الفصل التاسع

النمو والسرطان والهرم

لا يتوقف النمو عند اكتمال الطور الجنيني؛ فمعظم النمو — ولكن ليس كله بأي حال من الأحوال — يَحدث في الحيوانات والنباتات بعد الفترة الجنينية، حين يكون الشكل والنمط الأساسيان قد تأسسا بالفعل. يتم التنميط الأساسي على نطاق صغير؛ على أبعاد أقل من الملِّيمتر. يستمر معظم النمو في الحيوانات بعد الولادة، وفي بعض الفقاريات مثل الثدييات تحدث نسبة كبيرة من النمو أثناء الفترة المتأخرة من المرحلة الجنينية، حينما يكون الجنين ما زال معتمدًا في موارده على الأم. يكون نمو الأجزاء المختلفة من الجسم غير موحد؛ حيث تنمو الأعضاء المختلفة بمعدلات مختلفة. بعد ٩ أسابيع من نمو الجنين، يكون رأس الجنين البشري أطول من ثلث طول الجنين بأكمله، في حين يبلغ حوالي ربع طول الجسم فقط عند الولادة. وبعد الولادة ينمو بقية الجسم بمعدل أسرع كثيرًا من الرأس، الذي يبلغ نحو ثُمن طول الجسم في الإنسان البالغ. في الحيوانات الثديية، بما في ذلك الإنسان، لا يكون تأثير نقص التغذية على الجنين فقط مباشرًا على نموِّه، ولكن يمكن أن تكون له آثار خطيرة على حياة الفرد البالغ أيضًا؛ مثل زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب أو السكتة الدماغية أو مرض السكري من النوع ٢.

من الممكن أن يكون النمو راجعًا إلى زيادة عدد الخلايا، أو كبر حجم الخلية دون انقسامٍ، أو إلى تراكم مواد خارج الخلية مثل المادة الخام للعظام التي تفرزها الخلايا. ويَحدث بعض النمو عن طريق مزيج من زيادة عدد الخلايا وحجمها؛ فعلى سبيل المثال، تُنتَج الخلايا الموجودة في عدسة العين بواسطة الانقسام الخلوي؛ بينما يتضمن تمايزها زيادة كبيرة في الحجم. يتحدد برنامج النمو — أيْ مقدار نمو الكائن الحي أو العضو المفرد واستجابته لعوامل مثل الهرمونات — في طور مبكر من النمو. وكما لاحظنا سابقًا، على خلاف حالة الحيوانات التي يكون فيها الجنين في الأساس نسخة مصغرة من اليرقة الحرة أو الحشرة البالغة، تحمل أجنَّة النبات شبهًا ضئيلًا بالنبات الكامل. يتحقق النمو في النبات عن طريق الانقسام الخلوي للنسيج الإنشائي والأعضاء الأولية، يتبعه زيادة غير قابلة للانعكاس في حجم الخلايا، تكون مسئولة عن معظم الزيادة في حجم النبات.

هرمون النمو ضروري لنمو الإنسان والثدييات الأخرى بعد الولادة. في خلال العام الأول للولادة تبدأ الغدة النخامية في إفراز هرمون النمو، وإذا لم يحصل الطفل على كمية كافية من هرمون النمو يكون نموه أقلَّ من الطبيعي، ولكن إذا أُعطي هرمون النمو بانتظام يتم استعادة النمو الطبيعي، وفي هذه الحالة، تحدث ظاهرة اللحاق؛ وهي الإسراع في الاستجابة الأولية لاستعادة المسار الأصلي لمنحنى النمو. يحدث النمو في الطول أثناء العام الأول بعد الولادة بمعدل يقرب من ٢ سنتيمتر شهريًّا، ثم ينخفض معدل النمو بشكل مطرد حتى بدء طفرة نمو المراهقة المميزة عند سن البلوغ؛ وهي تشمل النضج الجنسي عند سن ١١ عامًا تقريبًا للبنات و١٣ عامًا تقريبًا للأولاد. في حالة الأقزام لا يصاحب النضج الجنسي عند المراهقة هذه الطفرة في النمو؛ ومن هنا يأتي قِصر القامة المميزة لهم، وما زلنا نجهل التفسير الخلوي لذلك.

