الفصل الحادي عشر

التطور

النمو عملية أساسية في تطور الكائنات المتعددة الخلايا. جاء تطور الأشكال الحية المتعددة الخلايا، بما في ذلك جميع أنواع الحيوان والنبات، نتيجة للتغيرات في النمو الجنيني، وهذه بدورها ترجع كليًّا إلى التغيرات في الجينات التي تتحكم في سلوك الخلية في الجنين والكائن البالغ. لعبت كلٌّ من التغيرات في تنظيم التعبير الجيني في الزمان والمكان، والطفرات في البروتينات التي تولِّد وظائف بروتينية جديدة؛ دورًا أساسيًّا في التطور. وحسبما قال عالم الأحياء التطورية ثيودوسيوس دوبجانسكي، فإنه لا شيء في علم الأحياء يكون له معنًى، ما لم يُنظر إليه من منظور التطور. وبالتأكيد، سيكون من الصعب جدًّا فهم أيٍّ من جوانب النمو من دون منظور تطوري. والتغيرات النمائية المبنية على أساس وراثي — التي ولَّدت أشكالًا بالغة أكثر نجاحًا وتكيُّفًا مع بيئتها؛ ومن ثَمَّ تكون قادرة على التكاثر بطريقة أفضل — هي التي يحابيها الانتخاب الطبيعي خلال عملية التطور.

يُفترض أن الحيوانات المتعددة الخلايا انحدرت من سلفٍ مشترك متعدد الخلايا، وأن هذا السلف بدوره تطور عن كائن وحيد الخلية. كان تشارلز داروين أول من أدرك أن التطور يَحدث نتيجةً لتغيرات قابلة للتوريث في الأشكال الحية؛ وانتخاب الأشكال الأكثر تكيُّفًا منها مع البيئة المحيطة. تمثل «شرشوريات داروين» مثالًا رائعًا للدور التطوري للنمو، ودور التغيرات في التعبير الجيني. زار تشارلز داروين جزر جالاباجوس عام ١٨٣٥ وجمع مجموعة من الشرشوريات، وميَّز منها في ذلك الوقت ١٣ نوعًا ذات صلة قَرابة وثيقة. وقد وجد أمرًا مدهشًا بوجهٍ خاصٍّ يتعلق بالتنوُّع في مناقيرها؛ إذ كانت الاختلافات في أشكال المناقير تعكس الاختلافات في نظام الطيور الغذائي والطريقة التي تحصل بها على الغذاء. اتضح الآن أن الأنواع ذات المناقير الأعرض والأعمق بالنسبة إلى الطول تعبِّر عن مستويات أعلى من بروتين تخلُّق العظام BMP-4 في منطقة النمو من المنقار، مقارنةً بالأنواع ذات المناقير الطويلة المدببة.
إذا مرَّت مجموعتان من الحيوانات مختلفتان تمامًا في البِنية البالغة والعادات — مثل الأسماك والثدييات — بمرحلة جنينية متشابهة جدًّا، فهذا قد يشير إلى أنهما تنحدران من سلف مشترك؛ ومن ثم تكونان، من المنظور التطوري، مرتبطتَين ارتباطًا وثيقًا. تمرُّ جميع أجنَّة الفقاريات بمرحلةٍ تَكُون جميعُها متشابهةً فيها تقريبًا (الشكل ١١-١)، وهكذا يعكس نموُّ الجنينِ التاريخَ التطوريَّ لأسلافه. يمثل تقسيم الجسم إلى قطع — يختلف لاحقًا بعضها عن بعض في الشكل والوظيفة — صفة مشتركة في تطور كلٍّ من الفقاريات والمفصليات (والمفصليات هنا تعني الحشرات والقشريات)؛ ويشكل نمو الجسيدات مثالًا لذلك. لدينا مثال آخر للأجزاء المقسمة إلى قطع في الفقاريات؛ وهي الأقواس الخيشومية، والشقوق الموجودة في جميع أجنَّة الفقاريات، بما في ذلك البشر، وهي توجد خلف الرأس مباشرة على كِلا الجانبين. هذه البِنى ليست بقايا أقواس وشقوق خيشومية لسلف بالغٍ يشبه السمك، ولكنها تمثِّل بِنًى كان من شأنها أن توجد في جنين السلف الشبيه بالسمك للفقاريات؛ كطليعة تطورية للشقوق والأقواس الخيشومية. وأثناء التطور، أنشأت الأقواس الخيشومية كلًّا من الأقواس الخيشومية للأسماك البدائية العديمة الفك، وفي تعديل لاحق أنشأت الخياشيمَ وعناصر الفك في الأسماك التي تطورت لاحقًا (الشكل ١١-٢). وبمرور الوقت، تحورت الأقواس أكثر، وأنشأت في الثدييات أجزاءً أخرى مختلفة في الوجه والعنق؛ وقد أتت فكوكنا من هذه الأقواس.
fig32
شكل ١١-١: أجنَّة الفقاريات في نفس المرحلة (برعم الذيل) لديها سمات متشابهة.
fig33
شكل ١١-٢: تعديل الأقواس الخيشومية إلى فكوك خلال التطور.

