الفصل السابع

أولى جولاتي داخل المصانع المستغلة

بالعودة إلى مدينة سافير للمرة الثانية، وقفَت الحافلة أمام مدينة الملاهي فانتازي كينجدوم مباشرةً وترجَّلتُ منها أنا وصالحين. قادني صالحين من موقف انتظار الحافلات في اتجاه المصنع. كنت أتوقع، في أي وقت، أن يُقابلني صدفةً أي طفل من الأطفال الذين ذهبوا معي إلى فانتازي كينجدوم ليَكشف هويتي الحقيقية.

أدركت أننا نَقترب من الهدف لأنني استطعت سماع هدير الماكينات التي تعمل بفعل مُولِّد كهربائي. لا بد أنه حدث انقطاع للتيار الكهربائي. ومع ظهور المصنع على مرأى البصر، شعرت بالارتياح لأنه لم يتعرف عليَّ أحد.

وعبر نوافذ المصنع، رأيتُ صفوفًا وصفوفًا من ماكينات الخياطة ورءوس البشر المُنكبَّة عليها. كان كل طابق من المبنى مؤجرًا لشركة ملابس مستقلة. وفي طريقنا إلى الطابق العلوي، مررت أنا وصالحين على حراس واقفين على كل جانب من الدرج إلى جوار كراسيهم المعدنية القابلة للطي وأدوا إلينا التحية أثناء مرورنا عليهم. كان الموقف غريبًا، كما لو أنهم تلقوا تعليمات: «احرصوا على أداء التحية إذا رأيتم أي شخص أجنبي، هل فهمتم؟» لسنا لواءَين بالجيش، وهم ليسوا جنودًا بالتأكيد، فأجسادهم مُترهِّلة ويرتدون زيًّا غير مناسب. كانت تحيتهم فاترة. قادنا الحارس الموجود في الطابق السادس إلى أحد المكاتب، وبعد دردشة موجزة، بدأنا نتباحث في أمور العمل.

أخذ ثلاثة رجال، يرتدي كلٌّ منهم رداءً زهري اللون، يتفحصون ملابسي الداخلية ماركة «جينجل ذيس». وأقصد يتفحَّصونها بالمعنى الحرفي للكلمة إذ أخذوا يشدُّونها ويَبسطونها ويتحسَّسون نسيجها بأيديهم ويُعرِّضونها للضوء. فعلوا كل شيء تقريبًا باستثناء شمِّ رائحتها.

كنت قد أعددت لهذه الرحلة حقيبة خفيفة، وظللتُ أستخدم السراويل الداخلية القصيرة على نحو مُتكرِّر. وبينما كنت أشاهد عملية الفحص وهي تتمُّ أمامي، حاولت أن أتذكر آخر مرة ارتديتُ فيها هذا السروال الداخلي، وهل كنت قد غسلته حينذاك. لم أتوقع قط أن يخضع لهذا الفحص الدقيق.

أخذ الرجال — أصحاب الزي الزهري اللون — ملابسي الداخلية وغادَروا الغرفة. من الواضح أن ثمة نوعية معينة من الأدوات تُستخدم لفحص الملابس الداخلية ومُخزَّنة في مكانٍ ما داخل المصنع.

جلس السيد أسد، صاحب المصنع، قبالتي خلف مكتب فسيح. كان يَحمل في حجره ابنه ذا السنوات الثلاث الذي كان يلهو في هدوء بخيطٍ قصير. تحدثنا عن انقطاع التيار الكهربائي وأخبَرني أن هذا كان يُكلفه ٧٠٠ دولار شهريًّا ثمن الوقود اللازم لتشغيل المُولِّدات الكهربائية.

لم يكن بإمكاني فهم أغلب ما كان يقوله أسد؛ حيث كان يتحدَّث بسرعة، وباءت محاولتي قراءة حركة شفتيه بالفشل بسبب كسل عينه الذي جعلها تَنحرف جهة اليمين. ولم أستطع منع نفسي من التحديق فيها.

أظن أنه سأَلني عن رغبتي في تفقُّد المصنع؛ ومن ثم تبعتُه حين وقف وتوجه ناحية الباب. أمسك صالحين بالباب ليَفتحه على مصراعيه، وخطوت أنا إلى داخل أرضية المصنع.

