الفصل الرابع

ماركة «جينجل ذيس»

أبريل ٢٠٠٧

«إذن، لقد سمعتُ أنك مهتم بالملابس الداخلية النسائية.» قالها رجل يُدعى صالحين — أحد وسطاء صناعة الملابس في بنجلاديش — وهو يُخرج بخفة يد قطعتين من الملابس الداخلية ذات الأخضر الفاتح غير المُثيرة بأيِّ حال باسطًا إياهما على المنضدة التي بيننا. كانت الملابس الداخلية ذات خامة شفافة.

كنتُ قد ارتشفت توًّا جرعة كبيرة من عبوة كوكاكولا صغيرة، وحاولت جاهدًا ألا أبصق منها على صالحين والملابس الداخلية النسائية غير المثيرة التي عرضها عليَّ. في هذا المقام، الوقار مطلوب وبخاصة حين تتخفى في ثوب شخص يَنوي شراء ملابس داخلية بكميات كبيرة.

قلت له، وأنا أُخرج من حقيبتي ماركة «دومك» — المخصَّصة لحفظ الكاميرا — سروالي الداخلي القصير: «كلا … أنا مهتم بالملابس الداخلية الرجالي، كهذا مثلًا.»

جاريته في حوارٍ — لا أفقه فيه شيئًا — عن ملابسي الداخلية: كيف تمَّت الطباعة عليها ونوعية خيط النسيج المستخدم فيها وكثافته. والمُحزن أنني لا أعرف شيئًا حقًّا بخصوص هذه الأمور، لكن ما لبث أن سال لعاب صالحين لفكرة الدخول في صفقة مع مشترٍ أمريكي.

انتابتني مشاعر مختلطة؛ التوتُّر (لأنني بصدد التورط بسبب كذبتي الصغيرة) والبهجة (لأنه اقتنع حقًّا بالكذبة الصغيرة) والذنب (أكرر مرة أخرى، لأنه اقتنع فعلًا بالكذبة الصغيرة).

وصفتُ لصالحين كيف أرغب في تصميم سروالي الداخلي القصير.

قال صالحين: «إننا نستطيع أن نُصمِّم هذا؛ إننا نستطيع أن نصمم أي شيء.»

ابتسم لي، وكأنني أبدو في عينيه جِوالًا لامعًا من الدولارات الأمريكية.

فأردَف صالحين قائلًا: «الآن، أخبرني بالمزيد عن عملك.»

لم أكن أنوي قطُّ أن أتظاهر بأنني مشترٍ للملابس. لقد حدَث الموقف وحسب. في واقع الأمر، اللوم من نصيب دالتون. ولكن، دعني أولًا أُقدم لك كل ما تحتاج إلى معرفته عن ملابسي الداخلية المفضَّلة.

•••

ملابسي الداخلية ليست مثيرة، بل هي أضحوكة بيني وبين نفسي.

لم أحصل على أول قطعة ملابس داخلية جديدة إلى أن أتممتُ الخامسة من عمري. كنت الأخ الأصغر؛ والإخوة الأصغر سنًّا يرتدون الملابس المستعملة لإخوانهم الأكبر سنًّا، بما في ذلك الملابس الداخلية أيضًا. ولم أحصل قطُّ على قطعة ملابس داخلية خاصة بي وحدي إلى أن قرَّرت أمي أنني أستحق طاقمًا جديدًا من ماركة آندرووز يتكون من قطعتين مطبوع عليهما شخصيات مسلسل سكوبي دو الشهير؛ نظرًا لأنني التزمتُ الأدب أثناء تسوُّقها في متجر بوسطن، وهو متجر عائلي صغير لبيع الملابس حيث يَعرف موظفو المتجر كيف يأخذون المقاسات ويُجرون التعديلات على الملابس. أجرى متجر بوسطن تصفيةً لأعماله منذ ذلك الحين بالإضافة إلى متاجر أخرى مُتعدِّدة الأقسام في مدينة يونيون سيتي، بولاية أوهايو؛ من بينها فئة المتاجر التي تبيع سلعًا متنوعة بخمسة دولارات فقط على غرار متجر كيرشبوم وكاوفمان وماكليرج. كانت هذه المتاجر قد تعثَّرت ماليًّا في منتصف ثمانينيات القرن العشرين حين بدأت جميع المصانع المحلية في إغلاق أبوابها أو تصفية أعمالها داخل البلاد. فانتقلت شركة وستنجهاوس إلى المكسيك، وخفَّضت شركة شيلر جلوب — تحت ضغط المنافسة الأجنبية — من حصتها لإنتاج القوالب البلاستيكية للمركبات، وتمَّ شراء شركة بودي كومباني، التي كانت تصنع هياكل الشاحنات المزوَّدة بسلالم، وفقدت معظم أعمالها واستسلمت أمام العمالة الأرخص ثمنًا في الجنوب.

