المقدمة
إنَّ نمونا وتطوُّرنا مِن خلية واحدة، هي البويضة المخصَّبة التي يَبلغ قطرُها جزءًا من عشرة أجزاء من الملِّيمتر — أي إنها أصغر من نقطة علامة الوقف — لَهُو أمرٌ مذهلٌ بحق. لدى تلك البويضة جميع المعلومات اللازمة كي تنموَ إلى أن تصبح إنسانًا. وعلى الرغم من أننا نفهم العديد من آليات هذا التطور، لا يزال هناك الكثير من الأشياء التي يكتنفها عدم اليقين.
لزمنٍ طويل، أَخْفَتْ تلك البنيةُ التي تنشأ عن انقسام البويضة — والتي تحمل الآن اسم الجنين — إنجازاتِها. بدأ المنهج العلمي في تفسير نمو الجنين وتطوُّره مع أَبُقراط في اليونان، في القرن الخامس قبل الميلاد؛ حيث استخدَم الأفكارَ المتوافرةَ في ذلك الوقت لمحاولة تفسير التطور في ضوء كلٍّ من الحرارة والرطوبة والتجمد. وبعد نحو قرن من الزمان، صاغ الفيلسوف اليوناني أرسطو سؤالًا قُدِّر له أن يسيطر على معظم الأفكار حول النمو حتى نهاية القرن التاسع عشر. أخذ أرسطو في الاعتبار احتمالين؛ أحدهما أن كلَّ شيء في الجنين قد سبق تكوينه منذ البداية، وبكل بساطة أخذ يكبر في الحجم أثناء نمو الجنين. والاحتمال الثاني — الذي كان يفضِّله — هو ظهور بنًى جديدة نشأت تدريجيًّا عن طريق عملية سمَّاها التخلُّق المتوالي، وشَبَّهَهَا مجازيًّا ﺑ «غزل الشبكة». ظلَّت أفكاره مهيمنة لفترة طويلة، حتى مرور عدد لا بأس به من سنوات القرن السابع عشر، إلى أنْ ظَهَر رأيٌ مخالف يقول إن الجنين قد تحدَّد تشكيله سابقًا منذ بدايته. كان الكثير من الناس لا يستطيعون تصديق أنَّ القوى الطبيعية أو الكيميائية يمكنها أن تشكِّل كائنًا حيًّا، مثلنا نحن البشر، بَدْءًا من الجنين. كان الاعتقاد بأن جميع الأجنَّة لها وجود سابق منذ بداية العالم يسير جنبًا إلى جنب مع الاعتقاد بالخلق الإلهي للعالَم وجميع الكائنات الحية. لم يكن من الممكن حل المشكلة حتى تَحقَّق أحد أعظم الإنجازات في علم الأحياء في نهاية القرن التاسع عشر؛ وهو التسليم بأن الأشياء الحية — بما فيها الأجنَّة — تكوَّنت من خلايا، وأن الجنين تطوَّر من خلية واحدة؛ هي البويضة. تأتي كل الخلايا لدى البالغين من تلك البويضة المخصَّبة بعد انقسامها مراتٍ عديدة. أحد الإنجازات المهمة الأخرى كان اقتراح عالِم الأحياء الألماني أوجست وايزمان أن الذُّرية لا ترث خصائصها من جسم الأب، وإنما من الخلايا الجنسية فقط؛ أيِ البويضات والحيوانات المنوية. ثم في وقت لاحق جاء اكتشاف الحمض الريبوزي النووي المنزوع الأكسجين (الدنا) والجينات وكيف أن هذه الجينات تشفِّر البروتينات، التي تقوم بالتبعية بتحديد سلوك الخلايا.

حقيقة أن الأجنَّة باستطاعتها تنظيم نموها تعني ضمنًا أن الخلايا يجب أن يتفاعل بعضها مع بعض، ولكن الأهمية المحورية للتفاعل بين الخلايا خلال نمو الجنين لم تترسخ في الواقع حتى تم اكتشاف ظاهرة «الحث»، وفيها توجِّه مجموعة من الخلايا نموَّ خليةٍ أو نسيجٍ مجاورٍ. تم إثبات أهمية الحث والتفاعلات بين الخلوية الأخرى في النمو بشكل كبير عام ١٩٢٤، عندما قام هانز سبيمان ومساعدته هيلدا مانجولد بإجراء تجربة زرع شهيرة في أجنَّة البرمائيات. وقد أظهر الباحثان أن الجنين الثاني الجزئي يمكن حثُّه عن طريق تطعيم منطقة صغيرة واحدة من جنين مبكِّر لسمندل الماء في جنين آخر يكون في نفس المرحلة. ويُطلَق على هذه المنطقة الآن منظِّم سبيمان.
يُعد نمو الكائنات المتعددة الخلايا من البويضة المخصَّبة انتصارًا باهرًا للتطور؛ حيث تنقسم البويضة المخصَّبة للإنسان منتجةً عِدَّةَ ملايين من الخلايا، التي تكوِّن بنًى معقدة ومتنوعة مثل الأعين والأذرع والقلوب والأدمغة. يثير هذا الإنجاز الهائل العديدَ من الأسئلة؛ مثل: كيف تصير الخلايا الناشئة عن انقسام البويضة المخصَّبة مختلفةً بعضها عن بعض؟ كيف تنتظم الخلايا لتصبح بِنًى مثل الأطراف والأدمغة؟ ما الذي يتحكَّم في سلوك الخلايا المنفردة من أجل أن تُظهر مثل هذه الأنماط ذات الدرجة العالية من التنظيم؟ كيف تكون التعليمات المنظِّمة للنمو مدمجةً داخل البويضة، وعلى وجه الخصوص، داخل الجينات؟ يأتي الكثير من الإثارة حول علم الأحياء النمائي اليوم من تزايُد فهمنا للكيفية التي توجِّه بها البروتيناتُ العملياتِ النمائيةَ هذه؛ حيث تتحكَّم آلاف الجينات في النمو عن طريق التحكُّم في تحديد البروتينات الواجب صُنعها في المكان المناسب وفي التوقيت المناسب.