•••

تُشكِّل صناعة الملابس والمنسوجات في بنجلاديش ٧٦ بالمائة من صادرات البلاد السنوية، أو ما يعادل نحو ثمانية مليارات دولار. ورغم ذلك، في عام ٢٠٠٥، كان رجالات الصناعة في بنجلاديش يظنون أنه كُتب عليهم مواجهة مصير محتوم، وذلك بعد وقف العمل باتفاقية الألياف المُتعدِّدة؛ وهي عبارة عن سياسة تفرض القيود على كمية الملابس التي تستطيع الدول النامية تصديرها. وباعتبار بنجلاديش واحدة من أفقر الدول في العالم، سُمح لها أن تُصدِّر بقدر محدود من الرسوم والقيود في ظل اتفاقية الألياف المتعددة. وكان هذا يعني أنه بإمكانهم المُنافَسة على المستوى العالمي مع دول مثل الصين التي خضعت صادراتها لقيود مُشدَّدة بموجب هذه الاتفاقية. ولكن مع وقف العمل باتفاقية الألياف المُتعدِّدة، تمتعت الصين بمطلق الحرية في تصدير الكمية التي ترغبها للدول المتقدمة، ما أدى إلى احتباس أنفاس الصناعة ببنجلاديش. كيف يتسنى لهم الدخول في منافسة أمام الصين؟ فالصين تَمتلك بنية تحتية؛ حيث إنها ليست مُضطرة إلى استيراد المواد الخام، فهذا البلد القديم الضخم لديه كل شيء تقريبًا، بما في ذلك العدد الكافي من الفقراء للعمل بأجور متدنية.

إلا أن بنجلاديش استهانت بما لديها من قدرة على تحقيق قيمةٍ وتوفير في التكاليف. فبنجلاديش تَمتلك أرخص عمالة في العالم؛ أرخص حتى من الصين. ليس بإمكان صناعة الملابس والمنسوجات في بنجلاديش أن تظلَّ باقية وحسب، بل يُتوقع أن يتضاعف حجمها خلال السنوات الثماني القادمة.

ويمثل قانون ظروف العمل اللائقة والمنافسة العادلة (٢٠٠٧) أكثر المخاوف المُستجدة على مجال الصناعة، وهو معروف أيضًا باسم مشروع قانون مناهضة المصانع المُستغِلة الذي طرحه مجلس الشيوخ الأمريكي. وعلى الرغم من أن مشروع القانون ربما يُمثِّل المرة الأولى التي يقترح فيها الكونجرس الأمريكي مثل هذا التشريع، فإنها ليست المرة الأولى التي يتَّخذ فيها المواطنون الأمريكيون إجراءً ضد ظروف العمل في بنجلاديش.

في عام ١٩٩٢، أذاع برنامج «ديتلاين» المُذاع على شبكة إن بي سي مقطع فيديو جرى تصويره من داخل أحد مصانع الملابس في بنجلاديش؛ حيث ظهَر فيه أطفالٌ صغار في سن السابعة يقومون بتشغيل ماكينات ويَحيكون الملابس لصالح خطِّ إنتاج أحد المنتجات المعروضة بوول مارت. وزعمت إدارة وول مارت أن العُمال الذين ظهروا في مقطع الفيديو يبدون كأنهم أطفال في سنِّ السابعة من العمر ولكنهم في الحقيقة كانوا أشخاصًا راشدين عانوا سوء التغذية وتأخُّرًا في النمو.

لم يَقتنع المستهلكون الأمريكيون بهذا التبرير. وصارت عبارة «صُنع في بنجلاديش» مرادفَ «صُنع بأيدي الأطفال». وبدافع الشعور بالقلق حيال عمالة الأطفال في بنجلاديش، اتخذنا الإجراء الوحيد الذي كنا نَعرفه؛ ألا وهو مقاطعة الملابس المصنوعة في بنجلاديش، إلا أنَّ الأطفال لم تَرُق لهم مساعدتنا. في الواقع، «احتجُّوا» على المقاطعة الأمريكية، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية المُدافعة عن حقوق الأطفال في بنجلاديش وعُمال آخرين في مجال صناعة الملابس. لم يَرغب الأطفال في فقدان وظائفهم؛ حيث إنهم مُضطرون إلى إعالة أسرهم.