نادرًا ما يولِّد التطور بنية جديدة من لا شيء، بل قد لا يحدث هذا مطلقًا؛ فالخصائص التشريحية الجديدة تنشأ من تعديل لبنية موجودة بالفعل؛ لذلك يمكن للمرء التفكير في التطور على أنه «تعديل» للبِنى الموجودة، يؤدي تدريجيًّا إلى صياغة شيء مختلف. وذلك ممكن الحدوث لأن العديد من البِنى تكون وحدات نمطية؛ أي إن الحيوانات لديها أجزاء تشريحية مميزة من الممكن أن تتطور بشكل مستقل؛ على سبيل المثال، الفقرات وحدات نمطية يمكنها أن تتطور بصورة مستقلة بعضها عن بعض، وكذلك الأطراف كما رأينا. أحد الأمثلة الجيدة لتعديل بنية موجودة بالفعل إلى شيء مختلف كثيرًا يتضح لنا من تطور الأذن الوسطى للثدييات، التي تتكون من ثلاث عظام — المطرقة والسندان والرِّكاب — تنقل الصوت من طبلة الأذن إلى الأذن الداخلية. في حالة الزواحف أسلاف الثدييات، نجد أن المفصل الذي بين الجمجمة والفك السفلي كان يوجد بين العظم المربع للجمجمة والعظم المفصلي للفك السفلي، وهي العظام المشاركة أيضًا في نقل الصوت عبر عظمة الرِّكاب. كان الفك السفلي للفقاريات في الأصل يتكون من عدة عظام، ولكن خلال تطور الثدييات ازداد حجم أحد هذه العظام — العظم السِّني — وأصبح يكوِّن الفك السفلي بأكمله؛ ولم تكن العظمتان الأخريان، كلٌّ من المربع والمفصلية، متصلتين به. من خلال التغير في كيفية النمو، تم تعديل العظم المربع والمفصلي في الثدييات إلى عظمتين — المطرقة والسندان على التوالي — كانت وظيفتهما حينئذٍ نقل الصوت من غشاء الأذن الخارجية.

حُفظ الكثير من آليات النمو على المستوى الخلوي والجزيئي لدى الكائنات ذات القرابة البعيدة؛ على سبيل المثال، يعد الاستخدام الواسع النطاق لتركيبات جينات هوكس، ونفس العائلات القليلة من جزيئات الإشارات البروتينية، أمثلةً ممتازة لهذا الحفظ. كانت أوجُه التماثل هذه في الآليات الجزيئية هي التي جعلت دراسة علم الأحياء النمائي مثيرة جدًّا في الأعوام الأخيرة؛ وهي تعني أن الاكتشافات الجينية في أحد الحيوانات لها تبعات مهمة على فهم النمو في حيوانات أخرى. ويبدو أنه عند تطور آلية مفيدة للنمو، فإنه يتم الحفاظ عليها وإعادة استخدامها في حيوانات مختلفة اختلافًا كبيرًا، وفي أوقات وأماكن مختلفة لنفس الكائن الحي. توجد جزيئات الإشارة بالفعل في حيوانات بسيطة متعددة الخلايا مثل الهيدرا، الذي ظهر في وقت مبكر من التطور الحيواني.

