الفصل الثامن عشر

كنوز ونفايات

في مكب نفايات مدينة بنوم بنه، كان من الصعب أن تُفرِّق بين الناس والنفايات.

أحذية طويلة الرقبة سوداء، مُصْطَفَّة في انتظار، بدت وكأنها أشبه بأكياس نفايات جاهزة للتخلُّص منها. بدت الأيادي المُرتدية قفازات مطاطية صفراء، التي كانت في حركة دائمة من الالتقاط والفرز، أشبه بقشور موز لزجة. وبدت القمصان الخضراء أشبه بنباتات عفنة، والقمصان الحمراء أشبه بالحقيبة المُمزَّقة الملقاة عند قدمي.

اقتربَتْ شاحنة وتجمَّع حولها زبالون. كانوا لا يدفعون أو يَحشرون النفايات؛ لأنه توجد قواعد وتقاليد رسمية لكل شيء، حتى هذا الأمر. ارتفع قلاب الشاحنة مُفرِغًا ما به من نفايات. كانت نفايات حديثة لم يحدث تنقيبٌ فيها من قبل؛ ومن ثم كانت من النوع الأثمن قيمة.

بدأ السباق.

كان مُعظَم الزبالين يُغطيهم تمامًا طبقات من الخِرَق الممزقة، باستثناء أحدهم — الذي كان حتمًا مُستجدًّا — إذ كان يرتدي سروالًا قصيرًا. كانوا يُمسكون بعصيٍّ ذات خطاطيف في طرفها يُقلِّبونها في النفايات. كانوا يضعون على الفور أي شيء بلاستيكي في حقائبهم القماشية التي كان يُحمَل فيها من قبلُ الأرزُ أو الأسمنت أو الدقيق. كانوا يُفكِّرون للحظة في مدى أهمية الأشياء الأخرى ثم يُقرِّرون سريعًا التخلص منها أو الاحتفاظ بها. كان الوقت في غاية الأهمية؛ لأنه حان وقت عمل آلة الحفر.

امتدَّت الذِّراع الصفراء الطويلة ذات السطل المعدني اللامع. تحرَّكت الذراع كما لو أنها محاطة فقط بنفايات جامدة، متجاهلة الإصابات التي قد تُلحقها بالبشر من حولها. كان الزبالون يأخذون حذرهم ويتحرَّكون إذا ما كانت المنطقة التي يَقفون فيها مُستهدَفة. كانت الذراع تَسحق وتدفع وترفع وتلتف لتُفرغ حمولتها على قمة جبلٍ عالٍ من النفايات. وبالأعلى وقَف عدد قليل من الزبالين الشجعان أو ربما الأغبياء. كانوا غارقين في فيض من النفايات آملين أن تفرغ الذراع حمولتها بالقرب منهم كي يُمكنهم العثور على شيء فاتَ الآخرين التقاطه (شكل ١٨-١).
fig17
شكل ١٨-١: في مكبِّ نفايات مدينة بنوم بنه، من الصعب أن تُفرِّق بين الناس والنفايات.

كانت كومة النفايات قد تكدَّست فوق الجبل جراء حركة الذراع بضع مرات ذهابًا وإيابًا. ثم اقتربت شاحنة أخرى. استمر السباق وبدا أن أمامه بعض الوقت إذا أخذنا في الاعتبار الشاحنات المصطفة في انتظار.

لم يكن هذا أسلوب حياة يَليق بالبشر، ولكن هؤلاء البشر اضْطُرُّوا لقبول هذا العمل على أيِّ حال. كان الكثير منهم مُزارعين عجزوا عن إعالة أسرهم، وكانوا قد سمعوا عن فرصة عمل في مكب نفايات بلدية ستونج مانشي. لقد اختاروا أن يَتركوا قراهم حيث الهواء الطلق والمساحات الشاسعة والخيارات المعدومة. وتحوَّل نحو ألفَي مزارع إلى زبالين مُستقلِّين يعيشون هنا ويَتقاضون أجرًا أقل من دولار واحد في اليوم نظير جمع الأشياء القابلة لإعادة الاستخدام. إنهم يَعيشون في أكشاك مؤقتة على حافة المكب الذي تبلغ مساحته ١١ فدانًا، ويَدفعون إيجارًا ليعيشوا في تلك الأكشاك. لقد اختاروا المجيء إلى هنا سعيًا وراء حياة أفضل. تساءلتُ هل هذه هي الحياة الأفضل التي سعوا إليها.

