الفصل الثامن

الجهاز العصبي

الجهاز العصبي أكثر أجهزة الجسم تعقيدًا في جنين الحيوان؛ ففي الثدييات، على سبيل المثال، تطوِّر مليارات من الخلايا العصبية (العصبونات) نمطَ اتصالاتٍ على درجة عالية من التنظيم، مكوِّنةً الشبكةَ العصبية التي تشكِّل الدماغ وبقية الجهاز العصبي. كما يوجد أيضًا عددٌ مساوٍ من الخلايا الداعمة (الدبقية) مثل خلايا شوان، التي تقوم بعزل الخلايا العصبية. كما رأينا سابقًا أثناء تكوُّن المُعيدة، تصبح الأدمة الظاهرة في المنطقة الظهرية لجنين الفقاريات محددةً بوصفها لوحةً عصبية، وتكوِّن اللوحةُ العصبية الأنبوبَ العصبي، ومنها ينمو الدماغ بينما يتكون الحبل الشوكي في الناحية الخلفية. يقذف الأنبوب العصبي خلايا القمة العصبية، التي تهاجر إلى جميع أنحاء الجسم لتكوِّن العصبونات وأنواعًا أخرى من الخلايا. يجب أن ينمي الجهاز العصبي علاقاتٍ صحيحةً مع بِنى الجسم الأخرى، مثل الهيكل العظمي والجهاز العضلي، الذي يتحكم هو في حركاته.

تمت الإشارة إلى تخليق النسيج العصبي من الأدمة الظاهرة للمرة الأولى بواسطة تجربة زراعة منظم سبيمان في الضفادع؛ حيث نما جنين ثانوي جزئي عندما تم تطعيم منطقة صغيرة — منظِّم سبيمان — لجنين مبكر في جنين آخر في نفس المرحلة، ونما جهاز عصبي من الأدمة الظاهرة للعائل التي كان في الوضع الطبيعي من شأنها أن تكوِّن بشرة باطنية. وقد بُذل قدر هائل من الجهد في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته في محاولة التعرف على الإشارات المساهمة في التخليق العصبي في البرمائيات. وكان الاكتشاف الرئيسي أن مانع بروتين تخلُّق العظام المعروف باسم Noggin — وهو أول بروتين يُفرز ويُعزل من منظم سبيمان — يمكنه أن يُحدث تمايزًا عصبيًّا في مُزدرعات الأدمة الظاهرة في أجنَّة الضفدع. وأشارت النتائج إلى أن اللوحة العصبية يمكن أن تنمو فقط عند غياب إشارات بروتين تخلُّق العظام. أدت هذه الملاحظات إلى ما يسمَّى «النموذج الافتراضي» للتخليق العصبي في الضفدع. واقترحتْ هذه الملاحظات أن الحالة الافتراضية للأدمة الظاهرة هي أن تنمو لتصبح نسيجًا عصبيًّا، ولكنَّ هذا المسار تمت إعاقته بوجود بروتين تخلُّق العظام، الذي يحثها على النمو لتصبح نسيج بشرة. يكمن دور منظم سبيمان في رفع هذا العائق عن طريق إنتاج بروتينات من شأنها أن تمنع نشاط بروتين تخلُّق العظام. ولكن لم يكن النموذج الافتراضي هو الحلَّ؛ حيث يحتاج نمو الجهاز العصبي في كلٍّ من الضفدع والفرخ أيضًا إلى بروتينات أخرى، حتى عندما يتم رفع إعاقة بروتين تخلُّق العظام نتيجةً لوجود البروتين Noggin؛ لذلك يكون الحث على التخلُّق العصبي عملية معقدة ومتعددة الخطوات. ومع هذا فمن المرجح وجود تشابهٍ أساسي في آلية الحث العصبي بين الفقاريات؛ لأن عقدة هنسن المأخوذة من جنين الفرخ يمكنها أن تحفِّز التعبير الجيني العصبي في الأدمة الظاهرة للضفدع؛ مما يقترح أن الإشارات المحفزة قد تم حفظها أثناء التطور.

يتم تنميط الجهاز العصبي مبدئيًّا بواسطة إشارات من الأدمة الوسطى الكامنة، وتُحفِّز قطعٌ من الأدمة الوسطى الأمامية تَكوُّنَ الرأس ومعه الدماغ، بينما تُحفز الأجزاءُ الخلفية تكوُّن الجذعَ ومعه الحبل الشوكي. يمكن للاختلافات النوعية والكمية في الإشارات المرسلة بواسطة الأدمة الوسطى أن تفسر التنميط العصبي الأمامي-الخلفي. الاختلافات الكمية في الإشارات البروتينية توجد على طول محور الجسم، مع وجود أعلى مستوًى في النهاية الخلفية للجنين؛ مما يعطي النسيج العصبي المستقبلي هوية خلفية أكثر. يتم التعبير عن جينات هوكس بطول الحبل الشوكي وهي تمنح العصبونات هوية موضعية.

