الفصل الثاني عشر

عيد العمال

مايو ٢٠٠٧

كان ذلك اليوم يُوافق عيد العمال بمدينة بنوم بنه، عاصمة كمبوديا، وفي هذا اليوم يجتهد الشحَّاذون في العمل.

ثمة فتاة صغيرة شعرها مُصفَّف على هيئة ثلاثة ذيول حصان تفصلها مسافات غير متساوية وترتدي رداءً خشنًا ومتَّسخًا، كان كبيرًا جدًّا عليها ويسقط من فوق كتفها. وقفت تَجرف ثمرة جوز هند مُستخدمةً قطعة من القشرة الخارجية للثمرة. التهمتها على نحوٍ فوضوي؛ حيث التصقت قطع بيضاء من ثمرة جوز الهند بوجهها وشعرها. وعندما انتهت من تناول الثمرة، مررتها إلى أختها الأكبر سنًّا التي لم تكن ترتدي شيئًا سوى سروال قصير وشبشب مطاطيٍّ كبيرٍ جدًّا عليها. عادت الفتاة إلى العمل وقد بدا عليها الحزن وهي تمدُّ يديها الصغيرتين إلى السائحين أو المتعبدين ليَجودوا بما معهم ويملئونها (شكل ١٢-١).

كانت الفتاة وأختها تواجهان قدرًا كبيرًا من المنافسة؛ حيث كان هناك نساء ورجال كبار السن وأشخاص مبتورو الأطراف يَتحرَّكون على عكازات ويَجلسون على كراسٍ مُتحرِّكة أو ألواحٍ خشبية ذات عجل دافعين أنفسهم عليها مُستخدِمين أذرعهم. ويتسابق هؤلاء على الأماكن المتاحة في الظل بالقرب من صفوف المُتعبِّدين، باذلين قصارى جهدهم ليبدو كل منهم أكثر بؤسًا ممن يَجلسون بجوارهم. وتبدو وجوههم مثيرة للشفقة أكثر مقارنة بالموسيقى المُفرحة التي تنبعث من خشبة المسرح الموجود أمام الضريح، والتي تَعزفها فرقة باستخدام ستِّ آلات موسيقية تتنوَّع ما بين دفوف وآلة أشبه بالإكسيليفون.

وعلى يسار الضريح، عُرضت أقفاص الطيور في صفٍّ من أجل عرضها للبيع، كان أصحابها يَستلقون على كراسٍ بلاستيكية تحت المظلات. مدت سيدة كمبودية، تَرتدي قبعة على شكل دلو أبيض، يدها ببضع عملات الريل الكمبودية وأدخلت يدها إلى القفص السلكي لتُخرج عصفورًا مُغرِّدًا. دعت وهي تضم يدها وتخفض رأسها. خرَج رأس صغير من بين طرفي يديها وظهر جناح ضعيف من بين أصابعها، قبَّلت رأس العصفور وفردت ذراعيها وفتحت يديها. انفرد الجناحان تدريجيًّا، رفرف الطائر فوق بحيرة تونلي ساب. بدا أن العصفور قد استغرق في شعوره بالحرية من جديد، كما لو أنه لا يَتذكر كيف يطير.

fig11
شكل ١٢-١: فتيات يتسولن المال من المُتعبِّدين والسائحين.

يَدين أغلبية الشعب الكمبودي بالبوذية. بالنسبة إليهم، إطلاق سراح الطيور الحبيسة هو تصرف يلجأ إليه المرء ليَتحرَّر من الحزن والألم والمرض والجوع وذكريات الحرب لا سيما في بلد مثل كمبوديا.

شاهدتُ العصفور وهو يَخفق بجناحيه بعنف، ليُحلق عكس التيار فوق مجرى النهر ويهبط ليقترب أكثر من الماء. تساءلتُ في نفسي عما كانت تدعو به السيدة.

في ذلك الحين، اقترب العصفور من المياه على نحوٍ خطير، وتساءلت عما إذا كانت السيدة مهتمة بما إذا كان العصفور الذي أَطلقت سراحه في طريقه للسقوط من السماء.

تناثَر رذاذ المياه!

شق العصفور الصغير طريقه في المياه وسط الحليِّ التي أُلقيت كقرابين والقاذورات والتلوث الذي يُخلِّفه المتعبدون. وقد التفتُّ لأجد الرجل الذي باع لها العصفور. رأى الرجل العصفور في المياه، ولاحَظ أنني رأيته. أطلق عميل آخر من عملائه توًّا عصفورًا توجَّه على الفور إلى إحدى الأشجار القريبة. لاحقه بائع الطيور. تسلَّق الشجرة وأمسك بعصًا، سحَب العصا من فوق الشجرة، وقد عَلق العصفور بها. كانت هذه طريقته في الاحتيال لكسب المال. لم يكن يبيع الطيور وحسب، بل كان يبيع الأمل. في ذلك اليوم، كان محظوظًا في بحثه عن الطيور وإعادة بيعها مرة أخرى.

