الفصل الثاني والعشرون

الصين الحقيقية

كان بإمكاني أن أشعر بالهواء النقي يملأ رئتي، كان شعورًا يَبعث على الارتياح. كان بإمكاني أن أشمَّ أريج الزهور والروائح الجميلة المنبعثة من النباتات الخضراء. هذا هو الريف، لم يَنتبْني هذا الشعور بالأُلفة منذ وصولي إلى الصين.

فأنا فتًى ريفي، ولا تَروق لي المدن الكبرى.

كانت مدينة جوانزو مكانًا تفوح منه رائحة العرق ويعجُّ بالصخب والضجيج. واستلزم استقلال الحافلة أو استخدام مترو الأنفاق الشد والجذب والتدافع، وأغلب الوقت كنتُ أنا من يُشَدُّ ويُجذَب ويُدفَع به على أيدي أناس أحجامهم تبلغ ثلثَي حجمي، وكأنني قطعة خبز صغيرة يَتدافع نحوها أسراب من النمل.

لم أكن قد سمعتُ عن مدينة تشونجتشينج من قبل. كنت أتوقع أن تكون مدينة صغيرة، إن لم تكن قرية ومتنفَّسًا يبعث على الارتياح بعيدًا عن جوانزو.

كان هذا القدر اليسير الذي أعرفه عن الصين.

يَبلغ تعداد سكان مدينة تشونجتشينج ٣١ مليون نسمة. وهذا تقريبًا ضعف سكان ولايتَي أوهايو وإنديانا معًا. وهي واحدة من مائة مدينة صينية يفوق تعداد سكانها مليون نسمة.

الناس يَبصقون كثيرًا في المدن، وهم مُضطرون لذلك؛ فالهواء عبارة عن سلاح كيميائي يدفع الجسم لإنتاج المخاط بأقصى طاقة إنتاجية ممكنة. والبصق ظاهرة صحية؛ فأنت إما أن تَبتلع الهواء أو تبصق. الناس يفعلون ذلك في كل مكان: في القطار وفي البنك، على السجاد أو على القرميد.

ولكنك لستَ مُضطرًّا للبصق هنا.

بمساعدة المترجم الخاص بي، ويُدعى هوانج من جامعة تشونجتشينج، اتبعتُ اتجاهات الطريق التي وصفها ديوان وتشو تشون من مدينة تشونجتشينج إلى مدينة يانجشوان إلى هنا أمام ثاني أكبر حديقة حيوان في الصين، وقد بدتْ وكأنها مهجورة.

كانت اتجاهات الطريق من هنا مُبهَمة إلى حدٍّ ما، كان من المفترض أن نَطلب من أحدٍ أن يَصحبنا إلى «أسرة شواي» عند «الفريق السادس». وكان هذا سيُصبح أمرًا لا بأس به لو وُجد أحدٌ حولنا نطلب منه ذلك، ولكن الريف مهجور تمامًا مثله مثل حديقة الحيوان.

ارتفع بوق حافلة تسير عند المنعطف ووقفَت أمامنا. نزلت منها سيدة ترتدي ثيابًا من قماش الدنيم مع فتاة في سن المراهقة. كانت كلتاهما محمَّلتَين بأكياس بقالة.

تساءلت قائلة: «أهذا هو الأجنبي؟» أكَّد لها هوانج الشيء الواضح. فعقَّبت قائلة: «اتبعاني.»

قادتْنا عبر الطريق. وعرضتُ عليها أن أحمل بعضًا من أكياس البقالة، ولكنَّها رفضت. سِرنا في الطريق الضيق الصاعد نحو ضفَّة مُنحدِرة من العشب والحشائش. أحاط بنا الطريق، الذي كان رطبًا بما يكفي لأن نترك آثار أحذيتنا مع كل خطوة نَخطوها في الحقول المتلاصقة.

تلك السيدة كانت أخت ديوان وتُدعى لين تشانج. كانت ترتدي سروال جينز أزرق وسُترة جينز أيضًا. كان هذا نوعًا من الإفراط في ارتداء الجينز، ولكن أظنُّ أن مظهرها لم يكن لِيُصبح مستغرَبًا في معظم متاجر البقالة الموجودة بالولايات المتحدة في صباح أحد أيام السبت. كانت ابنتها، داي جان، طويلة ونحيفة ترتدي جينزًا أرجواني اللون مُطرَّزًا بالزهور وسترة بيضاء. ولن يكون من المُستغرَب أن أراها تقفز من حافلة مدرسية تسير في ضاحية إحدى المدن الأمريكية.

