الفصل الحادي والعشرون

آلام متزايدة

وضع رجل يرتدي شبشبًا مطاطيًّا وردي اللون سمكة صغيرة في المظلَّة التي كانت مقلوبة رأسًا على عقب وتمتلئ بمياه خضراء اللون. إذا بدأت السمكة في السباحة، فإنها ستتمكن من الوصول إلى حافة المظلَّة وبلوغ الحرية قبل أن تعود لتنزلق لأسفل داخل المظلة. في النهاية، استسلمت السمكة.

كانت عصا الصائد — وهي أشبه بورقة عشب طويلة تصل إلى ١٢ قدمًا — عبارة عن قضيب طويل بدون بكرة. وضع الصائد يَرقانة في الخُطاف كطُعم ومدَّ العصا بحركة سريعة في الماء ووقَف ينتظر. لم أرَ من قبل عصا صيدٍ طويلة للغاية هكذا، ولم أرَ من قبل سمكة صغيرة للغاية كهذه تُصطاد بالخطاف. فعادةً ما يُصطاد سمك بهذا الحجم بواسطة شبكة ويُستخدم هذا السمك الصغير كطعم لاصطياد السمك الأكبر حجمًا. عندما كنت في الخامسة من عمري، اعتدت اصطياد سمكة الخياشيم الزرقاء التي يَعدل حجمها ١٠ أضعاف حجم هذه السمكة الصغيرة من البحيرة الموجودة عبر الطريق، وذلك بواسطة عصا صيدٍ مناسبة للأطفال.

لا بد أن مذاق السمك طيب؛ لأن الصائدين يَصطفُّون على طول الضفة الصخرية. وجميع الصائدين يحملون عصا صيدٍ مشابهة ويستعينون بمجموعة متنوعة من الدِّلاء والعُلب والدوارق والجِرار لوضع طُعمهم من أجل اصطياد السمك.

يندفع جدول مياه بين الصخور ويصب في النهر. كانت الأسماك تتحرك داخل الدلاء والمظلات المقلوبة لتنثر المياه هنا وهناك. كانت أجواء ذلك اليوم هادئة ومواتية للصيد في أطول ثالث نهر في العالم، نهر اليانجتسي، حتى صدر صوت محركات الأوناش.

كانت الأوناش موضوعة على بوارج وتُنزل كلَّاباتها في المياه. أخرجت الكلَّابات أصابع مليئة بالرواسب وأُلقي بها في صَنْدَل قريب. والأنهار الجارية على نحو طبيعي لا تحتاج إلى هذا النوع من الصيانة، ولكنه ليس نهرًا جاريًا على نحو طبيعي. في الواقع لا يوجد شيء طبيعي بخصوص أي شيء هنا؛ فحوافُّ الجرف جرى نسفها باستخدام الديناميت، والضفاف كانت مُغطاة بالأسمنت، والسماء كانت مليئة بالغبار، وحتى الصخور التي يقف عليها الصائدون موحَّدة في الحجم والشكل على نحو مفرط ما يجعلك تستبعد أنها طبيعية. إلا أن كل هذا يتضاءل عند مقارنته بالسد (شكل ٢١-١).
fig22
شكل ٢١-١: الصائدون يبدون أقزامًا أمام أكبر سد في العالم، سد الممرات الثلاثة.

سد الممرات الثلاثة، ذو التدرجات المتعددة، عبارة عن كتلة خرسانية هائلة الحجم. لم أنبهر بالسد على النحو الذي كنت أتوقعه. جدران مُنحدرة ضخمة مثل سد هوفر الذي يمتدُّ إلى عنان السماء. يُعد سد الممرات الثلاثة أكبر سد في العالم، ولكني أظن أن ضخامته تُهدَر نوعًا ما بسبب عرضه. وعلى الرغم من ذلك، ولكي أكون صادقًا، لا تَستحوذ الكتل الخرسانية على إعجابي بسهولة، وإذا فشل هذا السد — الذي يبلغ طوله نحو ميل ونصف وارتفاعه نحو ٦٠٧ أقدام — في إبهاري، فلن ينجح أي هيكل خرساني في ذلك.

