الفصل السادس والعشرون

في الغنى والفقر

سبتمبر ٢٠٠٧

كانت جدتي، ويلت، عاملة ملابس. ونظرًا لنشأتها في منطقة فيرساي، بولاية أوهايو، كانت تحيك في فصل الصيف الجيوب على بِذَل العُمال ماركة لي بيب. لقد أخبرتني قائلة: «كلما أنجزتَ عددًا أكبر، زاد أجرك.» لم يكن يروق لها العمل، ولا عجب في أن المبلغ لم يكن جيدًا للغاية.

من المثير للدهشة أنني لم أعرف ذلك قط. لقد سافرت في جولة حول العالم لألتقي بعُمال الملابس دون أن أعرف أن جدتي كانت واحدةً منهم.

لم تكن جدتي من طراز الجدات التقليديات. على سبيل المثال، لقد شاهدَت جميع حلقات مسلسل «ديث ويش» (أمنية الموت) الذي أدى المُمثل تشارليز برونسون بطولته، وكانت مُعجَبة بالمسلسل التليفزيوني «ووكر: جَوَّال تكساس» (ووكر: تكساس رانجر). ولكن مثلها مثل أيِّ جدَّة، كانت تتألق بفخر وتبتسم لي من مقعدها في الصف الأمامي بجوار والدي في حفل زفاف حفيدها.

كانت جدتا آني تجلسان على الجانب الآخر من الممشى بجوار والدتها، جلوريا. كانت بيتي تتذكَّر فترة الكساد الكبير، وحتى يومنا هذا يؤلمها أن تتخلَّص من أي شيء. فلديها عدد كافٍ من السلع المعلبة والمجمدة لاجتياز فصل الشتاء النووي. في تلك الفترة لم تكن إعادة التدوير والاستخدام من الممارسات البيئية، بل كانت ممارسة اقتصادية خالصة. في الواقع، اعتادت جدة آني الأخرى، كلارا، أن تصنع الملابس لأسرتها ولنفسها من أجولة علف الدجاج.

تدفَّقَت المياه من النافورة الموجودة في منتصف البِركة. وبرغم جفاف فصل الصيف، كانت زهور والدتي كبيرة ومُشرقة وحشائش والدي خضراء. كانت المقاعد البيضاء التي شغلها ٣٥٠ فردًا من أقرب أقربائنا وأصدقائنا تفصلها مسافات متساوية على كل جانب من جانبَي الممر. من السهل أن ننسى البداية البسيطة لأجدادنا ونحن نقف في الفناء الخلفي الخاص بوالدي.

كنت أظنُّ أن حفل زفاف يحضره ٣٥٠ مدعوًّا هو حفل كبير، ولكن أصدقائي في بنجلاديش صحَّحوا لي الفكرة؛ حيث إنهم يَقيسون عدد المدعوِّين بالآلاف لا المئات.

إنني أكره التأنُّق في الملبس. ولكن في الواقع لم يكن هذا يُمثِّل شيئًا إذا ما قُورن بحفل زفافٍ في كمبوديا. لقد أخبرَتْني ناري، خبيرة التجميل الطَّموحة بأن حفلات الزفاف في كمبوديا تستمر بضعة أيام وتتطلَّب تغيير الملابس عدة مرات. ومع الوضع في الاعتبار أن الشيء الوحيد الأسوأ من «التأنُّق في الملبس» هو «إعدادك» لارتداء هذا الملبس، شعرت بالامتنان أنني اضْطُررت لخوض جولة واحدة فقط من إحكام أزرار الأساور وربط ربطة العنق وضبط ياقة القميص.

كانت الحرارة مُرهِقة وكان المدعوون يتصبَّبون عرقًا. كانت بذلتي مصنوعة في جمهورية الدومنيكان. تساءلت عما إذا كان يوجد أحدٌ هنا يعرف المكان الذي تُصنع فيه ملابسه المُتعرِّقة.

كنتُ أشعر بالراحة، باستثناء قيود البذلة اللعينة، حتى رأيتها.

بدت آني جميلة. كانت رقبتها تتمايل بخفة على كتفَيها العاريتين. كانت شفتاها مرجانيتَي اللون تتناسبان مع لون فساتين وصيفات العروس. سارت واضعةً ذراعها في ذراع جيم وحدَّقت فيَّ على طول الممشى.

كانت عضلات وجهي وكل عضلة في جسمي تَرتجف. ابتسمتُ بصعوبة بالغة لدرجة أنني ظننتُ أن وجنتَيَّ ربما تتشقَّقان.

لست متأكدًا كيف تبدو الحال بالنسبة إلى الأزواج الذين لم يتواعدوا لمدة ١٠ سنوات أو الذين لا يعرفون بعضهم بعضًا منذ وقت طويل يسبق حتى تعلُّمهم القيادة. فلعل حفلات زفافهم كانت بمثابة علامة بارزة ومُثيرة في حياتهم؛ نقطة تحول رئيسية. أما بالنسبة إليَّ، لم يكن الأمر كذلك، بل كان بمنزلة شهادة بأن عقدًا من الرقصات السخيفة والمعانقات الترحيبية وقبلات الوداع كان واقعيًّا ورائعًا بقدر ما كنا نَستشعرها. لم تُسافر آني خارج البلاد إلا مرتين فقط، إذا اعتبرت رحلة مدتها يوم واحد إلى مدينة تيخوانا سفرًا خارج البلاد، ورغم ذلك كانت آني معي في كل خطوة من كل رحلة قطعتها. ولمدة ١٠ سنوات، بصرف النظر عن المكان الذي كنتُ أنا فيه أو كانت فيه آني، كانت هي أول شيء أفكِّر فيه في الصباح وآخر شيء أفكر فيه في المساء. ومعرفة أنها بصدد المواصلة لتكون كذلك طيلة ما تبقَّى من حياتي غمرتني بإحساس نادرًا ما أشعر به؛ ألا وهو الشعور بالرضا والاطمئنان.