أكبر مجموعة حيوانية هي «ثنائيات التناظر»، التي تشمل الفقاريات والمفصليات مثل الحشرات والقشريات. كل هذه الكائنات لديها تناظر ثنائي بطول محور الجسم الأساسي على الأقل في بعض مراحل النمو، ولها نمط مميز لتعبيرات جينات هوكس. يمثل الأصل السلفي للحيوانات مشكلةً صعبة، ولكن سوف أقترح آلية محتملة أدت لظهوره. لا بد أن آخر سلف مشترك لثنائيات التناظر كان كائنًا شديد التعقيد، يمتلك معظم مسارات جينات النمو التي تستخدمها الحيوانات الموجودة بالفعل. يتكهَّن البعض بأن هذا السلف عاش قبل نحو ٦٠٠ مليون عام مضى، وكان لديه حيوان منوي ذو سوط، وكان ينمو من خلال عملية تكوُّن المعيدة، وكانت لديه طبقات خلايا جنسية متعددة، وجهازٌ عصبي-عضلي وآخر حِسِّيٌّ، ومَحاور جسم ثابتة. يوجد الآن حيوان واحد بدائي بسيط جدًّا يعيش حياة بحرية طليقة، يدعى «الصُّفيِّح»، قد يكون أقرب إلى الأصل. إنه يتكون من طبقتين فقط من الخلايا، التي تكوِّن قرصًا مسطحًا من دون مِعًى، ولديه أربعة أنواع فقط من الخلايا المختلفة. وهو يتكاثر أساسًا عن طريق الانشطار، ومع ذلك، وتمشيًا مع جينومات الحيوانات الأخرى، فلدى الصُّفيِّح ١١٥٠٠ جين مشفِّر للبروتينات، وهذه الجينات تشفر مجموعة غنية من عوامل النَّسخ وبروتينات الإشارات، بعض منها مماثلة لتلك التي في الفقاريات.

من الآليات العامة المهمة في التغير التطوري كلٌّ من ازدواج الجينات والاختلاف. يزوِّد ازدواج الجين — الذي يُمْكنه أن يَحدث بواسطة مجموعة متنوعة من الآليات أثناء مضاعفة الدنا — الجنينَ بنسخة إضافية من الجين، وهذه النسخة الإضافية يمكنها أن تختلف من حيث كلٍّ من تتابُع تشفيرها والمناطق التنظيمية؛ ومن ثَمَّ فهي تغيِّر نمط التعبير الخاص بها؛ وأهداف البروتين المرغوبة لها، دون حرمان الكائن الحي من وظيفة الجين الأصلي. وتعتبر عملية ازدواج الجينات أساسية في تطوير بروتينات جديدة وأنماط جديدة للتعبير الجيني؛ ومن الواضح، على سبيل المثال، أن الهيموجلوبينات المختلفة في الإنسان نشأت نتيجةً للازدواج الجيني. تعدُّ تركيبات جينات هوكس أحدَ أوضح الأمثلة على أهمية ازدواج الجينات في التطور النمائي. ولقد نشأت جينات هوكس أيضًا عن طريق ازدواج جين مفرد سلفي. توجد أبسط تركيبات جينات هوكس في الفقاريات وتشكِّل عددًا صغيرًا من الجينات المرتبطة بالتتابع والمحمولة على كروموسوم واحد. عادة ما يكون لدى الفقاريات أربع مجموعات من جينات هوكس، محمولة على أربعة كروموسومات مختلفة؛ مما يقترح حدوث دورتين من الازدواجية المجملة لمركَّب جين هوكس سلفي؛ وذلك تمشيًا مع الفكرة المقبولة على وجه العموم القائلة بأن الازدواجية على نطاق واسع للجينوم قد حدثت أثناء تطور الفقاريات. كانت الفائدة من الازدواجية هي امتلاكَ الجنين عددًا أكثر من جينات هوكس للتحكُّم في الأهداف المرغوبة؛ وبذلك يمكنه أن يُنشئ جسمًا أكثر تعقيدًا. يختلف عدد الفقرات الموجود في منطقة معينة اختلافًا واسعًا بين طوائف الفقاريات المختلفة؛ فجميع الثدييات، باستثناء قلة نادرة، تمتلك ٧ فقرات عنقية، بينما يمكن للطيور أن تمتلك من ١٣ إلى ١٥ فقرة. كيف نشأ هذا الاختلاف؟ تبيِّن المقارنة بين الفأر والفرخ أن نطاقات تعبير جين هوكس قد تحوَّلت بالتوازي مع التغير في عدد الفقرات في المناطق المختلفة. لدى الثعابين مئاتٌ من الفقرات المتماثلة في عمودها الفقري. وجينات هوكس التي يتم التعبير عنها في المنطقة الصدرية في الفقاريات الرباعية الأطراف يتم التعبير عنها على طول معظم الجسم في جنين ثعبان الأصلة. ويُعتقد أن هذا التوسع في مجالات التعبير عن جينات هوكس يرتبط بالتوسع في الفقرات حاملة الضلوع وفقدان الأطراف الأمامية خلال تطور الثعابين.