بدأ تشييد السد في عام ١٩٩٤ بعد عقودٍ من التخطيط قاطعتها ثورات و«قفزات للأمام». ظلت الكتلة الخرسانية في مكانها، ولكن المولِّدات لم تعمل لمدة بضعة أشهر أخرى. سيوفر المشروع — الذي بلغت تكلفته ٢٣ مليار دولار — الكهرباء لسبع مقاطعات، بما فيها مقاطعة جوانجدونج حيث يُصنع شبشبي المطاطي الخفيف. وهذا يَعني أنني إذا عدت في عام ٢٠٠٩، فسيتعيَّن على شركة ديكرز أن تبحث عن عذر آخر غير انقطاع التيار الكهربائي عن المصنع لرفض جولتي داخله. أنا على يقينٍ بأنهم سيُفكِّرون في سبب آخر.

وفقًا للافتة في متحف المشروع، يُعتبر السد نجاحًا عظيمًا لن نَستوعبه على الأرجح لأننا لم نكن موجودين وقت بنائه:

بدون المشاركة الذاتية، يكون من الصعب فهم التكنولوجيا المعقَّدة والبناء الشاق الذي استلزمه إغلاق مسار النهر. [إغلاق المسار] … سجَّل رقمًا قياسيًّا جديدًا في تاريخ بناء السدود النهرية على مستوى العالم؛ مما يُبرهن على قدرة الشعب الصيني وتصميمه وحكمته للاستفادة من الأنهار.

وفيما يلي هذا المُقتطف من اللافتة نفسها، في حال لو لم نقتنع بالأهمية التاريخية والعظمة الفائقة للمشروع:

الإنجاز العظيم لبناء السدود النهرية … الذي حقَّقه الشعب الصيني في نهر يانجتسي سيُكتب عنه في تاريخ تنمية الموارد المائية على مستوى العالم باعتباره نموذجًا باهرًا.

وعلى الرغم من ذلك بعض الصينيِّين لا يشعرون بأن المشروع نُفذ «بأيديهم»، ولكن «فُرض» عليهم. ففي عام ٢٠٠٦، تفاخرت الحكومة بالأرقام القياسية العالمية التي سجَّلها السد. ولم تَسرد الحكومة حجمه وقدرته على توليد الكهرباء وحسب، بل ألقت الضوء على التضحية التي قدمها الشعب لبناء السد أيضًا. فقد أسفر رفع مياه نهر يانجتسي عن تهجير أكثر من ٤ ملايين شخص. في الواقع، المياه التي يَصطاد عندها الصائدون في تلك اللحظة كانت تُغطي منازلهم على الأرجح.

أعتقد أنه بإمكانك أن تَعتبر إعادة توطين أكثر من ٥ ملايين شخص إنجازًا، إذا ما أثار إعجابك حجم السلطة التي تَمتلكها حكومة البلاد، أو قدر الطاعة التي يُبديها مواطنوها.

ومن أجل الترويج للمشروع وتزويد محلات الهدايا بالبضائع، كان للسد تميمتا حظٍّ؛ فتًى مبتسم وفتاة مبتسمة يقفزان. كلاهما يرتدي قبعة صلبة وبدلة العمال. وتَحمل الفتاة ذات الشعر المصفَّف على هيئة ذيل حصان شعارًا يوحي بشيءٍ ما دون شك، بالإضافة إلى سطر يقول: «أنا «أحب» السد.» مقدار سعادتهم بجدار خرساني عملاق هو أمر مفزع ومخيف.