لقد وصلت إلى مبتغاي.

ولحسن الحظ — قبل أن أتحوَّل إلى كتلة رخوة ومنفِّرة من المشاعر — أعادتني العاصفة الرعدية إلى اللحظة الراهنة.

حاولتُ أن أنتبه إلى القس، ولكنني لم أستطع التوقف عن التحديق في سحب العاصفة الوشيكة. لم يكن يوجد خطة بديلة. إذا هبَّت العاصفة، فسنُضطرُّ إلى الانتقال إلى المرأب. تخيَّلت آني، وقد سالت مُستحضرات التجميل التي تضعها وطار شعرها في اتجاهٍ أفقي وتَلطَّخ فستانها، تقف بين جهازِ ضاغط الهواء ومنضدة العمل. لن يكون هذا شيئًا رائعًا، لا سيما إذا وضعت في الاعتبار أن فكرة إقامة حفل الزفاف في الهواء الطلق كانت فكرتي والشيء الوحيد الذي أسهمتُ به في التخطيط لحفل الزفاف. ولقد طمأنتُ آني قائلًا: «لا تقلقي، شهر سبتمبر هو أكثر الشهور جفافًا في السنة.»

لم يكن السؤال يدور حول ما «إذا» كانت ستُمطر بل «متى» ستمطر. تحدَّث القس عن الحب والزواج والالتزام؛ الموضوعات التي يستطيع القساوسة التحدُّث عنها بلا توقف لأيام.

«هل تقبل، يا كيلسي …»

رأيتُ ومضةً من البرق بين السُّحب وشرعت في العد. تذكَّرتُ ما تعلمته مع فريق الكشافة بخصوص كيفية توقُّع المسافة التي تفصلنا عن عاصفة وشيكة. كل خمس ثوانٍ تُساوي ميلًا واحدًا. ولهذا أهمية خاصة حين تَتنزَّه في الجبال سيرًا على الأقدام، حيث يكون البرق مميتًا. ومثل معرفة كيفية إضرام النيران بعودَين أو كيفية تصميم سترة نجاة باستخدام سروالك، هذه ليست نوعية المعرفة التي تودُّ أن تستخدمها في حفل زفافك.

«… في الغنى والفقر …»

قلت في نفسي: «هذا أمر نسبي، أليس كذلك؟ أيُّ غنًى؟» وفقًا لتقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية، ٤٠ بالمائة من سكان العالم يعيشون بمبلغ أقل من دولارين في اليوم. ولو سمحتْ جمعية اتحاد مُلاك المنازل بهذا الأمر، لاستطعتُ أنا وآني أن نفتح كشكًا لبيع الليمون وعشنا حياة أكثر ثراءً من معظم الأشخاص الذين يصنعون ملابسنا.

والفجوة بين عالَم الأغنياء والفقراء بمنزلة ظاهرة جديدة نسبيًّا؛ فبإمكان أجدادنا الارتباط بحياة مُصنِّعي ملابسنا ارتباطًا وثيقًا أكثر مني أنا وآني؛ فنحن لم نذق حياة العَوَز والحاجة قطُّ، وعلى الأرجح لن نذوقها على الإطلاق، وذلك يرجع في أغلب الظن إلى حقيقة أنَّ أجدادنا «ذاقوها»؛ فحياتنا قائمة على العمل بكدٍّ ومستوى الرفاهية التي حقَّقتها الأجيال السابقة.

ومقارَنة بباقي العالم، لن أعرف أنا وآني «للفقر» طريقًا مطلقًا.

«… في المرض والصحة …»

لقد فقدتُ ثلاثة من أجدادي إثر الإصابة بمرض ألزهايمر. ولقد رأيتُ ما يعنيه أن تُحب أحدًا في مرضه وفي صحته ومدى الصعوبة التي قد يصير عليها هذا الالتزام. وعائلة آني لها تاريخ مرَضي في الإصابة بالسرطان. وعلى الرغم من أن الإصابة بهذه الأمراض نذير شؤم، فإنها تَرتبط عادة بالشيخوخة. وهذه الأمراض هي الأسباب الرئيسية للوفيات في الولايات المتحدة.

بينما الأسباب الرئيسية للوفيات في الدول النامية مثل بنجلاديش وكمبوديا هي أمراضٌ وعِلَل نادرًا ما تكون مميتة في الولايات المتحدة مثل الالتهاب الرئوي والسل والملاريا والإسهال. ومهما كانت الأمراض التي قد أُعاني منها أنا وآني، فليس من المرجَّح أننا سنُضطرُّ إلى مشاهدة الآخرين يموتون من أمراضٍ يسهل علاجها أو الوقاية منها.

