الفصل الثالث

الإقليمية البشرية وحدودها

(١) مقدمة

استعرضتُ في الفصل السابق مجموعةً من المقاربات للإقليمية من بعض التخصصات المعرفية المهمة، وأشرت إلى النزعة الحديثة لتحرير الموضوع من قيود هذه الرؤى المتخصصة، وغاب عن ذلك البيانِ أيُّ مناقشةٍ للمعالجة المطوَّلة الأهم على نحوٍ استثنائيٍّ للموضوع، وهي كتاب روبرت ساك «الإقليمية البشرية: نظريتها وتاريخها» (١٩٨٦). ومن الإنصاف أن نقول إن كتاب «الإقليمية البشرية» ليس له مثيل في مجاله، ومحور تركيزه، وطموحه التحليلي، ويظل من أوجُهٍ عدةٍ لا نظيرَ له، بل إنه كان معتمَدًا على مدى أقل من ١٥ عامًا بعد نشره ﮐ «نص كلاسيكي» في الجغرافيا البشرية وإلهام إبداعي للباحثين اللاحقين (أجنيو ٢٠٠٠؛ باسي ٢٠٠٠ب). وخلافًا لمعظم الأعمال التي تناولتْ موضوع الإقليم من قبله، كان أسلوبُ تناوُل ساك متعدِّدَ الاختصاصات على نحوٍ قوي؛ إذ اعتمد على الأنثروبولوجيا، والاقتصاد، والتاريخ، والنظرية السياسية، وعلم الاجتماع ومجال تخصُّصه الأساسي وهو الجغرافيا البشرية. قد يكون من المهم أن نذكر أنه على الرغم من أن ساك قد وضع عمله وسط المجالات الفرعية للجغرافيا الاجتماعية والجغرافيا التاريخية، فإنه لم يفعل هذا فيما يتعلَّق بالجغرافيا السياسية، ذلك المجال الفرعي الذي كان حتى ذلك الوقت مَعْنِيًّا على نحوٍ محوريٍّ بقضايا الإقليم. ربما كان المقصود من ذلك إشارةً إلى التحرر، ولكن ربما أيضًا كان — كما سأناقش على نحوٍ أكثر استيفاءً فيما يلي — دلالةً على غيابٍ نسبيٍّ للاهتمام بالعنصر السياسي في كتاب «الإقليمية البشرية».

من بين مواطن القوة الأساسية لكتاب «الإقليمية البشرية» قابِليَّتُه الانسيابية للتطبيق على كل مستويات الواقع الاجتماعي، من الشخصي إلى الدولي. ثَمَّةَ سمة أخرى قد تكون بالنسبة إلى البعض مَوطِنَ قوة، ولكنها بالنسبة إلى البعض الآخر مَوطِنُ ضعف؛ هي حياديته الصريحة الواضحة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية. يُشتهَر الكتاب أيضًا بطابعه التاريخي العميق. والواقع أن كتاب «الإقليمية البشرية»، كما يشير العنوان الفرعي، يُعنَى بتدفُّق (أو توقُّف) الزمن تقريبًا مثلما يُعنَى بتنظيم الحيز الاجتماعي. يعرض كتاب «الإقليمية البشرية» عددًا من القصص التاريخية التي تستكشف استمراريات وتحولات الهياكل الإقليمية. ومن الموضوعات المهمة التي تنظم الكتاب الحداثةُ وتميُّزها في مقابل حقبة ما قبل الحداثة. وفيما يتعلق بهذا الموضوع، ومن خلال قراءة «الإقليمية البشرية» على مدى ٢٠ عامًا من العمل اللاحق على الموضوع، يندهش المرء من كمِّ ما طرأ عليها من تغيُّر. ومنذ وقت نشر «الإقليمية البشرية» مرورًا بفترة تسعينيات القرن العشرين، أخضعت الحداثة ذاتها لنوعية مختلفة تمامًا من التحليل؛ فبدأ باحثون من جميع العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية تقريبًا في تخيُّل الحداثة بطرقٍ «غير» حديثةٍ على نحوٍ مميَّز؛ إذ يتخيَّلونها وكأنَّ لها نهاية، إنْ لم تكن قد انتهَتْ بالفعل. وقراءة «الإقليمية البشرية» من خلال منشور الاهتمامات بحقبة ما بعد الحداثة (أو ضبابها، على حسب وجهة نظر الفرد) من شأنها الكشف عن عددٍ من الافتراضات والالتزامات بشأن العالم وبشأن المعرفة التي يستند إليها الكتاب.

في الصفحات التالية سوف أعرض أولًا نظرةً عامةً للكتاب فصلًا فصلًا. إن أي كتابٍ (بما في ذلك الكتاب الحالي) هو بالضرورة نتاجٌ لزمنه ومكانه والتزامات مؤلِّفه. وفي النصف الثاني من الفصل سوف أبحث هذه الجوانب السياقية، لا كقيودٍ أو مَواطنِ قصور، ولكن لمجرد الإشارة إلى بعضٍ من حدود «الإقليمية البشرية» مثلما تكشف عنها الصياغات اللاحقة للإقليم، كتلك التي نُوقِشت في الفصل السابق. وإذا كان كتاب «الإقليمية البشرية»، الصادر في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، إنجازًا منقطع النظير لمساعدته إيانا في رؤية الإقليم، والنظر حوله وبداخله، فإن الاجتهادات الأحدث تُمكِّننا من رؤية هذا المنظور ذاته في ضوء مختلف؛ فهي تتيح لنا التساؤل عمَّا يتصدَّر المشهد وما يقبع في الخلفية، وما هو في بؤرة التركيز وما هو مهمَّش في وصف ساك. وينبغي أن يكون غنيًّا عن القول أنَّ بحْثَ أيِّ عملٍ من داخل مجموعةٍ مختلفةٍ من الافتراضات لا يُشكِّل في حد ذاته نقدًا سلبيًّا، ما لم تتم مشاركة هذه الالتزامات البديلة؛ بل إن السمات التي قد تُعَدُّ نقائص، من وجهةِ نظرٍ ما، قد تكون هي ذاتها الميزاتِ الأساسيةَ التي تجعل عملًا ما ذا جدوى وصلةٍ مستمرتَيْن. سوف أقصر ملاحظاتي فقط على نص كتاب «الإقليمية البشرية»، ولن أتعقَّب التطوُّرات في إسهامات ساك اللاحقة والجوهرية في النظرية الجغرافية والاجتماعية والأخلاقية (سام ١٩٩٧، ٢٠٠٣). بعد ذلك سوف أبحث الكتاب في إطار أربعة موضوعاتٍ ظهرت كموضوعاتٍ أقل أو أكثر محوريةً لمناقشاتٍ أكثر حداثةً حول الإقليمية: طبيعة (طبائع) الحداثة، الخطاب والتمثيل، الهوية، السياسة. والسياسة، بالطبع، لا تُعَدُّ في حد ذاتها شاغلًا جديدًا في الفكر الاجتماعي، غير أن السياسة أصبحت تُفهَم الآن على نحوٍ مختلفٍ في ضوء التساؤلات حول الحداثة، والخطاب، والهوية؛ وهذه الأمور، بدورها، تنعكس على الكيفية المحتملة لفهم الإقليم. علاوةً على ذلك، إذا كان ثَمَّةَ نقدٌ عام واحد موجَّه إلى «الإقليمية البشرية»، فهو أنه في الوقت الذي يُعَدُّ فيه مفهومُ السلطة موضوعًا محوريًّا — بل تعريفيًّا — تكون السياسة بأي معنًى قويٍّ شبهَ غائبة.

(٢) نظرة عامة

يأخذنا ساك في مقدمته داخل مجال الإقليمية، فيكتب قائلًا: «إن المعرفة العلمية السابقة» حتى ذلك الوقت «لم تُسلِّط الضوء إلا على حدود تلك الإقليمية فقط» (ص١). وبالرغم من كون هذا هجومًا مبدئيًّا، فإنه لم يطلق أي ادِّعاء بأن كتاب «الإقليمية البشرية» يمكن أن يكون أكثر من «مسودة» ودعوة لمزيدٍ من الاستكشاف. وبينما يتجاوز الكتاب حدودَ الهدف المتواضِع المتمثِّل في تمهيد الطريق واستطلاعه، من المهم وضع هذا القيد المفروض ذاتيًّا عند دراستنا لاحقًا لموضوعات وقضايا قد أُغفِلت من النقاش. وتكمن خطوته الاستهلالية، على نحوٍ ملحوظ، في تمييز الإقليمية «البشرية» على نحوٍ قاطعٍ عن السلوك الإقليمي مثلما قد يُلاحَظ لدى الحيوانات غير البشرية (أو النباتات من هذا المنظور). وكما رأينا في الفصل الثاني، يُقدِّم بعض المؤلِّفين الفرضيةَ المضادة تمامًا. ومن ضمن السمات التي تجعل الإقليميةَ البشريةَ فريدةً من نوعها لدى ساك، بعضُ الخصائص التي يُعتقَد على نحوٍ شائعٍ أنها تجعلنا بشرًا على نحوٍ مميز، مثل القصدية، والتواصل المعقد، والطبيعة التاريخية ذات النهاية المفتوحة، وبناء المؤسسات، وما شابه؛ فالإقليمية بالنسبة إلينا ليست «مدفوعة بيولوجيًّا، بل متأصلة اجتماعيًّا وجغرافيًّا» (ص٢). وهذا ليس مجرد زعمٍ بشأن الأصول، بل هو في الأساس زعم بشأن التفسير. وعلى عكس النظريات التي تُشبه الإقليمية البشرية بالضرورات الغريزية أو البيولوجية، يرى ساك أن النظر «داخل» الإقليم يستتبع فحصه ودراسته داخل أُطُرٍ مرجعيةٍ اجتماعية، أو تاريخية، أو ثقافيةٍ محددة؛ أي إن مهمة ساك هي نزع الصفات الطبيعية عن الإقليم.

(٢-١) المعاني

يبدأ الفصل الأول، «معنى الإقليم»، في تفسير وشرح مجال نظرية ساك وتاريخه على نحوٍ أكثر استيفاءً عن طريق التناقضات التعريفية، ويبدأ بتعريفٍ تقريبيٍّ مبدئي. «الإقليمية بالنسبة إلى البشر استراتيجية فعالة للتحكُّم في الأشخاص والأشياء عن طريق التحكم في المساحة» (ص٥). إنه مفهوم علائقي بالضرورة؛ إذ يتعلَّق بتحكُّم الأشخاص في الأشخاص، وهو يرتبط على نحوٍ معقدٍ بالسلطة (التحكُّم). إنه مفهوم استراتيجي. وهكذا فإن من بين الأهداف الأساسية للكتاب «تحليل المزايا والمساوئ المحتملة التي يمكن أن تجلبها الإقليمية» (ص٥). وفي التعبير عنها على هذا النحو تبدو الإقليمية معنويةً فيما يتعلق بما إذا كانت المزايا والمساوئ تعود إلى الأشخاص المسيطرين أم إلى الأشخاص محل السيطرة. يطرح ساك أيضًا الموضوعات المهمة المتعلقة بالتاريخ والحداثة، فمن خلال مجموعةٍ من الدراسات الزمانية يوضح أن «بعض الآثار الإقليمية عامة؛ إذ تحدث في أي سياقٍ تاريخيٍّ وأي تنظيمٍ اجتماعي، والبعض الآخَر مقتصِر على فتراتٍ وتنظيماتٍ تاريخيةٍ معينة، وأن المجتمع الحديث فحسب هو الذي يميل إلى استغلال المجموعة الكاملة للآثار المحتملة» (ص٦). ومن بين مزايا استكشاف الإقليمية فيما يتعلق بالحداثة أنها يمكن أن «تساعدنا على كشف معاني وتداعيات الحداثة والدور المستقبلي للإقليمية» (ص٦). وعن طريق توضيح مركزية موضوع الحداثة، يتألف الفصل الأول من ثلاثة أمثلةٍ توضيحية؛ أما أولها، والأكثر تفصيلًا وإطنابًا، فيبحث التغيرات في استخدام الإقليم بين شعوب التشيبيوا بوسط أمريكا الشمالية (أو بالنسبة إليهم)، من حقبة ما قبل الاحتكاك (ما قبل الحداثة) خلال فترة الاحتكاك مع الأمريكيين الأوروبيين وغزوهم. وأما المثالان الثاني والثالث، فيتعاملان مع أمثلةٍ للإقليمية الجزئية في الحياة الحديثة؛ المنزل ومكان العمل.