لقد نُفِّذ المشروع من أجل الشعب الصيني وبأيدي الشعب، ولقد نُفِّذ أيضًا من أجل البيئة. وانخفض مستوى جودة المياه نظرًا لتوقُّف التدفُّق الطبيعي للنهر. ويُعتبَر السد مسئولًا جزئيًّا عن انقراض أسماك الدولفين النهرية من نهر يانجتسي وتهديد طائر الكركي السيبيري بالانقراض. ولا تبدو الأسماك في حالة ازدهار هي الأخرى.

تأمل الحكومة الصينية أن تتفوَّق الإيجابيات على السلبيات على المدى الطويل. وستتمكَّن الحكومة من التحكم في مياه فيضانات نهر يانجتسي ومنع أضرارها، وهم بحاجة إلى المزيد من الطاقة الكهربائية نظرًا لتزايد عدد السكان والمدن والصناعات. وأغلبية الطاقة الكهربائية في الوقت الحالي تأتي من الفحم الذي يتسبَّب بوجهٍ عامٍّ في ظهور ضبابٍ في العديد من المدن الكبرى. ويُعتبر السد والطاقة المائية التي ستنتج منه جزءًا من مساعي الدولة الرامية إلى توفير ١٥ بالمائة من الطاقة الكهربائية عبر مصادر متجددة للطاقة بحلول عام ٢٠٢٠.

تركتُ الصائدين لعِصِيِّهم الطويلة وأسماكهم الصغيرة واقفين في ظلال سدِّهم الكبير، وتوجهت إلى مدينة زيجوي لأعرف رأي السكان المحليِّين في أكبر مشروع أشغالٍ عامة على مستوى العالم يُنفَّذ في عُقر دارهم.

•••

تَمتلك تشو تشي مطعمًا صغيرًا على ضفاف نهر يانجتسي. كانت ذات نمَش وشعرها مصبوغ بالأحمر، بدت سعيدة حقًّا لأنني توقَّفتُ لأتناول الطعام في مطعمها. صبَّت لي كوبًا من الشاي الساخن وجلستْ قبالتي.

كانت جدران المطعم عبارة عن كتلة خرسانية عارية وأرضيته أسمنتية. كان كل شيء في المكان مرتَّبًا ونظيفًا.

سألتها: «أين كنتِ تعيشين قبل بناء السد؟»

أشارت إلى الباب، عبر الطريق، وإلى الماء أسفل منها.

سألتها: «منزلك موجود الآن تحت الماء؟»

ردَّت، وهي تداعب القلب الذهبي الذي يتدلى من سلسلة معلقة في رقبتها، قائلة: «أجل، كانت أسرتي تزرع البرتقال. كانت هذه المنطقة تشتهر بزراعة البرتقال. الآن، جميع الحقول تُغطيها المياه. ولكن الحياة أفضل بفضل السد.»

تساءلتُ قائلًا: «كيف كان شعورك حين سمعتِ لأول مرة أن عليكِ أن تتركي المنزل وتَنتقلي إلى مكانٍ آخر؟»

قالت: «لا بأس في ذلك. السد رائع وهو يَخدم عملية التنمية.»

قلتُ: «لكن بالتأكيد، كنتِ محبطة قليلًا.»

فردت قائلة: «لم أكن راغبة في الابتعاد عن أسرتي. لقد أعطَتِ الحكومة كل شخص [١٠ آلاف دولار]، وأسرتي أسَّست هذا المطعم؛ ومن ثم صارت حياتنا أفضل، والطرق أروَع، ووسائل المواصلات أكثر ملاءَمة، وصارت الكهرباء أكثر توافرًا. إنني لا أفتقد شيئًا.»

سار الحديث على هذا المنوال، وامتلأ دفتري بملاحظات عن كيف يُعَد السد «شيئًا جيدًا» وكيف أصبحت الحياة أفضل. كانت تقع أرض العائلة، التي امتلكتها ثلاثة أجيال، أسفل سطح النهر بمسافة ٦٠ قدمًا، ولا يبدو أن تشو تشي تَشعُر بالندم على اضطرارها للانتقال، ولو بالقدر الضئيل. كانت في غاية السعادة مثل تميمتَي الحظ الخاصتَين بالسد.

