الفصل الخامس والعشرون

الوهم الصيني

ثمة مبالغ كبيرة من المال يمكن كسبها بالعمل في مجال تصنيع الشباشب المطاطية الخفيفة. باتْ، صاحبي الذي عنَّفني على الهاتف، هو نائب مدير فرع التوريدات العالمية لشركة ديكرز أوتدور. مهمَّته هي التفكير في الأماكن التي تصنع أحذيتنا. يتقاضى باتْ راتبًا أساسيًّا يبلغ ٢٠٠ ألف دولار، بالإضافة إلى علاوات تشجيعية ومكافآت على شكل حصة من أسهم الشركة نظير أداء العمل.

ويكسب باتْ في ثلاثة أيام — اعتمادًا على الراتب الأساسي وحده — ما يتقاضاه ديوان وتشو تشون كلٌّ على حدة في عام كامل نظير العمل بالمصنع في لصق الشباشب وتخييطها وطلائها لصالح باتْ كي يبيعها لي ولك.

وعندما أخبرت ديوان وتشو تشون بهذا، اتَّسعت أعينهم عن آخرها وفغرا فمَيهما من فرط الدهشة.

قالت تشو تشون: «أوووووووه.» تبعها قول: «يا إلهي!»

قال ديوان وهو يهز رأسه مستهجنًا: «رباه … رباه … رباه. إننا مجرد عُمال صغار في المصنع. ليس لدينا أدنى فكرة.»

قالت تشو تشون: «أجرُنا متدنٍّ للغاية، ولكن ليس بإمكاننا تحسينه. وهذا يجعلني أشعر بالضيق، ولكننا ليس لدينا القدرة على كسب كل هذا المبلغ من المال.»

عندما وجدت عقد باتْ مع شركة ديكرز أوتدور على شبكة الإنترنت واكتشفت راتبه، كان أول ردِّ فعل لي هو «عدم» إخبار ديوان وتشو تشون. لعله من الأفضل ألا يعرفا. ثم أمعنت التفكير بعض الشيء في الأمر وأدركت أن عدم إطلاعهما على الأمر هي المشكلة؛ وهذا ما يُريده باتْ تمامًا. لم تُطور نظرية «الجهل نعمة» حياة أحد قط. المعرفة هي ما ينقص ديوان وتشو تشون وغيرهما من العُمال الذين التقيتُ بهم. لن تعرف متى تتلقى معاملة غير عادلة إذا لم تَعرف الطريقة التي يُفترض أن تُعامَل بها.

شعرتُ بأنني أناني إلى حدٍّ ما خلال هذه الرحلة بأكملها. لقد حكى لي العُمال عن عالمهم، ولكنَّني كنت حريصًا على عدم الحديث عن حياتي على نحو مُفرط. أَجريت الحسابات في رأسي بينما كنت أقارن ثمن أغراضي بأجورهم الشهرية أو السنوية.

ولكن كانت هذه هي الليلة الأخيرة في رحلة بحثي، والليلة أعترف!

سألني ديوان: «كم كلَّفك الطيران إلى هنا؟»

أخبرته بالتكلفة.

قالت تشو تشون حين عرضتُ عليها الصورة الموجودة على هاتفي المحمول: «منزلك جميل للغاية. كم كلَّفك؟»

حكيت لها عن أول قرض عقاري لي، ثم حكيت لها عن ثاني قرض. وحكيتُ لهما عن وحدة التدفئة/التكييف، التي تعطَّلت وعن الوحدة الجديدة الباهظة التي اضْطُرت آني إلى تغييرها.

ابتسم ديوان وقال لي يؤازرني: «نحن مُتشابهان — كلانا مَدين.»

إذا كان التضامن، أو أي شيء مشابه له، احتمالًا قائمًا في عالمنا الذي تسوده العولمة، فهو طريق ذو اتجاهين. والسبب وراء أنني لم أناقش قطُّ عالمي بالتفصيل مع العُمال الآخرين هو الشعور بالذنب. ولكن الشعور بالذنب لا يفعل شيئًا لتحفيز التغيير أو مُساعدة ديوان وتشو تشون. والشعور بالذنب هو شعور يجب علينا أن نتخطاه.