تُشتَق العناصر الأساسية لاستخدامات التشيبيوا (إحدى القبائل الهندية الكبيرة في أمريكا الشمالية) للإقليمية، في مثال ساك، من عناصر البنية الاجتماعية واقتصاديات استخدام الموارد؛ فيصف التشيبيوا بأنهم لا يمتلكون بنيةً سياسيةً منظمةً تُشبه دولةً حديثة، ويتركز تنظيمهم الاجتماعي حول «طوائف» مستقلة، وهم منغمسون على نحوٍ كبيرٍ في أنشطة الصيد وجمع الثمار (وزراعة الكفاف في الجزء الجنوبي من منطقتهم) ومتساوون اجتماعيًّا. والمساواة هنا تُشير إلى غياب التقسيم الاقتصادي القائم على الطبقة الاجتماعية؛ أما المحاور الأخرى للامساواة، كتلك الخاصة بالسن أو النوع أو العشيرة، فلا تُوضَع في الاعتبار. فقد كان شعوب التشيبيوا في فترة ما قبل الاحتكاك «إقليميين إلى أدنى حدٍّ» (ص٧) بفهم ساك الخاص للكلمة.

تذبذبت المنطقة التي تشغلها شعوب التشيبيوا موسميًّا وعلى مدار السنين؛ فلم تكن إقليمًا محددًا على نحوٍ جليٍّ في مقابل الشعوب الأصلية، ولم يكن يوجد أيضًا أقلمة موسعة داخل مجتمعاتهم، حتى المساحاتُ المخصصةُ للحدائق «لم تكن أقاليمَ مُسيَّجةً ومحددةً تحديدًا واضحًا» (ص٨). ويجب التنويه إلى أنه في ضوء التعقيد المحيط بأي نظامٍ اجتماعي، ربما كان يوجد جوانب للإقليمية لم ينتبه إليها ساك. ومع ذلك، تساعد هذه الرؤية للتنظيم الاجتماعي على تخيُّل العمليات التي قد تتشكَّل بها تعبيراتٌ أكثر — أو مختلفة — للإقليمية؛ ففي تجربةٍ فكريةٍ يُقدِّم ساك التغيرات التي تنشأ داخل وخارج البنية الاجتماعية لحياة التشيبيوا، مثل ندرة الموارد بالنسبة إلى الصيادين أو ازدياد التركيز على الزراعة، التي قد تخلق ظروفًا قد يجد بموجبها بعضُ الناس أن من «الملائم» إحاطةَ الحقول بالأسوار، على سبيل المثال، أو استخدام الإقليمية على نحوٍ أكثر كثافةً؛ أو أن زيادةً متخيَّلةً في السكان تُسفِر عن الازدحام قد تؤدِّي إلى قواعدَ أكثر صرامةً فيما يتعلَّق بتخصيص المساحات الخاصة بالحدائق. ويتقدَّم بالأمر قليلًا فيطلب ساك من القارئ أن يتخيَّل أنه، تحت ظروفٍ كهذه، «يمكن أن تخرج عائلة حاكمة مدَّعية حقها في استغلال بعض أو كل موارد المجتمع» (ص٩). تحت هذه الظروف من تزايُد التدرُّج الهرمي أو التصنيف الطبقي، «تكون الإقليمية آليةً نافعةً إلى أقصى الحدود للتأثير على ادِّعاءات العائلة الحاكمة» (ص٩). والفكرة الأساسية وراء هذا التدريب التخيُّلي هي تعزيز الفكرة الأساسية المتمثِّلة في أن الحياة الاجتماعية والبنية الاجتماعية لا يمكن فصلهما عن الإقليمية. والواقع أنه بينما انطبَقَ هذا النموذج على شعوبٍ أخرى في حقبةِ ما بعد الحداثة، كان الأمر الأهم للتشيبيوا، وكذا لشعوب العالم الأصلية الأخرى، هو توافُد غرباء يحملون أفكارًا غريبةً عن الإقليم، وعن التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة.

جاءت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي كان منشؤها في أوروبا، أو مستعمراتها على ساحل الأطلنطي، أو في المكسيك، في البداية بطريقةٍ غير مباشِرةٍ نوعًا ما؛ فقد أدَّى دخول الخيول والأمراض والشعوب الأصلية القادمة من الشرق والمشتغلة في صيد حيوانات الفراء لصالح السوق الأوروبية، وجماعة المستكشفين؛ إلى جلب تحوُّلاتٍ وتغيُّراتٍ عميقةٍ على حياة التشيبيوا. ولم تكن هذه العوامل الوسيطة تحترم إقليمية شعب التشيبيوا على نحوٍ واضح. وينحصر تخمين ساك هنا فيما إذا كانت هذه التغيرات قد أثارت إحساسًا متزايدًا بالملكية والسيطرة على مناطق الصيد. وبالنظر إلى أن شعوب الشرق الأصلية نفسها قد أُرغِمت على النزوح غربًا بفعل الاستكشاف والاستيطان الأوروبي، حدثت تغيُّرات أخرى كان لها تأثير على الإقليمية. ومما كان في منتهى الأهمية الطرق المختلفة التي «تخيَّلَ» بها مواطنو الشرق العصريون الإقليمَ. وكما نعلم جميعًا، كان يوجد تخيُّل أن الأرض التي أصبحت فيما بعدُ «أمريكا» قد «اكتُشِفت» بواسطة الأوروبيين. وعلى الرغم من أن الآخرين لم تكن لديهم أي فكرةٍ عن أنهم كانوا رهن الاكتشاف، فقد ادَّعَى العصريون في «عصر الاكتشاف» امتلاك ما لم يرَوْه قطُّ، أو حتى لم يكن لديهم مبررات للمعرفة بوجوده. وقد وُثِّقت ادِّعاءات الملكية والسيادة بواسطة حكَّام الدول الأوروبية فيما يتعلَّق أحدهم بالآخر، وليس، كما في البداية، فيما يتعلَّق بالشعوب الأصلية، الذين يُعرَفون الآن على نحوٍ جماعيٍّ ﺑ «الهنود». ومن هذه «الادِّعاءات» آلَتِ «المِنَح» للمستعمرين، ومن هذه المنح آلَتْ مِنَحٌ فرعيةٌ أخرى للمضاربين والمستوطنين. ومرةً أخرى، كانت هذه الادِّعاءات الإقليمية نسبيةً للمضاربين والمستوطنين، وربما كان هذا الأسلوب الجديد لأقلمة العوالم الحياتية لشعب التشيبيوا (وشعوب أخرى عديدة) سيظل خياليًّا أكثر منه واقعيًّا لولا الطرق التي فُرِضت بها هذه المفاهيم المؤقلمة ﻟ «السيادة» و«الملكية» على الشعوب الأصلية. ويكتب ساك أنه «بِجرَّة قلم، كان الأمريكيون المنحدرون من أصولٍ أوروبيةٍ يُصنِّفون الناس، ويُقسِّمونهم، ويتحكمون بهم، بمَن فيهم التشيبيوا، استنادًا إلى موقعهم داخل الحيز فقط» (ص١١). ولكن قد نلاحظ أن القلم لم يكن حاسمًا في ذلك بقدر بنادق المسكيت والسلع التجارية المصابة بعدوى الجدري. وفيما يتعلَّق بتغيُّرات الإقليم، يُشدِّد ساك على عمليات وممارسات المسح والتقسيم والتقسيم الفرعي وخصخصة الأرض، إلى جانب تأسيس الأقاليم السياسية المحلية والحكومية والقومية باعتبارها الأكثر أهميةً. وفي غضون فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا كان أثر نوعيةٍ مختلفةٍ تمامًا من الإقليمية قد طُبِع على هذا الجزء من العالم.

ومن أجل توضيحٍ أقوى للتناقض بين الممارسات الإقليمية الحداثية وما قبل الحداثية، يصحبنا ساك إلى منزلٍ ومكانِ عملٍ معاصِرَيْن خياليَّيْن في ويسكونسن، التي تُعَدُّ جزءًا من مَوطِن التشيبيوا. وبينما لا يوجد تطابُق من الناحية العِرْقية بين الناس الذين نقابلهم هنا، فإنه لا يوجد سببٌ لافتراض أن بعضًا منهم، على الأقل، ليسوا من التشيبيوا أنفسهم. في المثال الأول يقوم أب يجلس بالمنزل بأعمال البيت، بينما يحاول طفلاه الصغيران «المساعدة» بغَسْل الصحون، وهي المهمة التي تتجاوز قدراتِهما على نحوٍ واضح. وفي ظل إدراكه نِيَّتَهما الطيبة وكذا عدم كفاءتهما — وتقديره لسلامة الآنية والصحون — يرى أنَّ لديه اختيارين؛ بإمكانه أن يشرح لهما لماذا ينبغي ألَّا يفعلا ذلك، أو يمكنه ببساطةٍ أن يعلن أن المطبخ «منطقة محظورة». ويُمثِّل الاختيار الثاني الإقليميةَ كتأكيدٍ للسيطرة على مساحةٍ ما. كذلك يوضِّح هذا المثال حقيقةَ أن مكانًا ما «يمكن أن يكون إقليمًا في فترةٍ ما دون الأخرى» (ص١٦)؛ فقبل صدور الأمر الأبوي كان المطبخ مجرد غرفة، أما الآن، وبعد أن أصبح مشمولًا بحظر، فهو إقليم. (غير أنك قد تتخيَّل استراتيجياتٍ إقليميةً أخرى أكثر صرامةً، مثل حبس الطفلين في حجرةٍ صغيرة، أو طردهما إلى الشارع.) وعلى الرغم من أن جزءًا من هذا المثال التوضيحي هو المقارنة بين الحداثي وما قبل الحداثي، فبمقدورك أن تتخيَّل آباء التشيبيوا في حقبةِ ما قبل الاحتكاك يأمرون أبناءَهم بالابتعاد عن حيزٍ ما ذي حدودٍ واضحة.

يصف المثال الأخير في الفصل الأول مكانَ عملٍ يُلزَم فيه السكرتير بالبقاء في «وحدة العمل» المخصصة له. ربما تكون لديه الحرية في التنقُّل من آنٍ لآخَر عبر الأروقة، أو دخول غرفة تناوُل القهوة أو الغرفة المخصصة للرجال (والمهاجع)، ولكن ليست لديه الحرية لدخول المكاتب. ولو أنه أساء استغلال امتيازات التحرُّك المخوَّلة له، لِنَقُلْ، بالتسكُّع في غرفة البريد، لَكان من الممكن أن يتعرَّض لعقوبةٍ إقليميةٍ صارمة؛ تتمثَّل في فصله من مكان العمل بإنهاء خدمته. «إن الإقليمية بالنسبة إلى السكرتير تُعَدُّ بمنزلة قيدٍ مادي» (ص١٧)؛ فبعد الساعة الخامسة يُصبح المبنى، فعليًّا، منطقةً محظورةً لمعظم العاملين، غير أن الحارس قد يكون له حق الدخول إلى كل غرفةٍ في المبنى. ولكن قد تتخيَّل هنا أن الأقاليم الجزئية لأدراج المكاتب والأظرف تظل خارجَ نطاق عتبة الاستكشاف؛ ويُعَدُّ هذا، من أوجُهٍ عدة، تشكيلًا إقليميًّا حديثًا نموذجيًّا تتحدَّد فيه حريةُ الدخول بالرجوع إلى مجموعةٍ من الأدوار والقواعد، ومفاهيم الملكية والسلطة، ومفاهيم محددة ثقافيًّا للزمن المتري.

يُختتَم الفصل الأول بتعريفٍ أكثر استيفاءً للإقليمية: «محاولة فردٍ أو مجموعةٍ التأثيرَ على الناس، والظواهر والعلاقات أو التحكم بها، عن طريق تحديدِ وتأكيدِ السيطرة على مساحةٍ جغرافيةٍ ما» (ص١٩). وهنا أيضًا يُميز ساك الإقليم عن المفاهيم المتصلة به الخاصة ﺑ «المكان» و«المنطقة»، ويُشير إلى الفروق الدقيقة في مفهومه؛ فيشير، على سبيل المثال، إلى أن الأقاليم يمكن أن تتغير ويمكن أن تظهر بدرجات؛ فنجد أن «سجنًا على أعلى درجةٍ من التأمين أكثرُ إقليميةً من زنزانةٍ في سجنٍ إقليمي، يكون بدوره أكثرَ إقليميةً من غرفةٍ في منزلٍ في مركزٍ لتأهيل السجناء» (ص٢٠). يبدو أن قوة الإقليم هي إحدى وظائف قوة السيطرة أو السلطة.