في الثدييات، لا تنقسم خلايا عضلة القلب والعصبونات مرة ثانية أبدًا بعد تمايزها، إلا أنها تكبر في الحجم. تنمو العصبونات بواسطة امتداد المحاور العصبية والزوائد الصغيرة وكبرها في الحجم، بينما يتضمن النمو العضلي ازدياد الكتلة، بالإضافة إلى اندماج الخلايا التابعة مع الألياف العضلية السابقة الوجود، لتقديم نَوًى إضافية لدعم الزيادة في الحجم. تعتمد الزيادة في طول ألياف العضلة على نمو العظام الطويلة التي تشد العضلات من خلال أوتارها. يمكن للمرء من ثَمَّ رؤيةُ كيف أن نمو العظام والعضلات عملية منسقة آليًّا.

تم اكتشاف العديد من بروتينات الإشارة خارج الخلوية التي بإمكانها تحفيز أو تثبيط التكاثر الخلوي؛ فبعض الخلايا يجب أن تتلقى إشارات، مثل عوامل النمو، ليس فقط من أجل الانقسام؛ ولكن أيضًا كي تبقى على قيد الحياة ببساطة. وفي غياب جميع عوامل النمو، تُقْدِم هذه الخلايا على الانتحار بالموت المبرمج؛ كنتيجة لتفعيل برنامج داخلي لموت الخلية. يَحدث عدد كبير من عمليات الموت الخلوي في جميع الأنسجة النامية، بحيث يكون معدل النمو الإجمالي معتمدًا على معدَّلَيْ كلٍّ من الموت الخلوي والتكاثر الخلوي.

يمكن تحديد حجم العضو في الفقاريات عن طريق كلٍّ من برامج النمو الداخلية والعوامل خارج الخلوية التي تحفز النمو أو تثبِّطه، لكن الأهمية النسبية لهاتَين الآليتين في الأعضاء المختلفة تتفاوت تفاوتًا كبيرًا؛ على سبيل المثال، الكبد لديه قدرة هائلة على التجدد في الجنين وفي الشخص البالغ، بينما لا يتمتع البنكرياس بهذه القدرة. فإذا تلف جزء من خلايا الكبد الطليعية في الجنين فإن الكبد الجنيني ينمو مرة أخرى إلى الحجم الطبيعي؛ مما يدل على أنها لا تنشأ من عدد ثابت من الخلايا الأصلية. يفرز الكبد بعض العوامل التي تحفز تكاثر الخلية وبعضًا آخر يمكنه إعاقة النمو. عندما يصل الكبد لحجم معين، يكون تركيز العوامل المثبطة في الدورة الدموية كافيًا لإيقاف النمو؛ وهذا مثال على التغذية الراجعة السلبية التي تحدد حجم العضو. وعلى النقيض من ذلك، إذا تلفت بعض الخلايا الأصلية للبنكرياس في جنين الفأر بعد تكون «البرعم» البنكرياسي؛ ينمو بنكرياس أصغر من الحجم الطبيعي. يبدو إذن أن حجم البنكرياس الجنيني يقع تحت سيطرة داخلية إلى حدٍّ كبير. تُعد الغدة الصعترية نموذجًا لعضو آخر لديه تحكُّم داخلي في النمو. عند زرع عدة غدد صعترية في جنين فأر نامٍ، تنمو كل غدة منها إلى الحجم الكامل. من الأمثلة التوضيحية الكلاسيكية لبرنامج النمو الداخلي، تجارب زرع برعم طرفي من نوع صغير في نوع أكبر من السمندل أو العكس (الشكل ٩-١). ينمو البرعم الطرفي للنوع الأكبر عند زرعه في نوع أصغر ببطء في البداية، ولكن في نهاية المطاف ينمو إلى حجمه الطبيعي الذي يكون أكبر بكثير من أي طرف في العائل.
fig29
شكل ٩-١: حجم الأطراف في السمندل يكون مبرمجًا وراثيًّا. عند زراعة برعم طرفي جنيني لنوع كبير الحجم من السمندل في جنينٍ لنوع أصغر حجمًا؛ ينمو طرف أكبر حجمًا من أطراف العائل.