وبينما كنا نسير في طريقنا، حيَّتْنا أصوات آتية من الحقول. أحيانًا كانت الأصوات تأتي من تَحتِنا أو فوقنا، وأحيانًا أخرى كانت مختبئة وسط حقول الذرة. كانت تلك الأصوات تخاطب لين تشانج، ولكنها لم تتوقَّف لتتحدث إليها، لم تكن مُضطرَّة إلى ذلك؛ فالأجواء هادئة ويمكنها أن تفتح حوارًا أثناء سيرنا من وادٍ إلى آخر. والوادي المُجاور أتى بمجموعة مختلفة من الأصوات والحوارات.

وفي النهاية، بعد أن شقَقْنا طريقنا عبر ومن فوق عدة وديان متدرجة، وصلنا إلى منزلٍ فوق إحدى التلال. كان المنزل المُكوَّن من طابقين مُغطًّى بقرميد أبيض، وكانت نوافذه ذات قضبان حديدية محاطة بأُطر مصنوعة من القرميد الأحمر. كان المنزل عبارة عن قلعة صغيرة تُطلُّ على حقولٍ خضراء لمحصول الذرة والبطاطس والأرز وبِركة كبيرة.

اختلَس صبيٌّ النظر إلينا من الظلال وراء الباب، ركضَت داي جان إليه كجروٍ مُتحمِّس دون أن تدري ماذا تفعل حين وصلت إليه. عرفتُ أنه لي سين، ابن ديوان وتشو تشون (شكل ٢٢-١). كان بإمكاني أن أرى والده في ملامح وجهه الحادَّة وذقنه المدبَّب، وخاصةً في عينيه اللتَين كان يبدو فيهما الوعي وتَشِيان بالأذى. وظهر عند الباب وجهٌ مشابه. وبينما كان وجه لي سين هو النسخة الأصغر سنًّا من ديوان، كان ذلك الوجه هو النسخة الأكبر سنًّا والأكثر إرهاقًا. كان هذا والد ديوان، جوانج.

انحنى جوانج برأسه انحناءةً بسيطة وابتسم وأشار لنا بالدخول. جلسْنا على طاولة خشبية على مقاعد خشبية عرضُها ليس أكبر من عرض زوجين قديمين من العوارض الخشبية المُستخدَمة في أعمال النجارة. استأذن لمُغادرة المكان وذهب إلى الغرفة المجاورة. اختلستُ نظرة سريعة ناحية الزاوية وشاهدته وهو يُشعل النيران أسفل مِرجل يمتلئ بنوعٍ ما من الجذور المقطَّعة، قلَّب المحتويات، كان هذا هو المطبخ؛ لم يكن مزوَّدًا بمياه جارية، إلا أنه كان يوجد به مصرف للتخلص من القمامة، أو بالأحرى مصرفان. وفي النصف الثاني من المطبخ وخلف بوابة خشبية رقَد خنزيران. كان جوانج يطهو طعامًا لخنزيرَيْه.

fig23
شكل ٢٢-١: لي سين مع المؤلف.

وقَف لي سين عند الزاوية مُعلِّقًا ذراعه اليسرى فوق كتفه اليمنى، كما لو أنه يُعانق نفسه نوعًا ما. بدا وكأنه يمر بواحدة من اللحظات المُربكة التي لا يعرف فيها المرء ماذا يفعل بذراعيه. شعر بالارتياح حين دخل الغرفة أحد الجيران، ثم توافَد الجيران واحدًا تلو الآخر. وسرعان ما امتلأت الغرفة بالجيران الذين جلسوا على مقاعد خشبية صغيرة في حجم تلك المقاعد التي لا يَجلس عليها الكبار في الولايات المتحدة إلا إذا كانوا يَمزحون.

سألوني عن عمري وما إذا كنتُ متزوجًا.