fig26
شكل ٨-١: للعصبونات عدد كبير من الأشكال والأحجام. توجد في الدماغ وصلات عصبية أكثر مما هو مبيَّن هنا. يتكون العَصَبون الواحد من جسم خلوي مستدير صغير، يحتوي على النواة، ومنه يمتد محور عصبي واحد و«شجرة» من الزوائد الشجرية الواسعة التفرع، وهي التي تستقبل الإشارات من العصبونات الأخرى.
توجد مئات عديدة من أنواع العصبونات المختلفة، التي تتباين من حيث الهوية والوصلات التي تصنعها، رغم أن كثيرًا منها يبدو متشابهًا جدًّا (الشكل ٨-١). يَصدر عن العصبونات زوائد طويلة تمتد من جسم الخلية إلى الخارج، وهي تحتاج إلى إرشاد كي تعثر على أهدافها. ترسل العصبونات إشاراتٍ كهربائية (النبضة العصبية) عبر امتدادٍ (المحور العصبي) يمكن أن يمتد مسافة طويلة جدًّا، والذي يرسل إشارات للعضلات والعصبونات الأخرى. تتواصل العصبونات بعضها مع بعض ومع الخلايا المستهدفة الأخرى، مثل الخلايا العضلية، عند وصلات متخصصة معروفة باسم المشابك. يستقبل العصبون مدخلات من العصبونات الأخرى بواسطة الزوائد القصيرة الكثيرة التشعبات، وإذا كانت الإشارات قويةً بدرجة كافية لتنشيط العصبون؛ فهي تولِّد إشارة كهربائية جديدة — نبضة عصبية، أو دفعة لفعلٍ ما — في جسم الخلية، ثم تمر هذه الإشارة العصبية خلال المحور العصبي إلى أن تصل إلى نهايات المحور العصبي، أو نهاية العصب، التي تصنع مشبكًا مع عصبون آخر أو مع سطح خلية عضلية. يمكن لخلية عصبية واحدة في الجهاز العصبي المركزي استلام ما يصل إلى ١٠٠ ألف مُدخل مختلف. تتحول الإشارة الكهربائية إلى إشارة كيميائية، في صورة مُرسِل عصبي مثل الأستيل كولين، الذي يُفرز من النهاية العصبية ويؤثر على المستقبلات الموجودة في غشاء الخلية المقابلة لتوليد أو تثبيط إشارة كهربائية جديدة. يستطيع الجهاز العصبي العمل بشكل سليم فقط إذا كانت العصبونات متصلة بعضها ببعض بطريقة صحيحة؛ ومن ثَم يُثار في هذا الصدد تساؤل بشأن الكيفية التي تنمو بها الروابط بين العصبونات بالتخصص المناسب. يُقدَّر عدد العصبونات في دماغ الإنسان بنحو ١٠٠ مليار، وليس معروفًا كم منها لديه هويات متفردة أو متشابهة.
رغم كل التعقيد الذي عليه الجهاز العصبي فهو نتاج نفس نوع العمليات الخلوية والنمائية التي يخضع لها نمو الأعضاء الأخرى. يمكن تقسيم عملية النمو الإجمالية للجهاز العصبي إلى أربع مراحل رئيسية: تحديد هوية العصبون؛ نمو المحور العصبي وصولًا إلى هدفه؛ تكوين المشابك مع الخلايا المستهدفة — التي يمكن أن تَكُون عصبونات أخرى، أو عضلة أو خلية في غدة — وتحسين وصلات المشابك من خلال التخلص من فروع المحور العصبي وموت الخلايا (الشكل ٨-٢).
fig27
شكل ٨-٢: تُنشئ العصبونات وصلاتٍ دقيقة جدًّا مع أهدافها. تمتد المحاور وتنشئ وصلات كثيرة جدًّا يتم تحسينها بعد ذلك.

تتكون العصبونات في المنطقة التكاثرية من الأنبوب العصبي في الفقاريات؛ من خلايا جذعية عصبية متعددة القدرات ينشأ عنها أنواع مختلفة كثيرة من العصبونات والدبق العصبي. كان من المعتقد لسنين عديدة أنه لا يمكن توليد عصبونات جديدة في أدمغة الثدييات البالغة، ولكن ظهر أن ذلك أمر عادي الحدوث، وتم التعرف على خلايا جذعية عصبية في الثدييات البالغة يمكنها توليد عصبونات.