ومع انتهاء القس من مراسمه، لفتَت آني انتباهي بعينَيها المتسعتين عن آخرهما. وعبر جميع مراحل التحضير للزفاف — ما بين شراء كعكة الزفاف ونكهة الطبق الرئيسي والمُصوِّر ولقاءات مُنسِّق الأغاني وشراء فستان الزفاف وجدول سير الحفل واختيار الأغاني وبروفة الحفل — نسيَتْ آني أن تخطط ربما لأهم شيء في الحفل كله، ألا وهو قبلة الزفاف.

وقد بذلتْ آني قصارى جهدها لتُبلغني بنواياها مستعينةً بعينيها وأنفها وفمها، ولكني ارتبكت. هل كان من المفترض أن أتجه ناحية اليمين؟ هل كان من المفترض أن أتجه ناحية اليسار؟ أم كانت تطلب مني أن أطبع قبلةً على جبينها؟

«يجوز لك أن تُقبِّل العروس.»

اختُتمت رحلتنا التي استمرَّت لمدة ١٠ سنوات بقُبلة خرقاء لا تختلف عن القُبلة الأولى التي بدأت بها الرحلة من الأساس.

ومن دواعي سروري أن القُبلة انتهت ولاحت العاصفة في الأفق، وتوجَّهنا على طول الممشى، بين الأصدقاء والأقارب المُبتسمين والجدات الباكيات، إلى حياتنا معًا لنبدأها بشهر عسل تقليدي في شلالات نياجرا وغير تقليدي على الإطلاق بزيارة مصنع ملابس أخير.

•••

أعلن الصوت القادم من المذياع قائلًا: «شعرت سيدة من مقاطعة وايومينج — كانت تسير من سيارتها إلى منزلها — بألمٍ طفيف في ظهرها. وقد قرَّرت الشرطة أنه كان طلقًا ناريًّا صغيرًا.»

إذا كنتَ ستشعر بغصة أثناء تناولك الخبز الفرنسي المُحمَّص، فأعتقد أنك ستود ذلك لو كنت تأكل الخبز الفرنسي المحمَّص الذي يقدمه مطعم سيلفير لييك ديينر؛ إنها تجربة رائعة. فلقد شعرت بغصة، وأنا أتخيل رجال الشرطة الملولين لا يقولون: «اللعنة! إنها رصاصة!» وإنما يقولون: «بعد المزيد من التحقيقات التي أُجريت على هذا الثُّقب القابع في ظهرك، لقد حددنا أن هذا الثقب قد حدث بفعل رصاصة … ولكنها طلق ناري صغير.»

قلت لآني، وهي تجلس قبالتي تُنقِّب في فطيرتها البان كيك: «ألمٌ طفيف؟ لا بد أنهم يتربون على الصلابة في هذه الأماكن.»

قضينا ليلة أمس في حديقة ليتشوورث العامة، منشأ «الأخدود العظيم»، وهو مَعْلَمٌ استعنتُ به في عرضي الترويجي لإقناع آني بهذه الرحلة الجانبية. في ذلك الصباح، قُدنا السيارة إلى قرية بيري مرورًا بملعب جولف ميرفي ومطعم داريل بيتزاريا. أوقفنا السيارة في الشارع ناحية أحد المطعمين الموجودين بالمدينة باسم هول إن ذا وول وترجَّلنا إليه لتناول العشاء، لاحظنا في اليوم السابق أنه مكان يُقدم على ما يبدو إفطارًا متواضعًا.

قرية بيري في نيويورك مُحاطة بحقول منبسطة من الذرة واليقطين، عدد سكان القرية أربعة آلاف نسمة. كان أحدهم يحتسي فنجانًا من القهوة المخمَّرة في الحانة وآخر يقود شاحنة نصف نقل. بدا عدد أربعة آلاف مبالغًا فيه.

كان ذلك اليوم الثالث من إجازتنا لقضاء شهر العسل. في شهر العسل المعتاد، يكون الأزواج — بحلول ذلك الوقت — مُتخَمين على الأرجح بالمأكولات البحرية الطازجة ويُعانون من حروق الشمس، ويُفكِّرون في تسوية أول جدال بينهما. على الأقل، كان هذا ما كنتُ أحاول إقناع آني به.

تقع قرية بيري جنوب شرق مدينة بوفالو في طريق شلالات نياجرا بدرجةٍ ما. إذا كنتَ تظن أنه يبدو من قبيل الصدفة المحضة أن يكون المكان الذي يَصنع سروالي القصير في طريق وجهتنا لقضاء شهر العسل بدرجة ما، فلا أُخفيك سرًّا، لم تكن هذه صدفةً. لقد سمحت لي آني أن أخطط لشهر العسل الخاص بنا.

وكان أول شيء فعلته أثناء عملية التخطيط هو الاتصال بشركة تشامبيون يو إس إيه حيث طلبت منهم عنوان المصنع الذي صنَع سروالي القصير. كنت على يقين تمامًا أنه قد أُغلق في الوقت الحالي، إلا أنني ما زلت راغبًا في معرفة أين كان موقعه.

قالت ليندا، الموظَّفة بشركة تشامبيون: «لا أشعر بالارتياح حيال هذا الأمر.»