وصلت العولمة إلى مدينة يونيون سيتي، وهي مدينة صغيرة تربط بين حدود ولايتَي أوهايو وإنديانا. هكذا، تأثَّرت الوظائف، وتأثَّرت المتاجر. ولست مُتيقِّنًا، في الوقت الحالي، أنه من الممكن شراء ملابس داخلية من أي مكان في المدينة. وربما يكون في إمكانك شراؤها من سلسلة متاجر رايت إيد للمُستلزمات الطبية، إلا أنها على الأرجح لن تكون مريحة أو لطيفة.

للأسف، لا يُمكنني أن أستعرض سروالي الداخلي المفضَّل على الملأ. ليس لأن القيام بهذا الأمر ينم عن عدم اللياقة الاجتماعية، وإنما قد يَندرج تحت بند مخالفة القانون أيضًا، وهكذا أرتدي هذه الملابس الداخلية في الاجتماعات والمُحاضرات والجنائز وحفلات الزفاف؛ أماكن لا يتأتَّى لأحد فيها أن يَنظر إليها. وأنا على يقينٍ تامٍّ بأنها ستروق لمعظم الناس؛ حيث إنها مطبوع عليها زينة الكريسماس، وعبارة «جينجل ذيس» مطبوعة حول الشريط المطاطي الذي يطوق محيط الخصر.

لقد حصلت عليها كهدية قبل عام مضى، ومنذ ذلك الحين، اعتدت ارتداء تلك الملابس كثيرًا وبانتظام بصرف النظر عن فصول السنة أو مواسم الإجازات.

وإذا ألقيتَ نظرة عن قرب، فإنك تستطيع أن تقرأ الملصق الباهت حيث كُتب عليه عبارة: «صُنع في بنجلاديش.» وعلى الرغم من أنها دولة — يُشكِّل فيها المسلمون نسبة ٨٣ بالمائة من السكان — لا تَكترث بتاتًا بمظاهر احتفالات الكريسماس؛ فلقد اكتشفتُ أنهم مُتحمِّسون جدًّا حيال ملابسي الداخلية.

•••

تحيط الهند ببنجلاديش من جهة الغرب والشمال والشرق، أما من جهة الجنوب فيطوقها خليج البنغال. وتكتظُّ بنجلاديش — ومساحتها أقل قليلًا من مساحة ولاية آيوا — بأعداد مهولة من البشر. وفي حين أن عدد سكان ولاية آيوا يبلغ ثلاثة ملايين نسمة، فإن عدد سكان بنجلاديش يبلغ ١٣٥ مليون نسمة، مما يَجعلها أكبر دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية؛ ومن ثم التجول في العاصمة دكا ليس أمرًا يسيرًا.

فشوارع دكا عبارة عن طرق ترابية كئيبة المنظر، إلا أن وجود عربات الريكشا واللوحات الملوَّنة في الشوارع يَبعث الارتياح في نفوس الناظرين. ورنين أجراس عربات الريكشا — الذي يَخترق هدير محركات السيارات — يُريح الأذن، وإذا كنت تطلُّ على دكا من أحد مبانيها العالية، فإن رنين هذه الأجراس يُعدُّ أبرز صوت ينفذ إلى أسطح المباني. ويُقدِّر جهاز الشرطة في دكا عدد عربات الريكشا التي تسير في المدينة بنحو ٦٠٠ ألف عربة (شكل ٤-١).

تُمَثِّل عربات الريكشا التكنولوجيا القديمة، وعلى الجانب الآخر تُمَثِّل الهواتف المحمولة التكنولوجيا الحديثة؛ فاليوم يمتلك ٢٩ مليون مواطن بنجلاديشي هواتف محمولة. ويوجد الكثير من المتاجر ومراكز خدمة العملاء في دكا، إلا أنه يوجد متجر واحد فقط لشركة موتورولا، وقد قضيتُ وقتًا طويلًا جدًّا للبحث عنه.