تقع العصبونات الحركية المستقبلية في الناحية البطنية، وتشكل الجذور البطنية للحبل الشوكي. وتنشأ عصبونات الجهاز العصبي الحسي من خلايا القمة العصبية. يَنتُج التنظيم الظهري-البطني للحبل الشوكي بواسطة إشارات بروتين القنفذ سونيك من المناطق البطنية مثل الحبل الظهري. يشكِّل بروتين القنفذ سونيك تدريجًا للنشاط من الناحية البطنية إلى الظهرية في الأنبوب العصبي، ويعمل كإشارة موضعية للتنميط البطني. بالإضافة إلى تنظيم العصبونات على طول المحور الظهري-البطني، تصبح العصبونات الموجودة في مواقع مختلفة على المحور الأمامي-الخلفي للحبل الشوكي متخصصة في أداء وظائف مختلفة. تمَّ التثبت من التخصص الأمامي-الخلفي للوظائف العصبونية في الحبل الشوكي بشكل جذري منذ حوالي ٤٠ سنة مضت من خلال تجاربَ استُزرع فيها الجزء من الحبل الشوكي الذي كان يغذي عصبيًّا في المعتاد عضلات الجناح من جنين فرخ، في المنطقة التي في العادة تغذي الساقين في جنين آخر. وقامت الفراخ التي نَمَتْ من الجنين المُستزرع تلقائيًّا بتنشيط كلتا الساقين معًا، كما لو كانت تحاول رفرفة أجنحتها، بدلًا من تنشيط كلِّ ساق بالتناوب كما لو كانت تسير. أوضحت هذه الدراسات أن العصبونات الحركية المتولدة عند مستوًى أمامي-خلفي معين في الحبل الشوكي لديها خواص ذاتية مميزة لهذا الموضع. يصبح الحبل الشوكي مُقسَّمًا إلى مناطق على طول المحور الأمامي-الخلفي بواسطة مجموعات من جينات هوكس المُعبَّر عنها. يحتوي الطرف النموذجي للفقاريات على أكثر من ٥٠ مجموعة عضلية يجب أن تتماسَّ معها العصبونات بنمط دقيق. تُعَبِّر عصبونات منفردة عن توليفات خاصة من جينات هوكس التي تحدد أي عضلة ستقوم بتغذيتها بالعصب. وهكذا بجمعهم معًا، فإن تعبير الجينات الناتجة من موضع ظهري-بطني مع تلك الناتجة من موضع أمامي-خلفي، يمنح هوية فريدة فعليًّا لمجموعات متمايزة وظيفيًّا من العصبونات في الحبل الشوكي.

يعتمد عمل الجهاز العصبي على تكوُّن دوائر عصبية، تقوم العصبونات فيها بعمل وصلات كثيرة ودقيقة بعضها مع بعض. ثمة سمة نمائية ينفرد بها الجهاز العصبي، وهي نمو وإرشاد المحاور العصبية، وهي امتدادات طويلة تخرج من جسم الخلية العصبية إلى هدفها النهائي. ثمة حدث مبكر يتمثل في امتداد المحور العصبي من العصبون، وهو ناتج عن مخروط النمو الواقع عند طرف المحور العصبي. يختص مخروط النمو بكلٍّ من الحركة واستشعار البيئة المحيطة بحثًا عن إشارات إرشادية. يستطيع مخروط النمو أن يمد ويقلص باستمرارٍ الأرجلَ الخيطية عند حافته الرائدة، بحيث يصنع ويقطع الوصلات مع الطبقة التحتية الأساسية كي يسحب طرف المحور العصبي إلى الأمام. ومن ثَم، فإن مخروط النمو يرشد نمو المحور العصبي، ويتأثر بالوصلات التي تصنعها الأرجل الخيطية مع الخلايا الأخرى ومع السطح الذي تتحرك عليه. وعلى وجه العموم، يتحرك مخروط النمو في الاتجاه الذي تصنع فيه الأرجل الخيطية أكثر الوصلات استقرارًا. في جنين الفرخ، عندما تدخل محاور العصبونات الحركية في برعم الطرف النامي، تكون كلها مختلطة في حزمة واحدة. ومع ذلك، عند قاعدة برعم الطرف تنفصل المحاور العصبية بعضها عن بعض. وحتى إن أجبرت حزم المحاور العصبية على الدخول في ترتيب عكسي؛ تكون العلاقة الصحيحة بين العصبونات الحركية قد تحققت. ومع ذلك، فالعديد من العصبونات الحركية لا تنشئ أي وصلات؛ ومن ثَم، كما سنرى، سوف تموت.