كنت فيما سبق أظن أن شراء المنتجات المصنوعة في الصين أمر سلبي بالنسبة إلى الأمريكيين، ولكني الآن أتساءل ما إذا كان الأمر سلبيًّا بالنسبة إلى الصينيين أيضًا؛ فالشركات التي تورِّد من الصين لها تأثير مميَّز على الحكومة الصينية. فأكثر شيء ترغبه الصين هو إقامة المشروعات التجارية مع الولايات المتحدة. كان الخبر الرئيسي على صفحات جرائد عام ٢٠٠٧ يُفيد بأن الألعاب «المصنوعة في الصين» مدهونة بطبقة طلاء تحتوي على مادة الرصاص. توالت حالات سحب تعاقُد التوريدات واحدة تلو الأخرى من جانب الولايات المتحدة. واجتاح الرأي العام الأمريكي نوبة غضب من أن لُعب توماس التي على هيئة قطار والتي تُثير بشدة أطفالنا ذوي الأعوام الثلاثة، كانت سامة. كما سُحبت أيضًا تعاقدات أخرى لتوريد الأسماك وأطعمة الكلاب والقطط التي «صُنعت في الصين»؛ إذ تسببت في قتل حيواناتنا الأليفة. ولحفظ ماء الوجه، أعدمت الصين مديرًا سابقًا للهيئة العامة للغذاء والدواء، كما لو أن إعدام موظَّف حكومي سابق من شأنه أن يُصلح الضرر الذي وقع. كان الأمر أشبه ببيان صحفي شديد اللهجة: «انظري يا أمريكا. لقد أعدمنا الرجل. من فضلكِ لا تتوقفي عن شراء منتجاتنا.»

من الصعب الخوض في جدل حول النتائج التي أحرزتها الصين؛ حيث إن أكثر من ٤٠٠ مليون شخص أنقذهم الاقتصاد السريع النمو من براثن الفقر. كنتُ أظن أن عدم الشعور بالجوع وعدم الشعور بالفقر والحرمان هما أهم أشكال الحرية؛ حرية البقاء على قيد الحياة. ولكنْ ثمة أشكال أخرى من الحريات لا يتمتع بها ١٫٣ مليار شخص في الصين.

يعمل تنج بياو محاميًا في مدينة بكين؛ وهو يُمثل النشطاء والمزارعين الذين سُلبت أراضيهم. كتب تنج بياو، بالتعاون مع الناشط هُو جيا، خطابًا يتحدث فيه عن تنظيم الألعاب الأوليمبية وفشل الصين في تحسين أوضاع حقوق الإنسان كما وعدت المجتمع الدولي بأن تفعل. كتبا يقولان:

عندما تأتي لحضور دورة الألعاب الأوليمبية في بكين، سترى ناطحات السحاب والشوارع الواسعة والملاعب الحديثة والمُشجِّعين المتحمِّسين. سترى الحقيقة، ولكن هذه ليست الحقيقة الكاملة، فكأنك ترى فقط قمة جبل جليدي. ربما لا تعرف أن الزهور والابتسامات والانسجام والرخاء جميعها مبنية على أساسٍ قوامه الظلم والدموع والسجن والتعذيب والدماء.

وبعد أن كتبا الخطاب، قبضت الشرطة على تنج بياو من أمام شقته ووضعوا كيسًا على رأسه واحتجزوه لمدة يومين. لقد حذَّروه من التعبير عن رأيه وأذاقوه شيئًا مما يَنتظره من التعذيب إن لم يمتثل للأوامر. لم يكن هُو جيا محظوظًا بالقدر نفسه، حيث إنه سُجن.

أشعر بالقلق من أن الوهم الصيني — بأن الرخاء الاقتصادي سيُسفر عن التمتع بحريات ديمقراطية — لن يصير واقعًا. وأشعر بالقلق من أن ديوان وتشو تشون لن يَشهدا أبدًا الحريات كما ينبغي لهما، وأن الناس الذين يُعبرون عن آرائهم بالنيابة عن ديوان وتشو تشون سيستمر قمعهم والتنكيل بهم.

كان ذلك اليوم هو الأحد. وعادةً ما يعمل مُصنعو الشباشب المطاطية في أيام الأحد حتى الساعة ٥:٣٠. حاولت أن أرتِّب قضاء أمسية في الخارج مع ديوان وتشو تشون من أجل شيء من الاستمتاع. ربما نحضر حفل كاريوكي ونذهب إلى السينما ونتناول البيتزا وبعض المشروبات. لم أتمكَّن من فعل أي شيء سوى الجلوس والتحدُّث معهما، ولطالما شعرت بأنني أتطفَّل على وقت قيلولتهما. فلو كنت أعمل لمدة ١٦ ساعة في اليوم، لوجدتُ صعوبة في تحفيزي على فعل أي شيء آخر.

رفضا دعوتي لأنَّ ديوان لديه موعد لزيارة الطبيب بسبب ألم أصاب حنجرته. لم يتمكَّنا من الخروج، ولكنهما دعواني لزيارتهما على العشاء.

جاء ديوان في وقت متأخِّر على العشاء، افترضتُ أنه ذهب لزيارة الطبيب، ولكنَّني كنت مخطئًا.