كنت أحاول العثور على شخص من شأنه أن يعرف كيف يفكُّ رموز تشفير هاتفي المحمول داخل البلاد، وكنتُ قد زرت عدة متاجر — دون أن يحالفني الحظ — وأثناء عبوري تقاطعات شوارع متعددة ومواجهتي لسيل من سيارات الأجرة، تلقَّيت نصيحة شكَّلت نقطةً فارقة في إقامتي في بنجلاديش؛ حيث قال لي أحدهم: «اذهب وابحث عن السيد دالتون من متجر موتورولا في حي باناني.»

ومن ثم ركبتُ عربة الريكشا للذهاب إلى السيد دالتون. كانت المرة الأولى لي، وكنت قلقًا حيال احتمالية لفت الانتباه إليَّ؛ لأنه اتضح أنني كنت أَشبَه بنجم من نجوم الروك يسير في شوارع بنجلاديش.

fig2
شكل ٤-١: اختناق مروري لعربات الريكشا في دكا.

ورغم أنني لم أمارس أيًّا من ممارسات نجوم الروك الشهيرة؛ فأنا لم أرتدِ قطُّ سَراويل جلدية كما لم تُسجِّل الفنادق عني سلوكيات غريبة تنمُّ عن كوني نجمًا من نجوم الروك، فإن نجومية نجوم الروك جاءتني نتيجة ندرة وجود شخص أجنبي ذي شعر أشقر وعينين زرقاوين في مثل هذه البلاد. فكلما سرت في الشارع اتجهتْ إليَّ الأنظار، وكلما وقفت تجمهر الناس عليَّ. وكادت أن تندلع أعمال شغب حين حضرت حفلًا بنجلاديشيًّا لموسيقى الروك (كان من أبرز فقرات الحفل مقطوعات لعازف الجيتار الشهير أيوب باستشيو) وشاركتُ في موجة حماسية راقصة مع الجمهور البنجلاديشي. إن لم تكن قد رأيت شيئًا كهذا من قبل؛ فالأمر يتضمن الكثير من تشابك الأيدي وتحريك الأجساد في دوائر والعناق، باختصار، كل ما تفعله في حفل لموسيقى الروك بالولايات المتحدة؛ إذا كنتَ ترغب في أن تُطرَد من الحفل سريعًا. ثمة أشخاص ينخرطون في مثل هذه الحفلات، ثم لا تراهم ثانيةً أبدًا.

ولحسن الحظ، كانت رحلة الذهاب إلى متجر موتورولا خالية من أماكن الرقص الحماسي على موسيقى الروك.

•••

كانت في عينَي دالتون — المدير العام لمتجر موتورولا — نظرة تنمُّ عن أنه كان يتطلَّع لشيء ما، أو كما لو أنه كان يعرف شيئًا لا تعرفه أنت؛ نظرة توحي بأن ثمة انحرافًا في العينين إلى الخارج. كان يُصفِّف شعره الأسود المائل إلى الزرقة على جانب واحد ناحية اليمين، ويَميل برأسه إلى الوراء باستمرار ويُعيد رأسه إلى وضعها بحركة سَلِسة.

سألني دالتون قائلًا: «أين يقع بلدك على الخريطة؟ لماذا جئت إلى بنجلاديش؟»

أخبرته، فلمعت عيناه في حماسة.

وعقَّب قائلًا: «أنا صحفي أيضًا.»

وبعد الانتهاء من سرد التفاصيل المهمة، أعاد دالتون برمجة هاتفي وأعطاني بطاقة تشغيل الخط كي أستخدمه مجانًا. لم نتطرَّق في حديثنا إلى الهواتف في أول لقاء جمعنا في ظهيرة ذلك اليوم، وبدلًا من ذلك، عرض عليَّ دالتون حافظة للقصص المنشورة وديوانه الشعري وصورًا.

«هذه هي الحياة في بنجلاديش.» أمسَكَ دالتون بصورة لصبيَّيْن من أولاد الشوارع ينامان على الرصيف ويسندان رأسيهما على كلب نحيف. أدهشتني الصورة. لم تكن رؤية الصبيَّين في الشارع أمرًا غير متوقَّع. فبمجرد السير لمسافة قصيرة في أي مكان في دكا يُمكنك رؤية هذا المشهد، ولكن ما أدهشني بخصوص صورة دكا أن دالتون يرى هذا بالفعل. فمُعظم الناس في بنجلاديش لا يرفُّ لهم جفن عند رؤية أولاد الشوارع يَنامون تحت أشعة شمس الظهيرة. لقد رأى دالتون مثل هذه المشاهد والتقَط صورًا لها.