تقدِّم لنا زوائد المفصليات توضيحًا جيدًا لتطور جينات هوكس في التحديد الموضعي. تملك حفريات الحشرات أنماطًا عديدة مختلفة من حيث مواضع وأعداد الزوائد الزوجية لديها؛ في الأساس الأرجل والأجنحة. توجد لدى بعض حفريات الحشرات أرجل على كلِّ قطعة من الجسم، بينما تكون لدى البعض الآخر أرجل في منطقة صدرية مميزة فقط، ويقترح هذا أن هناك إمكانية نمو زوائد في كل قطعة جسدية، حتى في الذباب، ويتم حجبها في بطن الذباب بواسطة جينات هوكس؛ لذلك يبدو من المرجَّح أن سلف المفصليات الذي تطورت عنه الحشرات كان لديه زوائد على جميع القطع الجسدية. يمكن لجينات هوكس أيضًا أن تحدد طبيعة الزائدة، وقد رأينا كيف حوَّلت الطفرة الأرجل إلى بِنية تشبه قرونَ الاستشعار؛ وتحويل قرن الاستشعار إلى رِجْل.

يوجد لدى البرمائيات والزواحف والطيور والثدييات أطراف، بينما لدى الأسماك زعانف. تطورت أطراف أول فقاريات برية من الزعانف الصدرية لأسلافها الشبيهة بالأسماك، ولكن لا تزال الكيفية التي تطورت بها الزعانف أقلَّ وضوحًا. ومع ذلك، استخدم نمو هذه الزوائد جزيئات إشارة مثل القنفذ سونيك وعوامل نَسخ مثل بروتينات هوكس، التي كانت تُستخدم بالفعل في تنميط الجسم. ويقترح السجل الأحفوري أن الانتقال من الزعانف إلى الأطراف حدث في العصر الديفوني قبل حوالي ٤٠٠ إلى ٣٦٠ مليون عام مضت، عندما انتقلت أسلاف الأسماك التي كانت تعيش في المياه الضحلة إلى الأرض. ربما تكون العناصر الهيكلية القريبة للزعانف السلفية مرتبطة بالعضد والكُعْبُرة والزند في الطرف، وأوضح التحليل الحديث لأحفورة السمكة «بانديريكثيز» أن المنطقة البعيدة لزعنفتها الصدرية تحتوي على عناصر هيكلية منفصلة؛ ومن ثم قد لا تكون الأصابع ابتكارًا تطوريًّا جديدًا.

من أجل تفهُّم كيفية تحوُّل الزعنفة إلى طرف، درس الباحثون سمكة حديثة — هي سمكة الزرد — وفيها يمكن تتبع نمو الزعنفة بالتفصيل ويمكن تحديد الجينات المشترِكة في عملية النمو. تكون براعم الزعانف في جنين سمك الزرد مماثلةً في البداية لبراعم الأطراف في الفقاريات، ولكن سرعان ما تنشأ اختلافات مهمة خلال النمو. مثلما يحدث في البرعم الطرفي للفقاريات، يتم التعبير عن جين قنفذ سونيك المحوري عند الحافة الخلفية لزعنفة سمك الزرد، ويكون نمط تعبير جينات هوكس دي Hoxd وهوكس إيه Hoxa مماثلًا لتعبيرهما في الفقاريات. يكون الاختلاف الرئيسي بين نمو الزعنفة والطرف في العناصر الهيكلية البعيدة؛ إذ تنمو طية زعنفية عند النهاية البعيدة للبرعم في سمكة الزرد؛ وكذلك تتكون أشعة زعنفية دقيقة — وليس أصابع — بداخلها.