لكل عنصر من العناصر الغضروفية في الطرف الجنيني برنامجُ نموٍّ خاصٌّ به. في جناح جنين الفرخ تكون العناصر الغضروفية الممثلة للعظام الطويلة — العضد والزند — متماثلةً في الحجم في البداية مع عناصر الرسغ، إلا أنه مع النمو يزداد العضد والزند في الطول عدة مرات مقارنةً بعظم الرسغ قبل أن يبدأ تشكُّل العظم. تتحدد برامج النمو هذه عند تنميط العناصر أوليًّا، وتتضمن كلًّا من تكاثر الخلايا وإفرازات المصفوفة خارج الخلوية.

أحد الجوانب المهمة المتعلقة بنموِّ ما بعد المرحلة الجنينية في الفقاريات، هو نمو العظام الطويلة للأطراف، مثل العضد والكُعْبُرة والزند. توضع هذه العظام الطويلة في البداية على صورة عناصر غضروفية ولها منطقتان داخليتان بالقرب من كل نهاية — صفائح النمو — يحدث فيهما النمو؛ وهذا النمو يجعل الطرف أطول بعدة مئات من المرات. تترتب الخلايا الغضروفية في صفائح النمو على صورة أعمدة، ويمكن تحديد مناطق مختلفة فيها. ويوجد في الموقع القريب من نهاية العظم منطقة ضيقة تحتوي على خلايا جذعية، تليها المنطقة التكاثرية لانقسام الخلايا، تليها منطقة النضج التي يزيد فيها حجم خلايا الغضروف، وفي النهاية توجد منطقة تموت فيها الخلايا الغضروفية ويستبدل بها العظم. يرجع تمدد العظم إلى انقسام الخلايا وزيادتها في الحجم، بينما تبقى صفيحة النمو بنفس الحجم. تنمو العظام المختلفة بمعدلات مختلفة، ومن الممكن أن يعكس هذا حجم منطقة التكاثر، ومعدل التكاثر، ودرجة الاتساع في صفيحة النمو. يمكن لهرمون النمو أن يحفز نمو العظام من خلال التأثير على صفائح النمو.

يتوقف نمو العظم عندما تتصلَّب صفيحة النمو متحوِّلةً إلى عظم، ويحدث هذا في أوقات مختلفة للعظام المختلفة. ويبدو أن توقيت توقف العظم عن النمو في الصفيحة العظمية هو أمر ذاتي في الصفيحة نفسها وليس راجعًا إلى تأثير الهرمونات، وقد يحدث توقف النمو بسبب أن الخلايا الجذعية الغضروفية لها قدرة محدودة على الانقسام. ونظرًا لتعقيد صفيحة النمو فمن المدهش أن ذراعينا الواقعَتين على جانبين متقابلين للجسم يمكنهما النمو لنحو ١٥ عامًا بشكل مستقلٍّ إحداهما عن الأخرى، ومع ذلك تكونان في النهاية متساويتين في الطول بدقة تصل إلى ٠٫٢٪، وما زلنا لا نفهم كيف تتحقق هذه الدقة.

أثبت القرص اليافع لجناح الذباب أنه نظام نموذجي مثير للاهتمام لدراسة كيفية تحديد حجم عضوٍ ما. عند تشكُّل قرص الجناح يكون محتويًا في البداية على حوالي ٤٠ خلية، وينمو طبيعيًّا في اليرقة إلى ما يقرب من ٥٠ ألف خلية. يحدث الانقسام الخلوي في جميع أنحاء القرص، ثم يتوقف بشكل منتظم عند الوصول للحجم الصحيح. لا يعتمد الحجم النهائي للجناح على عدد ثابت من الانقسامات الخلوية في القرص اليافع، أو الوصول إلى عدد محدد من الخلايا، عوضًا عن ذلك، يبدو أن الحجم النهائي تتحكم فيه آلية ترصد الحجم العام لقرص الجناح النامي وتُعدِّل الانقسام الخلوي وحجم الخلية وفقًا لذلك. أظهرت التجارب عدم وجود قيد يَحُد المقدار الذي يمكن أن تشكله خلية مفردة من الجناح؛ إذ يمكن للخلايا المنحدرة عن خلية واحدة أن تساهم في الجناح بمقدار يتراوح بين عُشر الجناح ونصفه. هناك منافسة تحدث بين الخلايا خلال النمو الطبيعي للجناح، ويصل الجناح إلى الحجم النهائي له عن طريق التوازن بين الانقسام الخلوي وانتحار الخلايا.