التقيت بوانج كاي، كان شابًّا مفتول العضلات ذا لحية خفيفة رمادية اللون، خارج منزله على بُعد بضعة منازل من مطعم تشو تشي. لقد انتقل إلى هنا قبل ١٠ سنوات، وأشار ناحية الماء بإصبع إبهام معقوفة حين سألتُه من أين جاء.

لقد اعتاد أن يعمل مُزارعًا للبرتقال أيضًا، أما الآن فإنه يعمل حِرَفيًّا.

قال: «كنتُ أحب عملي كمزارع، ولكن …» رفع يديه وكأنه يقول «ما باليد حيلة.» ثم تحدَّث عن مدى روعة السد؛ مُكرِّرًا الكثير من النقاط نفسها التي أثارتها تشو تشي ومضيفًا أن شبكة الهواتف صارت أفضل. «الحياة أفضل … السد رائع … المستقبل صار واعدًا أكثر بكثير الآن … إننا نستفيد من السد … إنه في صالح الدولة … أنا سعيد بالتضحية.»

يُمكنني أن أتفهم السبب الذي يجعل السكان المحليِّين يَظنون أن بناء السد شيء رائع؛ لقد اختفَت حقولهم وتغيَّر أسلوب حياتهم السابق، ولكن ظهر أسلوب حياة جديد؛ فقد أسَّست الحكومة بِنية تحتية محلية، وقدَّمت الكثير من وسائل الراحة الحديثة، ووفَّرت الأموال لإعادة البناء وتيسير الانتقال للعيش في أماكن جديدة. وليس لديَّ أدنى شكٍّ في أن الحياة صارت أفضل بالنسبة إلى مُواطني مدينة زيجوي الذين يعيشون خلف السد.

ورغم ذلك، فإن أحوال من يعيشون في قرًى معزولة أغرقها السد أيضًا ليست جيدة كما تُشير التقارير؛ فلقد حاولوا أن يَنقلوا مزارعهم إلى أرضٍ أكثر انحدارًا وارتفاعًا حيث أدى تآكُل التربة إلى جرف محاصيلهم، ولكن لم تُقدم الحكومة تمويلًا كافيًا أو مساعَدة في هذا الصدد. وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا عن فقدان إحدى الأسر لمنزلها ومُكوثها في خيمة بقطعة أرض تضم نصبًا تذكاريًّا «تمجيدًا لجهود المسئولين المحليِّين الرامية إلى تحسين البيئة.»

وعلى الرغم من أن الحياة قد تكون أفضل في مدينة زيجوي، أرعبَتْني فكرة أنه ما من أحدٍ لديه شيء سلبي ليقوله. وتفهمتُ أن الشعب الصيني مُتردِّد في الحديث بسلبية عن أي شيء تفعله الحكومة — وبخاصةٍ الحديث مع شخص أجنبي مثلي — ولكني ظللتُ أتوقَّع أن أستشفَّ من حديث أحدهم موجة من المشاعر السلبية. لقد جئتُ من عالم يَعتبر التغيير جيدًا إذا ما حدَث في عقر دار شخص آخر. ولكن التغيير في عقر دارك أنت يُعطيك الحق لتشكو وتَنتقد. فإذا قالت الحكومة الأمريكية إن أرضك بصدد أن تُغرقها الفيضانات وأنه يَتعيَّن عليك الانتقال إلى مكان آخر على الأرجح، فستظهر أنت — ومُستشارك القانوني — في كل برنامج إخباري من شروق الشمس حتى غروبها. وحتى وإن كانت شَكواك لا طائل من ورائها، فإنها ستجعلك تشعر بالتحسن.