كانت توجد نار مشتعلة. انبعَث من النفايات المُحترقة دخان كثيف مُهيِّج للأنف. انبعث الكبريت في الهواء. إنه الجحيم على الأرض. ولكن للجحيم مستويات مختلفة، وهو ما جعلني أتساءل: ما قدر الجوع والمعاناة والاكتئاب الذي عاشوه قبل أن «يختاروا» العيش هنا؟

يُساورنا القلق بشأن حياة العمال الذين يَصنعون سراويلنا الجينز الأزرق، ولكن ماذا عن الأرواح المُهدَرة في مكبات النفايات؟ لم أسمع عنهم من قبل. العمال الذين يَتلقَّون معاملة سيئة يُشكِّلون محنة لضمائرنا بالتأكيد، ولكن وصول الفقر لهذا المستوى أسوأ بكثير.

كانت الرائحة شديدة الخبث والتأثير، فلم تتوقَّف عند أنفي، بل زحفت لتصل إلى حلقي وأخذت تؤرق حجابي الحاجز. كان للرائحة تأثير حارق لعيني.

كان المنظر والرائحة مُثيرَين للغثيان ومسيلَين للدموع. كان من الممكن أن أتقيَّأ أو أبكي لكنني قاومت كلتا الرغبتَين. وبينما كنتُ أسير مبتعدًا، لم أُغطِّ أنفي؛ إذ لم أرغب في إظهار شعوري بالغثيان مما يَفعلونه ومن المكان الذي يعملون به.

سرتُ مُطأطئ الرأس؛ لأنني اكتفَيت من النظر حولي. غطَّى وحلٌ لزج الملمس أسود ثنايا ساق سروالي الجينز ماركة ليفايس. ثم وجدتُ أمامي على الأرض دُمية صفراء صهباء الشعر؛ كانت مُغطَّاة بنفس الوحل الأسود اللزج الأسود ومُمددة على الأرض كأنها إطار جثة رُسم بالطباشير. كانت الدمية ملقاة بجانب مسار شاحنة. بدا إسرافًا أن يُرمى شيء كهذا من المُمكن أن يجعل طفلة صغيرة تَبتسم.

تطلَّعت إلى كومة النفايات الموجودة على يساري ورأيتُ مجموعة من الأطفال يراقبونني. أحد الصبية كان لا يرتدي شيئًا سوى سروال؛ فلا حذاء ولا قميص. جلسوا على النفايات التي تُحيط بهم من كل جانب يُنقِّبون فيها بتراخٍ مُستخدِمين عِصيَّهم الخاصة في تقليب النفايات. سرت في اتجاههم ودعوتهم للقيام بالشيء الوحيد المنطقي؛ ألا وهو لعب الفريسبي.

بعد شرح قصير لكيفية رمي الطبق الطائر، قذفتُه إلى الفتى الحافي القدمين العاري الجذع. حملت الريح الطبق ليَطير من فوق رأسه، ويَتدحرج على الأرض على أحد جانبيه مارًّا بماسورة معدنية صدئة مغروزة في الأرض.

لقد صعَّبت الريح علينا قذف طبق الفريسبي على نحوٍ دقيق، إلا أني مدين لها رغم كل شيء. كنا نقف عكس اتجاه الريح القادمة من جهة النفايات والأكوام المُحترقة. لو كنت أعمل في جمع الزبالة واحتجت إلى استراحة، لكان هذا هو المكان المناسب. كان أغلبية الموجودين أطفالًا يُنقِّبون في النفايات القديمة المُكدَّسة هنا على هضبة القمامة. كانت احتمالات العثور على شيء ثمين محدودة. كان متوسط دخل الأطفال هو ٢٥ سنتًا في اليوم مقابل التنقيب عن الأشياء القابلة لإعادة التصنيع. لكن كان المكان أكثر أمانًا، والهواء أفضل. لم تكن أيُّ شاحنات أو معدات ثقيلة تتحرَّك بالقرب من المكان.

جرى الصبي وهو يَعرج وراء الطبق. وعندما وصل إليه، جلس على الأرض وفحص جرحًا قديمًا في قدمه. كان الجرح قد تلوث، ولذا كشط الطين اللزج الأسود المحيط به بإحدى أصابعه المُتسخة.

ما الذي يُمكنني فعله؟ هذا سؤال وجدتني أطرحه على نفسي مرارًا وتكرارًا. ما الذي يمكنني فعله من أجل قدم هذا الصبي؟ بإمكاني على الأقل أن أُنظِّفه وأضع ضمادة عليه لو كان معي أدوات الإسعافات الأولية، ولكن لم تكن معي. ما الذي يُمكنني فعله لهؤلاء الأطفال العاملين بمكبِّ النفايات؟

فكَّر سكوت نيسون — منتج أفلام هوليوود الذي زار مكبَّ النفايات أثناء رحلة خلوية قام بها في فترة بين إنتاج فيلمي «إكس مِين» و«تقرير الأقلية» (مينوريتي ريبورت) — في الشيء نفسه. وباعتباره رجلًا لديه الإمكانيات اللازمة للقيام بشيء حيال الأمر ويَعيش حياة من الترف والبذخ لا يُمكنني تخيُّلها، لا بد أن هذا السؤال شغل بال نيسون؛ حيث إنه باع سيارته البورش ومنزله، وانتقل إلى كمبوديا. وأسَّس صندوق الأطفال الكمبوديِّين وأنقذ الأطفال من النفايات؛ حيث إنه آوى وأطعم وعلَّم سبعمائة طفل منهم.