توجد أدلة على أن الحجم النهائي للأقراص اليافعة في الذباب، ومن ثَم أعضاء الذباب البالغ، ربما يقوم بتحديدها تدريجٌ جزيئيٌّ على القرص من الممكن أن يتكون كنتيجة لتنميط سابق. الفكرة الأساسية هي أنه عندما يكون القرص صغيرًا يكون التدريج شديدَ الانحدار، وهذا الانحدار بطريقةٍ ما يحفز النمو. وبنمو الأعضاء يصبح التدريج مسطَّحًا وينخفض النمو وفي النهاية يتوقف.

يولد الإنسان ولديه عدد محدد من الخلايا الدهنية، ويكون لدى الإناث عمومًا عدد أكبر مما لدى الذكور. يزداد عدد الخلايا الدهنية طوال المرحلة المتأخرة من الطفولة والمرحلة المبكرة من البلوغ، وبعد ذلك تبقى عادةً ثابتة، وتؤدي الزيادة في عددها إلى السمنة. وعلى الرغم من أن كثيرًا من حالات السمنة في الأطفال والكبار مرجعها الإفراط في تناول الطعام وعدم ممارسة الرياضة، فإن الخبرات الغذائية النمائية والخلفية الوراثية يمكن أن تُساهِمَا في ذلك أيضًا. ترتبط السمنة بالكثير من الأمراض في المراحل المتأخرة من الحياة، ومنها مرض السكري من النوع ٢، وأمراض القلب. السمنة تعني أمرين: وجود عدد أكبر من الخلايا الدهنية، وكذلك إفراط ترسب الدهون في هذه الخلايا؛ مما يزيد من أحجامها. وبعد تكوُّن الخلايا الدهنية في الجسم فإنها تبقى فيه مدى الحياة ونادرًا ما تموت. من الممكن للأشخاص ذوي الوزن الزائد وعدد الخلايا الدهنية الزائد أن يقلصوا حجم الخلايا ويفقدوا بعضًا من الوزن باتباع حِميَة غذائية وممارسة التمارين الرياضية، ولكن الخلايا الدهنية نفسها لا تختفي، وتظل على أقصى الاستعداد للبدء في تراكم الدهون الزائدة مرةً أخرى.

لا تنمو الحيوانات التي تمر بمرحلة يرقية في الحجم فقط، بل هي أيضًا تخضع لعمليةِ «تحوُّل»، تنتقل فيها اليرقة إلى الشكل البالغ. كثيرًا ما يتضمن التحول تغيرًا جذريًّا في الشكل ونمو أعضاء جديدة. عندما تصل يرقة الحشرة إلى طور معين فهي لا تنمو ولا تنسلخ مجددًا، ولكن تخضع لتحول جذري لتأخذ شكل الحشرة البالغة. يحدث التحول في العديد من المجموعات الحيوانية، وفي كلٍّ من الحشرات والبرمائيات تتحكم المنبهات البيئية، مثل التغذية والحرارة والضوء، وكذلك برنامج الحشرة النمائي الداخلي، في التحول من خلال تأثيرها على الخلايا المنتجة للهرمونات في الدماغ. يحفِّز هرمون الانسلاخ «إكديسون» التحول في يرقات الذباب. ويتغير التعبير الجيني لعدة مئات من الجينات على الأقل أثناء عملية التحول في الذباب.