(٢-٢) النظرية

يُعَدُّ الفصل الثاني، وهو بعنوان «النظرية»، هو الجزءَ الأكثرَ أصالةً ونفعًا من هذا الكتاب؛ فهذا الجزء، الذي يُعَدُّ إطارًا تحليليًّا أكثر منه نظريةً في حد ذاته، يعمل كدليلٍ مجاليٍّ أو «مرشد» لرؤية نتائج أو عواقب العمليات الإقليمية. ومرةً أخرى يتأسَّس الإطار بطريقةٍ معينةٍ بحيث لا يتقيَّد بأنواعٍ معينةٍ من الإقليم مثل الدول القومية، أو الغرف، أو الدوائر الانتخابية. كذلك يتصل معنى «النظرية» بحيادية ساك الصريحة فيما يتعلَّق بالنظريات الاجتماعية الأخرى، التي كانت بارزةً آنذاك، خاصةً تفسيرات فيبر للتنظيم الحديث والماركسية الجديدة. ويعرض ساك نظريته كنظريةٍ «تجريبية ومنطقية» (ص٢٨)، ويعقد قياساتٍ تمثيليةً تجريبيةً مع التنظير في العلوم الاجتماعية؛ ولكنْ نظرًا لأن آثار الإقليمية «تتعلق بالأشخاص، وليس بالذرات، فإن المُسمَّى الأكثر ملاءمةً لها هو «أسباب» أو دوافع محتملة، أو «عواقب أو نتائج» محتملة، للإقليمية» (ص٢٨). وهذا مهم ليس فقط من أجل مهمة إزالة الصفات الطبيعية عن الإقليمية البشرية، ولكن أيضًا — كما سأناقش لاحقًا — من أجل تبرير الافتراضات التي تُوضَع بشأن البشر، لا سيما مَيْلنا العقلاني المؤثر نحو العالم، ومَيْل أحدنا نحو الآخَر. ومما يُمثِّل أهميةً أيضًا اعترافُه بأنه في الوقت الذي قد يشير فيه ضمنًا وقوعُ هذا السلوك الإقليمي أو ذاك إلى المعيارية أو إلى قضايا أخلاقية، فإن الإقليمية «في حد ذاتها» محايدة معياريًّا؛ فمن الممكن استخدامها لأهدافٍ (أسباب) خبيثة، أو حميدة، أو محايدةٍ أخلاقيًّا. إذًا فلا بد أيضًا أن تُجاهِد النظرية من أجل الحفاظ على الحيادية الأخلاقية والسياسية والأيديولوجية. «إن النظرية ذاتها لن تُقدِّم إجراءاتٍ يمكن بمقتضاها الحُكم على فعلٍ ما، استنادًا إلى حيثياته، بأنه جيد أو سيئ» (ص٣١). وهذا بالطبع ليس من شأنه أن يمنع المرء من تطبيق إطار ساك من أجل تفسير أو تطوير المزاعم المعيارية.

تتألف «البنية الذرية» (ص٢٩) للإقليمية من ١٠ «ميول» و١٤ «مجموعة أساسية» من الميول يُنظَر إليها بوصفها نتائج محتملة للاستراتيجية، وأيُّ مثالٍ للإقليمية يمكن تحليله فيما يتعلَّق بوجود أو غياب هذه المكونات أو أهميتها النسبية. وقد قدَّمت الميول الثلاثة الأولى بالفعل؛ فهي جزء من التعريف: التصنيف وفقًا للمنطقة، والتواصل، وفرض السيطرة. وتعطى الميول أرقامًا من أجل وضوح العرض. والميول التعريفية (١، ٢، ٣) موجودة دومًا، أما الميول السبعة «المحتملة» (٤–١٠)، فهي أكثر عرضيةً.
  • (١)

    في تفصيله بشأن «التصنيف وفقًا للمنطقة» يؤكِّد ساك على مميزات إعلان منطقةٍ ما محظورة مقارَنةً بحصر جميع الأشياء داخل الإقليم المحظور الوصول إليها. وهكذا يمكن أن تكون الإقليمية استراتيجيةً تعميمية؛ ومن ثَمَّ قد تكون استراتيجيةً أكثرَ ملاءمةً أو فاعليةً للاستخدام. بالطبع، كما سنرى، يتعلَّق التصنيف وفقًا للمنطقة بما هو أكثر بكثيرٍ من إقامة مناطق «ممنوعة» أو حظر الوصول إلى الأشياء الموجودة داخل الحيز.

  • (٢)

    ثَمَّةَ مَيْل أو «سبب» أساسي ثانٍ للتصرف على نحوٍ إقليمي، هو أنه من خلال استخدام الحدود، يصبح «التواصل» أكثر سهولةً.

  • (٣)

    «يمكن أن تكون الإقليمية هي الاستراتيجية الأكثر فاعليةً في «فرض» السيطرة» (ص٣٢). مرةً أخرى، ينصَبُّ التركيز على مميزات الاستراتيجيات الإقليمية على الاستراتيجيات غير الإقليمية في تفعيل الوصول إلى الأشياء أو الموارد. والمثير في الأمر أنه بالنظر إلى دوافع ساك الواضحة المناهِضة للتطبيع، تُشير الأمثلة المستخدَمة في توضيح هذا المَيْل إلى السلوك الحيواني وليس الأشكال البشرية للسلطة.

  • (٤)

    «تُوفِّر الإقليمية وسيلةً «للتجسيد المادي» للسلطة» (ص٣٢). فحيث إن السلطة الاجتماعية لا تكون مرئيةً أو محسوسةً دائمًا، قد يكون من آثار الإقليمية جعْلها تبدو على هذا النحو؛ فالإقليم، من خلال علاماته المادية الدالة عليه مثل الأسوار والبوابات وحرس الحدود وما إلى ذلك، يمنح بعضَ أشكالِ السلطة مرجعًا ماديًّا في العالم.

  • (٥)

    «يمكن استخدام الإقليم من أجل «إزاحة» الانتباه عن العلاقة بين المسيطِر والمُسيطَر عليه» (ص٣٣). ومثل المَيْل نحو التجسيد المادي، قد يكون من تأثير هذا المَيْل التعتيم على الجوانب الاجتماعية للسلطة.

  • (٦)

    على نحوٍ متصل، «يساعد الإقليم على جعْل العلاقات «مجردة»» (ص٣٣)، من خلال تقنية تطبيق القواعد على الأماكن (والأدوار الاجتماعية). وتحت بعض الظروف يمكن أن يؤدِّيَ الإقليم إلى إضفاء الغموض على العلاقات الشخصية. ويضرب ساك مثالًا لحارسِ سجنٍ مسئولٍ عن السجناء في مجموعةٍ بعينها من الزنزانات بصرف النظر عن هُوِيَّاتهم، وليس عن كل سجينٍ كفردٍ مهما كان مكانه. بالمثل، عادةً ما تتحدَّد العضوية (والحقوق) في مجتمعٍ سياسيٍّ ما بمحل الإقامة داخل إقليمٍ ما.

  • (٧)

    يُحدِّد ساك «وظيفةَ إجلاء المكان» للإقليم، ويُعَدُّ هذا ادِّعاءً خفيًّا (أو غامضًا) نوعًا ما. وفيما يبدو أن ما يشار إليه هو أنه في ظل بعض الظروف يمكن أن يبدوَ الإقليم «وسيلةً عامة، ومحايدة، وأساسيةً يقام بها مكانٌ ما» (ص٣٣). ومثاله على ذلك حقوق الملكية في الأرض.

  • (٨)

    «تعمل الإقليمية (أو ربما لمزيدٍ من الدقة: الإقليم) بمنزلة حاويةٍ أو قالبٍ للخصائص المكانية للأحداث» (ص٣٣). ووظيفةُ هذه الحاوية (أو حتى وظيفتها «الظاهرية») شديدةُ الأهمية لتحديد نطاق ظواهر مثل السلطة السياسية والسيادة والحقوق والمسئوليات، كما أنها تلعب دورًا مهمًّا في وضع تعريفات مكانية للهوية.

  • (٩)

    الإقليمية، في ظل ظروفٍ معينة، لا سيما تلك المرتبطة بالحداثة، «تساعد على خلق فكرة «الحيز القابل للإخلاء اجتماعيًّا»» (ص٣٣)؛ أيْ إن تصوُّر أجزاءٍ من الحيز الاجتماعي كأقاليم أو حاويات مكانية من شأنه تيسير إمكانية وضع تصوُّرات لهذه الأجزاء باعتبارها أجزاءً «ممتلئة» أو «خاوية»؛ ومن ثَمَّ فإن مساحةً شاغرةً أو «منطقة مشاع»، بينما لا تكون خاليةً من المحتويات المادية بالمعنى الحرفي للكلمة، يمكن النظر إليها على هذا النحو، وهذه التصوُّرات يمكن، بدورها، أن تُشكِّل السلوك.

  • (١٠)

    الأقاليم تكاثرية. «الإقليم يمكن أن يساعد على توليد مزيدٍ من الإقليمية» (ص٣٤). وهذا التأثير التكاثُري — الذي يتحقَّق، لنقل، من خلال التشعُّب أو الدمج — مهمٌّ على نحوٍ خاصٍّ فيما يتعلَّق بالتشكيل الإقليمي للتسلسلات الهرمية.

تُمثِّل هذه «الميول» العشرة المقدَّمة هنا في شكل قائمةٍ كما في كتاب «الإقليمية البشرية»، نتائجَ مهمة؛ البعضُ منها واضحٌ نوعًا ما، بل تعريفي، والبعض الآخَر يُعبِّر عن رؤًى استبصاريةٍ أحدث لآليات الإقليمية. وكلٌّ منها مجردٌ وخفيٌّ نوعًا ما. وهذا التجريد يُعَدُّ ميزةً وأساسًا لنفعية النظرية، وكلٌّ منها يُنظَر إليه كموردٍ أساسيٍّ يجري بواسطته تحليل العواقب المحتملة للإقليمية في أي سياقٍ اجتماعيٍّ نُواجِهه أيًّا ما كان. أما الخطوة التالية في النظرية، فهي دراسة مجموعةٍ صغيرةٍ من توافُقاتٍ (مجردة بالقدر نفسه) من هذه الميول من أجل رؤيةٍ أوضح للتفاصيل الأدق للإقليمية.

توافقات أساسية

من خلال تفسير ما يعتبره ساك «توافقات أساسية»، يَلفت انتباهنا إلى بعضٍ من «العلاقات المتبادلة المنطقية بين الميول» الأكثر أهميةً (ص٣٤) ونتائجها أو استخداماتها العملية. وبقدر أهمية القصدية للإقليم كاستراتيجية، يُلاحَظ أن بعضًا من نتائج هذه التوافقات الأساسية (أو أيٍّ منها في موقفٍ معين) قد يكون غير مقصودٍ من وجهة نظر المسيطر. ومثل الميول العشرة، تُعرَض التوافُقات الأساسية الأربعة عشر في شكل قائمة، ومُعرفة كما يلي:
  • (أ)

    جميع الميول يمكن أن تدخل في تكوين «التسلسلات الهرمية المعقدة»؛ على سبيل المثال: التصنيف (١)، والتواصل (٢)، وفرض السيطرة (٣)، والعلاقات المجردة (٦)، والقولبة (٨)؛ «يمكن أن تراعيَ الدائرة الهرمية المتدرجة للمعرفة والمسئولية، وللعلاقات المجردة وقنوات التواصُل المحدودة، التي تُعَدُّ جميعًا مكوناتٍ أساسيةً للبيروقراطية» (ص٣٦). وبالنظر إلى الوجود المطلق للمؤسسات البيروقراطية في الحياة الحديثة — من الهياكل السياسية إلى أماكن العمل، والمؤسسات الدينية، والمدارس — فإن هذا يشير إلى أن الإقليمية أكثر تغلغلًا وانتشارًا على نحوٍ شاسعٍ مما كان الباحثون يفترضون حتى ذلك الحين.

  • (ب)

    تؤثر إقليمية المؤسسات الهرمية المعقَّدة على «توزيع المعرفة والمسئولية داخلها»، وكذلك تُيسِّر تقسيم وظائف التخطيط القصير الأجل والطويل الأجل. وعمومًا، كلما ارتفع «مستوى» السلطة داخل مؤسسةٍ ما، اتسع النطاق المكاني للمعرفة والمسئولية. والمستويات الأعلى تفترض مهامَّ تخطيطٍ طويل الأجل، والمستويات الأدنى قد تُنفذ هذه المهام فحسب.

  • (جـ)

    في «المستويات العليا لتسلسُلٍ هرميٍّ ما» (ص٣٦) قد تُستخدم الأقاليم لتحديد علاقات المرءوسين من خلال استخدام التصنيف (١)، والفرض (٣)، والقولبة (٨)، والعلاقات المجردة (٦). وفي هذا المقام يُميِّز ساك بين «التعريفات الإقليمية للعلاقات الاجتماعية» (كما في المجتمعات السياسية الحديثة)، وبين «التعريفات الاجتماعية للعلاقات الإقليمية» (كما في مثال التشيبيوا في حقبةِ ما قبل الحداثة).