سرتُ إلى الضفة في عكس اتجاه مجرى النهر ناحية العصفور الذي كان لا يزال يُصارع الموت. شعرت أنني سخيف بعض الشيء؛ حيث إن ثمة أناسًا بلا سيقان يتحركون على ألواح مُتنقلة بالقرب من الضريح، وها أنا أسرع الخطى لإنقاذ عصفور.

جذبتُ انتباه مجموعة من الأطفال كانوا يَلعبون على حافة النهر حيث كنتُ أتحرك في اتجاه العصفور. ومن هناك، استطعتُ أن أسمع زقزقته، وقد بدا عليه الذعر إن جاز لي التعبير. كان الموقف عاجلًا. أخرجت دولارًا من جيبي وعرضت على الأطفال أن أُعطيه لهم إذا أنقذوا العصفور.

لم يَقبل أيٌّ منهم العرض.

كنت أعرف أن بإمكاني الاحتفاظ به لنفسي. بدأت أضع حقيبتي — التي تحتوي على جواز سفري وكاميرتي الرقمية — على الأرض، وأدركت كم كانت تلك الفكرة سيئة. لم يكن «الإفرنجيون» — هذا الاسم يُطلقه السكان المحليون على السائحين الغربيين — نادرين في هذه البلاد، ومع ذلك فقيام أحدهم بخلع ثيابه ما عدا السروال الداخلي ماركة «جينجل ذيس» تاركًا وراءه أغراضه الثمينة ليَسبح في الماء من أجل إنقاذ عصفور قد يجذب بعض الانتباه ويُسفر على الأرجح عن اختفاء تلك الأغراض الثمينة.

التفتُّ لأرى صائد الطيور يقف ورائي، وملابسه مُتكوِّمة عند قدميه. كان يوجد وشم على كتفه الأيمن لرسمة عصفور باسطًا جناحيه. خَطا بحذر نحو المياه الضحلة وشرع في السباحة وهو ينظر خلفه ناحيتي. أشرت إلى العصفور وكأنني عاملُ إنقاذ على الشاطئ. وصل إليه وأمسك به وكأنه كيس بلاستيكي يَطفو على سطح الماء، ووضعه فوق رأسه حيث استقرَّ بلا حراك. عاد الرجل إلى الضفة وهو يتنفس بصعوبة من المجهود الذي بذله ممسكًا بالعصفور في يده. كان للعصفور منقار طويل وعينان حمراوان، لا يَظهر فيهما أيُّ إشارة ذعر، وريش أسود ملبَّد تتخلَّله خطوط صفراء.

كنت قد وصلت توًّا إلى كمبوديا، ولم أكن أعرف كيف أقول «شكرًا لك» باللغة الخميرية؛ ومن ثم اكتفيتُ بابتسامة واستدرت لأسير مبتعدًا وأنا أشعر بالراحة لأن العصفور بخير. أمسك صائد الطيور بذراعي ومدَّ يده. صافحته. والتفتُّ لأبتعد، فأمسك بذراعي مرة أخرى.

كان يريد المال الذي عرضته على الأطفال قبل قليل. إنه عصفوره اللعين؛ ومن ثم كان سيعود ليَبيعه مرةً أخرى لشخص آخر في لعبة الصيد وإطلاق السراح، وها هو لديه الجرأة ليطلب مني المال.

أعطيته الدولار.

وافق ذلك اليوم الأول من شهر مايو، وهو عيد العمال في مختلف أنحاء العالم باستثناء بضع دول من بينها الولايات المتحدة؛ ففي مثل هذا اليوم من عام ١٨٨٦، خرج نحو ٤٠ ألف عامل في مظاهرة بشارع ميشيجان بمدينة شيكاجو، في محاولة منهم لجعل يوم العمل ثمانية ساعات. وبعد مرور بضعة أيام، اندلعت أعمال شغب في مظاهرة للعمال في هايماركت، وانتهى الأمر بانفجار قنبلة وإطلاق الشرطة للنيران على المُتظاهرين. قُتل سبعة من رجال الشرطة ومتظاهران، وأُصيب الكثيرون. قُبض على أربعة من «مثيري الشغب» وأُعدموا فيما بعد. ونظرًا لأن الرئيس جروفر كليفلاند لم يرغب في الاحتفاء بحركة «الاشتراكيين»، رُحِّل عيد العمال الأمريكي إلى يوم الاثنين الأول من شهر سبتمبر.