السرطان

السرطان هو اختلال شديد في النمو الخلوي الطبيعي، وهو ينتج عن طفرات معينة في خلايا الجسم. إن إنشاء الأنسجة والحفاظ على تنظيمها يحتاج إلى تحكمٍ صارم في عمليات الانقسام الخلوي والتمايز والنمو. في حالة السرطان، تفلت الخلايا من هذه الضوابط، وتمضي قُدمًا على طول طريق النمو والهجرة الخارجَين عن السيطرة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى موت الكائن الحي. عادة ما يحدث تفاقُم من نموٍّ حميد موضعي إلى نمو خبيث تحدث فيه عملية انتقال للخلايا السرطانية إلى أجزاء عديدة من الجسم حيث تستمر في النمو، وهذه العملية تسمى «النقيلة». تنشأ السرطانات من خلية واحدة غير طبيعية بها عدة طفرات. يمثِّل انتقال الخلية الطافرة إلى خلية منتجة للورم عمليةً تطوريةً، وتشمل كلًّا من حدوث المزيد من الطفرات، وانتخاب الخلايا التي تتكاثر بسرعة أكبر. الخلايا الأكثر ترجيحًا للتسبب في السرطان هي تلك التي تنقسم باستمرار، مثل الخلايا الجذعية. ولأنها تُضاعِف الدنا الخاص بها كثيرًا، فهي أكثر عُرضة من غيرها من الخلايا لتراكم الطفرات الناتجة عن أخطاء في مضاعفة الدنا. وتقريبًا في كل حالات السرطان، وُجد أن الخلايا السرطانية بها طفرة في جين واحد أو أكثر، وعادة في كثير من الجينات. وقد تم تحديد جينات معينة يساهم حدوث طفرات بها في التسبب في السرطان لدى الإنسان والثدييات الأخرى. كما أن هناك جينات مثبطة للأورام يلزم تعطيل كلتا نسختيها أو حذفهما حتى تصبح الخلية سرطانية.

عند تضاعُف خلية حيوانية، فإنها تمر بسلسلة ثابتة من الأطوار تسمى «دورة الخلية»؛ حيث تنمو الخلية في الحجم، ويتضاعف الدنا، وتنفصل الكروموسومات المتضاعفة بعملية تسمَّى الانقسام الفتيلي، ثم تنقسم الخلية لتعطي خليتين وليدتين. عند دخول الخلية في هذه الدورة فإنها سوف تستمر حتى تكمل الدورة دون الحاجة إلى مزيد من الإشارات الخارجية. تُميَّز الانتقالات بين الأطوار المتتالية بواسطة علامات تحقق في دورة الخلية، وعندها ترصد الخلية التقدم لتتأكد، مثلًا، أن الحجم المناسب قد تم تحقيقه، وأن مضاعفة الدنا قد اكتملت، وأنه تم إصلاح أي ضرر بالدنا. وإذا لم يتم استيفاء هذه المعايير فإن التقدم نحو الطور التالي يتأخر حتى يتم استكمال كل العمليات الضرورية. وإذا عانت الخلية من تلفٍ لا يمكن إصلاحه فسوف تقف دورة الخلية وتموت الخلية نتيجة الانتحار الخلوي. ويشارك الجين p53 كابح الورم في عملية التحقق هذه.
يلعب الجين p53 كابح الورم دورًا أساسيًّا في منع نمو العديد من أنواع السرطان، وتحتوي حوالي نصف الأورام في الإنسان على شكلٍ طافرٍ من الجين p53. وعند تعرُّض الخلايا إلى العوامل التي تسبِّب تلف الدنا، حينئذٍ يتم تنشيط الجين p53 ويقوم بإيقاف دورة الخلية، معطيًا الخلية وقتًا لإصلاح الدنا؛ ومن ثَمَّ يمنع البروتينُ p53 الخليةَ من نسخ الدنا التالف وإنتاج خلايا طافرة. إذا كان التلف شديدًا جدًّا بحيث يستحيل إصلاحه، فسوف يتسبب الجين p53 في موت الخلية بالانتحار الخلوي. الأشكال الطافرة من الجين p53 التي وُجدت في العديد من أنواع السرطان لا تحفز الانتحار الخلوي؛ ولذلك تكون الخلايا المصابة أكثر عرضة لتراكم الطفرات.