كان دالتون شخصًا مختلفًا، وهذا ما جعلنا صديقَيْن على الفور.

وبعد أن عرض عليَّ جميع الصور التي التقطها في حياته تقريبًا، عدنا إلى موضوع رحلتي الاستقصائية في بنجلاديش وكيف ينبغي لي أن أبدأ مسعاي من أجل مقابلة صنَّاع ملابسي الداخلية وتحديد مكان المصنع الذي أنتجها.

قال دالتون: «لست بحاجة إلى التفكير. سأعتني بكل شيء.»

جئت إلى بنجلاديش وحدي في رحلتي الاستقصائية، وها أنا الآن عثرتُ على شريك لي.

•••

كان لدى دالتون مَيْل لتقديمي على أنني شخصية مهمَّة أكثر مما أنا عليه في الحقيقة. وفي لودويا، القرية التي قضى فيها صباه، قدَّمني بصفتي «الصحفي المُوقَّر».

تجمع شيوخ القرية عند كشك للشاي على ناصية الطريق الرئيسي، وهو طريق لا يزيد عرضه عن عرض الطريق الذي تسير فيه عربة الجولف. أرادوا أن يتحدثوا مع «الصحفي الموقر» عن السياسة؛ حيث إنهم سألوني: ما رأيك في جورج دبليو بوش؟ لم يكن يَروق لهم.

أخبروني أن بوش تلاعَبَ بالحكومة البنجلاديشية من أجل الإذعان لأوامره لأنه تمَّ اكتشاف النفط في المنطقة مؤخرًا. هكذا كان بوش — في نظرهم — مسئولًا عن وقوع شيء سيِّئ في بلادهم. ولم أعرف كنْه هذا الشيء قط. أكان هذا الشيء يتمثل في الفيضانات المُعتادة، التي تزداد سوءًا عامًا تلو الآخر؛ وذلك بفضل ارتفاع منسوب البحار، الأمر الذي تسبب في اجتثاث المحاصيل وخلَّف مجاعة على أثره؟ أكان هذا الشيء يتمثَّل في حقيقة أن بنجلاديش لم يكن لديها حكومة في تلك الفترة تحديدًا؟ لقد عدَّل الحزب الحاكم الانتخابات الأخيرة، إلا أن الجيش سيطر على الحكومة في محاولة منه لوضع حدٍّ للفساد قبل إجراء الانتخابات. كان يوجد عدد كبير جدًّا من المشكلات لدرجةٍ استحال معها تحديد أيٌّ منها تورط بوش فيها.

أشك أن بوش أو أي شخص من إدارته كان ينهض من فراشه في الصباح وفكره مشغول كثيرًا ببنجلاديش. لعلَّ هذا يُعد جزءًا من المشكلة. إلا أن شيوخ القرية ألقوا باللوم على رئيس الولايات المتحدة لما آل إليه حالهم، وهؤلاء رجال لم يَسبق لهم على الأرجح رؤية جهاز كمبيوتر من قبل، رجال ممَّن عاشوا في فترة كانت الانتقالات داخل دكا تَستغرق يومًا بطوله، وتتمُّ بواسطة زورق، وقبل أن تصعد على متنه تُسأل مرارًا وتكرارًا عما إذا كنت تستطيع السباحة، أو تتم بواسطة حافلات قد تبدو أسوأ حالًا من الزوارق.

التقى عمدة القرية في مكتبه ﺑ «الصحفي الموقَّر»، وأرسل أحد صبيانه ليُحضر مشروبًا مرطبًا وكعكًا محلًّى. اعتذر لي عن عدم توافُر المزيد من الوقت للحديث؛ كان مشغولًا كثيرًا. تكدَّست جوالات الأرز عند الزاوية؛ كانت هذه الجوالات عبارة عن تبرُّعات من منظمة أجنبية، وكان أمام عمدة القرية مهمة صعبة لتحديد مَنْ في قريته في أمسِّ الحاجة لها.

التقيتُ بعمدة القرية لأتعرف على دور قريته في صناعة المنسوجات؛ حيث إن الكثير من العاملين بمجال الملابس في دكا يأتون من قرًى على شاكلة قريته. أراد دالتون أن يُعرِّفني على الحياة القروية، ورأى أنه لا توجد طريقة للقيام بذلك أفضل من دفعي للعب مباراة كابادي. وضحك العمدة عندما أخبره دالتون بخططه. كانت لعبة الكابادي طريقة مُثلى لكسر الجليد بيني وبين أهل القرية. ولكني تمنَّيتُ ألا أكسر شيئًا آخر!