أليس هذا في واقع الأمر هو مِحوَر حق الشكوى والانتقاد؟

إن إيجابيات بناء سد الممرات الثلاثة وسلبياته موضع جدال حامي الوطيس حتى داخل أوساط الحكومة الصينية. ومن المرجَّح ألا يعرف أحد على سبيل اليقين جميع الإيجابيات والسلبيات، وما إذا كان الأمر يستحق الوقت والمال ومواجهة الصعاب قبل مرور عدة سنوات مُستقبلية. أما في الوقت الحالي فيُعدُّ المشروع واحدًا من عدة آلام مُتزايدة تُواجهها الصين.

ولقد واجهناها — نحن — أيضًا.

•••

«حسنًا، اذهب يا أبتِ.» قلتُها بنبرة عالية وصوت أشبه بصوت شخصية ميكي ماوس. كنتُ في السابعة من عمري.

ضغَط أبي على دوَّاسة الوقود، وبدأ الزورق يَسحبني في الماء. لم يستغرق الزورق وقتًا طويلًا ليشق طريقًا أمام مزلاجتي. كنتُ أفعل ما يُملى عليَّ و«أتخذ وضعية المؤخِّرة المكتنزة»: جالسًا القرفصاء عند طرف لوح التزلُّج الذي لم يكن أكبر من تلك الألواح التي تراها على شبكة الإنترنت والتي تستخدمها شخصيات السناجب الكرتونية. ومثل السناجب، كان شقَّا لوح التزلُّج خاصتي مربوطَين معًا، ومن جديد كنت أبتسم ابتسامة بأسنان بارزة كأسنان السناجب تمامًا.

لم يكن وزني كافيًا لسحب حبل مشدود يَبلغ طوله ١٠٠ قدم، وتحرَّكَ الحبل في انسيابية عبر المياه. ارتفعتُ مع الأمواج وحرَّكتُ لوح التزلج بسرعة أثناء مرورنا على الزوارق الأخرى التي كان راكبوها يَصيحون عاليًا ويتفاخرون بمهاراتهم. كنتُ متحمسًا للغاية. لم أكن متزلجًا محترفًا ومحط الاهتمام وحسب، بل وعَدني والدي أيضًا أن يشتري لي دمية دبٍّ إذا استيقظتُ مبكرًا ذلك اليوم. أطلقتُ على الدب اسم «سكيتير» (المتزلج).

كانت هذه مجرد ذكرى واحدة من ذكريات عديدة عشتُها في بحيرة كمبرلاند، جنوب ولاية كنتاكي.

كانت بحيرة كمبرلاند متنفَّسًا لأسرتي؛ حيث كنَّا نذهب إلى هناك عدة مرات في الصيف. بالنسبة إليَّ، كان هذا يعني أكياس شيتوس وعنبًا وجبنًا معلبًا وحروق شمس وتمزقات وسقطات من فوق لوح التزلج ووقوعًا على الوجه وكثيرًا من الأوقات الممتعة. في كل مرة أشمُّ رائحةَ كِرِيم واقٍ من أشعة الشمس، أتذكَّر بحيرة كمبرلاند.

لكنني لا أجد دومًا بحيرة كمبرلاند.

تشكَّلتْ بحيرة كمبرلاند نتيجة بناء سدٍّ على نهر كمبرلاند. وبمجرد الانتهاء من بناء سد وولف كريك في عام ١٩٥٠، وفَّر السد الطاقة الكهرومائية والتحكم في الفيضانات على طول النهر.

ولكن لم يَسعد الجميع بهذا الأمر.

فلقد أُغرقت عدة مدن صغيرة بالفيضانات في خضمِّ ذلك؛ إحداها مدينة روينا، بولاية كنتاكي. ووفقًا لخبر نُشر عام ١٩٤٣ في صحيفة «كوريور جورنال» الصادرة في مدينة لويفيل أثناء تشييد السد، تباينت آراء السكان المحليِّين بخصوص موضوع السد.