سرَتْ في الغرفة صيحة استغراب حين أخبرتُهم بأنني أبلغ من العمر ٢٨ عامًا ولستُ متزوجًا. قال المتحدث الرسمي عن المجموعة، وهو عم ديوان — الذي أطلقتُ عليه اسم العم راندي لأنه يتمتع بتلك السمة المُميزة للوقاحة التي يتمتع بها أحد أعمامي الذي يحمل الاسم نفسه: «لا بد أن تتزوج الآن؛ ففي القرية سن الزواج التقليدي هو ١٧ أو ١٨ عامًا.»

لم يُفزعهم خبر عدم زواجي حتى الآن بقدر ما أذهلهم أن يروا رجلًا أجنبيًّا أحمق لا يستطيع العثور على زوجة.

طمأنتهم بأنني سأتزوَّج قريبًا، ولكني شعرت بأنهم ظنوا أنني أختلق قصة لإرضائهم وحسب. وها قد انتهينا من هذا الموضوع المهم، فسألني العم راندي عما أفعله هنا.

فأخبرته بأنني صديق لديوان وتشو تشون، وأخرجتُ الصورة التي التقطتُها لهما في المطعم وناولتها إلى لي سين. أخذها في تردد وراح يتأملها لمدة دقيقة قبل أن يُدرك أنها صارت محط اهتمام الغرفة بأكملها ومرَّرها بسرعة إلى زوجين هرمين. كان هذان الزوجان هما والدَي تشو تشون.

قالت والدة تشو تشون، وهي تُعبِّر عما يشغل كل أم — على اختلاف الثقافات وتباينها — لم ترَ ابنتها منذ فترة طويلة: «لا بد أنها تأكل جيدًا؛ إنها سمينة.»

قهقهت المجموعة، وتملَّكتْهم الرغبة جميعًا لمشاهدة الصورة.

كان ديوان وتشو شون قد ازدادا وزنًا منذ آخر مرة زارا فيها القرية. من الحقائق التي يُجمع عليها الناس أن الطعام الموجود في المدينة أفضل وأَوفر.

مُررت الصورة من فلاح مُسنٍّ إلى فلاح مُسن آخر. بوجه عام كانت الغرفة يَنقصها جيل؛ حيث وقفت جدة تُمسك حفيدها الرضيع، وعندما جذب شعر السيدة الواقفة إلى جوارهما، صفعت مؤخِّرته العارية المُدمِّلة. كان يوجد بالغرفة أجداد وأحفاد، ولكن لم يكن يوجد أحد من جيل الوسط باستثناء لين تشانج.

سألتهم: «كم واحدًا منكم لديه أبناء يعملون في المدينة؟»

أومأت الرءوس وارتفعت الأيادي. كان للجميع أبناء يعملون في المدينة؛ حيث يصنعون الملابس والأحذية وأجهزة الكمبيوتر والدُّمى. كان العمال يرسلون الأموال إلى أُسرهم لإعالة آبائهم وأبنائهم.

حجم الطبقة الوسطى في الصين يتزايد، إلا أن الهوة بين الفقراء والأغنياء تزداد اتساعًا؛ فالأغنياء يزدادون ثراءً بوتيرة أسرع من وتيرة تراجُع حدَّة الفقر. نحو سبعمائة مليون شخص يعيشون في الأرياف الشاسعة على أرض الصين. ويقلُّ دخلهم عن ٦٠٠ دولار سنويًّا ولا يقتربون من الطبقة الوسطى بأيِّ حال من الأحوال. ويصل دخل أسرة تنتمي للطبقة الوسطى إلى ١٠ آلاف دولار سنويًّا ويعمل أفرادها كحِرفيِّين في المدن الكبرى. وتشير التقديرات المتحفظة إلى أن حجم الطبقة الوسطى يصل إلى نحو ٥ بالمائة من تعداد سكان الصين الذي يبلغ ١٫٣ مليار نسمة. فالصين التي نراها على شاشات التليفزيون، والصين التي نزورها، والصين التي نستورد منها منتجاتنا؛ جميعها تختلف عن الصين التي يعيش فيها غالبية الشعب.

هذه هي الصين الحقيقية.