قلت لها وأنا أُواصل إخبارها برحلتي حول العالم: «دائمًا ما أترك هذا الانطباع لدى الناس.»

في النهاية، توقفَتْ عن المقاومة وأذعنَت.

ونظرًا لأن آني فتاة تقليدية كما ينبغي أن تكون، فقد أعددتُ لها شهر العسل ليكون «زيارة لشلالات نياجرا: وجهة الأمريكيِّين المفضلة في شهر العسل»، ثم دسست رحلة جانبية قصيرة لمدة يوم أو يومين إلى قرية بيري، وهي «قرية صغيرة مختبئة شمال غرب ريف نيويورك المنبسط.» جزء من الرحلة كان يتضمن زيارة الأخدود العظيم. ظننتُ أنني بارع للغاية.

استشفَّت آني الأمر واكتشفت الحيلة. من حُسن حظي أنها تتمتَّع بصبر يَتعذر تفسيره حيال خططي وحيالي أنا شخصيًّا.

سوينا أمورنا المادية وقُدنا السيارة إلى مصنع أمريكان كلاسيك أوتفيترز عند أطراف المدينة.

•••

ثمة أشياء معيَّنة ينبغي أن تفخر بها أمتنا؛ ألا وهي فطيرة التفاح وموسيقى الروك وشخصيتَيْ جارفيلد وسكوبي دو وسروالي القصير. فجميعها مصنوع في الولايات المتحدة الأمريكية.

سروالي القصير يَبلغ من العمر ١٦ عامًا. ومعظم الناس لا يَتذكَّرون كم تبلغ من العمر سراويلهم القصيرة، أما سروالي القصير فعيد ميلاده ٢٦ يوليو ١٩٩٢.

ففي هذا التاريخ أثناء دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية بمدينة برشلونة، اجتمع أعظم فريق كرة سلة على الإطلاق — «فريق الأحلام» — ونزل اللاعبون إلى أرض الملعب وهم يَرتدون سراويل قصيرة مثل سروالي. كان مايكل جوردن يرتدي سروالًا طويلًا، ولاري بيرد سروالًا أقصر قليلًا، وكان مقاس سروال تشارلز باركلي هو الأكبر في المجموعة، بينما كان مقاس سروال جون ستوكتون نفس مقاسي تقريبًا. كان ثمة ثمانية لاعبين آخرين يَرتدون سراويل قصيرة، وأنت تعرفهم جميعًا على الأرجح. من خلال محاولات الإعلام والتسويق، كان أعضاء فريق الأحلام هم أعظم سفراء لعبة كرة السلة في العالم. وفي عام ١٩٩٢، بصرف النظر عن الدولة التي كنتَ فيها، كنتَ سترغب في أن تُصبح «مثل مايك» (وهو فيلم أمريكي كوميدي عن مغامرات فتًى موهوبٍ في لعب كرة السلة).

كان سروالي القصير أزرق به خُطوط حمراء ونجوم بيضاء على طول الجزء الجانبي من الساقين، كنتُ لا أذهب إلى أي مكان دون أن أرتديه. ولقد لفَّ هذا السروال القصير معي العالم عدة مرات. في هندوراس وبنجلاديش وكمبوديا والصين، كان سروالي القصير بمنزلة منامة ذات طابع وطني. إنها تُذكرني بالمنزل والأيام الصيفية التي لا نهاية لها حيث تُلهب طموحاتي الخاصة بلعبة كرة السلة لأقصى درجة على ملعبنا الأسفلتي.

كانت كرة السلة أهم شيء بالنسبة إليَّ وكنتُ أقضي جُلَّ وقتي في متابعتها عام ١٩٩٢. شاهدت، وأنا أرتدي سروالي القصير، فريق الأحلام بكل فخرٍ وهو يسحق منافسيه بفارق ٤٤ نقطة في المتوسط. وبعدها، ومثل عدد لا يُحصى من الأطفال الآخرين في مختلف أنحاء البلاد، كنتُ أعقد رباط حذائي ماركة نايكي وأنشغل بتقليد تمريرة ماجيك دون النظر إلى وجهة التمريرة وقفزة بيرد الخلفية وتصويبة جوردن العكسية في الجو، لكن دون أن أطير في الجو مثله.

لكن لم يكن الأطفال الأمريكيون وحدهم هم المهتمين بهذا الفريق. لقد حفَّز فريق الأحلام الأطفال في مختلف أنحاء العالم لمتابعة كرة السلة؛ ليُخرج في المستقبل أفضل اللاعبين في الرابطة الوطنية لكرة السلة ستيف ناش من كندا وديرك نوفتسكي من ألمانيا وتيم دنكان من جزر العذراء يُحاكون طريقة اللعب نفسها.

ومن ثم بدأَت اللعبة تأخذ طابعًا عالميًّا.

علَّق المدرب تشاك دالي أثناء مباريات أولمبياد ١٩٩٢ قائلًا: «سيأتي اليوم الذي يَتمكنون فيه من منافستنا على قدم المساواة. وسيتذكرون فريق الأحلام باعتباره حدثًا بارزًا في تلك العملية. أنا لا أقول إن هذا سيحدث في المستقبل القريب، ولكن ضع في الاعتبار أنه سيحدث لا محالة.»