من سمات السرطان الرئيسية فشل خلايا الورم في التمايز بشكل صحيح. معظم أنواع السرطانات — أكثر من ٨٥٪ — تحدث في الخلايا الجذعية في صفائح الخلايا مثل بطانة الأمعاء والرئتين؛ حيث يتم تجديد الخلايا باستمرار بواسطة انقسام الخلايا الجذعية وتمايزها. في العادة، تستمر الخلايا التي تتولَّد عن الخلايا الجذعية في الانقسام لوقت قصير حتى تخضع للتمايز، وعند ذلك يقف الانقسام. لكن على العكس من ذلك، تستمر الخلايا السرطانية في الانقسام — وإن لم يكن بسرعة أكبر بالضرورة — وتفشل في التمايز. سمة أخرى من سمات الخلايا السرطانية أنها بخلاف الخلايا النامية، عند انقسامها تكون غير مستقرة وراثيًّا مما يجعلها أكثر خبثًا؛ بحيث يكون اكتساب الكروموسومات أو فقدانها أمرًا شائعًا في الأورام الصلبة. ويمكن أيضًا رؤية فشل الخلايا السرطانية في التمايز بوضوح في أنواع معينة من سرطان خلايا الدم البيضاء. وتَحدث عدة أنواع من سرطان الدم بواسطة استمرار تكاثر الخلايا بدلًا من التمايز.

معظم حالات الوفاة الناجمة عن السرطان تنتج عن أورامٍ انتشرت من موقعها الأصلي إلى أنسجة أخرى، وهي عملية تسمَّى «النَّقيلة»، ومن خصائص النقيلة قدرة خلايا الورم على التغير من كونها ساكنة في صفيحة من الخلايا إلى كونها خلايا مهاجرة. إذا دخلت الخلايا المهاجرة إلى تيار الدم يمكنها أن تنتقل إلى مسافة بعيدة عن مصدرها. ويمكن أيضًا أن تجذب الأورامُ الأوعيةَ الدموية، وهو ما يمكِّنها من النمو بسهولة أكبر.

الهرم

معظم الكائنات الحية ليست خالدة، حتى لو أمكنها الهرب من المرض أو الحوادث؛ لأنه مع الهرم يتزايد تدهور الوظائف الفسيولوجية؛ مما يقلل من قدرة الجسم على التعامل مع مجموعة متنوعة من الضغوط، وتتزايد القابلية للإصابة بالأمراض؛ مما قد يؤدي إلى الموت. وبالرغم من أن الأفراد قد يختلفون في العمر الذي تظهر فيه جوانب معينة من الهرم، فإن تأثيره الكلي يتلخص في الاحتمال المتزايد لحدوث الوفاة في معظم الحيوانات. ولكنْ هناك قليل من الأدلة على أن الهرم يسبب الوفاة في البرية؛ فعلى سبيل المثال، يموت أكثر من ٩٠٪ من الفئران البرية خلال عامها الأول، قبل أن يؤثر فيها الهرم بعدة أعوام. ومع ذلك، يمكن أن تموت الفيلة في كبرها عندما تبلى أنيابها.