إنهم مُزارعو الصين ومُصنِّعو القرميد وعُمال مصانعها وعمال الإنشاء. إنهم فقراء قُرى الصين الذين يُحبون الريف، ولكنهم يَحلمون بالمدينة.

مُرِّرت الصورة إلى جوانج.

فسألتُه: «هل تعرف ماذا يفعل ابنك في المصنع؟»

هز رأسه نافيًا.

قلت له: «إنه يَدهن الأحذية. إنه يعمل بكد.»

قال جوانج: «لقد سافر ابني منذ ثلاث سنوات. إنه يكسب مبلغًا أفضل في المدينة. أنا على يقينٍ بأن الحياة في المدينة أفضل من الحياة في القرية، لكن لكلٍّ منهما إيجابيات وسلبيات.»

طرحتُ عليه هذا السؤال: «هل تشعرون بالسعادة في حياتكم بالقرية؟»

أجاب قائلًا: «هذا يتوقف على تعريفك للسعادة.»

تدخَّل العم راندي، وهو شخص لا يُمكنه البقاء صامتًا، ليقول: «هنا يُمكنك أن تفعل ما تريد. ليس لديك رئيس عمل.»

قال جوانج: «في القرية، الهواء منعش وأشعة الشمس قوية. أما في المدينة فيمكنك أن تشتري أشياء كثيرة، ولكن لا يُمكنك أن تشتري الهواء المنعش.»

أخبرني جوانج أن الحياة صارت أفضل منذ أن منحته الحكومة مزرعته عام ١٩٨٥. وقبل ذلك كانت الحكومة تجمع محصوله، ولكنه الآن بإمكانه أن يُطعم أسرته بمحصوله الخاص ويبيع ما يتبقى منه.

قال جوانج: «إننا نأكل معظمه. وأكسب نحو [١٤٠ دولارًا] من بيع الباقي.»

سألته: «حين تتوقَّف عن الزراعة، من الذي سيعتني بالحقل؟»

أجال النظر في الغرفة وتنهَّد، ثم عقب قائلًا: «الشباب لا يُريدون الاشتغال بالزراعة.» ثم انسل ناحية الخنزيرين للعناية بهما.

سألتُ لين تشانج، وهي المُمثل الوحيد عن الجيل المفقود بين الأجداد والأحفاد: «ماذا تعملين؟»

فأجابت: «أعمل الآن مُزارعة، ولكني كنت أعمل في المصنع نفسه مثل أخي. عملت هناك لمدة أربع سنوات، ولكني قدمت استقالتي لأَعتنيَ بابنتي.»

سألتها: «وهل كانت وظيفة جيدة؟»

ردَّت قائلة: «كنتُ أشعر بالحنين إلى أسرتي حين كنت أعمل هناك، ولكن الطعام كان أفضل؛ فمدينة جوانزو أكثر تقدمًا، والظروف المعيشية كانت على خير ما يرام. كنت أعمل ما بين ١٥ و١٦ ساعةً في اليوم حسب حجم العمل وأعبائه. وكان من السهل ادِّخار المال لأنني كنتُ أعمل دائمًا. فالحياة أفضل كثيرًا في مدينة جوانزو.»

وعقبتُ متسائلًا: «وما عدد الساعات التي تعملينها في القرية؟»

أجابت: «ساعتان أو ثلاث.»

قلت لها: «مهلًا! لو خُيِّرتُ بين العيش في شقة مكوَّنة من غرفة واحدة صغيرة والعمل لمدة ١٦ ساعة في اليوم، على مدار ستة أو سبعة أيام في الأسبوع في مدينة مزدحمة بعيدًا عن أصدقائي أو أقاربي والعمل لمدة ساعتين أو ثلاث في اليوم والعيش في منزل مكون من طابقين في الريف ذي الهواء النقي وسط جميع أصدقائي وأسرتي، فلسوف أختار الريف. لماذا تكون الحياة أفضل في مدينة جوانزو؟»

أجابت: «السبب هو أن الأجر أفضل. كما أن جوانزو ذات طابع عصري.»

فطرحت سؤالًا آخر: «إذن، لماذا لا تعودين مرة أخرى؟»

ردت قائلة: «ابنتي لا تستطيع تحدُّث لغة مدينة جوانزو، وستواجه مشكلة في المدرسة. ربما حين تتخرج [من المدرسة]، يُمكنني أن أعود، ولكن الآن يجب أن أعتني بها.»