  • (د)

    بالنظر إلى العلاقة بين الإقليمية الهرمية والمَيْل إلى تطوير دائرة المعرفة، فإن من بين النتائج المترتبة حدوثَ زيادةٍ في كفاءة الإشراف على المرءوسين. وفي هذا المقام يُقدِّم ساك مثالًا توضيحيًّا آخَر يتعلَّق بالسجناء والحرس: «تقييد تحركات السجناء بوضعهم في زنزاناتهم يُسهِّل مهمةَ الإشراف عليهم عمَّا إذا سُمِح لهم بالتجوُّل بحريةٍ داخلَ السجن» (ص٣٧).

  • (هـ)

    ثَمَّةَ مجموعة أساسية أخرى تتعلق بالتغيير، وهي تلك التي تُولِّد إحساسًا ﺑ «الحيز القابل للإخلاء مفاهيميًّا». «إن العلم، والتكنولوجيا، والرأسمالية تجعل فكرةَ تكرار وفعالية «الإشغال» و«الإخلاء» ونقل الأشياء داخل الأقاليم من جميع المستويات فكرةً عملية. والإقليمية تعمل بمنزلة آليةٍ لجعْل الحيز قابلًا للإخلاء والإشغال» (ص٣٧-٣٨). ويُعَدُّ التجريد من العناصر المهمة لهذه القدرة على إعادة التخيُّل.

  • (و)

    إن إمكانية اتخاذ الأقاليم ما يُطلِق عليه ساك خصائصَ سحريةً، تنبع من توافُقٍ بين ميول التجسيد المادي (٤) والإزاحة (٥). لعل من الطرق الأخرى للتعبير عن هذا هو القول بأن الأقاليم يمكن أن تتجلَّى في تعمية السلطة؛ ففي سياق حديثٍ ما، يكون «الإقليم مظهرًا ماديًّا لسلطة الدولة، ولكن الولاء للإقليم أو الموطن يجعل الإقليم يبدو مصدرًا للسلطة» (ص٣٨).

  • (ز)

    قد ينجم تأثير كلٍّ من التباين والتأثير الجانبي عن تعيين حدود المعرفة والمسئولية على نحوٍ خاطئ (تحقيقًا لأغراض المسيطر). وتبدو هذه التأثيرات عواقبَ غير مقصودةٍ لمؤقلمين على كفاءةٍ أقل من التامة.

  • (ح)

    تساهِم الإزاحة (٥) والتكاثر الإقليمي (١٠)، المرتبطان نوعًا ما بالإقليمية السحرية (ح)، في «التيسير على الإقليم كي يبدوَ الغايةَ للسيطرة والتحكُّم وليس الوسيلة» (ص٣٩).

  • (ط)

    الإقليم يمكن أن «يخلق تفاوتات».

  • (ي)

    التوافقات المتعددة للميول تدخل في استراتيجية «التفرقة بين الخصوم أو المرءوسين، والتحكُّم فيهم».

  • (ك)

    ثَمَّةَ خطأ إقليمي آخَر — أو توزيع غير كفء — يتعلَّق ﺑ «التعتيم على التباينات» بين الإقليم والأحداث، من خلال تخصيص المهام للمستوى غير الملائم من تسلسُلٍ هرميٍّ إقليميٍّ ما.

  • (ل)

    «الإزاحة (٥) والتكاثر الإقليمي (١٠) يمكن أن يصرفَا الانتباه عن دوافع الصراع الاجتماعي بين الأقاليم» (ص٣٩). وهنا يعرض ساك مثالَ الصراعات بين المدن والضواحي.

  • (م)

    توافقات الميول يمكن أن تؤدِّيَ إلى «التعتيم على التأثير الجغرافي لحدثٍ ما» (ص٣٩). والمثال على هذا قد يصبح جليًّا عندما يدرك الأشخاص مشكلةً بيئيةً ما، بوصفها مشكلةً «محليةً» وليست قومية أو عالمية.

  • (ن)

    أخيرًا، التوافقات المتنوعة قد تكون مؤديةً لعملية «الانشقاق» أو ظهور المقاومة.

إن آلية «الميول» و«التوافقات» التي وضعها ساك معقَّدة على نحوٍ لا يمكن إنكاره، واستراتيجيته للتجريد القصدي يمكن أن تعوق الفهم في بعض الأحيان؛ فالعناصر التي يُشدِّد عليها غيرُ جامعةٍ بلا شك، والاختيار قد يبدو إلى حدٍّ ما اعتباطيًّا. ولكن هذه الأمور ما هي إلا مراوغات؛ فالفكرة عند النظر إلى النظرية كنوعٍ من الدليل المجالي هي تمكين المحللين (وكذلك تمكين المسيطرين المرتقبين أو أولئك الذين سيقاومون السيطرة) من تحديد الآثار أو العواقب الأساسية المهمة التي تنتظر الإقليمية كاستراتيجية تحكُّم. وثَمَّةَ ملاحظتان قد تكونان ملائمتين في هذا المقام؛ الأولى أن معظم الميول والتوافقات ترتبط بآليات الإقليمية في المؤسسات الهرمية المعقدة، وهذا أمر مهم نظرًا لأن مثل هذه المؤسسات منتشرة في العالم الحديث وذات تأثيرٍ بالغ. ولكن قد يذهب أحدهم إلى أن الحياة الاجتماعية بها ما هو أكثر بكثيرٍ ممَّا يمكن لهيكل المؤسسات البيروقراطية حصره، وربما يؤدي التركيزُ البالغ عليها إلى صرف الانتباه عن المظاهر، أو الاستخدامات، أو الخبرات الأخرى للإقليم. الملاحظة الثانية أن الكثير من الآثار ليس آثارًا مباشرةً للإقليمية «في حد ذاتها» مثل آثار الإقليم «على» الإدراك أو الوعي؛ فالإزاحة، والتجسيد المادي، والسحر، وقابلية الإخلاء، وغير ذلك تتعلَّق بكيفية تأثير الإقليمية على الكيفية التي نرى بها العالم، وكيفية فهمه وإساءة فهمه من جانبنا. بالطبع لا يمكن التقليل من أهمية هذه الوظيفة المعرفية الأساسية للإقليمية، ولعل أحد مَواطِن قوةِ كتاب «الإقليمية البشرية» يتمثَّل في توجيه انتباهنا إليها.

الجزء الثاني من النظرية ينبثق من الاعتراف بأن الإقليمية كظاهرةٍ اجتماعيةٍ لا يمكن فصلها عن فهمٍ أوسع للنظام الاجتماعي؛ أيْ عن علم الاجتماع أو النظرية الاجتماعية على نحوٍ أعم. وينبثق كذلك من اشتراط ساك أن تكون نظريته محايدةً فيما يتعلَّق بالجانب الاجتماعي (وأن تكون نافعةً بالاقتران به). وفي محاولة ساك توضيح توافُق إطاره مع التفسيرات الأخرى للعمليات الاجتماعية الكلية، يستخلص صلاتٍ بعلم الاجتماع الفيبري والاقتصاد السياسي الماركسي الجديد. ولسنا في حاجةٍ لقول إن هذه المحاولةَ لا يمكن أن تكون أكثر من محاولةٍ إيحائية، ولم يخصص لكلٍّ منهما سوى بضع صفحاتٍ فقط. وفيما يتعلق بفيبر، فإنه يتناول الإقليمية في سياق الديناميكيات الداخلية للمؤسسات البيروقراطية، وفيما يتصل بالتمييز الفيبري بين الأشكال «التقليدية» و«الحديثة» للنظام الاجتماعي. وتتعلق الصلة الأساسية بالماركسية بالتوافقات الإرباكية للإقليمية الحديثة تحت ظروف الصراع الطبقي. وهذا الجزء من النظرية أقل جذبًا وأقل صلةً إذا ما عُقِدت مقارَنةٌ بينها وبين «البنية الذرية» المذكورة بإيجازٍ في الجزء الأول من النظرية.

(٢-٣) التاريخ

يوسِّع الفصل الثالث، وهو بعنوان «نماذج تاريخية: الإقليمية والمكان والزمان»، نطاقَ تحليل العلاقة بين الإقليمية والنظام الاجتماعي من خلال استعراضٍ بانوراميٍّ لسبعة آلاف عامٍ من الوجود الإنساني. إن ساك على وعيٍ بالمثالب المحتملة لهذا المشروع، وواضح بشأن الهدف المحدود المقرر أن يخدمه مثل هذا المشروع. لقد اتخذ التنظيم الاجتماعي البشري، في أعمِّ لمحةٍ موجزةٍ له، ثلاثة أشكال: البدائي، والحديث، والمتحضر غير الحديث. وفي هذا المقام لا يعمد ساك إلى شجب البدائية ولا الاحتفاء بالحداثة. بالمثل، يفصل روايته صراحةً عن أي افتراضٍ بشأن التقدُّم أو «المراحل» الأساسية للتطوُّر الاجتماعي (ص٥٣)، بل إن هدفه المحدد هو تحديد ما يعتبره سماتٍ تشخيصيةً لهذه الأنواع المتعددة للتنظيم الاجتماعي البشري؛ نظرًا لتعلُّقها باستخدام الإقليمية. ومع ذلك، فإن الاتجاهات الرئيسية التي يُحدِّدها، عند رؤيتها على نحوٍ متسلسل، هي: (١) انخفاض في عدد الوحدات الإقليمية المستقلة، (٢) زيادة في حجم مثل هذه الوحدات، (٣) زيادة في التقسيم الفرعي أو تشرذم هذه الوحدات المستقلة الأكبر والأقل عددًا (ص٥٢). قد يجدر بنا أن نتساءل: لماذا تظهر «الاستقلالية» هنا كصفةٍ رئيسيةٍ للإقليم أو النظام الاجتماعي؟ في المقام الأول، ليس واضحًا تمامًا ما المقصود بالاستقلالية؛ وفي المقام الثاني، بموجب بعض مفاهيم التفرد وعلاقتها بالإقليم (على سبيل المثال: «غلاف» جوفمان الذي ناقشناه في الفصل الثاني)، من الممكن الدفع بأنه بالنظر إلى أن عدد سكان الأرض حاليًّا يفوق على نحوٍ هائلٍ عددهم قبل ٧٠٠٠ عام، ازداد عدد «الأقاليم المستقلة» على نحوٍ مكافئ. وهذه نقاط صغيرة؛ فيبدو أن تركيز ساك هنا أضيق إلى حدٍّ ما من أي موضعٍ آخر في الكتاب. وكما هي الحال مع التفسيرات الشائعة للحداثة، فإن العصر الحالي مميز على نحوٍ شديد الوضوح عن عصر ما قبل الحداثة بوجود زيادةٍ في تعقيد النظام الاجتماعي، وهذا التعقيد منعكس في الاستخدامات الجديدة للإقليمية ومدعوم بها.

الاقتصاد السياسي البدائي

اعتمادًا على مصادرَ ثانويةٍ إلى حدٍّ كبير، يُنشئ ساك نموذجًا مثاليًّا مجردًا للبدائية. إن العالم البدائي، مقارَنةً بالحداثة، أقلُّ تعقيدًا بكثير، ويضمُّ عددًا أقل من الناس، ويشغل مساحةً أصغر، وهو يميل نحو بنيةٍ اجتماعيةٍ «قائمةٍ على المساواة» (ومرةً أخرى، كما في مثاله التوضيحي للتشيبيوا، تدل المساواة ببساطةٍ على غياب الطبقات الاقتصادية). ولما كان الأمر كذلك، لعب التبادُل بين الأصدقاء المتآلفين دورًا بارزًا في العلاقات الاجتماعية. والتكنولوجيا والمعرفة متاحتان على نحوٍ أعم نوعًا ما أكثر ممَّا هما عليه تحت مظلة الحداثة، والعلاقاتُ بين الناس والمكان مشربةٌ بدلالةٍ روحانيةٍ أو سحرية. أما ظهور، أو شكل، أو قوة الإقليمية بين البدائيين، فهو متوقف بقوةٍ على اقتصاديات الكفاف؛ حيث تستخدم لتوزيع الموارد بين أعضاء مجتمعٍ ما. «يمكن توقع الإقليمية ببساطةٍ لأنها من الممكن أن تكون آلية فعالة لإرساء إمكانية التكهن والثقل في المكان والزمان» (ص٥٩)؛ أيْ إن إحدى نتائج استخدام الإقليمية بين البدائيين تُولِّد درجةً أكبر إلى حدٍّ ما من اليقين. يزعم ساك أيضًا أن الإقليمية قد تكون حاضرةً في مثل هذه المجتمعات تحت ظروف المنافسة «من الخارج» (ص٦٠)، ولكن يبدو أن هذا يشير ضمنًا إلى أن ثَمَّةَ مفهومًا ما للإقليم كامنًا بالفعل بحيث يتيح تحديد هوية «الغرباء» وتمييزهم عن «المنتمين إلى الداخل». أيضًا بالنسبة إلى الشعوب الأمية، يمكن للحدود الإقليمية أن «تعبر عن الملكية والسيطرة» (ص٥٩) على نحوٍ أكثر فاعليةً من الوسائل غير الإقليمية.