وهكذا كان الأول من مايو هو اليوم الذي يحتفل فيها الكمبوديون بالأحداث التي تحاول الولايات المتحدة رسميًّا نسيانها، أحداث أدت في النهاية إلى دفع المصانع، في الولايات المتحدة، أجورًا أعلى للعمال مقابل ساعات أقل من العمل. كانت هذه الأحداث هي ما أدت إلى فقدان العمال الأمريكيين وظائفهم وأدَّت إلى نقلها إلى أماكن مثل كمبوديا، حيث حقوق العمال وأجورهم أقل، وحيث يُطلق سراح الأحزان ويُعاد تدويرها، ولكنها لا تُنسى أبدًا. إنها أماكن تتَّسم فيها الرأسمالية بالفوضوية، أماكن يكون فيها عدد النقابات العمالية أكبر من عدد المصانع، أماكن يُقتل فيها قادة الاتحادات.

وهي أيضًا الأماكن التي تُصنَع فيها سراويلي الجينز.

•••

تخيَّل راعيًا للبقر أو عاملًا يبني سد هوفر أو عامل مناجم يبحث عن الذهب أو أمريكيًّا يتصرف بطريقة أمريكية صرفة. ما الذي يَرتديه هؤلاء؟

من العجيب أن من بين كل الملابس التي يُمكننا ارتداؤها يُعدُّ الجينز الأزرق هو أكثر ملبس يحمل طابعًا أمريكيًّا.

لقد أُلِّفت كتب كاملة عن الجينز؛ حيث ألف جيمس سوليفان كتابًا بعنوان بسيط: «الجينز» (نيويورك، دار نشر جوثام بوكس، ٢٠٠٦)، وهو كتابٌ يَزخر بمقولات تُعلي من شأن الملابس: «أولًا، وضعوا البنية التحتية للبلاد، ثم عمروها بسكان يَتمتَّعون بهوية جمعية.»

وهل هناك قطعة ملابس أخرى تَنال المدح والثناء على المشاركة في بناء دولة وهوية قومية؟ بالتأكيد، ليس المقصود السراويل الداخلية ماركة «جينجل ذيس».

كان رجال البحرية الإيطالية أول مَن ارتدى الجينز، إلا أن أول مكان أُنتج فيه الجينز المبرشم بالقطع المعدنية كان سان فرانسيسكو على يد ليفي شتراوس، وهو مهاجر ألماني؛ ومن ثم ربما لا يكون الجينز الأزرق أمريكيًّا خالصًا كما يروق لنا أن نظن، ولكن اسمع هاتين الكلمتين: جيمس دين.

وإليك كلمة ثالثة: فونزي.

لم نخترع الجينز الأزرق في الولايات المتحدة، ولكنَّنا جعلناه رائعًا.

كتب سوليفان يقول:

جميع السراويل الجينز الزرقاء، سواء كانت خَشِنة كرصيف المشاة أم ناعمة الملمس كالكاشمير، تشترك في طابع «أمريكي». فربما تُقص وتُحاك في اليابان أو فيتنام أو هونج كونج، وتُصنَع باستخدام قماش الدنيم الذي تُنتجه مصانع النسيج بالمكسيك أو الهند أو إيطاليا أو تركيا، وباستخدام الصبغة النيلية المصنعة في ألمانيا أو البرازيل. وبغض النظر عن منشأ السروال الجينز الأزرق، فإنه يجسد خرافات ومُثُلًا خاصة بالثقافة الأمريكية امتدَّت على مدار قرنين من الزمان. وتُعد السراويل الجينز أثرًا باقيًا من المكتشفات الغربية؛ فهي تُلخص الاهتمامات التي تشغل بالنا في الوقت الحالي — ثقافة المشاهير والثقافة الاستهلاكية — وسنَستمر في ارتدائها على الأرجح بعدما نكون قد تخلَّصنا من بِذَل العمل في سلة نفايات الأزياء.

لا أتذكر أيَّ قطعة أخرى من الملابس قد تُرقعها والدتي، مثلما أتذكر بعضًا من سراويلي الجينز التي بها رُقَع فوق رقع. كان كل ثقب بها عبارة عن ندبة في معركة من الحركات الانزلاقية عند القاعدة الثانية في لعبة البيسبول ومباريات المصارعة في المنزل وحوادث ركوب الدرَّاجات وأمسيات اللعب التي كان يَتغلَّب فيها الخير على الشر. لقد مزقتُ السراويل الجينز ولطختها بالحشائش ونزفت وأنا أرتديها. وفي فصل الشتاء، لعبتُ في الثلج حتى تجمَّد سروالي الجينز. عندما أتذكر طفولتي، أتذكرها وأنا أرتدي سروال جينز وأستمتع بوقتي.

مثل لعبة البيسبول وفطيرة التفاح وطفولتي، السراويل الجينز ذات طابع أمريكي خالص. ورغم ذلك، الملصق الخاص بسروالي الجينز المُفضَّل مكتوب عليه: «صُنع في كمبوديا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