فقد قال بعض الناس أشياء على غرار:

«السد سيُطوِّر مدينتنا.»

«الصناعة ستدخل الوادي.»

«إنه رائع.»

وعلى الجانب الآخر، رأى آخرون أن السد ليس بهذه الدرجة من الروعة، ومِن بين هؤلاء إل سي هامبل، وهو مُزارع في الرابعة والسبعين من عمره كان يَمتلك قطعة أرض شطرها السد إلى نصفين.

قال إل سي هامبل (ساخطًا): «السد هو أسوأ شيء على الإطلاق حدَث في ولاية كنتاكي. السكان الذين كانوا يعيشون في أعالي النهر لم يُضطرُّوا إلى إخلاء مساكنهم لمدة عامين أو ثلاثة. ولكننا اضطُررنا إلى إخلاء مساكننا على الفور. ليس لدينا أدنى فكرة عن المكان الذي سنذهب إليه.»

كان هامبل وزوجته يُربيان ١٢ طفلًا في منزل مُكوَّن من طابقين؛ حيث كان «(هامبل) وزوجته الضئيلة البنية ذات الشعر الرمادي يَحتفلان باليوبيل الذهبي لزواجهما عام ١٩٣٩.» وذلك وفقًا لما جاء في المقال.

لم تكن زوجته ثينورا تتطلَّع إلى مُغادرة الأرض أيضًا. «لطالما حاولنا أن نُقاوم ونتشبَّث بالأرض حتى نعرف ما الذي سنفعله بخصوص جُثث موتانا.» صرَّحت للصحيفة التي وصفت صوتها بأنه «كاد يقترب من النحيب» وكانت «وجنتاها السمراوان بفعل الشمس تَرتجفان قليلًا.» «لدينا ابنٌ وابنتان مدفونون في المقبرة الخلفية. إننا نُريد إخراجهم قبل أن تَطرح الحكومة عطاءات وتمنح أحدًا المال كي يُنفِّذ المهمة … أكثر ما يؤلمني هو ترك هذا البيت. لقد بُني عام ١٨٤٧ قبل أن نأتي إلى هنا بفترة طويلة. وأظنُّ أن أكثر ما يؤلم الناس هو ترك ماشيتهم … الجميع يظنون أننا سنحصل على مبلغ كبير من الحكومة.» وأضافت قائلة: «ولكن هل المال يُعوِّض ما فُقد؟»

لم يكن مواطنو مدينة روينا هم وحدهم من يأملون في الحصول على أموالٍ لتعويضهم عن فقدان أراضيهم. تعرَّض عمي الأكبر وزوجته، اللذان كانا يَعيشان في حي هايواي بولاية كنتاكي — واللذان كانا مهدَّدَين أيضًا ببناء السد — إلى الموقف نفسه؛ حيث تعرَّضا لمشكلةٍ بسبب تصنيعهما مشروباتٍ روحية بطريقة غير قانونية وانتقَلا إلى ولاية مسيسيبي. وبمجرد الانتهاء من بناء السد، عادا إلى ولاية كنتاكي وحاوَلا أن يُطالبا الحكومة بدفع تعويضٍ لهما. ورغم ذلك ردَّت الحكومة بأنه نظرًا لأنهما تسلَّما الأرض من خلال منحة أراضٍ، كان يجب عليهما أن يَشغلا الأرض حتى يُثبتا ملكيتهما لها. ولكن لم يُحالفهما الحظ.

لستُ متأكدًا من مكان حي هايواي، ولكنْ ثمة احتمال قائم بأنني تزلَّجت على الماء فوق هذا المكان.