ثَمَّةَ جانب مهم لرؤية ساك الإقليمية البدائية يتعلق بممارسات التوزيع والتخصيص الجماعية وقواعد امتلاك الأرض؛ ففي مخططه العام، قد يخصص «المجتمع»، من خلال أي وسائل أو إجراءات، قِطَعَ أراضٍ لأفراد العائلات الفردية التي يتألف منها المجتمع. قد يجوز استخدام قطع الأراضي المحددة، ولكن لا يمكن نقل ملكيتها لآخرين. ثَمَّةَ نسخة أخرى من مهمة التخصيص هذه تظهر حين يجري تشغيل الأراضي على نحوٍ جماعي. وكذلك يأخذ ساك في الاعتبار بعض النظم المختلطة: «إن استخدام البدائيين للإقليمية يدعم تنظيمهم الاجتماعي الأساسي؛ فحين يظهر الإقليم على مستوى المجتمع ككلٍّ، فإنه يُستخدم لمنع غير الأعضاء بالمجتمع من الوصول إلى موارد المجتمع. وحين يُستخدَم داخلَ مجتمعٍ ما، يكون هدفه هو تيسيرَ عملية التبادل بإسناد مهامَّ مختلفةٍ ولكنها متسقة إلى الأفراد والأسر» (ص٦٢ إلى ٦٣).

لعل من غير الإنصاف أن نُشير إلى أن قراءةً انتقائيةً لأدبيات علم الأنثروبولوجيا لا يمكن أن تدعم مثل هذه التبسيطات، وتُحوِّل آلاف الثقافات «البدائية» عبر العالم وعلى مدى آلاف السنين إلى أنماطٍ مثالية؛ فانتقاء روايات أخرى، كالروايات الأنثروبولوجية المذكورة في الفصل الثاني، من شأنه الكشف عن المزيد من الطرق المتنوعة والمعقدة على نحوٍ هائلٍ للاتصاف بالإقليمية؛ ولكن هدف ساك لا يكمن في بلوغ دقةٍ إثنوجرافيةٍ عمليةٍ بقدر ما يكمن في مقارَنة البدائية بصورةٍ مميزةٍ من حداثة ما بعد البدائية. وهنا تبدأ القصة الحقيقية، مع الأحداث المدمرة التي ميَّزت التحوُّل من البدائية إلى التحضُّر، والدور الحاسم الذي لعبته الإقليمية في التعجيل بهذه التحوُّلات.

التحضُّر

ما معنى أن تكون متحضِّرًا أو أن تتحدث عن نظامٍ اجتماعيٍّ بوصفه يحمل علامات التحضر؟ التحضُّر في نموذج ساك يعني تبوُّء نظامٍ اقتصاديٍّ سياسيٍّ أكبر، وأكثر تجردًا، وأكثر طبقيةً مما يتبوَّءُه البدائيون. وانطلاقًا من نموذجٍ افتراضيٍّ للعمليات التي ظهرت بواسطتها الحضارات الكائنة (في مقابل العمليات التي قُدِّمت بواسطتها «الحضارة» من الخارج وفُرِضت على الشعوب الأصلية)، يطلب منا ساك أن نتخيل مجموعةً من المجتمعات البدائية المستقلة والمترابطة في الوقت نفسه وهي تمارس تبادُلًا تجاريًّا فيما بينها. على مدار الوقت تبدأ المجتمعات المختلفة في التخصص في إنتاج سلعٍ تجاريةٍ معينة. وعلى الرغم من وجود عددٍ من النظريات التي تُفسر الزيادة المتخيلة في الإنتاج في هذه الاقتصادات التجارية التي لا تزال بدائية، فإن ثَمَّةَ حدثًا محوريًّا من منظور ساك، وهو ظهور طبقةٍ كهنوتيةٍ وما يترتب على ذلك من ظهور التقسيم الطبقي الاجتماعي؛ فالكهنة أو وكلاؤهم يتحكَّمون في فائض الإنتاج ويتولَّوْن عملية تخزينه وتوزيعه واستهلاكه؛ ممَّا يُعجِّل بتدهور المساواة الأكثر أو الأقل تبادليةً المميزة للمجتمعات البدائية؛ ومن هنا يمكن لعملية التحضُّر أن تكتسب زخمها أو منطقها، وهذا يمكن أن يتبع عددًا من المسارات المختلفة. وتتمثَّل العناصر الأساسية لهذه العملية في زيادة مركزية السلطة (التي ربما تكون محليةً في مدينةٍ بدائية)، والتمدُّن، ونشأة وترسُّخ طبقةٍ من التجار، وأخيرًا هيمنة المجتمعات الفرعية التابعة الواقعة بالقرب من المركز. والإقليمية الآن في طريقها لأن تلعب دورًا مهمًّا في «إدارة» المناطق الدافعة للجزية؛ ممَّا يترتب عليه ظهورُ هياكلَ مميزةٍ للحُكم في الدولة، فتُفرَض المناطق الإدارية والسلطات المرتبطة بها على المنتجين القرويين والمجتمعات المحلية. ويأتي مع التحضُّر أيضًا نوع من الإقليمية العمودية. والنقطة المهمة بشأن هذه المرحلة الوسيطة للتنظيم الاجتماعي، بالنسبة إلى نظرية ساك، هي أن التحوُّلات في تاريخ الإقليمية لا يمكن فصلها عن التغيرات في تاريخ السلطة، لا سيما الأهمية المتزايدة لعلاقات السلطة المجردة. ومما يحويه هذا النموذج على نحوٍ ضمني، دون تناوُله صراحةً، التغيرات الملازمة في تقنيات التواصُل (الكتابة ومحو الأمية) والتقنيات القمعية.

الرأسمالية

من بين عشرات حضارات ما قبل الحداثية، «أوجدت واحدة فقط منها الرأسمالية والدولة الحديثة» (ص٧٨). وكانت هذه هي حضارة أوروبا الغربية ما قبل الحداثية. الشيء الجديد والمهم هنا هو أنه في ظل الحداثة التي صدَّعتها الرأسمالية، نرى أن:

الاستخدام المتكرر والواعي للإقليم كأداةٍ لتعريفٍ، واحتواء وقولبة شعبٍ مفككٍ وأحداثٍ ديناميكية، يؤدي إلى شعورٍ بحيزٍ مجردٍ وقابلٍ للإخلاء؛ فهو يجعل المجتمع يبدو مصطنعًا، ويجعل المستقبل يبدو على نحوٍ جغرافيٍّ كعلاقةٍ ديناميكيةٍ بين الناس والأحداث من جانب، والقوالب الإقليمية على الجانب الآخر. هذا من شأنه أن يجعل الحيز يبدو وكأنه الشيء الوحيد المرتبط عرضيًّا بالأحداث (ص٧٨).

مرةً أخرى تُعرَض آليات هذا التحوُّل العالمي التاريخي بأسلوبٍ واضحٍ وصريح؛ فهي متأصلة في التغيرات التي تطرأ على الظروف المادية، والسيطرة على الإنتاج، وأجهزة الهيمنة. والسلطة المتزايدة للتجار والبلترة (عملية الوصول إلى الوضع البوليتاري) التدريجية للعمل هي العمليات التوليدية. ومما يحظى بأهميةٍ طاغيةٍ الأساليبُ التي يُرغم بها المنتجون على المشاركة في اقتصاد السوق، الذي يجري التحكُّم فيه من قِبل طبقة الرأسماليين الناشئة ولأجلهم، وعن هذا يكتب ساك قائلًا: «تتمثَّل إحدى الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري في «تجريد» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيار العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص٧٩).

على مدار الأجيال التالية حدث تَحوُّل حاد من الأُسَر باعتبارها الوحدة الأساسية ومركز التجارة إلى إنشاء المصانع التي لم يَعُدْ فيها للعمال أي سيطرةٍ (ملكية) على وسائل الإنتاج (الأدوات)، وكانت تُضبط وتُنظم على نحوٍ متزايدٍ بمفهومٍ متريٍّ جديدٍ للوقت. وأدَّى الفصل بين العمل والمنزل، بدوره، إلى تقسيمٍ إقليميٍّ معمِّقٍ لمعظم جوانب الحياة الاجتماعية، وأهميةٍ متزايدةٍ للمؤسسات البيروقراطية الهرمية. هذه هي قصة ظهور العوالم الحياتية المفرطة الأقلمة المرتبطة بالحداثة، ومن بين العناصر الأخرى التي يذكرها ساك نشأة الدولة الليبرالية وأيديولوجياتها التسويغية للحيادية والحرية، وزيادة في حركة الأشخاص والأشياء، والدور الاجتماعي الأكثر بروزًا للعلم والتقنيات الإبداعية. كذلك يرتبط العلم بعهدٍ ساده التقدير الكمي والتجريد اللذان أوجدا بدورهما طرقًا جديدةً لإدراك المكان والزمان والإقليم. وأدَّى التوسُّع الجغرافي، من خلال الاستعمارية والإمبريالية، للقوى السياسية التي وُجِدَتْ في البداية في أوروبا؛ إلى تيسير العولمة الافتراضية لهذا التنظيم الاجتماعي المكاني الجديد. وبالطبع لم يَعُدِ العالَمُ إلى ما كان عليه مرةً أخرى مطلقًا؛ فمن خلال المنطق السياسي الاقتصادي الثقافي للرأسمالية ورد إلى العالَمِ المنطقُ الإقليمي المميز للحداثة، الذي لا يزال يكشف عن نفسه في صورة تحوُّلاتٍ وتغيراتٍ متنوعةٍ حول العالم. وممَّا يحظى بأهميةٍ خاصةٍ الطرقُ التي تستخدم بها هذه المفاهيم والممارسات الحديثة على نحوٍ مميز الإقليمَ لعزل وتجميع وإخلاء وإشغال الحيز الاجتماعي.

من الممكن بسهولةٍ فهم هذا الفصل خطأً باعتباره محاوَلةً لإجراء رصدٍ دقيقٍ للخبرة الإنسانية الجماعية على مدى ٧٠٠٠ عامٍ في بضع صفحات؛ ولكنْ مرةً أخرى، بينما قد تُفترَض درجة معينة من الصحة للحقائق الإثنوجرافية والتاريخية، فإن الدقة من جانبٍ ما خارج الموضوع. إن هدف ساك في الحقيقة لا يتمثَّل في إخبارنا كيف وصلنا إلى حيث نحن اليوم بقدر ما يتمثَّل في توضيح جوانب الإقليمية (أو جوانب نظريته) مثلما قد تُرَى من منظور الموضوعاتية للتغيير والاستمرارية. إن الهدف هو مقاومة الميول نحو عزل الإقليمية عن العمليات الاجتماعية وعن العلاقات الاجتماعية المتغيرة؛ فلا يهم كثيرًا، بدرجةٍ ما أو بأخرى، إنْ كانت القصة دقيقةً (بالطبع هي كذلك، وبالطبع لا يمكن أن تكون كذلك). بل ينبغي تقييمها وفقًا لدورها المؤثر في الكشف عن شكل العالم أو التعتيم عليه، وكيف قد يسهم الإقليم في هذا.

(٢-٤) دراسات حالة

الفصول الرابع والخامس والسادس من كتاب «الإقليمية البشرية» عبارة عن دراسات حالة تفصيلية؛ فكلٌّ منها يتتبَّع آلياتِ الإقليم في مجالٍ محددٍ من الحياة الاجتماعية على مدى فتراتٍ زمنيةٍ طويلة، مفسِّرًا الموضوعات الأكثر تجريديةً المقدَّمة في الفصول الثلاثة الأولى. ويصف الفصل الرابع جوانبَ مهمةً من الإقليمية في التاريخ الطويل للمسيحية المؤسساتية، وعلى الأخص الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؛ فيناقش ساك الممارسات المسيحية الأولى وقتما كانت مستمرةً إلى حدٍّ كبيرٍ مع تلك الخاصة باليهودية في مكان وزمان ظهور المسيحية. وعرض كيف تغيَّرت الممارسات الإقليمية مع ازدياد هرمية الكنيسة، ومع تزايد قوة ارتباط نفوذ الكهنة والأساقفة بالبنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات. ومع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، عملت البنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات كنموذجٍ من نوعٍ ما للسلطة الدينية السياسية للكنيسة. ويتطرق ساك إلى العمليات التي سرت من خلالها الإقليمية بفعل انهيار الإمبراطورية، وبفعل الإقطاع واحتضاره البطيء، وبفعل عصر الإصلاح، وأخيرًا بفعل تحوُّلها الأحدث نحو البيروقراطية.

