ غرفة. كان أول قرض لها بمبلغ ٥٧ دولارًا، وآخر قرض لها بمبلغ ٤٢٠٠ دولار. لقد أنجزت الكثير من وراء امتلاكها بقرة واحدة.

تعمل شيلبي في مصنع ملابس وتَتقاضى ٢٥ دولارًا في الشهر، إلا أنها بدأت مشروعها الخاص بالإضافة إلى عملها الأساسي حيث تُفصِّل السراويل والقمصان. واستغلَّت القروض التي أخذتها من بنك جرامين لشراء ماكينة حياكة ولوازم التفصيل. تبلغ شيلبي من العمر ٢٦ عامًا، ولديها ابنان (٩ أعوام و١١ عامًا)، وقد التحقت بالمدرسة لمدة ثلاث سنوات فقط. وعندما سألتها أين ترى نفسها بعد ١٠ سنوات، بدت مُتحمِّسة فعلًا. ابتسمت مُلوِّحة في هذا الاتجاه وذاك. لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما كانت تقوله، ولكن كان بإمكاني أن أقول إن لديها خططًا كبيرة.

ربما يكون أول قرض بمبلغ ٥ دولارات فقط، إلا أن هذ المبلغ هو كل ما نحتاجه لتمكين هؤلاء السيدات من التطلع إلى ما هو أبعد من الاحتياجات اليومية وتخيُّل حياة أفضل لأولادهنَّ، أو بعبارة أخرى منحهنَّ الأمل (شكل ١٠-٢).
fig8
شكل ١٠-٢: مُقترضة من بنك جرامين تحمل طفلها.

كما هي الحال مع الأموال، الأمل شحيح في الدول الفقيرة. سَلِ الأطفال عما يُريدون فعله عندما يَكبرون، وسيرمقونك بنظرات استغراب. إنهم يعرفون ما الذي سيفعلونه: سيفعلون ما ألفَوا عليه آباءهم وأمهاتهم، سيُحاولون العيش على حدِّ الكفاف.

ولكن ما دامت بنجلاديش تَحظى بأناسٍ يؤمنون بها، مثل بيبي، وعاملين متفانين في بنك جرامين، فمن المُرتَقَب أن ينمو الأمل ويزداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