وبمرور الوقت، أصبح يُقال إن سد وولف كريك وفَّر مئات الملايين من الدولارات نتيجة لتفادي حدوث أضرار الفيضانات. بالإضافة إلى ذلك وإلى الطاقة الكهربية التي ينتجها السد، صارت أنشطة الزوارق في بحيرة كمبرلاند مصدرًا رئيسيًّا للدخل جنوبي ولاية كنتاكي. حتى ذلك الوقت، سارت الأمور على خير ما يُرام بالنسبة إلى سد وولف كريك إلى أن حلَّ الفزع عام ٢٠٠٧ عندما اكتشف فيلق المهندسين بالجيش الأمريكي أن الماء يتسرَّب من السد وأنه مُعرَّض لخطر الانهيار. عمل فيلق المهندسين على حلِّ المشكلة، ولكن لو انهار السد، لكانت الأضرار الناجمة عن ذلك تُقدر ﺑ ٣ مليارات دولار، وهو ما كان من المُمكن أن يَحرمنا الكثير من المزايا الاقتصادية التي تحقَّقت حتى اللحظة الراهنة.

ظهر الكثير من السدود في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة في أعقاب الكساد الكبير. وكان لكل سدٍّ من هذه السدود إيجابياته وسلبياته، وكان لكلٍّ منها ألمٌ متزايد عايشته دولة لا تزال تخوض مراحل التنمية.

لا تُمثِّل السدود سوى ألمٍ واحد من الآلام الكثيرة المتزايدة في تاريخنا. ومصانع الملابس والمنسوجات هي ألم آخر أيضًا.

كان الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة هو الحضيض فيما مضى. وكانت الشابَّات يَتعرَّضن لظروف عمل في مصانع الملابس والمنسوجات شبيهة بظروف العيش في السجون. كانت حقوقهنَّ قليلةً للغاية، ومعاناتهن كبيرة للغاية، والحريق المأسوي الذي وقَع في مصنع تراينجل شيرتويست كان مثالًا لذلك. وبينما كان العمال يَكسبون المزيد من الحقوق، انتقل الحضيض إلى الجنوب وقفَز في النهاية خارج البلاد ليُواجه الاشتراكية ويُخفِّض أسعار ملابسنا.

يرى مجتمع الأعمال وعلماء الاقتصاد والدول النامية أن أولئك الذين يُركِّزون على سلبيات السباق نحو الحضيض يَنسون أن الكثير من الدول المتقدمة اليوم، بما فيها الولايات المتحدة، كانت فيما مضى عند الحضيض وأن صناعة الملابس والمنسوجات كانت ضرورية لتَقدُّمها. يُمكنني أن أتفهم هذا المنطق نوعًا ما. يُمكنني أن أرى إلى أيِّ مدًى تُوفِّر صناعة الملابس لأميلكار وعريفة وناري وآي — أو لأولادهم على الأقل — فرصة عيشِ حياةٍ أفضل. فمهما بلغ فساد دولهم على المستوى السياسي أو الاقتصادي، فهم يعيشون في أنظمة ديمقراطية تُتيح للمُنظَّمات الأجنبية أن ترفع من وعي العمال بحقوقهم على أمل أن تَرتقي بمستوى الحضيض. ولكن ماذا عن ديوان وتشو تشون؟ إنهما يعيشان تحت نظامِ حكمٍ شيوعي قائم على حزب واحد لا يَسمح بأي شيء من هذا.

ومن ثم حين يقول مجتمع الأعمال أو الاقتصاديون أو الحكومة الصينية إنَّ تقاضي العمال أجورًا ضئيلة نظير العمل لساعات طويلة في ظروف غير مواتية كله يُعد جزءًا من عملية النمو في الصين، فأنا أجد صعوبة في تصديق ذلك. ومَن يُمكنه أن يتنبَّأ بأن حقوق الإنسان وحقوق العمال ستشهدان تحسُّنًا في الصين؟ لقد اتخذت شركة ليفايس موقفًا ضد الصين، على أمل أن تورد من مكان آخر إلى أن تغير الحكومة الصينية نهجها في التعامل مع حقوق الإنسان لتَتوافق مع قواعد السلوك المِهني الخاصة بشركة ليفايس. وبدلًا من أن تُحسِّن الصين من أوضاع حقوق الإنسان لديها، خفَّضت شركة ليفايس معايير السلوك المِهني لديها.