يُعنَى الفصل الخامس بالتحوُّلات التي طرأت على المنظومة الإقليمية السياسية الأمريكية، وتبدأ هذه القصة بقصة الاستكشاف والاكتشاف، ونزع الصفات الإنسانية عن الشعوب الأصلية. ويستمر الفصل من خلال مناقشة التعبيرات الاستعمارية للإقليمية. ومما يحظى باهتمامٍ خاصٍّ المجادلاتُ الإقليميةُ بين الفيدراليين والمناهضين للفيدرالية، والطرق التي صارت من خلالها التسويات بشأن أقلمة السلطة دستورية. يضم الفصل أيضًا مناقشاتٍ عن التوسُّع غربًا والتأويلات الاقتصادية المعاصرة للإقليمية بشأن تأمين الصالح العام. أما الفصل الجوهري الأخير، فيُعنَى على نحوٍ أساسيٍّ بتحوُّل إقليمية العمل؛ مرةً أخرى من الحقبة الحديثة المبكرة إلى العصر الحديث. غير أن هذا الطرح يضع في الاعتبار أيضًا التغيرات المتلازمة في التنظيم المكاني للحيز المنزلي، و«المنزل»، والمؤسسات الحديثة الأخرى مثل السجون والجيش. والكثير من «الميول» و«التوافقات» التي تُميِّز الإقليميةَ الحديثةَ مبيَّنٌ بأمثلةٍ واضحةٍ في هذا الفصل.

(٣) ما وراء الإقليمية البشرية

يمكن رؤية قيمة كتاب «الإقليمية البشرية» وفائدته المستمرة في عددٍ من السمات التي ينفرد بها في أدبيات الإقليم؛ فيُقدِّم كتاب «الإقليمية البشرية» — غير المقيد إلى حدٍّ كبيرٍ بنطاق الإقليم أو بنوعه، وغير المستأثر إلى حدٍّ كبيرٍ بالشواغل الأكثر محدوديةً للمجالات المعرفية المتخصصة — مفرداتٍ تحليليةً غنيةً يمكنها أن تُسهِّل قدرتنا على استيعاب الممارسات الإقليمية. انشغاله المحوري بآليات السلطة، وانتباهه الشديد للزمنية والطابع التاريخي، وتأكيده على أهمية القوى الاقتصادية المادية مقترنًا بتأكيده على العوامل المفاهيمية أو الأيديولوجية؛ كل ذلك يساهم في الاعتراف بكتاب «الإقليمية البشرية» كنص «كلاسيكي» تتجاوز قيمته القيمةَ التاريخيةَ بكثير. وككتابٍ صغيرٍ نسبيًّا، وبوصفه جهدًا مبدئيًّا في ذلك المجال، فإن له قيوده أو حدوده؛ فيوجد، في «الإقليمية البشرية»، عدد من الموضوعات المشار إليها ولكن ليس على نحوٍ موسَّع، وهو عدد لا يُمثِّل أهميةً كبيرةً للكاتب. ولعل بعض العناصر الغائبة التي تتضح لأي قارئٍ بعد انقضاء نحو ٢٠ سنةً لاحقة، هي نتاج لاستراتيجية ساك من تجنُّب الوقوع في أَسْر اهتماماتٍ وشواغلَ معرفيةٍ أكثر ضيقًا؛ على سبيل المثال: يوجد قدر محدود للغاية في كتاب «الإقليمية البشرية» يخوض بشكلٍ مباشرٍ في قضايا العلاقات الدولية، أو القومية، أو الاستعمارية، أو النوع، أو العِرْقية، أو البيئة. علاوةً على ذلك، لم تكن الموضوعات والمشكلات التي أصبحت ذات أهميةٍ تُعَدُّ كذلك في الثمانينيات، ومن بين هذه الموضوعات نظرية الحدود، واللاأقلمة، ونظرية الثقافة، وما بعد الحداثة، والعولمة. توجد موضوعات أخرى، مثل الحركة النسوية، كانت ذاتَ أهميةٍ آنذاك ولكنها لم تُشكِّل النظرية أو الأمثلة التوضيحية المفصَّلة للكتاب. غير أن قراءة كتاب «الإقليمية البشرية» في ضوء هذه الاهتمامات والشواغل الأخرى يمكن أن يساعدنا على وضع الكتاب وجهًا لوجهٍ أمام المناقشات الأحدث للإقليم، ومن ثَمَّ الكشف عن حدوده. سوف أُواصِل في الصفحات التالية استكشافَ كتاب «الإقليمية البشرية»، من خلال الخوض في أربعةٍ من هذه الموضوعات: الحداثة، والخطاب، والهُوِيَّة، والسياسة. بعد ذلك سوف أعقد مقارَنةً سريعةً بين كتاب «الإقليمية البشرية» وكتاب ديفيد سيبلي «جغرافيات الإبعاد» (١٩٩٥).

(٣-١) الحداثة

كما رأينا، يهتم كتاب «الإقليمية البشرية» اهتمامًا بالغًا بموضوع الحداثة؛ فالكثير من الروايات التاريخية موجَّه نحو توضيح ما هو مميَّز بشأن الحداثة في مقابل ما قبل الحداثي أو البدائي. يتمحور الكتاب حول دور الإقليمية في العملية الخاصة بكيفية تحوُّلنا إلى الحداثة، وكذلك يُركِّز على كيفية التعبير عن الإقليمية على نحوٍ مميزٍ وخاصٍّ تحت ظروف الحداثة: كيف تُقوِّي الإقليميةُ دعائمَ التحوُّلات المتواصلة المرتبطة بكل ما هو حديث وتدفعها. ومما يُشكِّل أهميةً خاصةً للنظرية كيف أصبح بالإمكان تَصوُّر الأقاليم «قابلة للإخلاء»، وكيفية تأصُّل جذور الممارسات الإقليمية الحديثة في عمليات التجريد المعرفية، وكيفية تَشكُّل العلاقات المجردة. وتقام الحجة على نحوٍ مقنعٍ بأن الحداثة لم تكن — ولم يكن من الممكن — لتصبح على ما هي عليه بطريقةٍ أخرى.

في ثمانينيات القرن العشرين، وقت تأليف كتاب «الإقليمية البشرية»، وعلى نحوٍ متزايدٍ على مدار التسعينيات، أُخضِعت الفكرة الأساسية — بل الوجود الأساسي — للحداثة لمستوًى غير مسبوقٍ من التدقيق (أو كما يقال في الغالب «التحقيق»). وقد تطرَّق النقاش الأكاديمي الذي تلا ذلك لجميع التخصصات الإنسانية والاجتماعية، وقد كان لذلك، مثلما أشار الفصل الثاني، تأثيرٌ واضحٌ على الكيفية التي أُعِيد بها النظر في الإقليمية. بالطبع لا يمكنني حتى أن أرسم معالم هذه المحادثات الواسعة النطاق، فضلًا عن التعامل مع القضايا بأي عمقٍ أو حذق. إن هدفي المحدود هنا هو ببساطةٍ إعادة وضع كتاب «الإقليمية البشرية» في السياق، عن طريق مقارنته بآراء أخرى ترى مسألة الحداثة على نحوٍ مختلف، وأكثر نقدًا.

في اللغة الدارجة تُشير الحداثة على نحوٍ تقريبيٍّ إلى «حاضر» متواصلٍ في مقابل «ماضٍ» مُلغًى في الأساس. قد تكون هناك تساؤلات حول متى وكيف بدأت الحداثة، أو ما هي سماتها المميزة، كأن يُعرف فولتير وجورج دبليو بوش بأنهما شخصيات حديثة، أما يوليوس قيصر ولاو تزو فليسَا كذلك. ولعل من السمات التي عادةً ما تُلاحَظ أن العصريين يفكرون في الحداثة كقضيةٍ بأساليبَ لا يتبعها البدائيون أو القدماء (ولا يستطيعون اتباعها) عند التفكير في البدائية أو القدم. علاوةً على ذلك، يمكن للفكر الحديث أن يفكر في نفسه بأساليبَ حديثةٍ مميزة. ومن الطرق الشائعة التي يستوعب بها العصريون الحداثةَ المفرداتُ الاحتفائيةُ للتقدُّم وما يرتبط بها من مفاهيم التنوير والعقلانية والحرية. ومن هذا المنظور، فإن أي شيءٍ آخر تعنيه الحداثة أيًّا كان، في العموم، أفضل ممَّا حلَّ محله، وعمليات التحديث و«التطوير» تؤدِّي إلى مسارٍ من التحسين والتجويد العام. غير أن الحداثة أيضًا أثارت مجموعةً من الانتقادات («الخارجية» و«الداخلية») أضفَتْ أهميةً أكبر على الجوانب الأكثر قتامةً «للحاضر»، في مقابل «ماضٍ» خياليٍّ أو فعلي؛ فبعض النُّسَخ من فِكْر ما بعد الحداثة، كما يُزعم، التي يُنظَر إليها في حد ذاتها كنواتجَ للحداثة؛ تُمثِّل دافعَ النقد الذاتي الذي يراه البعض واحدًا من أعظم إنجازات الحداثة. ثَمَّةَ وسيلة أخرى لفهم هذا الأمر تتمثَّل في القول بأن «الحداثة» ليست مجرد فترةٍ زمنية («حاضر» متمدد للانهاية)، ولا تُعَدُّ «مرحلة تطوُّر» أو قاعدة تقدُّم، بقدر ما هي نزعةٌ، أو مجموعةٌ من الالتزامات أو الأيديولوجيات والممارسات المرتبطة بها. ووفقًا لهذه الرؤية، فإن ما يُسمَّى ﺑ «الثقافة الحديثة»، أو «العالم الحديث»، بينما يُعَدُّ شيئًا جديدًا بلا شك، فإنه مجرد تكوينٍ ثقافيٍّ واحدٍ ضمن تكويناتٍ أخرى. إن ما يجعلنا عصريين هو كيفية تخيُّلنا لأنفسنا في مقابل «الآخرين»، غير أن هؤلاء «الآخرين» ليسوا فقط آخرين عابرين مودعين داخل ماضٍ سريع الانحسار، ولكنهم آخرون ثقافيون يُبرَّر اندثارهم بأساليب الخطاب الرامية إلى إثبات الذات فيما يتصل بالتحديث والتقدُّم والتطوُّر. وغالبًا ما تهدف الانتقادات المعاصرة للحداثة، المصنفة على نحوٍ فضفاض، إنْ لم يكن على نحوٍ غاية في الدقة، تحت عنوان «ما بعد الحداثة»، إلى تسليط الضوء على هذه الاستراتيجيات التسويغية. وينبغي التأكيد على أن ظهور فكر «ما بعد» الحداثة المزعوم لا يحمل معه بأي حالٍ «نهاية» الحداثة والاستعاضة عنها بشيء آخر، شيء «بعدها». فإذا كانت الحداثة تعني أي شيء، فهي لا تزال تُمثِّل اهتمامًا مستمرًّا، والانتقادات التي يشنها أنصار ما بعد الحداثة لم تكن كافيةً لتؤديَ إلى فنائها. وإذا نظرنا إلى الحداثة على نحوٍ أقل باعتبارها «حقيقة» بشأن الزمن، وكوسيلةٍ لسرد أو تمثيل تاريخ السلطة على نحوٍ أكبر — أيْ كقصةٍ يسعد بعض الأشخاص العصريين بإخبار أنفسهم بها عن أنفسهم — فإن تساؤلاتٍ أخرى تُثار قد يكون من شأنها التأثير على فهمنا للإقليمية و«الإقليمية البشرية».