تجمهر عدد كبير من أهالي القرية ليشاهدوا «الصحفي الموقر» وهو يلعب الكابادي. كان من النادر أن ترى رجلًا أجنبيًّا في قرية كهذه، ولكن أن ترى رجلًا أجنبيًّا ويلعب الكابادي أيضًا … فهو أمر غير مسبوق!

الكابادي ضرب من ألعاب المطاردة الجماعية أشبه بلعبة ريد روفر العنيفة جدًّا؛ حيث ينقسم اللاعبون إلى فريقين والفريق الذي يأتي دوره في اللعب يجب أن يُردد عبارة: «كابادي … كابادي … كابادي» بنغمة موسيقية في نفس واحد أثناء محاولة مطاردة لاعب من الفريق الآخر واستمالته للجانب الآخر من منتصف الملعب. وبمجرد جذب هذا اللاعب، يحاول الفريق المنافس أن يَطرحه أرضًا.

وقفت على خط قاعدي واحد مع خمسة من أفراد فريقي. وكان منتصف الملعب على بُعد عشرين قدمًا مِنَّا وعلى بُعد عشرين قدمًا أخرى من الخط القاعدي الآخر للفريق المنافس لنا. كانت حدود الملعب مُقسَّمة بالطين، وكان الملعب مهترئًا من كثرة اللعب والاستخدام. كان هذا الملعب أكبر مكان مفتوح في القرية غير مخصص لحقول الأرز.

أعطى دالتون تعليمات فهمتُ أنه قال من ضمنها: لا تؤذوا «الصحفي الموقر». كنتُ الأضخم جسدًا والأكبر سنًّا في مجموعة اللاعبين. كان اللاعبون الآخرون مفتولي العضلات ذوي ضلوعِ صدر بارزة. ولقد تعرَّفت على أحدهم حيث إنه كان سائق عربة الريكشا الذي تجوَّل بنا حول القرية في وقت سابق من اليوم.

في الجولة الأولى، التفَّ أفراد فريقي حول الخصم وأسقطوه أرضًا وأمسكت به من أعلى. وقف أهل القرية يُشاهدون المباراة مشجِّعين بصوت عالٍ. ثم أتى دوري لمواجهة الفريق المنافس. وعلى الفور، أعاقني اللاعبون الخمسة المنافسون عن التقدُّم، ونسيت أن أكرر كلمة «كابادي» لأنني كنتُ أضحك بشدة.

كانت النتيجة ست نقاط مقابل خمس؛ كان فريقي هو الفريق الخاسر. وفي ذلك اليوم كانت الشمس حارقة على نحو لا يُطاق، شعرت كما لو أن الدماء على وشك أن تتفجَّر من وجهي من شدة الحر. أعلن دالتون الجولة الأخيرة من المباراة، وأخبرتُه بأنني أرغب في استكمال اللعب حتى يصل عدد النقاط إلى ١٠. راق الأمر لأهل القرية، وجاء دوري. تحدَّث دالتون إلى اللاعبين. عبرت منتصف الملعب وشرعت في ترديد الكلمة بنغمة موسيقية. حاولت أن أتحرَّك على نحو أسرع مما فعلت في محاولتي الأولى وحافظتُ على خفة حركتي بقدر الإمكان. أعرف أن بإمكاني السيطرة على أحد اللاعبين الأصغر حجمًا والأخف حركة، ولكن لن أستطيع فعل ذلك مع جميع اللاعبين الخمسة. أمسكتُ بفتًى مراهق نحيف واندفعت به نحو الخط. أمسكوا بي جميعًا، وبدأتُ أحرِّك ساقيَّ بقوة لأعلى ولأسفل وأتملَّص من الأيادي الممسكة بي. دفعت الحشد، وبات الخط على مقربة منِّي. ونظرًا لأن جميع اللاعبين قد لمَسوني، كنتُ بصدد تسجيل خمس نقاط وسيَفوز فريقي إذا ما عبرتُ الملعب، وسيُكتَب عني في كتب تاريخ لعبة الكابادي في قرية لودويا.

نجحت في الإفلات من أياديهم وسقطت على الجانب الآخر (شكل ٤-٢). التفَّ حولي أفراد فريقي وباقي أهل القرية. لعلَّها كانت أكثر لحظة في حياتي الرياضية شعرت فيها بالفخر.