جاء ذلك اليوم فعلًا في أولمبياد ٢٠٠٤ بأثينا حين انتهى المطاف بحلول فريق أمريكا لكرة السلة رجال في المركز الثالث، وذلك بعد خسارة ثلاث مباريات ليَنتهي الأمر بحصول فريق أمريكا على الميدالية البرونزية؛ حيث هزمتنا ليتوانيا — وهي دولة لا أستطيع تحديد مكانها على خريطة العالم — بفارق ثلاث نقاط، وفازت الأرجنتين بفارق ثماني نقاط، وهزمتنا بورتوريكو — التابعة للكومنولث الأمريكي — بفارق تسع عشرة نقطة.

لم تعد الولايات المتحدة تُمثل القوة المُهيمنة على كرة السلة العالمية، وتلك حقيقة مؤلمة لا بد من تقبُّلها.

بالتأكيد لم يكن هذا هو الشيء الوحيد الذي تغيَّر منذ عام ١٩٩٢. لقد صار سروالي القصير مختلفًا تمامًا. لم يعد بإمكاني لعب كرة السلة به؛ لأن الرباط المطاطي للسروال صار متراخيًا للغاية لدرجة أنه يسقط حول كاحليَّ إذا ما قفزت أو ركضت. ستة عشرة عامًا عمرٌ مديد بالنسبة إلى سروال قصير.

مؤخرًا، اشترى لي أخي سروالًا قصيرًا جديدًا لمُنتخب كرة السلة الأمريكي، ولكنه لن يحلَّ محل سروالي القصير المفضَّل (حتى وإن كان لا يسقط إلى كاحلي حين أقفز)؛ فهو لا يحمل آثار عرق السنين، ولا يُذكرني بفترة براءة الشباب حين كنت أظن أن كل تنطيطة للكرة ورمية حرة تُقربني أكثر من قطع شوط على طول المشوار المِهني للاحتراف بالرابطة الوطنية لكرة السلة (إن بي إيه). بالإضافة إلى ذلك فإن السروال القصير الجديد لمنتخب الولايات المتحدة لم يكن مصنوعًا في الولايات المتحدة، بل كان مصنوعًا في الصين.

سروالي القصير يَعني الكثير بالنسبة إليَّ، ولكنه يعني أيضًا الكثير بالنسبة إلى العُمال الذين صنعوه في قرية بيري في نيويورك.

•••

عندما أوقَفْنا السيارة عند حديقة بيري كوميرس بارك، مقر مصنع أمريكان كلاسيك أوتفيترز ونادي كيرفز ومنظمة غير ربحية تُساعد ذوي الاحتياجات الخاصة وأُسَرهم، أدركت على الفور أن هذا المصنع للملابس يَختلف عن جميع المصانع الأخرى التي زُرتها من قبل. تبلغ مساحة البناية ٢٠٠ ألف قدم مربعة، ملحقة بها ساحة انتظار سيارات كبيرة جدًّا. ورغم أنني أشكُّ في أنه قد أُجري أي بحث في هذا الصدد، أعتقد أن ٩٩ بالمائة من عُمال الملابس في العالم لا يَمتلكون سيارات. ورغم ذلك فإنهم يَمتلكون السيارات هنا. تشغل السيارات أقرب صفَّين من أماكن وقوف السيارات، تاركةً معظم ساحة الانتظار فارغة. ونظرًا لمعرفتي بطريقة تفكير الأطفال في البلدات الصغيرة — بما أنني كنتُ واحدًا منهم — فسوف أُراهن على أن هذا هو أفضل مكان في المدينة لإجراء مسابقات السيارات فائقة السرعة ورسم حلقات على الجليد حين يحلُّ فصل الشتاء.

كانت اللافتة الموجودة في الرواق مكتوبًا عليها: «مصنع أمريكان كلاسيك أوتفيترز يرحب بكيلسي وآني تيمرمان.»

كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها لقب آني الجديد مطبوعًا. بدا وكأن حفل الزفاف وحفل استقبال العروسَين وأكوام هدايا الزفاف لم تَنقل الرسالة بنفس الطريقة التي نقلتها بها هذه اللافتة. لقد صرنا زوجين.

حيَّتنا صحفية من الصحيفة المحلية تُدعى لورين. كان واضحًا إلى أيِّ مدًى كانت مُتحمِّسة لأننا قطعنا كل هذه المسافة إلى قرية بيري لنرى أين صُنع سروالي القصير. لم تتصرف كما لو أن ما نفعله شيء غريب على الإطلاق. بل رأت الأمر مُمتعًا للغاية. راقت لي لورين.

كان بانتظارنا في قاعة الاجتماعات طبق من الكعك ودلوٌ من المشروبات الغازية المثلجة.

«الكعك مصنوع في متجر آركواي على الجانب الآخر من المدينة.» قالها مارك مدير شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز الذي كان يجلس على رأس الطاولة.

قالت لورين: «لطالما أُخبرُ الناس بأن الجزء الجنوبي من المدينة تفوح منه رائحة الكعك والجزء الشمالي تفوح منه رائحة السماد.»

قال مارك، وهو يُهذِّب شاربه الرمادي: «لست متأكدًا من صحة ذلك، ولكن يُقال إن عدد الأبقار في مقاطعة وايومينج يفوق عدد الناس.»