وفي عام ١٩٩٤، طلبت جمعية مُصنِّعي ومُصَدِّري الملابس والمنسوجات في بنجلاديش — تحت ضغط المقاطعة الأمريكية والصورة المُشوَّهة للمُلصق الخاص ﺑ «صُنع في بنجلاديش» — من المصانع العاملة تحت إمرتها طرد جميع الأطفال دون سن الرابعة عشرة بلا تعويض. ولقد احتجَّت المنظمات المحلية غير الحكومية والنقابات العُمالية على هذا القرار بعدما امتلأت شوارع دكا بالأطفال العاطلين عن العمل.

واستجابةً لهذه الأزمة، موَّلت الحكومتان الأمريكية والبنجلاديشية، بالإضافة إلى المنظمات الدولية مثل منظمة العمل الدولية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، المدارس لاستقبال الأطفال المُتسرِّبين من التعليم بسبب العمل إلى أن يصلوا إلى السن القانونية للعمل.

هذه هي الطريقة التي انتهت بها عمالة الأطفال المُنتشِرة على نطاق واسع في مجال صناعة الملابس والمنسوجات ببنجلاديش. الآن يُمكنك أن تشتري ملابس مصنوعة في بنجلاديش وأنت تعرف أنها ربما تكون قد حيكت بأيدي أطفال أُميِّين في سن الخامسة عشرة، لا (على الأرجح) بأيدي أطفال أُميين في سن الرابعة عشرة من العمر على أقل تقدير. لكن هذا لم يُغير من الأمر شيئًا؛ فمُستويات عمالة الأطفال واصلت ارتفاعها على نحو مُحزن للغاية. ووفقًا لاستطلاع الآراء الوطني عن عمالة الأطفال الذي أجراه مكتب الإحصاءات البنجلاديشي عن عامَي ٢٠٠٢ -٢٠٠٣ ، يعمل ٩٣ بالمائة من الأطفال العاملين في القطاع غير الرسمي. وفي حين أن ثمة عددًا محدودًا من الأطفال الذين يُصنِّعون ملابسنا في بنجلاديش، يوجد ٤٫٩ ملايين طفل تتراوح أعمارهم ما بين خمسةِ وأربعة عشرة عامًا يعملون في وظائف أخرى (شكل ٧-١).

•••

fig5
شكل ٧-١: صبي يبيع الزهور في شوارع دكا.

قادنا أسد من أمام طاولة عالية تتكدَّس عليها أكوام من الملابس. كان عدد قليل من العاملين يُمسكون بما بدا وكأنه قطَّاعات خبز كهربائية عملاقة ذات أنصال يبلغ طول الواحد منها قدمَين. كانت إحدى السيدات تضع علامات على القماش باستخدام عيِّنة تصميم، ثم تُحضرها للقص. كانت تقص العينة الخاصة بالتي-شيرت. امتلأ الهواء بغبار القطن المستخدم. رأيت سيدة أخرى تُمسك بمقص كبير يتراوح حجمه بين حجم المقصات العادية والمقصات المستخدمة في مراسم قص الشرائط. كانت تقطع قطعة من القماش وتُضاف القصاصات إلى كومة كبيرة بجوارها.

كان المصنع نظيفًا، وتوجد علامات مميِّزة للمخارج، وتبعث المراوح نسيمًا لطيفًا في المكان. بدت الظروف جيدة جدًّا. في الواقع، شعرت بالراحة من جراء رؤية الأمور في حالة أفضل كثيرًا مما كنتُ أتوقع.

في ذلك اليوم، كانوا يَصنعون التي-شيرتات، ولكن كان باستطاعتهم تصنيع أي شيء آخر، بما في ذلك الملابس الداخلية، كما أكدوا لي.

كانت توجد ثمانية خطوط إنتاج، على كل خطٍّ منها يعمل ٤٠ شخصًا — ليس من بينهم، على ما يبدو، أطفال أو «أشخاص راشدون يُعانون من سوء التغذية وتأخُّر في النمو» — وبها ١٥ ماكينة خياطة. سرنا بموازاة أحد الخطوط، ولاحظت خيوط القطن العنكبوتية تُغطي رءوس العمال. لم يكن هناك أحاديث جانبية، بل مجرَّد صوت ماكينات الحياكة وحركة سريعة للأيادي. وتساءلتُ في نفسي ما إذا كانت أيديهم تتحرَّك بهذه السرعة عندما لا يُراقبهم المدير ومعه بعض الأجانب.