يرجع التنوع الواسع في التخصصات التشريحية التي تطورت في أطراف الثدييات إلى التغيرات في كلٍّ من أنماط الأطراف وفي النمو التفاضلي لأجزاء الأطراف خلال مرحلة النمو الجنيني، لكن مع الحفاظ على النمط الأساسي للعناصر الهيكلية. يُعتبر هذا مثالًا ممتازًا لنمطية العناصر الهيكلية، وإذا قارن المرء بين الطرف الأمامي لخفاش والطرف الأمامي لحصان، يمكنه رؤية أنه برغم أن الاثنين يحتفظان بالنمط الأساسي لعظام الطرف، فقد تم تعديل كلٍّ منهما للقيام بوظيفة متخصصة. في الخفاش، تكيَّف الطرف للطيران واستطالت الأصابع بدرجة كبيرة لتدعم الجناح الغشائي. ولأن البِنى الفردية، مثل العظام، يمكنها النمو بمعدلات مختلفة، فإن الشكل الكليَّ للكائن الحي يمكن أن يتغير بصورة كبيرة أثناء التطور عن طريق تغيرات قابلة للتوريث خلال فترة النمو، وهي التي تؤدي أيضًا إلى زيادة في الحجم الكلي للكائن الحي. في الحصان، على سبيل المثال، نمت الأصبع الوسطى لقدم الحصان السلف بصورة أسرع من أصابع القدم على كلا الجانبين، بحيث في النهاية أصبح أطولَ من الأصابع الجانبية. ومع مواصلة الأحصنة الزيادة في الحجم الكلي أثناء التطور، نتج عن هذا التضاربِ في معدل النمو أن الأصابع الجانبية الأصغر نسبيًّا لم تَعد تلمس الأرض بسبب الطول الفائق للأصبع الوسطى. وفي مرحلة لاحقة من التطور، أصبحت الأصابع الجانبية — الزائدة — أصغر وأصغر في الحجم.

طوَّرت حيوانات عِدةٌ أشكالًا يَرَقية تكون لها ميزة عندما يتعلق الأمر بالانتشار والتغذية، ثم بعد ذلك تخضع لتغير جذري في الشكل — التحول — كي تصل إلى مرحلة البلوغ. جوهر النمو هو التغير التدريجي، ولكن خلال عملية التحول لا توجد استمرارية تدريجية بين اليرقة والكائن البالغ. ومع ذلك يكون التحول منطقيًّا من المنظور التطوري إذا افترضنا أن جميع الأشكال اليرقية تطورت عن طريق إدراج المرحلة اليرقية في البرنامج النمائي الموجود سابقًا لحيوانٍ ينمو بطريقة مباشرة. في كثير من الفقاريات، تشبه اليرقة مبدئيًّا مرحلة المُعيدة المتأخرة، التي كان يمكنها أن تنشئ الشكل اليرقي الذي يسبح بمهارة. يعيد التحول اليرقة إلى البرنامج النمائي الأصلي مجددًا.

يمكن للتطور أيضًا أن يكيِّف نفس البروتينات لأغراض متباينة تمامًا. تتكون عدسات عين الأخطبوط والحبَّار والفقاريات من خلايا معبأة ببروتينات الكريستالين، التي تعطي العدسة شفافيتها. كان من المعتقد أن الكريستالين يوجد فقط في العدسات، وأنه تطور خِصِّيصَى لهذه الوظيفة، ولكن الأبحاث الحديثة أشارت إلى أنها بروتينات مختارة لهذا الغرض وليست متخصصة من الناحية البنائية لوظيفة العدسة، وهي تعمل بمنزلة إنزيمات في سياقات أخرى. تعطي هذه الأمثلة دليلًا على وجود علاقة رئيسية بين التطور والنمو؛ أي التغير التدريجي لجزءٍ ما إلى شكل مختلف. ومع ذلك، ففي العديد من الحالات لا نفهم كيف كانت الأشكال الوسيطة قادرة على التكيُّف ومنحت الحيوان ميزةً انتخابية. تدبَّرْ، على سبيل المثال، الأشكالَ الوسيطة في التحول من أول قوس خيشومية إلى الفكوك؛ ماذا كانت الميزة التكيفية؟ تطورت أجنحة الحشرات من أجزاء استُخدمت للحصول على الأكسجين من الماء، ماذا كانت ميزتها المبدئية إذن عندما غادرت الحشراتُ الماءَ؟ نحن لا نعلم، وبسبب مرور الوقت وجهلنا الحالي بالبيئة التي عاشت فيها الكائنات الحية القديمة قد لا نعرف أبدًا.