كان من السهل عليَّ أنا وآني، وقد وُلدنا ونشأنا في ريف ولاية أوهايو، أن نشعر بالألفة تجاه الحياة في قرية بيري؛ فالناس هناك من نوعية الأشخاص الودودين الذين لا يَعرفهم مُتسكِّعو المدن، ورُوح الودِّ تسود في البلدات الصغيرة. في الواقع، هم ليسوا أُناسًا على الإطلاق، وإنما هم «أهل». لورين والصحفية ومارك ومدير الشركة بمنزل أهل تملؤهم الطيبة.

أثناء تناولنا كعك آركواي ومشروب الكوكاكولا الباردة، أخبرنا مارك بقصة أمريكان كلاسيك أوتفيترز.

اشترت شركة سارة لي شركة تشامبيون عام ١٩٨٩ وشرعت في خفض عدد العمالة ودمج المصانع، وفي ذروة نجاحه، كان هذا المصنع يوظف ٨٥٠ عاملًا، وكانت ساحة انتظار السيارات تمتلئ عن آخرها. وفي عام ٢٠٠٢، تركت شركة تشامبيون المدينة ونقَلت الإنتاج إلى المكسيك. وانتقلت شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز إلى مصنع به أحد عشر عاملًا.

قال مارك: «وُلدت أمريكان كلاسيك أوتفيترز من حطام شركة تشامبيون على يد سام الذي يَمتلك متجر الأثاث بالمدينة. لم يكن سام يعرف الكثير عن صناعة الملابس. كان يَعرف فقط متى سترحل شركة تشامبيون، وتأثَّرت قرية بيري تأثُّرًا بالغًا. كان ثمة فراغ لا بد من ملئه.»

لم يكن مارك واحدًا من «الأحد عشر عاملًا الأساسيين». لقد عمل لصالح شركة تشامبيون لسنوات، ولكنه تتبَّع الصناعة وصولًا إلى كارولاينا الشمالية حيث تلقَّى مكالمة هاتفية من سكرتيرته السابقة سو. في تلك الفترة، كان نائب مدير شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز، إيد، يُصارع مرض السرطان، وسألت سو مارك عما إذا كان مُهتمًّا بالعودة لإدارة الشركة.

قال مارك: «ظنَّ إيد أنه سيهزم السرطان. لم يكن لدى سام خطة طوارئ. عندما جئتُ في زيارة لمدة يوم ورأيت نفس الناس الذين عملت معهم في المكتب نفسه الذي عملت فيه … وهذا ما جذبني. عدتُ من أجل الناس، بالتأكيد ليس من أجل الطقس.»

قالت سو، وهي تدسُّ رأسها من فتحة الباب: «الأمر ليس بذلك السوء.»

قال مارك، وهو يَضحك ضحكة تلاشَتْ تدريجيًّا: «كان فصل الشتاء الأخير بَشِعًا، فكرة العجز عن العودة إلى المنزل مرة أخرى … ليست حقيقية.»

ففي عام ٢٠٠٦، كان مارك يعمل في فصول الشتاء المعتدلة بولاية كارولاينا مقارنة بالظروف البيئية القاسية لمنطقة شمال غرب نيويورك. كان لدى شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز ٣٤ موظفًا حين عاد إليهم. أما الآن بفضل التعاقُد الممتد لسنوات مع شركة أديداس لتصميم ملابس مصنَّعة لأغراض خاصة، تُوظف الشركة ١٢٠ عاملًا ولا تزال توظف آخرين.

قادنا مارك إلى خارج المكتب وتوقَّف ليُقدمنا رسميًّا إلى سو. لقد عملت في هذه البناية لمدة ٢٨ عامًا: لدى شركة تشامبيون في البداية والآن لدى شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز.

في لعبة الإنتاج الكمي للملابس، تُجاهد مصانع الملابس الأمريكية من أجل الصمود أمام المُنافِسين؛ ومن ثم وجدت شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز مكانها في السوق. وبينما كان مارك يَصحبنا في جولة في أروقة المصنع، أخبَرَنا بسبب نجاح الشركة.

قال مارك وهو يقف إلى جوار سيدة تحيك الاسم على قميص جيسون كيد: «الفارق بين مُنتجنا وما تنتجه المصانع الأخرى هو الفارق بين ما تَشتريه جاهزًا وما تُفصِّله لدى الخياط. تُنتج المصانع الموجودة خارج البلاد كميات تصل إلى عشرات الآلاف. هم لا يَهتمون بإنتاج كميات صغيرة. هذه هي السوق المُتخصِّصة التي نستهدفها. إذا احتاج فريقٌ ما زيًّا بديلًا، يُمكننا أن نصنعه من أجلهم ونُوفِّره لهم بسرعة.»

تصنع شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز زي ١٦ فريقًا من الثلاثين فريقًا المسجلين في الرابطة الوطنية لكرة السلة (إن بي إيه)، وجميع فِرَق الاتحاد الوطني لكرة السلة النسائية، و٧٣ فريقًا جامعيًّا، وثلاثة فِرَق بالدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية، والكثير من فرق المدارس الثانوية. والنسخة طبق الأصل من زي جيسون كيد التي يَرتديها المُشجِّعون في المدرجات مصنوعة على الأرجح في مصنعٍ موجود خارج البلاد، أما الزي الذي يَرتديه جيسون كيد نفسه فمصنوع هنا في قرية بيري.