لقد زار الطبيب، ثم عاد إلى العمل لينتهي من طلبية مهمة للأحذية، وحين عاد إلى العمل، لم يكن مسموحًا له أن يُسجِّل حضوره مرة أخرى. ليس من النادر بالنسبة إلى من يصنعون أحذيتنا أن يعملوا بلا مقابل، كما لو أن تصنيع أحذيتنا هو امتياز لهم؛ فهم إما أن يعملوا بلا مقابل وإما أن يَخسروا وظائفهم. وكما هي الحال مع جميع العاملين الذين يصنعون ملابسنا، ليس أمامهم الكثير من الخيارات المتاحة.

غادرت تشو تشون الغرفة لتجلب العشاء المطهو على المواقد المشتركة عند مُنبسط الدرج. جلستُ أنا وديوان نضحك ونتسامر كالأصدقاء. وفي وقتٍ لاحق، لن يكون بمقدوري تذكُّر كل ما تحدثنا عنه لأنني وضعت مفكرتي جانبًا عندما بدأتُ الحديث عن نفسي. علاوةً على ذلك، كانت المفكِّرة ممتلئة حيث إن الصفحات الأخيرة تُوثق رحلتي إلى وول مارت. كنت سعيدًا بها نوعًا ما.

انتهت المقابلات الشخصية.

كانت المفكرة مجرَّد شيء يقف كالحاجز بيني وبين ديوان مثله مثل المُشترين والبائعين والوسطاء والعلامات التجارية والمحيطات والقارات والشعور بالذنب والأشخاص من أمثال باتْ. الآن لا شيء يفصل بيننا. ها أنا وهو فقط؛ رفيقان مختلفان تمامًا.

بعض الأشياء لا تحتاج إلى مفكرة لتذكُّرها.

بعد تناول العشاء، مددت يدي إلى حقيبتي وقلت لتشو تشون وأنا أناولها صورة ذات إطار ﻟ «لي سين» (شكل ٢٥-١): «لديَّ شيء من أجلك.»

قالت، وقد تغيرت نبرة صوتها وتعبيرات وجهها: «يا إلهي، لقد صار نحيفًا جدًّا.»

fig25
شكل ٢٥-١: لي سين وابنة عمته داي جان.

لقد مرَّ وقت طويل على آخر مرة رأته فيه، استغرقت في التحديق في الصورة ثانية أو ثانيتين قبل أن تُمرِّرها لديوان. ابتسم وعلق على مشهد الخضرة الموجود في الخلفية قبل أن يُعيد الصورة إلى تشو تشون، ثم وضعت الصورة في كيس بلاستيك ودسَّته وراء الفراش، كما لو أنه المكان الطبيعي للاحتفاظ بها. لقد أحضرتُ الصورة لأنني لاحظت في زيارتي الأولى أنه لا توجد أيُّ صور لابنهما، وهو ما رأيته شيئًا غريبًا. حينذاك تساءلت ما إذا كان هذا الأمر متعمَّدًا، وما إذا كانت توجد صور أخرى ﻟ «لي سين» مخبأة في ثنايا أو أركان غرفتهما لإلقاء نظرة عليها ثم طرحها جانبًا مرة أخرى. فالصور بمنزلة تَذكِرة لما يعملان من أجله، وفي الوقت نفسه، تذكرة أليمة لما يفتقدانه أيضًا.

قالت تشو تشون: «ثمة شيء وحيد أكيد، ألا وهو أننا لا نريده أن يأتي إلى هنا للعمل في المصنع. إنني فقط أريده أن يَدرس لأن أناسًا مثلنا ليس لديهم المعرفة مضطرون إلى العمل بكد شديد.»

سأل ديوان: «هل ستكتب عنا في كتابك؟»

لم أقوَ على إخباره أنه في الوقت الحالي لا يوجد ناشر، ولا صفقة لنشر الكتاب، وإنما مجرد فكرة آمل أن أمنحهما من خلالها صوتًا لم يتمتَّعا به قط، ولكنني لا أستطيع أن أقطع على نفسي أيَّ وعود، ومن ثم كذبت عليه.

قلت: «بالطبع، سأفعل.»

قال ديوان: «هل صار لديك اسم صيني؟»

«كلا، أطلب للناس أن يدعوني باسم تيم لأنه لا أحد يستطيع أن ينطق اسم كيلسي.»

جاهد ديوان لنُطق حرف اللام في اسمي قبل أن يَستسلم، ثم قال: «أظن أن اسمك يصعب جدًّا على الصينيين نطقه. أنت بحاجة إلى اسم صيني.»

«بالتأكيد.»

قال ديوان: «ما رأيك في شيونج دي؟»

شرح لي نُطق اسمي الصيني الجديد، ثم سألته: «ما معنى الاسم؟»

أحاطني ديوان بذراعه وقال:

«معناه الأخ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