من المهام المعقدة للجهاز العصبي النامي ربط المستقبلات الحسية التي تستقبل الإشارات من العالم الخارجي مع أهدافها في الدماغ؛ مما يجعلنا نتفهَّم مغزى هذه الإشارات. من السمات المميزة لدماغ الفقاريات وجود خرائط طبوغرافية بحيث إن العصبونات الخاصة بإحدى مناطق الجهاز العصبي الحسي تُسقَط بطريقة منظمة على منطقة محددة من الدماغ. الإسقاط المنظم للغاية لعصبونات العين عن طريق العصب البصري على الدماغ يُعد أحد أفضل النماذج لدينا لتوضيح كيفية صُنْع الإسقاطات العصبونية الطبوغرافية. يوجد حوالي ١٢٦ مليون خلية فردية مستقبلة للضوء في شبكية العين البشرية، وكل خلية من تلك الخلايا تُسجِّل باستمرارٍ جزءًا صغيرًا جدًّا من مجال الرؤية الخاص بالعين؛ وهذه الإشارات يجب إرسالها إلى الدماغ بطريقة مُرتَّبة. تُنشِّط الخلايا المستقبِلةُ للضوء، بطريقة غير مباشرة، عصبوناتٍ منفردةً تَكُون المحاور العصبية الخاصة بها مغلَّفة معًا وتخرج من العين في شكل العصب البصري؛ بحيث يرسم العصب البصري — وهو يحتوي على أكثر من مليون عصبون — الخارج من كل عين بشرية خريطة شديدة التنظيم على منطقة محددة من الدماغ، هي الخيمة البصرية (الشكل ٨-٣). يحدث هذا بصحبة مراسلات عالية التنظيم بين أحد المواضع على الشبكية وآخر على الخيمة. يحمل كل عصبون شبكي علامة كيميائية تمكِّنه من أن يتصل اتصالًا مضمونًا بخلية مُعلمة كيميائيًّا مناسبة في الخيمة. ومن المعتقد أن التوزيع المكاني المُدرَّج لعدد صغير نسبيًّا من العوامل على خلايا الخيمة يقدم معلومات موضعية، من الممكن اكتشافها بواسطة المحاور العصبية الشبكية. والتعبير المكاني المُدرَّج لمجموعة أخرى من العوامل على المحاور العصبية الشبكية يمكن أن يقدم لها المعلومات الموضعية الخاصة بها. وبذلك يمكن لنمو الإسقاط من العين إلى الخيمة، من حيث المبدأ، أن ينتُج من التفاعل بين هذين التدريجين. هذه الخريطة تكون تقريبية؛ حيث تتصل المحاور العصبية من الخلايا المجاورة في الشبكية بمساحة كبيرة من الخيمة. يَنتج الضبط الدقيق للخريطة من انسحاب نهايات المحور العصبي من معظم الوصلات الأولية، ويتطلب نشاطًا عصبيًّا ناتجًا من الرؤية العادية. إذا أُديرت عين الضفدع ١٨٠ درجةً، تجد المحاورُ العصبية طريقَ العودة إلى الخيمة، ووقتها — بالنسبة إلى تلك العين — يصبح عالم الضفدع مقلوبًا رأسًا على عقب.
fig28
شكل ٨-٣: الوصلات العصبية بين الشبكية والخيمة البصرية في الضفدع؛ على سبيل المثال، يرتبط الحرف «ب» في الخيمة البصرية اليسرى بالحرف «ن» في الشبكية اليمنى.

موت العصبونات شائع جدًّا في الجهاز العصبي للفقاريات أثناء النمو؛ يتم إنتاج عدد كبير جدًّا من العصبونات في البداية؛ ولكن لا يبقى على قيد الحياة إلا تلك التي تنجح في عمل وصلات مناسبة. يتشكَّل حوالي ٢٠ ألف عصبون حركي في تلك القطعة من الحبل الشوكي التي تنشئ وصلات لعضلات رجْل الفرخ، ولكن يموت حوالي نصفها بعد تشكلها بفترة قصيرة. يعتمد بقاء العصبون الحركي حيًّا على إنشائه وصلات مع خلية عضلية. وبمجرد إنشاء الوصلة، يمكن للعصبون أن ينشط العضلة، ويتبع هذا موت نسبة من العصبونات الحركية الأخرى التي تقترب من الخلية العضلية وتفشل في عمل وصلة معها. وحتى بعد إتمام عمل الوصلات العصبية العضلية، فإن بعضها يتم التخلص منه في وقت لاحق. في المراحل المبكرة للنمو، تتصل الألياف المفردة للعضلة بواسطة المحاور العصبية بعدد من العصبونات الحركية المختلفة. وبمرور الوقت تُزال معظم هذه الوصلات، إلى أن تتم التغذية العصبية لكل ليفة عضلية بواسطة نهايات المحور العصبي الخاص بعصبون حركي واحد فقط. يرجع هذا إلى التنافس بين المشابك؛ حيث تزعزع المدخلاتُ الأقوى إلى الخليةِ المستهدفةِ، المدخلاتِ الأقلَ قوة لنفس الهدف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