عند الزاوية، كان يقف رجل ذو ذراعين موشومتَين يَتتبع رسمة بمنشار أعلى كومة صغيرة من القماش. ذكرني هذا برؤية العُمال في بنجلاديش وهم يقصون أكوامًا ضخمة من القماش بماكينة كبيرة أشبه بالماكينة الكهربائية المُستخدَمة في تقطيع الخبز. تَتشابه العملية في أغلب مراحلها، رغم أن مدتها أقصر قليلًا. لم تَختلف الإضاءة والتهوية وتعليمات الأمن والسلامة والظروف العامة للمصنع، إلا أن الشعور ببيئة العمل اختلف. كان المُوظَّفون يستمعون إلى أجهزة الآي بود ويضعون صورًا عائلية في مقصورات العمل المزيَّنة. كانوا يتناولون وجبة خفيفة من أكياس رقائق البطاطس المفتوحة. كانوا «يبتسمون». في المصانع الأخرى التي أخذت جولة بها، كنت أحاول ألا أنظر إلى العُمال خشيةَ أن يتسبب إظهار أي اهتمام بهم في إنهاء الجولة. وكانوا بدورهم يَصبُّون جُلَّ تركيزهم على عملهم بينما كنت أنا ومديرهم نحوم حولهم. في قرية بيري، كان مارك يُحيِّي كل موظف بالاسم ويقضي بضع دقائق في الدردشة معهم عن أُسرهم. سألهم عن عدد السنين التي قضوها في تصنيع الملابس، وبدت الأرقام تتراوح ما بين ٢٠ عامًا و٤٠ عامًا.

توقفنا بجوار سيدة ترص عددًا من قمصان فريق بوفالو بيلز أسفل ماكينة الضغط الحراري. انتظر مارك حتى أزاحت ماكينة الضغط وأزالت القميص. سألها قائلًا: «هل شاهدتِ مباراة فريق بيلز ضد فريق برونكوز في عطلة نهاية هذا الأسبوع؟ كانت الأمطار تتساقط، وكانت الألوان تسيل من فوق الأرقام الموجودة على قمصان فريق برونكوز.»

«سعدت لأنها ليست من صنعنا.» قالتها وهي ترص عددًا من القمصان الأخرى التي أكدت على عدم تأثر ألوانها وأنها مُعدة للتسليم يوم الأحد القادم.

شرح مارك عملية القص والحياكة والطباعة والتجفيف الحراري والضغط، وكيف أنَّ العملية تتزايد درجة تعقيدها باستمرار؛ فالزي الواحد قد يشتمل على عدة أنواع مختلفة من النسيج: بعضها يُفتل وبعضها يمط وبعضها يحدث له كلا الأمرين. ليس من السهل التوفيق بين الألوان ومختلف الأنسجة. عزا مارك نجاح شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز إلى عقود الخبرة التي يتمتع بها العُمال؛ فالكثير من مُنافسيهم يرُكِّزون فقط على الزي الرسمي للعبة رياضية أو لعبتَين، أما عمال شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز فعلى دراية بالتعقيدات التي تَنطوي عليها صناعة الكثير من الملابس الرياضية.

حين وقفنا بجوار ماكينة تبدو أشبه بفُرن البيتزا وبداخلها سير يدور، قدَّم لي مارك سيدة صهباء ترتدي سروال جينز أزرق وتي-شيرتًا لفريق جامعة نوتردام من صنع شركة تشامبيون.

قال مارك: «هذه ديبي. أعتقد أنها كانت موجودة حين صُنع سروالك القصير.»

ناولتها سروالي القصير المفضَّل، وفحصَته بعين خبيرة.

«أجل، أتذكَّر هذا السروال القصير. لقد قمتُ بحياكته.» قالتها وهي تُواصل شرح الطريقة التي صُنع بها السروال القصير، حتى إنها أشارت إلى أماكن داخل المصنع تمَّت فيها كل مرحلة من مراحل العملية. كان الكثير من الأماكن التي أشارت إليها مُعتمًا. ومثل ساحة انتظار السيارات، كانت معظم أرضية المصنع شاغرة.

ففي هندوراس، كنتُ متأكدًا تمامًا من أن قميصي مصنوع في مصنع دلتا أباريل بمدينة فيلانويفا، ولكن لم يصنعه أميلكار حيث إنه عمل هناك لمدة أقل من عام. كان من المستحيل العثور على المصنع في بنجلاديش الذي صنَع ملابسي الداخلية على وجه التحديد. ولقد أُغلق المصنع الذي صنَع سروالي الجينز في كمبوديا. وفي الصين، كان يوجد عدة مصانع تُنتج الشباشب المطاطية الخفيفة مثل شبشبي؛ ومن ثم لم أكن على يقينٍ بخصوص المكان الذي يَصنعها. ولكن هنا، وأخيرًا — في قرية بيري في نيويورك — عثرتُ على المصنع الذي صنَع سروالي القصير، بل على الشخص الذي صنَعه.

وجدتُ ديبي وتمنَّيتُ أن آخذها بالأحضان.