إن روبرت ساك واضح في رفضه للقصة الاحتفائية للحداثة والتقدُّم. على الجانب الآخر، ينتج هذا الرفض عن التزام صارم باستقصاءٍ اجتماعيٍّ محايد التقييم. قد يُدفع بأن هذا منظور حداثي مميز لمهمةِ (وقيمةِ) إنتاجِ المعرفة وتمثيلات العالم الاجتماعي. وتقوم قيمة التقييم الحيادي على صورةٍ ذهنيةٍ معينةٍ للعلم والتزامه ﺑ «الموضوعية» ومحو الذات في خدمة التطوُّر. وفي هذا المقام يُعَدُّ كتاب «الإقليمية البشرية» مشروعًا حديثًا نموذجيًّا؛ وهذا يعني ببساطةٍ أن كاتبًا أكثر تشككًا إزاء واقعية الحداثة لم يكن ليتولى المشروع، ولم يكن ليتخيل أن الإقليمية سيكون — أو يمكن أن يكون — لها نظرية أو تاريخ «منفرد»؛ فقد كان سيأخذ حذره من استراتيجيةٍ حوَّلت ٧٠٠٠ عام من الزمن الإنساني والتغيرية الثقافية المتطرفة إلى مجموعةٍ صغيرةٍ من «الآليات» مقدَّمةٍ على مدى ٣٠ صفحةً من كتاب. ومع ذلك، لم يكن أغلب الظن سيتناول الموضوع على نحوٍ تحليلي، محلِّلًا ضخامةَ الإقليمية البشرية إلى عددٍ محدودٍ من «الدوافع» (الأسباب) و«النتائج» (أو العواقب). وكان سيتم تجنُّب استخدام «الأنماط المثالية» و«النماذج» المجردة، وكذلك شبكات «الميول» و«التوافقات». وما كان لمُنظِّرٍ ينتمي إلى ما بعد الحداثة (أو حقبةٍ أخرى منها) أن يحتفظ بالصوت المحايد غير المبالي فيما يبدو ﻟ «العالم (الاجتماعي)» بهذه الدرجة من القوة. وكما أشرنا في الفصل الثاني، لم يكن ليرى الأقاليم في أُطُرٍ صارمةٍ مثل الداخل/الخارج، أو إما/أو، ولكنه كان سيعطي أهميةً أكبر لموضوعات الغموض، والانسيابية، والحدية، والتباين. وينبغي أن يكون بديهيًّا أن تلك السمات التي كان سينتقدها ناقدٌ ينتمي إلى ما بعد الحداثة بأقصى قوةٍ في كتاب «الإقليمية البشرية»، هي تحديدًا السمات التي يراها آخرون قيِّمةً وجديرةً بالثناء إلى أقصى الحدود.

وفيما وراء هذه السمات الأسلوبية، يوجد افتراض جوهري آخر يُشكِّل كتابًا بقوة «الإقليمية البشرية» ويتعلق بما يبدو عليه الأشخاص؛ فبينما يضع كتاب «الإقليمية البشرية» تركيزًا جمًّا على الاختلافات بين ما قبل الحديث والحديث، ثَمَّةَ فكرةٌ تتسم بالاستمرارية عبر هذا التقسيم تكمن في الافتراض المحوري بأن الوسيط المسيطر (أيْ مَن يتولَّى توزيع ونشر الإقليمية) هو فاعل عقلاني، واعٍ، وموجَّه على نحوٍ فعَّال. تُعرَّف الإقليمية في تعريفها الأساسي بأنها في الأساس استراتيجية، وسيلة تؤدِّي إلى غاية. وكما هي الحال مع أي وسيلةٍ أو أداة، تتسم الإقليمية بمزايا وعيوب؛ فمن جانبٍ يُلاحظ أن ساك لا يستخدم تمييز ما قبل الحديث/الحديث كبديلٍ لتمييز اللاعقلاني (الهمجي)/العقلاني. والواقع أن النتائج «السحرية» للإقليمية من المحتمل أن يكون تعريفها في الحاضر مماثلًا لتعريفها في الماضي. على الجانب الآخر، قد يَعتبر المرء افتراضَ «بديهية» العقلانية افتراضًا خرافيًّا في حد ذاته. وعلى الرغم من رفض ساك نفسه لهذا التأويل، فإن كون تفضيل العقلانية علامةً حداثيةً مميزةً يُعَدُّ حقيقة. وعلى أي حال، ليس واضحًا تمامًا أن عقلانيةً حسابيةً هي المفتاح الأفضل لحل ألغاز الإقليمية، سواءٌ أكانت الحديثة أم غير ذلك؛ فالبشر «في الماضي» مثل «الحاضر» قد تكون لديهم بالفعل مقدرة على الحساب العقلاني (أنا سعيد لاعتقادي بأنني كذلك)، وهذه النزعة نحو الواقع يُحتفَى بها بلا شكٍّ في الثقافات الحديثة، ولكننا أيضًا أكثر من ذلك وخلاف ذلك؛ فنحن غالبًا ما نكون غير عقلانيين وعاطفيين. إذًا فالعقلانية قد تكون أكثر بكثيرٍ من «استراتيجية للتحكم والسيطرة»، وربما تكون الممارسات الإقليمية من شتى الأنواع مفسرة على نحوٍ أدق في إطار الرغبة، والخوف، والاشمئزاز، والارتباك، وإرادة القوة، والقسوة، أو حتى آليات «الهوية». الفكرة هي أن تعقيد الرؤية الضمنية للفردية أو الذات من شأنه أن يؤديَ إلى تعقيد نظرية الإقليمية.

كذلك قد يكون تقييم عقلانية «الغايات» — أو قد لا يكون — منفصلًا عن تقييم عقلانية «الوسائل»؛ فالتصميم الإقليمي للهولوكوست من السهل أن يُقرَأ كتوظيفٍ لوسائلَ شديدةِ العقلانية في خدمة غاياتٍ جامحةٍ في لاعقلانيتها. وإعطاء مزيدٍ من الانتباه لتغلغُل الجانب غير العقلاني في العلاقات الاجتماعية الإنسانية، من شأنه تيسير رؤية الجانب اللاعقلاني في عملية أقلمة القومية، والملكية الخاصة، واحتواء اللاجئين، وحتى «أقاليم النفس» التي وضعها جوفمان (وإن لم يكن على نحوٍ خاص). قد يقرأ المرء أيضًا تميز الإقليمية الحديثة كعَرَضٍ لنوعٍ من الجنون يطلق على نفسه «العقلانية»؛ فعلى مدى كتاب «الإقليمية البشرية» يُستخدَم مصطلحٌ مفتاحيٌّ في تقييمات مزايا وعيوب استخدام الإقليمية كاستراتيجية، أَلَا وهو «الفاعلية». وثَمَّةَ مقارَبةٌ للإقليمية كانت أقل التزامًا تجاه القصة الحداثية قد تصرف الانتباه عن موضوعات الفاعلية والنظام واليقين، وتضع تأكيدًا أكبر على عناصر الفوضى، أو الغموض، أو الفصام.

إن الأقاليم، من منظور ساك، أماكن محددة ومتمايزة، ولعل أكثر الأمثلة التوضيحية انتشارًا في الكتاب أماكنُ مثل الحقول المُسَيَّجة، والغرف، والمناطق الإدارية، وامتيازات الأراضي، ووحدات العمل، وما شابه ذلك. ولكن التخوم والمحدودية، عمومًا، تُعَدَّان ببساطةٍ أمورًا بديهية. وفي مقارنةٍ بعملٍ حديثٍ في نظرية الحدود، تُعَدُّ التخوم في حد ذاتها غير إشكاليةٍ نسبيًّا. ويُقدِّم «التصنيف وفقًا للمنطقة» الإقليمَ — في إطار نوايا المسيطر — كحالة «إما/أو» تتسم بالقوة. ومرةً أخرى كما رأينا في الفصل الثاني، حاوَلَ التنظير الأحدث دحْضَ القصص التي يرويها المؤقلمون المسيطرون عن أنفسهم، والاستعاضة عنها بقصصٍ مختلفةٍ تكشف عن الخصائص النفاذية والتشابكات المتغيرة التي تُميِّز الإقليمية.

على سبيل المثال: تميل نظرية ساك إلى تعزيز الرؤية الخاصة بالحدود الأمريكية المكسيكية كتعبيرٍ عن خطٍّ تصنيفيٍّ يفصل بين مواقعَ سياديةٍ مميزة. علاوةً على ذلك، يُعَدُّ «فرض السيطرة»، ثالثُ الميول الثلاثة الأهم، أكثرَ إشكالية؛ فهذه الأقاليم السيادية، مثل الأقاليم الحديثة، تُظهِر سمات وخصائص قابلية الإخلاء المتخيلة، والتجريد، والعلاقات المجردة، وما إلى ذلك. وهذه الرؤية بالتأكيد ليست غير دقيقة، ولكنها أيضًا ليست دقيقةً على نحوٍ تام. وكما تطرَّقْنا في الفصل الثاني، فقد قرأ كثيرون آخرون هذا المثال بالذات في أُطُرٍ مختلفةٍ اختلافًا كبيرًا؛ ليس في إطار «داخل» و«خارج» أو «إما/أو» متعارضَيْن ومتبادلَيْن بنيويًّا، وإنما في إطار «كل من/و»؛ أيْ بوصفها متداخلة وانسيابية على نحوٍ معقَّد. وهذا الحد، والتخوم الأخرى، ليست مجرد أدواتٍ للتصنيف والفصل بأي معنًى بسيط، ولكنها أيضًا أدوات للبناء والدمج في ذات الوقت. وكما يكتب فيكتور أورتيز في «الغموض غير المحتمل للحدود»:

إن المنطقة الحدودية ليست بدولة، بل إنها حتى ليست دولةً في حد ذاتها. إنها مكان اجتماعي سياسي للديناميكيات التاريخية والاقتصادية المثيرة التي يُحدِّد معالمها تهجيرٌ أو نزوحٌ واسعُ الانتشار، يعاش على نحوٍ مختلِفٍ للغاية من قِبَل الأفراد والمؤسسات المعنية. ونظرًا لهذه الاختلافات والتباينات الواسعة الانتشار، فإن ثَمَّةَ غموضًا متواصلًا يتخلل معظم تفاعلاتها وتعيينات حدودها؛ فالتحدِّي والتعزيز الدائمان للحدود يُوَلِّدان الإدراك المتناقض للمنطقة الحدودية في وقتٍ واحدٍ كمنطقةٍ رابطةٍ ومنطقةٍ فاصلةٍ تحت تدخُّلٍ ذي طابعٍ عسكريٍّ على نحوٍ متزايد. وهكذا تكون المنطقة الحدودية أكثر قليلًا من كونها إقليمًا متنازعًا عليه إنه جبهة حدودية. (أورتيز ٢٠٠١، ٩٨)

من هذا المنظور، يمكن أن تبدوَ وجهة النظر التي يميل ساك إلى افتراضها كنسخةٍ من قصة المسيطر، ولكنْ يوجد دومًا تفاصيل أكثر للقصة، ويوجد دومًا أكثر من قصة.

ثَمَّةَ عنصر أساسي آخر لنظرية الإقليمية هو «التواصل»، وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا، التواصل من خلال الحدود. ربما يكون النموذج لذلك — مثلما أشار العديد من الأمثلة التي يسوقها ساك — تحذيرًا (شفهيًّا أو مكتوبًا) يقول «ابتعِدْ» (يرافقه ملحقٌ ضمنيٌّ مفاده «وإلا»). فالمرء في هذا المقام يتخيل نموذجًا للتواصُل يشمل مُرسِلًا (المصنف/المسيطِر)، ومتلقيًا (المسيطَر عليه)، ورسالة واضحة (ابتعِدْ). وتحت ظروف الحداثة من المحتمل أن يكون هذا الحدث التواصُلي غير شخصي (أي موجَّهًا إلى «كل العالم») مثلما من المحتمل أن يكون شخصيًّا. ولكنْ قد يُشير المرء إلى احتمال وجود ما هو أكثر — بل أكثر بكثير — بالنسبة إلى معاني الأقاليم والتخوم والسلطة، ممَّا قد تشير إليه هذه التعليمات والأوامر الشفافة نسبيًّا؛ فوجهات النظر المتعلقة بالإقليم التي تُعَدُّ أقلَّ حداثةً قد تُشكِّك في دقة هذا النموذج الشفاف للتواصل، وتكمله باهتمامٍ أكبر بمسائل الخطاب واستطرادية الإقليم. وسوف أعود إلى هذا الموضوع لاحقًا.

مرةً أخرى، ينبغي التأكيد على أن عرض هذه التباينات المحتملة لا يُشكِّل في حد ذاته نقدًا لكتاب «الإقليمية البشرية»، كما أنني لستُ بصدد تأييد منظورٍ خلاف المنظور الحداثي. في الواقع، من الممكن أن يعرض المرء، بأسلوبٍ ما بعد حداثيٍّ تمامًا، قراءةً لكتاب «الإقليمية البشرية» باعتباره هو ذاته نصًّا ينتمي إلى ما بعد الحداثة (الأوَّلية). ورفض القصة الاحتفائية للتقدُّم والحداثة، وحيادية التقييم التي يمكن أن تُفهَم كتأييدٍ لنوعٍ من النسبية، والتأكيد على العمودية، والالتزام بتعددية الاختصاصات؛ كل ذلك من شأنه المساعدة في إدراك هذا المعنى للكتاب. ولكنْ في النهاية لن تُوفِّيَ مثلُ هذه القراءة إنجازاتِ كتاب «الإقليمية البشرية» ولا فائدة النزعات ما بعد الحداثية حقَّهما.