صرَّح نيسون لقناة إيه بي سي نيوز قائلًا: «المشكلة في الطريقة التي تقول بها لا.» قال إنه عندما يزور المكان، يأتي الأطفال إليه ويقولون: «من فضلك، خذني إلى المدرسة.»

الأمر كله مرتبط بالحظ. هذا الصبي وُلد لأبوَين كانا محظوظين باجتيازهما «العام صفر» أثناء فترة حكم بول بوت، ولكنه تعيس الحظ لأنه وُلد بواحدة من أفقر دول العالم. ويُصبح سعيد الحظ إذا عثَر على أشياء قابلة لإعادة الاستخدام ليَحصُل في المقابل على ٢٥ سنتًا، ويصبح والداه — إذا كانا سعيدَي الحظ بالدرجة الكافية ليكونا ما زالا على قيد الحياة — سعيدَي الحظ إذا كان لديهما ما يكفي لإطعامه. وهو تعيس الحظ لأنه مصاب بجرح في قدمه. وسيكون سعيد الحظ إن ضمَّه سكوت نيسون إلى مدرسته أو إن مدَّت واحدة من المنظمات غير الهادفة للربح الكثيرة في كمبوديا يد العون له. ولكنه تعيس الحظ لأنه يوجد عدد كبير جدًّا من الأطفال في مثل حالته.

نظَّف الجرح وقذف طبَق الفريسبي إلى الفتاة قبالته. طار الطبق عبر الهواء الساخن الكريه الرائحة. أخذَت تمدُّ ذراعيها تارة في ترقُّب وتُمسك بقبعتها تارة أخرى. كانت عيناها لامعتين وتتلألآن حين تَبتسم ابتسامتها الرائعة. لم تُمسك بالطبق، ولكنها كانت سريعة في الوثب عليه أثناء ترنُّحه ليتوقف.

كانت بصدد قذف طبق الفريسبي وهو مقلوب رأسًا على عقب، فأشرتُ إليها لتعدله. التصقت خصلات من شعرها بوجهها المُتعرِّق، وتمايل شعرها الطويل غير المصفَّف والمعقوف على هيئة ذيل حصان، مع نسيم الهواء. كانت تبلغ من العمر أحد عشر عامًا، وفي غضون بضع سنوات كانت ستَصل إلى السن القانونية للعمل في كمبوديا، لم تكن تبدو راغبة في العمل بكدٍّ حتى يَحين ذلك الوقت.

قذفت طبَق الفريسبي، وطار وراءها. أحد الصبية قال لها شيئًا، فألقت برأسها إلى الوراء وأخذت تَضحك. كانت لا تزال تتمتع بالبراءة التي فقَدها الزبالون البالغون — بالأسفل — قبل وقت طويل. كانت ضحكتها هي الضحكة الوحيدة التي سمعتها خلال الساعة الأخيرة. لم تكن عيناها خاليتين من التعبير. كانت تعرف الجوع لا الحرب. كان الأمل لا يزال في قلبها.

أن تكون واحدًا من ٨٥ شخصًا يَصنعون سروال جينز أزرق أو يُلقون عليه نظرة إعجاب أثناء استخدام طريقة أحجار الصقل أو تقنية الصقل الرملي، وأن تعمل ستة أيام في الأسبوع، وأن تحصل على أجر ٥٠ دولارًا في الشهر — لتُرسل نصف المبلغ إلى أسرتك ليستطيعوا شراء الطعام — لا يبدو كل هذا حياة بالنسبة إليَّ. ولكنها حياة ستَحظى بها تلك الفتاة إن كانت سعيدة الحظ (شكل ١٨-٢).

ما كنتُ لأفكر بهذا الأمر قطُّ قبل هذه الرحلة، ولكني أتمنى أن تَحظى هذه الفتاة يومًا ما بفرصة تصنيع السراويل الجينز الزرقاء. وأتمنى ألا تضطر إلى دفع رشوة إلى قرش العمالة. وأتمنى أن تتقاضى أجرًا عادلًا منصفًا وتُعَرَّف بحقوقها. فثمة أسلوب حياة أسوأ من حياة عمال الملابس.

fig18
شكل ١٨-٢: الفتاة تعود إلى العمل بعد لعب مباراة الفريسبي مع المؤلف.

في مكبِّ النفايات، قمامة شخص هي كنز لشخص آخر. وفي كمبوديا، المصنع المُستغِل من وجهة نظر شخصٍ ما بمنزلة فرصة من وجهة نظر شخص آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