مساحة الصين هي نفس مساحة الولايات المتحدة تقريبًا، إلا أنَّ المناطق عُزلت من الناحية التاريخية واللغوية. ولقد وطَّنَت الحكومة أفرادًا في المناطق الريفية في خمسينيات القرن العشرين لإنتاج الطعام للمدن. وهذا عمل على تأخير الهجرة من الحقول إلى المدن إلى أن أُلغي هذا النظام في الثمانينيات من القرن نفسه. وتوافَدت على المصانع العمالة بأعداد كبيرة مُنعت من قبل من البحث عن وظائف في المدن.

كان هذا الإمداد — الذي لا نهاية له فيما يبدو — من العمالة القروية المطيعة والأُمية هو ما أدى إلى نجاح الصين في مجال التصنيع. كما أدَّى تقييد حركتها إلى وجود حواجز لغوية صارمة. فأهل مدينة جوانزو يتحدَّثون اللغة الكانتونية، بينما يتحدث سكان القرى إحدى لهجات لغة الماندرين. ويتعلم طلاب مدينة جوانزو بلغة تختلف عن اللغة التي تتحدَّثها داي جان.

ومن أكون أنا لأحدد هل الطابع العصري أفضل أم لا؟ فبإمكاني أن أعيش في الولايات المتحدة بعيدًا عن أي مدينة وأن أتمتَّع بإمكانية الوصول إلى مصدر معتمَد للطاقة الكهربائية وخدمات البنوك وخدمات الرعاية الصحية. ويُمكنني مشاهَدة الفضائيات والحصول على شهادة جامعية عبر شبكة الإنترنت؛ فريف الولايات المتحدة ذو طابع عصري. ربما قد يَعني الطابع العصري شيئًا بخلاف مظاهر الترف ووسائل الراحة. وربما قد يعَني الطابع العصري كونك جزءًا من المستقبل، والجميع يعرفون أن مُستقبَل الصين ليس في الأرياف وإنما في المدن.

كان ديوان وتشو تشون يتحدَّثان كما لو أنهما يريدان العودة إلى القرية ليكونا مع أسرتهما وأصدقائهما. ولكن هل حدث ذلك؟ راق لي الاعتقاد بأنهما يَرغبان البقاء مع ابنهما وأنهما يُفضِّلان هدوء الريف على صخب المدينة. ولكن إذا كان رأيهما من رأي لين تشانج، فلن يكون هذا ما يَرغبان فيه على الإطلاق.

بدا أن الأجداد الذين يَحملون أحفادهم يعرفون هذا الأمر أيضًا؛ فالحياة التي اعتادوها لم يعد لها وجود. لقد رحَل أبناؤهم وربما لا يعودون. ومن يدري نوعية الحياة التي تنتظر أحفادهم؟

كسر العم راندي حاجز الصمت قائلًا: «الشباب يُريدون العيش في المدينة. وسأنتقل إلى المدينة يومًا ما.»

خرج جوانج من المطبخ ببريق في عينيه وهو يقول: «لطالما كنتَ تردِّد على مدار اﻟ ٦٠ سنةً الأخيرة قائلًا إنك ستنتقل إلى المدينة. وستستغرق على الأرجح ٦٠ سنةً أخرى قبل أن تفعلها.»

جلس ثمانية أشخاص منَّا على المائدة الصغيرة لتناول الغداء. لم أتوقع أنه سيوجد حيِّز كافٍ لأطباقنا أو أوعيتنا أو أيًّا ما كان الذي سنستخدمه لتناول الطعام. وخرجَت الأطباق واحدًا تلو الآخر، وما خرج من المطبخ الصغير كان مدهشًا. كانت بعض الأطباق بسيطة؛ مجرد حبات فاصوليا. وكان يوجد أطباق أخرى تحتوي على مكوِّنات متعددة. كان من الصعب تصديق أنهم أعدوا كل هذا بهذه السرعة.

تساءل جوانج: «بيرة؟»

أجبته: «بالتأكيد.»