ومثلما تجاهلتُ العين الكسولة لدى السيد أسد، حاولتُ أن أتظاهر بعدم وجود العمال. أنا في مهمة لشراء الملابس، ولست مُهتمًّا بالعمال، بل مهتم بالمنتجات التي يُنتجونها.

قال أسد، وهو يلتقط تي-شيرتًا قد استُكمل صنعه من عند نهاية خط الإنتاج: «يُمكننا إنتاج ١٢٠٠٠ قطعة في اليوم الواحد.»

أومأتُ برأسي تصديقًا على كلامه وأخذت التي-شيرت منه. استحضرت صورة الرجال أصحاب الرداء الزهري اللون وأنا أتظاهر بفحص طبقات النسيج عند الرقبة والكُمَّين وأي شيء آخر أظن أنه ينبغي أن أفحصه في التي-شيرت. قمت ببسطه وتعريضه للضوء ثم أضفتُه إلى كومة التي-شيرتات.

عُدنا إلى مكتب أسد. وحدثته عن شركتي وبدأنا نجري الحسابات.

قلت له: «أظن أنني سأطلب حوالي ٥٠٠٠ تي-شيرت و٣٠٠٠ سروال داخلي قصير رجالي. ما حجم الطلبيات المعتادة؟»

قال أسد: «عادةً تكون الطلبية ٢٠٠٠٠ قطعة، ولكننا على استعداد لتقديم استثناءات لعملاء المرة الأولى.»

عاد أصحاب الرداء الزهري بسروالي الداخلي. أعطوني إياه وأعطوا السيد أسد ورقة. ضرَب أرقامًا على الآلة الحاسبة.

وعلق قائلًا: «ثلاثة آلاف قطعة؛ إذن ستتكلَّف القطعة الواحدة ٢٫٦٠ دولار»، ثم ضرب بعض الأرقام الإضافية وأردف قائلًا: «أضف ٠٫٥٠ دولار قيمة مصاريف الشحن على كل قطعة، يكون الإجمالي ٣٫١٠ دولارات للقطعة الواحدة.»

بصفقة قيمتها ٩٣٠٠ دولار، يُمكنني أن أدخل مجال تجارة الملابس الداخلية. فإذا قمتُ ببيع القطعتين بسعر ١٥ دولارًا، فسيكون مكسبي ٣٥٧٠٠ دولار مطروحًا منه مصاريف الشحن لنقلها من الميناء في الولايات المتحدة إلى مخزني الذي أعتقد أنه سيكون مرأب والدي، هكذا ستفوق أرباحي ٧٠ ألف دولار في العام. كل ما يجب عليَّ فعله هو استخراج رخصة تصدير وإرسال الأموال إلى المُورِّدين.

شكرت أسد على وقته، وتحدَّث إليه صالحين باللغة البنغالية. خمَّنت أن الأمر له علاقة بملصق السعر٣٫١٠ دولار كسعر لطقم الملابس الداخلية، وهو سعر مرتفع قليلًا على الأرجح. أنا الأحمق، وكلاهما يتعاون مع الآخر للإيقاع بي في شباكهما.

استنتجتُ أنه من المستحيل أن أحدد موقع مصنع الملابس الفعلي الذي صنَع ملابسي الداخلية؛ إذ يوجد أكثر من ٣٠٠٠ مصنع في بنجلاديش، ويوجد بها وسطاء ضعف هذا العدد. وهذه المصانع ذات ملكية خاصة وتتعامل مع عدة علامات تجارية. ربما تصنع اليوم ملابس داخلية، ولكن لعلَّها تتحول إلى تصنيع الجينز غدًا، وتصنيع التي-شيرتات بعد غد. أسوأ الافتراضات أن ملابسي الداخلية قديمة وأنا واثق من أن الرجال أصحاب الزي الزهري سيَشهدون بذلك. فالأرجح أن المصنع الذي صنَعها جرى بيعه أو إغلاقه أو إحراقه أو ربما أصبح إنتاجه مُقتصرًا على الملابس الداخلية النسائية العادية ذات اللون الأخضر الفاتح.

دخلنا المصنع من جديد. لم أنظر إلى العمال، ولكنَّني كنتُ أشعر بنظراتهم إليَّ.

كنت أتساءل في نفسي عما يأكلون وأين يَنامون وما الذي يُضحكهم. كنتُ أتساءل في نفسي عن رأيهم فيَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