ليس الهرم جزءًا من البرنامج النمائي للكائن الحي، بل هو حصيلة تراكم الضرر في الخلايا بمرور الوقت، وفي النهاية ينزع قدرة الجسم على إصلاح نفسه؛ وبذلك يؤدي إلى فقدان وظائفه الأساسية؛ بمعنى أنه يحدث في الأساس نتيجة البلى والهدم. ومع ذلك، فمِن الأساسيات أن الخلايا الجنسية لا تهرم لأن ذلك من شأنه أن يمنع التكاثر. توجد أدلة واضحة على أن الهرم يقع تحت سيطرة العوامل الوراثية؛ حيث تهرم الحيوانات المختلفة بمعدلات تختلف اختلافًا شاسعًا، كما يتضح من فتراتها العمرية المختلفة؛ على سبيل المثال، يولد الفيل بعد ٢١ شهرًا من النمو الجنيني، وفي ذلك الوقت يُظهر علامات قليلة للغاية للهرم، إن وجدت أصلًا، بينما يكون الفأر ذو اﻟ ٢١ شهرًا قد دخل بالفعل في مرحلة منتصف العمر وبدأت علامات الشيخوخة تظهر عليه. يمكن فهم التحكم الوراثي في الهرم من منظور نظرية «الجسم الوحيد الاستعمال». تضع هذه النظرية الهرم في سياق التطور، وتقترح أن الانتخاب الطبيعي يضبط تاريخ حياة الكائن الحي بحيث يتم استثمار موارد كافية في صيانة آليات الإصلاح الخلوي التي تمنع الهرم، على الأقل حتى يتمكَّن الكائن الحي من التكاثر ورعاية الصغار. بعد ذلك يمكن التخلص من الكائن الحي؛ لأن التطور يهتم بالتكاثر فقط. تمتلك الخلايا آليات عديدة لتأخير الهرم، وهي تشبه كثيرًا الآليات المستخدمة في منع التحولات الخبيثة. تحمي هذه الآليات الخلوية الخلية من التلف الداخلي بواسطة المواد الكيميائية المتفاعلة، وتصلح التلف في الدنا بشكل روتيني، وهو ما يحدث باستمرار في الخلايا الحية حتى عندما لا تنخرط على نحو نشيط في عملية الانقسام.

ما زالت للحيوانات المستعملة، كنماذجَ لدراسةِ ما يحدِّد الهرم والمدى العمري، قيمةٌ لا تقدَّر بثمن، وهي تشمل الدودة الخيطية وذبابة الفاكهة، اللتين لهما أعمار قصيرة، والفأر. حتى الكائنات الوحيدة الخلية، مثل البكتيريا والخميرة، هي الأخرى تهرم؛ فالخلية الأم عند انقسامها تعطي خلايا وليدة أصغر حجمًا وأصغر سنًّا بشكل أساسي. حددت الدراسات الوراثية الجزيئية الحديثة مسارًا كيميائيًّا حيويًّا تطوريًّا محفوظًا، يلعب فيه عاملُ نموٍّ شبيهٌ بالأنسولين دورًا أساسيًّا في تنظيم المدى العمري للدودة الخيطية وذبابة الفاكهة والقوارض، ومن المحتمل في البشر. ويبدو أن الحد من نشاط هذا المسار يطيل من العمر ويحسِّن من مقاومة الإجهاد البيئي. يمكن للاختلافات داخل الجين FOXO3A — أسماء الجينات يمكن أن تكون شديدة الغرابة — أن تقلل نشاط هذا المسار، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطول العمر في الإنسان.

عام ١٩٦٥ اكتشف ليونارد هايفليك أن هناك حدًّا لعدد مرات الانقسام التي يمكن لخليةٍ أن تقوم به في مزرعة خلوية، وذلك عندما بيَّن أن خلايا جسم الإنسان العادية، مثل الخلايا الليفية، تنقسم ٥٢ مرة في المزرعة، ولكن يقل العدد عندما تؤخذ الخلايا من أفراد أكبر سنًّا. لا يوجد مثل هذا الحد لدى الخلايا الجنسية أو السرطانية أو خلايا الجنين الجذعية. وتفسير الانخفاض في عدد انقسامات خلايا الجسم في المزرعة مع التقدم في العمر يبدو أنه مرتبط بحقيقة أن المناطق غير المشفِّرة على القسيمات الطرفية الموجودة عند أطراف الكروموسومات، تصبح أقصر تدريجيًّا كلما انقسمت الخلايا. وإذا أصبح القسيم الطرفي قصيرًا جدًّا، لا تستطيع الخلية الانقسام. وهذا القِصر يرجع إلى غياب إنزيم التيلومريز، الذي يجعل القسيم الطرفي ينمو مرة أخرى إلى طوله الطبيعي بعد كل انقسام. من المعتاد أن يُعبَّر عن هذا الإنزيم فقط في الخلايا التي يجب ألا تهرم، مثل الخلايا الجنسية في الخصيتين والمبيضين وبعض الخلايا الجذعية المعينة في الفرد البالغ، مثل تلك التي تحل محل خلايا الجلد والمِعَى. هذا، وتحتوي جميع الخلايا السرطانية على إنزيم التيلومريز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