أحد الأهداف هو أن نفهم عملية نمو الإنسان؛ كي نصل إلى فهم السبب وراء حدوث أخطاء فيها في بعض الأحيان، فلماذا تفشل ولادة الجنين؟ ولماذا يولد المولود وبه تشوُّهات؟ من الممكن أن تؤدي الطفرات التي تصيب الجينات إلى نموٍّ غير طبيعي، مثلها في ذلك مثل العوامل البيئية كالعقاقير والالتهابات. وهناك مجال آخر للبحث الطبي متعلق بعلم الأحياء النمائي؛ هو الطب التجديدي، الذي يبحث في كيفية استعمال الخلايا لإصلاح الأنسجة والأعضاء التالفة. يتمحور الطب التجديدي حاليًّا حول «الخلايا الجِذعية»، التي لها عديد من خصائص الخلايا الجنينية، مثل القدرة على التكاثر والنمو إلى مجموعة مختلفة من الأنسجة.
اختير عدد صغير نسبيًّا من الحيوانات لعمل دراسة مكثفة حول نمو الأجنَّة؛ لأن هذه الحيوانات كانت قابلة للتعديل التجريبي، أو التحليل الجيني؛ وهذا هو السبب في أن الضفدع الأفريقي «زينوبس ليفيس»، ودودة الربداء الرشيقة الخيطية «كينورابديتيس إليجانس»، وذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، وسمكة الزرد، والفرخ، والفأر؛ لها هذه الأهمية الكبيرة في علم الأحياء النمائي. وبالمثل فإن العمل على النوع «أرابيدوبسيس تاليانا» من العشب الشبيه بالخردل كَشَفَ العديدَ من ملامح النمو لدى النبات. يمكن أن يساعد فهم عملية النمو في أحد الكائنات الحية في إلقاء الضوء على عمليات مماثلة في كائنات أخرى؛ على سبيل المثال، أدى تحديد الجينات التي تسيطر على النمو المبكر للجنين في الذبابة إلى اكتشاف أن الجينات ذات الصلة يمكن استخدامها بطرق مماثلة في نمو الفقاريات، بما في ذلك البشر. لكلِّ نوعٍ من الكائنات الحية مميزات وعيوب كنموذج للنمو؛ فالذباب يكون رائعًا لعلم الوراثة، بينما تكون أجنَّة الضفدع والفرخ أكثر تحمُّلًا للتعديلات الجراحية، ويسهل تعامل المجرِّب معها في جميع مراحل نموها، خلافًا لأجنَّة الثدييات. تشبه أجنَّةُ الفرخ كثيرًا أجنَّةَ الثدييات في المسار النمائي العام، ولكنها أسهل في التعامل معها؛ إذ يمكن ملاحظة الكثير من خلال عمل ثقب يعمل كنافذة في قشرة البيضة بكل بساطة، ويمكن أيضًا استزراع الجنين خارج القشرة. يكون نمو الفأر مختفيًا عن الأنظار ويمكن متابعته فقط عن طريق عزل الأجنَّة عند المراحل المختلفة. ومع ذلك، أصبح الفأر هو الحيوان النموذجي لدراسة نمو الثدييات، وكان هو أولَ حيوان ثدييٍّ بعد الإنسان يتم تحديد التتابع الجيني الكامل له، ويُستخدم على نطاق واسع في دراسة الوراثة. تُعتبر سمكة الزرد إضافةً حديثة إلى القائمة المختارة لنماذج أنظمة الفقاريات؛ فمن السهل عليها التكاثر بأعداد كبيرة، وتكون الأجنَّة شفافةً؛ ممَّا يسهِّل متابعة الانقسام الخلوي وتحركات الأنسجة بمجرد النظر، ولديها إمكانات كبيرة للفحوص الوراثية. أما الدودة الخيطية فلديها ميزة عظمى تكمن في احتوائها على عدد ثابت من الخلايا قدره ٩٥٩، ويمكن متابعة نمو كل خلية منها.

داخليًّا، ينشأ عن الأدمة الوسطى بنية تشبه القصبة تسمى الحبل الظهري، وهي تمتد من الرأس إلى الذيل؛ وسوف ينمو الجهاز العصبي في وقت لاحق أعلى الحبل الظهري، الذي يختفي حينئذٍ. توجد على أحد جانبي الحبل الظهري كتل مجزأة من الأدمة الوسطى تُدعى جُسيدات، وهي التي سينشأ عنها العضلات والعمود الفقري. وبعد تكوُّن المُعيدة بفترة وجيزة، تنطوي الأدمة الظاهرة الموجودة فوق الحبل الظهري لتكوِّن الأنبوب العصبي، الذي ينشأ عنه المخ والحبل الشوكي؛ وهي عملية تسمَّى «تكوُّن العُصيبة». وبحلول ذلك الوقت، تتحدد الأعضاء الأخرى مثل الأطراف والعينين في أماكنها المستقبلية، ولكنها تنمو فقط في وقت لاحق، أثناء تكوُّن الأعضاء. وخلال تكوُّن الأعضاء تتمايز الخلايا إلى كلٍّ من العضلات والغضاريف والخلايا العصبية. وفي غضون ٤٨ ساعة يصبح الجنين شرغوفًا يتغذَّى ولديه السمات النموذجية للحيوانات الفقارية.