ناول جوانج الزجاجات للعم راندي الذي فتح أغطية الزجاجات من خلال وضع حافة الغطاء على طرف الطاولة ثم ضرب الجزء العلوي من الزجاجة بقبضة يده بحركة سريعة. كنتُ بصدد أخذ رشفة كبيرة من الزجاجة حين بدأ الجميع يصبُّون البيرة في سلطانيات. شربنا بيرة دافئة من سلطانيات.

لم يكن تناول الطعام سهلًا؛ حيث كنا نغرف الطعام من أطباق عميقة ربما تكون بعيدة عن متناول أيدينا ويُمرِّر الواحد منا اللقمة فوق الأطباق والأذرع حتى تصل إلى فمه. لم يكن لدينا أطباق مسطحة لنغرف فيها أو سلطانيات لنملأها سوى تلك السلطانيات التي نشرب منها البيرة. كانت أولى مُحاولاتي الخرقاء لتناول حبة بطاطس موجودة على الجانب الآخر من المائدة هي ما جعلهم يتساءلون عما إذا كنتُ بحاجة إلى شيء آخر غير عِصيِّ الطعام، ولكني في النهاية حُزْت على ثقتهم بأنني أستطيع استخدام عِصيِّ الطعام.

تتطلَّب هذه الطريقة في تناول الطعام قدرًا كبيرًا من التخطيط واختيار التوقيت المناسب. فإذا أردت تناول قلب الخنزير الموجود على الجهة المقابلة من المائدة، اضطُررتَ إلى الانتظار حتى يخلو الطريق من الأذرع والعِصي. (وبالمناسبة، لم أكن أعرف أنه قلب خنزير حتى أخبَرني هوانج بذلك، وبعد ذلك توقَّفتُ عن الأكل.)

وعندما انتهى الجميع من تناول الطعام، ظهَر على وجه العم راندي نظرة ساخرة وقال: «هل تريد أن تلعب لعبة؟»

فقلت: «بالتأكيد.»

قال وعلى وجهه ابتسامة عريضة: «لعبة شرب البيرة؟»

كنتُ أكره ألعاب الشرب، إلا أنني أومأت برأسي «موافقًا» على أيِّ حال.

أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم أطفأها ونزع عقب السيجارة بحركة خاطفة.

شرح قائلًا: «سوف أمدُّ يدي وستُخمِّن ما إذا كان عقب السيجارة موجودًا بداخل قبضتي أم لا. اتفقنا؟ إذا كنتَ محقًّا، شربتُ أنا. وإذا كنتَ مخطئًا، تشرب أنت.»

سألته: «ما الكمية التي سنشربها؟»

قال وهو يضحك: «سلطانية كاملة.»

ابتسم ووضع يده وراء ظهره وهو ما جعله يَنحني باتجاه الطاولة. وقهقه ثم خبَّأ يده اليمنى وضم قبضته. حدَّقت في عينيه ثم نظرت إلى يده الخشنة والمتضخمة بفعل سنوات من العمل الشاق في الزراعة.

هززتُ رأسي ولوَّحت بيدي أنه لا يوجد شيء.

لم يَفتح قبضة يده على الفور لمزيد من التشويق والإثارة للحضور في لعبة شرب البيرة في منتصف فترة ما بعد الظهيرة.

ثم فتح قبضة يده فإذا هي خاوية.

ربحتُ. وشرب هو السلطانية دفعة واحدة.

في الجولة الثانية، خبَّأ يده اليسرى. كان تخميني خاطئًا. أمسكتُ السلطانية بكلتا يديَّ وقمت بإمالتها إلى الوراء وبدأت أتجرَّع الشراب دفعة واحدة. تساقطَت قطرات البيرة على ذقني، وضحك الجميع.

بعد بضع جولات أخرى، انتهت لعبتنا، وغادر الجيران بنفس السرعة التي جاءوا بها. ألقى جوانج ببقايا طعامنا إلى الخنزيرَين اللذَين كانا يُعدَّان مصرف التخلص من القمامة، وقد تردَّد لي سين قبل أن يوافق على مرافقتي لمشاهدة المنزل.