ولكن فيما بعد فكرت في الأمر. ما الذي قاله لهم دالتون؟ هل تعمَّدوا خسارة المباراة أمامي؟ لقد شعرت أنهم حاوَلوا بكل جهد أن يُسقطوني أرضًا، ولكن ربما الحقيقة غير ذلك.

أوضح هذا الموقف إلى أي مدًى يتعامل الشعب البنجلاديشي بطريقة مهذبة؛ سيتركونك تفوز، ولكنهم سيلعبون أمامك بما يَكفي من جهد يجعلك تشك في الأمر، ومن ثم ستشعر بأنك رائع.

fig3
شكل ٤-٢: الصحفي الموقر يسجل نقطة الفوز بالمباراة.

•••

كانت أرضية البيت الذي قضى فيه دالتون طفولته ترابية، ولكنها أنظف أرضية ترابية يمكن للمرء أن يتخيلها. وبينما أخذَتْ خالة دالتون تكنس الأرضية الترابية بمكنسة، جلست أنا ودالتون نتحدث عن نشأته في قرية لودويا وعن حياته في دكا بعدما كبُر.

كانت القرية آمنةً ومسالمة، جحافل من الجراد تُصدر صريرًا، وموجات من الحرارة اللافحة تزداد، وصائد يَسحب شبكة الصيد من البِركة. كانت البِرَك تصطف على طول الطريق الرئيسي يتخللها ممرات ضيقة مرتفعة تُفضي إلى المنازل. كان بعض المنازل مبنيًّا بالقرميد، وبعضٌ منها مبنيًّا بالصفيح، وحتى أفخمها كان بسيطًا. كانت حقول الأرز تمتد من وراء المنازل وبساتين أشجار الفاكهة وشجيراتها، كان اللون الأخضر الزهري يمتدُّ ليُطوِّق الآفاق. وإذا أمعنت النظر، يمكنك أن تُشاهد العمال وقد انتصبوا واقفين مثل سناجب المروج الواقفة على ساقيها الخلفيتَين من أجل تمديد ظهورهم، ثم تراهم وهم يَحنون أجسادهم ليستأنفوا عملهم من جديد.

وعلى الرغم من أن دالتون يعمل في شركة مُتعدِّدة الجنسيات، فإنه ينتمي إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، ويكاد لا يَملك من حطام الدنيا شيئًا، بالإضافة إلى أنه يَعول أسرته بالكامل؛ فهو مسئول عن شقيقيه وأمه، حيث ترك أبوه أمه قبل بضع سنوات. هو يتمنَّى أن يهدم يومًا ما الجدران الصفيحية لمنزل والدته ويَبني مكانها حوائط قرميد.

يحظى دالتون باحترام كبير في قريته؛ حيث إنه واحد من القلائل الذين حققوا قدرًا من النجاح؛ فهو مُتعلِّم ويعمل في وظيفة جيدة وقادر على إعالة أسرته. ولكن لا تزال الحياة بالنسبة إلى دالتون تُمثِّل صراعًا. إنه يتوق ليحظى بكل ذرة احترام.

قال لي: «أنا أحظى بمكانة اجتماعية ولكني لا أمتلك أرضًا. طريقة تفكيري تَنتمي للطبقة الوسطى، ولكن حسابي في البنك لا ينتمي إليها.»

قبل أن يبدأ دالتون العمل في شركة موتورولا في التاسعة عشرة من عمره، كان مسئولًا عن إنشاء واحد من أفخم الفنادق في دكا، ألا وهو فندق ليك شور. لعلَّك لا تصدق أن صبيًّا في التاسعة عشرة من عمره يُكلَّف بمشروع تبلغ تكلفته ملايين الدولارات، لكنك لم تَلتقِ بدالتون من قبل. لم تدخل الفندق بصحبته؛ حيث لا يزال يعامله الجميع باحترام شديد بعد مرور سنوات. ولم تقف إلى جواره وهو يَتحدث مع الموظفين التنفيذيين بالفنادق والشركات المُتعددة الجنسيات أو تسمع الناس يقولون له وهم يقتربون منه: «أنت دالتون من فندق ليك شور، أليس كذلك؟»

ولم تكن موجودًا حين قدمني دالتون بصفتي «الصحفي الموقَّر» أو حين دعا رجل أعمال لتناول الشاي وقدمني إليه باعتباري مديرًا تنفيذيًّا بشركة موتورولا أو حين قدَّمني إلى صاحب مصنع، بلا سابق إنذار، باعتباري أحد المشترين الأمريكيِّين المهمين الراغبين في شراء شحنات كبيرة من الملابس الداخلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