يُطلِق جيمس مان، مؤلف كتاب «خرافة الصين» (نيويورك: فايكينج، ٢٠٠٧)، على هذا المنهج «السيناريو المُسكِّن». يقول جيمس مان إننا نظن أن التجارة تتحلى بخاصيةٍ سحريةٍ ما مُرتبطة بها ستؤدي إلى تحسين أوضاع حقوق الإنسان في الصين وستقود في النهاية إلى الديمقراطية. وتساءل ماذا لو لم يَحدث ذلك. ماذا لو احتفظَتِ الصِّين بنظام الحكم القمعي القائم على حزبٍ واحد ونظام الاقتصاد المفتوح؟ كيف سُيؤثِّر ذلك على ديوان وتشو تشون؟

إن الظلم الواقع على العمالة في مجال صناعة الملابس والمنسوجات هو مجرد جزءٍ يَسير من الظلم الهائل الذي يُمارَس في الصين؛ فقد أنقذ تحقيق أُجري في شهر يونيو عام ٢٠٠٧ حياة ٤٥٠ عاملًا في مجال تصنيع القرميد كانوا يتعرَّضون للضرب المُبرِّح والحرق والقهر النفسي والبدني. وصرَّح تقرير، نُشر في صحيفة «الجارديان» اللندنية بتاريخ ١٥ يونيو ٢٠٠٧، أن العمال «حُبسوا لسنوات في غرفة خالية بلا فِراش أو موقد، ولم يكن يُسمح لهم بالخروج منها إلا مِن أجل العمل في أفران متَّقدة، حيث يحملون هناك أحمالًا ثقيلة وبالغة السخونة من القرميد المحترق توًّا على ظهورهم العارية. والكثير منهم عانوا من حروق بالغة. وكان يُخصَّص لهم استراحة مدتها ١٥ دقيقة لتناول وجبة مُكوَّنة من خبز مدخَّن وماء بارد فقط.» وتعرَّض أحد العمال للضرب بجاروف حتى الموت، وتضوَّر عمال آخرون جوعًا حتى الموت.

ومثل سدِّ الممرات الثلاثة مقارنةً بسد وولف كريك المتاخم لبحيرة كمبرلاند، صار لهذا الألم المُتزايد — وهو ألم واحد من آلام كثيرة في الصين — بُعد آخر أشد قسوة. عادةً من يَتحمَّل الضرر الأكبر جراء هذه الآلام هم سكان القرى الريفية مثل ديوان وتشو تشون على أمل ألا تَنتقل هذه الآلام إلى ابنهما، لي سين الذي كنتُ في طريقي لزيارته.

استقللتُ حافلةً إلى محطة معدية السد حيث كنت بصدد السفر إلى مدينة تشونجتشينج، وهي مدينة على مقربة من قرية ديوان وتشو تشون. في تلك اللحظة، طغَت موجة عنيفة على الضفة التي كان الصائدون قد اصطفُّوا عليها من قبل؛ حيث فُتحت بوابة موجودة بالسد، واندفعت منها المياه إلى الخارج لتصبَّ في النهر.

المعدية ليست قاربًا، إنما هي زورق سريع مُثبَّت على زلاجتين يسير بسرعة ٣٥ ميلًا في الساعة. وهي عبارة عن أسطوانة معدنية طويلة مغلقة بإحكام، وقد بناها السوفييت. راوَدَني شعور جامح بأنني جيمس بوند أثناء تزلُّجنا على المياه فوق المكان الذي كان يضم فيما مضى منازل ١٫٤ مليون شخص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