كانت غرفة النوم قبالة المطبخ. كان لي سين وجدُّه يتشاركان الغرفة. تدلَّت ناموسية فوق الفراش الوحيد بالغرفة، وبالتأكيد ظلت كومة من الأغطية على حالها منذ أن وُضعت بالغرفة. كانت مساحة الغرفة أكبر من الغرفة التي يعيش بها ديوان وتشو تشون في المدينة، ولكن أكثر فوضوية. كان واضحًا أنها غرفة عُزاب.

أشرتُ إلى الزاوية وسألت عن التليفزيون الذي كان يَنقصه سماعة.

قال لي سين بفخر: «أنا أُصلحها.»

كان هناك غرفتان بالطابق العلوي؛ إحداهما كان بها كومة من عرنوس الذرة عند الزاوية، والثانية كان بها فراشان خشبيان مضمومان كلٌّ منهما بجانب الآخر. بدا المنزل من الخارج لامعًا ومطليًّا باللون الأبيض وجديدًا؛ كان عمره سبع سنوات فقط على أيِّ حال. ولكن من الداخل كانت الأجواء معتمة وباعثة على الكآبة، أشبه بسجن ذي أثاث خشبي بسيط وأسطح أسمنتية مُصمتة. لم يَتوافر في المنزل ذلك الشعور بالألفة على الإطلاق.

عقَّب قائلًا: «لم يمكث أحد طويلًا في هذه الغرفة. هذه هي غرفة والدَي.»

وقفنا في الشرفة الموجودة بالطابق الثاني خارج الغرف، نطلُّ على الوادي. كانت الطيور ترفرف وسط مياه البِركة. وتصاعَد الدخان من منازل مشابهة. وقَف مُزارعٌ مُسنٌّ يزيل بعض الأعشاب عند طرف حقل الذرة.

تخيَّلتُ روح التفاؤل التي تشاركتْها الأسرة عام ٢٠٠٠ حين بُني المنزل. لا أعرف ما الذي كان يبدو عليه منزلهم السابق، ولكنه على الأرجح كان أقل استقرارًا من ذلك بكثير؛ فلن تقترض أموالًا وتبني منزلًا من الخرسانة إن لم تكن ستَقضي بقية عمرك فيه. في عام ٢٠٠٠ كانت زوجة جوانج على قيد الحياة وتَنعم بصحة جيدة. كان لي سين في السادسة من عمره. وأنا على يقينٍ أنهما كان لديهما ترتيبات لكلِّ غرفة: من سينام في هذه الغرفة وطريقة تزيينها؛ ستُوضع هنا الأسِرَّة، وربما تُوضع هناك خزانة ذات أدراج، وهكذا.

لقد سمع ديوان وتشو تشون على الأرجح عن الجيران الذين سافروا إلى مدينة جوانزو لكسب الأموال ووضعا الخطط للسفر بأنفسهم. بعد قضاء بضع سنوات في تصنيع الأحذية، سيكونان قد سدَّدا قرض بناء المنزل وسيعودان إلى ديارهما ليَبقيا مع أسرتهما. على الأقل، كانت هذه هي الخطة.

ولكن مرضت زوجة جوانج وتُوفِّيت، وأُضيفت أعباء الفواتير الطبية إلى القرض الذي أخذاه لبناء المنزل. وتلَت البضع سنوات التي قضياها في مدينة جوانزو بضع سنوات أخرى ثم تلتها بضع سنوات أخرى وهكذا. أظن أن شيئًا غير متوقع آخر قد حدث؛ ألا وهو أنهما أصبحا يُحبان تدريجيًّا العيش في المدينة ذات الطابع العصري.

مرَّت سبعة أعوام على بناء المنزل لأسرة مكونة من خمسة أفراد، ولكن لم يتبقَّ منها سوى فردين فقط. لقد زرع جوانج وأسرته الأرض لعقود من الزمن. لقد شهد فترات جفاف وفيضانات كما شهد تنازل الحكومة الشيوعية عن سيطرتها على محصوله، شهد أيضًا ثورات، ولكنه على الأرجح لم يُفكِّر قطُّ في اليوم الذي سيأتي عليه ليُصبح جدًّا أعزب لصبي في الثالثة عشرة من عمره.

إذا كنتَ تظن أن مدن الصين قد تغيَّرت كثيرًا على مدار الأعوام الثمانية الأخيرة، فأنت لم ترَ حياة جوانج وأسرته عن قرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