إذا كانت الحيوانات المتعددة الخلايا قد تطورت منذ نحو ٦٠٠ مليون عام مضت، يبقى السؤال المُلِح هو: كيف تطورت من سلف وحيد الخلية؟ ما الذي كان يجب اختراعه للانتقال من خلية مفردة إلى التعدد الخلوي؟ كيف تطور النمو الجنيني من بويضة؟ إن المطلب الأساسي للنمو الجنيني، كما رأينا، هو وجود برنامج للنشاط الجيني والتمايز الخلوي وحركة الخلية والتماسك. وفي ضوءِ ما تتسم به الكائنات الحية الوحيدة الخلية الحديثة من امتلاكها نواةً وأجسامًا سِبحية، فإن السلف الوحيد الخلية للكائنات لا بد أنه كان لديه كل هذه الصفات في صورة بدائية، وتعيَّن ابتكار قلة من الأشياء الجديدة وحسب. أحد الاحتمالات، المبنية على تخمين جامح، يقضي بأن الطفرات أسفرت عن ذرية لكائن وحيد الخلية لم تنفصل بعد الانقسام الخلوي؛ مما أدى إلى مستعمرة ضعيفة التماسك تتكون من خلايا متماثلة، كانت في بعض الأحيان تتجزأ مكونةً «أفرادًا» جددًا. ربما كانت إحدى مميزات المستعمرة في الأصل أنه عند نقص الغذاء، كان بإمكان الخلايا أن يأكل بعضها بعضًا، وبهذه الطريقة تظل المستعمرة على قيد الحياة. ربما كان هذا أصلَ التعدد الخلوي، وأن البويضة تطورت لاحقًا عندما تغذَّتِ الخلية على خلايا أخرى؛ ففي الإسفنجيات الحديثة، على سبيل المثال، تلتهم البويضة الخلايا المجاورة. وبمجرد تطور التعدد الخلوي، فُتح الباب لكلِّ أنواع الاحتمالات الجديدة، مثل تخصص الخلايا لأداء وظائف مختلفة. كانت هناك أيضًا ميزة تمثَّلت في أن كل الخلايا في الجنين لها نفس الجينات، وهذا جعل التعاون وتبادل الإشارات أمرًا ممكنًا.

ليس من المعروف أيضًا كيف تطور تكوُّن المُعيدة، ولكن ليس من المستبعد الأخذ في الاعتبار بسيناريو نفترض فيه أن كرةً مجوفة من الخلايا — تمثِّل السلف المشترك لكل الحيوانات المتعددة الخلايا — قد غيَّرت شكلها للمساعدة في التغذية. هذا السلف ربما، على سبيل المثال، يكون قد استقرَّ على قاع المحيط، يلتهم جزيئات الطعام عن طريق البلعمة. وربما أدى تكون انغلاف صغير في جدار الجسم إلى تعزيز عملية التغذية عن طريق تكوين مِعًى بدائية. يمكن أن تكون حركة الأهداب قد أزاحت جزيئات الطعام بكفاءة عالية نحو هذه المنطقة؛ حيث كان بالإمكان الْتِقاطها بواسطة الخلايا. وبمجرد تكوُّن الانغلاف، ليس من الصعب جدًّا تصور كيفية امتداده في نهاية المطاف داخل الكرة كلها، والْتحامه بالجانب الآخر، وتكوين مِعًى متصلة، وهي التي ستكون الأدمة الباطنة. في مرحلة لاحقة من التطور، من شأن الخلايا التي هاجرت في الداخل بين المِعى والظهارة الخارجية أن تُنشئ الأدمة الوسطى. يعد تكوُّن المُعيدة مثالًا جيدًا للتغيرات النمائية أثناء التطور. ورغم أنه يوجد تشابهٌ كبير في عملية تكوُّن المُعيدة في العديد من الحيوانات المختلفة، توجد أيضًا اختلافات مهمة. ولكن لا تزال الكيفية التي تطورت بها هذه الاختلافات وماهية الطبيعة التكيُّفية للأشكال الوسيطة أمورًا غير معلومة.

وأخيرًا، يمكننا التفكير في تطور فهمنا لعلم الأحياء النمائي. لقد حدث تقدم مثير للإعجاب في هذا المجال، ولكن نتيجةً لتعقيد الخلايا — بكلِّ ما تحويه من بروتينات وجزيئات أخرى متفاعلة — ما زال هناك الكثير لنتعلمه. ومن المرجح أنه في غضون الخمسين سنةً القادمة، في ضوء معرفتنا بالجينات والبِنية الخاصة بأي بويضة مخصبة، سيكون من الممكن حسابُ تفاصيلِ نمو ذلك الكائن الحي بكفاءة ومعرفةُ ما سيكون عليه الفرد البالغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