كان الأمر بالنسبة إلى سروالي القصير أشبه بالعودة إلى أحضان الوطن (شكل ٢٦-١).

لقد عملتْ ديبي في هذا المجال لمدة ٢٨ عامًا. كان من المفترض أن تكون الوظيفة مرحلة مؤقتة بين الدراسة الجامعية وبين ما قرَّرت فعله، إلا أن الراتب كان جيدًا؛ ومن ثم استمرت في الوظيفة. وعلى مدار سنوات، كانت ديبي وزملاؤها في العمل قَلِقين من أن يكون ذلك اليوم هو يومهم الأخير بشركة تشامبيون. قالت ديبي: «كانوا بصدد أن يُضطرُّوا إلى دفعي إلى خارج الباب لكي يَجعلوني أترك المكان.» وبعد مرور أيام من إغلاق شركة تشامبيون في النهاية، بدأت ديبي العمل لدى أمريكان كلاسيك أوتفيترز. ولولا شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز، لما عرفت ديبي ما كان سيئول إليه أمرها.

تنقَّل سروالي القصير من سيدة لأخرى؛ أخبرني الجميع بالدور الذي شاركوا به لتصنيع سروالي القصير. ولطالما عملتْ دونا في صناعة الملابس لأكثر من ٢٠ عامًا. اصطحبتْني في جولة حول عملية الطباعة للصق النجوم على جانبَي سروالي القصير.

fig26
شكل ٢٦-١: المؤلف مع مايك، مدير شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز، وديبي التي صنعت سروال المؤلف القصير.

انضمَّت إلينا ماكسين، مديرة وحدة مراقبة الإنتاج. لقد بدأت عملها هنا منذ ٣٧ عامًا. قالت: «أخبرتُ زوجي بأنني سأعمل لبضعة أسابيع … ولكن ها أنا ذا بعد مرور سنوات كثيرة جدًّا.» ثم قالت في تعجُّب بعد أن سألتني عن عمري: «إنني أصنع الملابس من قبل أن تُولد أنت.»

في بلد حيث تُحدِّد وظيفتك عادةً من تكون في عيون الآخرين، أدَّت هؤلاء النسوة — وهذه المدينة — دورًا محدَّدًا؛ ألا وهو تصنيع الملابس للآخرين. لقد قاموا بذلك على مدار عقود من الزمن. وعلى الرغم من أن لقمة عيشهنَّ قد تعرَّضت لتهديد حين أُغلقت شركة تشامبيون، فإن رؤية سام، صاحب متجر الأثاث، والعمل الشاق ﻟ «الأحد عشر عاملًا الأساسيين» والمُجتمع المحلي المتَّحد؛ كل هذا جعل هذا المصنع يَستأنف العمل من جديد.

قلت: «أود أن أشكركم جميعًا على تصنيع سروالي القصير، ولكن لديَّ بضع شكاوى.» ناولتْني ماكسين السروال القصير، وجذبتُ بعض الخيوط البالية وأشرتُ إلى موضعٍ تفكَّك فيه النسيج وعقبتُ قائلًا: «لم يقضِ هذا السروال القصير معي سوى ١٦ عامًا فقط، انظروا.»

ضحكوا. كانوا فخورين بسروالي القصير. كانوا فخورين بالعمل الذي أنجزوه مع شركة تشامبيون والذي مكَّنهم من شراء منازلهم وإلحاق أولادهم بالمدارس، إلا أنهم كانوا أكثر فخرًا بالعمل لدى شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز.

شركة أمريكان كلاسيك أوتفيترز آخذة في النمو وتبحث عن الجيل التالي من عُمال الملابس الأمريكيين. وبمرور الأشهر، صارت ساحة الانتظار أقلَّ فراغًا والمصنع أكثر إضاءة. يَبدأ راتب الخياط الجديد ﺑ ٨٫٥٠ دولارات في الساعة بالإضافة إلى مزايا أخرى. إنه يَكسب في اليوم الواحد أكثر مما تكسب عريفة في بنجلاديش وناري وآي في كمبوديا طوال الشهر. وفي يومين، يكسب الخياط الجديد أكثر مما يَكسبه ديوان وتشو تشون. العُمال هنا ليسوا أغنياء ولكنهم ليسوا فقراء أيضًا. ويتسم أهالي مقاطعة وايومينج وقرية بيري بالمرونة والصلابة الكافيتين لمكافحة الخواء الذي خلَّفته العولمة في مجتمعهم المحلي. ما الذي تتوقعه من مقاطعة تُطلَق فيها النار على امرأة ثم تُوصف فيها إصابتها بأنها «ألم طفيف» كما لو أن الطلق الناري هو مجرد بعوضة والجرح مجرَّد إزعاج؟

قبل أن نغادر المصنع، سألتُ مارك قائلًا: «ما الذي يَعنيه هذا المصنع بالنسبة إلى قرية بيري؟»

أخذ نفسًا عميقًا. تخيَّلته وهو يفكر في أيام شركة تشامبيون حين كان المصنع في حالة عدم استقرار وفُرص العمل المهولة التي فُقدت حين أُغلق المصنع.

قال بنبرة جادة مومئًا برأسه ليؤكد أهمية ما يقوله: «إنه يعني المستقبل. إنه يُوفر مستقبلًا للمدينة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