ثَمَّةَ ملاحظة أخيرة بشأن قضية الحداثة؛ عادةً ما يقال إن تقسيم الحديث/ما بعد الحداثي ليس مجرد مسألة أكاديميات أو نزعة جمالية، ولكنه، شأنه شأن تقسيم ما قبل الحداثي/الحديث الذي يعمل كنموذجٍ معياريٍّ له، يُمثِّل دلالةً على وجود تمزُّقٍ وتفكُّك، ويدل على ظهور نوعٍ جديدٍ من العالم. في هذا العالم أدَّتِ العولمة المركزة، واللاأقلمة، وانهيار التنافُس بين الشرق/الغرب الرامي إلى الهيمنة على العالم، والثورة السيبرانية، وما إلى ذلك؛ إلى نشوء مظاهر و«ميول» للإقليمية لم يتوقعها ساك في ثمانينيات القرن العشرين.

(٣-٢) الخطاب

في السنوات التي أعقبت نشر كتاب «الإقليمية البشرية»، حدثت إعادةُ تركيزٍ ملحوظةٌ للانتباه في النظرية الاجتماعية والتفسيرات الجغرافية للإقليم نحو موضوعات الخطاب والتمثيل. وفي كتاب «الإقليمية البشرية» يجري تأطير قضايا ذات صلةٍ في إطار الأيديولوجيا، وعلى نحوٍ أوسع، «المفاهيم». والخطاب، كما ناقشنا في الفصل الثاني، يُشير أكثر إلى التكوينات الثقافية-المعرفية الواسعة النطاق والبنيات اللغوية التي يُدمَج فيها اللاعبون الاجتماعيون، والتي تكيف الفكر أو الوعي والممارسة بطرقٍ خاصة. وأساليب الخطاب ليست مجرد مجموعاتٍ من المعتقدات أو حتى الأيديولوجيات؛ إنها مجالات مفاهيمية يُرصَد من خلالها الاختلاف والتشابه. ربما حتى لا يكون مُعبَّرًا عنها لفظًا، ولكنها قد تُؤدَّى أو تُفعَّل. ويقال إن أساليب الخطاب، كطرقٍ للتفكير والتعبير اللفظي، تُتداول داخل الأنظمة الاجتماعية، وقد ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإنتاج المعرفة وسلطة الخبير تحديدًا؛ من أجل تكوين معنًى رسميٍّ للوقائع الاجتماعية. وثَمَّةَ أساليب خطابٍ بعينها تنبع من علاقات السلطة وتدعمها، ولكنها أيضًا قد تُضعِف أو تُعدِّل الطرق التي تعمل بها السلطة، وقد تكون تسويغيةً أو نقدية، تطبيعيةً أو غير تطبيعية. والانتباه إلى الخطاب أو الاستطراد يميل إلى تحريف قصدية الفرد عن مركزها (أو على الأقل وضعها في سياقٍ جديد)، وإبراز الأفعال أو الأحداث التواصلية، فيما يتعلَّق بأهدافنا الحالية، بمنظورٍ جديد.

يوجد جانبان لتحليل الخطاب ينبغي الإشارة إليهما في أي «مقدمة قصيرة» للإقليمية؛ الأول أنه توجد أساليبُ خطابٍ تتخذ من عناصر الجانب الاجتماعي أهدافًا أساسيةً لها، وتُؤسِّس وتُوجِّه الكيانات الإقليمية وفقًا لها. الجانب الثاني يكمن في وجود أساليبِ خطابٍ أضيق أُفُقًا بشأن الإقليمية في حد ذاتها. وفيما يتعلق بالأساليب الأولى، توجد أساليبُ خطابٍ لا حصرَ لها يُفهَم من خلالها العالم الاجتماعي، قد يُعَدُّ البعض منها ذا دلالةٍ أعم من البعض الآخر. الأمر المهم، أولًا، هو معرفة كيفية تجميعها معًا، وما هي اختلافاتها الجوهرية، وتأطيراتها الاعتيادية، وإقصاءاتها، وتسلسلاتها الهرمية المفاهيمية الأكثر ملاءمةً. ثانيًا، كيفية تفعيلها على نحوٍ عمليٍّ في الممارسة الاجتماعية. إن أساليب الخطاب المتعلقة بالجانب الاجتماعي ليست جامدةً أو خاملة؛ فهي تتغير وتتباين. وعلى نحوٍ حاسم، يمكن أن تندمج معًا، أو تُعزَّز، أو يتحدَّى أحدها الآخر. وبعض أساليب الخطاب قد تنشأ باعتبارها أساليب خطابٍ «مهيمنة» أو «مسيطرة» وتتخذ شكل المنطق السليم. وهذه الأخيرة، إلى جانب تلك التي تتحداها تحديًا مباشرًا، لها أهمية خاصة لفهم الإقليمية؛ بل إن جزءًا كبيرًا من الإقليمية البشرية يمكن فهمه كأسلوبٍ «تُنقَش» من خلاله أساليبُ الخطاب ذات الهويات المتباينة على أجزاءٍ من العالم المادي.

على سبيل المثال: في الجزء السابق عرضت لفكرة أن «الحداثة» قد لا تكون فترةً زمنيةً تاريخيةً مميزةً بقدر ما قد تكون قصةً معقدةً (أيْ خطابًا)، وإنْ كانت قصة ظهرت في مكان وزمان، وتغيَّرت على نحوٍ مثيرٍ بمرور الزمن. ومن بين العناصر الجوهرية المهمة لهذا الخطاب التميُّز الجوهري لما هو «حديث» في مقابل ما قبل الحديث (سواءٌ اعتُبر «بدائيًّا» أو «قديمًا»)، وقصة التقدُّم ومفاهيم الحرية والعقلانية المصاحبة لها، وتعزيز قيمة المواطن الفردي، والأولوية المعيارية التي تُعطَى للكفاءة، وأساليب الخطاب الفرعية للطبيعة التي تُشكِّل مذهب العلمية. وفي بعض الأزمنة والأمكنة اندمجت خطاباتُ الحداثة مع أساليب الخطاب المتمحورة حول العِرْق والجنسانية لتكوين معنًى سرديٍّ للاستعمارية وغيرها من أشكال الهيمنة. وفي سياقاتٍ أخرى لعبت دورًا في مقاومة الهيمنة العِرْقية. ويمكن أن تندمج مع خطابات الليبرالية بنفس سهولة اندماجها مع خطابات الاشتراكية؛ الفكرة المباشرة هي أن أساليب الخطاب المتعلقة بالحداثة «وتوزيعها العملي» ربما كانت لها تأثيرات بالغة على عمليات التدوين الإقليمي. ويمكن أن تكون الإقليمية ذات أهميةٍ جوهريةٍ لكيفية تفعيل هذه الأساليب في العالم.

على سبيل المثال: يمكن أقلمة الذكورة المتباينة الجنس بعدة طرق. تأمَّلْ مناقشةَ ليمان وسكوت لحانات الشواذ في الفصل الثاني. لقد لاحظَا أن «نمط الملبس واللغة بين الزبائن في إحدى الحانات قد يَنقل إلى شخصٍ مثليِّ الجنس في الحال أنه قد دخل إلى إقليمٍ أُمٍّ» (١٩٦٧، ٢٤٠). ولكن في مكانٍ آخَر، قد يَنقل هذا النمط في الملبس واللغة إلى آخَرين في الحال أنه في غير مكانه، أو خارج الحدود، أو غير متجانس؛ وحينئذٍ قد يُبرِّر هؤلاء الآخرون العنفَ ضده بالاعتماد على مفاهيم الذكورة المتعلقة بالخوف من المثلية (هيريك وبيريل ١٩٩٢؛ كانتور ١٩٩٨). بالمثل، قد يخضع العِرْق للأقلمة، ليس فقط بوضع لافتات «للبِيض فقط» أو بطرد الناس من الأماكن بالقوة، ولكن قد يحدث ذلك، على نحوٍ أكثر خفاءً، من خلال الالتزام بقوانين الآداب العِرْقية «المعمول بها»، التي تُسنُّ من خلال سلوكيات الخضوع أو الدفاع النمطية.

تضمَّن الفصل الثاني إشارةً إلى أساليب خطاب السيادة، والقومية، والاستعمارية، ومناهضة الاستعمار، والثقافة، والذات، والخصوصية. قد يفكر المرء بسهولةٍ في التأثير العميق الذي تركتْه أساليب الخطاب المتعلقة بالعِرْق على تشكيل الإقليم عبر العالم. إن فكرة «العِرْق» في أساسها عارضةٌ تاريخيًّا بالطبع، وفي بعض الروايات قد يكون من الأفضل أن يُنظَر إليها ليس كتبريرٍ للاستعمار، ولكن كأحد آثاره. وتشمل التكويناتِ الخطابيةَ التاريخيةَ الخاصةَ العنصريةَ العلميةَ في القرنين التاسع عشر والعشرين، اللذين استُخدِم فيهما العلمُ لتطبيع العنصرية، والتعامل مع تفوُّق البِيض كأمرٍ طبيعي، وتبرير سياسات الإقصاء والإبادة الجماعية. وتختلف الخطابات العنصرية السائدة في مطلع القرن الحادي والعشرين اختلافًا شديدًا، والعمل الذي تؤديه في تشكيل الإقليم مختلف أيضًا. بالمثل، تُكيِّف أساليب الخطاب المتمركزة حول النوع والجنسانية التشكيلات التاريخية والمعاصرة بعمق، خاصةً حين تندمج مع تمييز العام/الخاص. ومرةً أخرى، قد لا يكون من السهل فصل أساليب الخطاب العِرْقية عن أساليب الخطاب الجنسانية، وقد تندمج هذه الأخيرة بسُبُلٍ مختلفةٍ مع أساليب الخطاب المتعلقة بالحقوق والليبرالية لتأسيس التشكيلات الإقليمية بطرقٍ معقدةٍ للغاية.

على سبيل المثال: كانت الروايات التاريخية للعِرْق التي تضع «الأعراق» عبر متسلسلةٍ «للنضج» النسبي؛ عادةً ما تُستخدَم لتبرير نزع الملكية، والهيمنة، والعزل، والإقصاء. وفي بعض السياقات، كانت هذه الخطابات تندمج مع خطابات الجنسانية لدعم الصور المزدوجة للذَّكَر الأسود الشَّبِق غير الناضج والمرأة البيضاء النقية والمستضعفة؛ من أجل تبرير التبعية العِرْقية. الأهم بالنسبة إلى أهدافنا أنها قدَّمت الأساس التسويغي للأقلمة المفرطة للعِرْق والنوع، ولكنها عادةً ما كانت تندمج على نحوٍ مختلفٍ تمامًا فيما يتعلق بالرجال البِيض والنساء السود، مثل أن النساء السود كنَّ أكثرَ عرضةً بكثيرٍ للاعتداء الجنسي من قِبل الرجال البِيض، ولم يكن الرجال البِيض يتعرَّضون للإعدام لانتهاك الحدود العِرْقية-الجنسانية. كذلك تنوَّعَت الطرق التي لعبت بها أساليبُ خطاب العِرْق والجنسانية دورًا في عمليات الأقلمة الاجتماعية بلا شكٍّ في سياقاتٍ مختلفة، لِنَقُلْ، في الجنوب الأمريكي وجنوب أفريقيا، في عام ١٩١٠ أو في عام ١٩٦٠. وقد تشكَّلت عمليات أقلمة السلطة هذه عبر محورَي العِرْق والجنسانية، أو صارت ملموسة من خلال أساليب خطاب السلطة التي شكَّلت السياق الأوسع ﻟ «استراتيجيات» خاصة للسيطرة والتحكم، أو إجراءات خاصة «للتصنيف»، و«التواصُل»، و«فرض السيطرة».

لذلك فإن توجيه مزيدٍ من الانتباه إلى الخطاب والممارسات الخطابية من شأنه إعادة النموذج الشفاف (بدرجةٍ ما أو بأخرى) للتواصُل الذي يُشكِّل النظرية في كتاب «الإقليمية البشرية»؛ فهو يعقد فهمنا لكيفية صياغة عمليات الأقلمة للعلاقات بين السلطة، والمعنى، والخبرة. والانتباه إلى الخطاب في هذا الإطار يُتيح لنا النظر إلى التعقيدات الإقليمية — كتلك التي يُعبَّر من خلالها عن العِرْق والنوع — على نحوٍ أكبر في إطار تفصيلاتها الثقافية والتاريخية، ووضع ممارسات خاصة، مثل العزل، أو الترحيل، أو الإجلاء، أو الاحتجاز، وعلى نحوٍ أقل في إطار الاستراتيجيات المتعمَّدة للاعبين العقلانيين، وعلى نحوٍ أكبر في إطار الفعاليات الثقافية.

ولكن على نحوٍ أكثر تحديدًا، لا تعمل دوامةُ الأساليب الخطابية الاجتماعية على تكييف آليات الإقليمية بعمقٍ فحسب، بل إن الأساليب الخطابية الإقليمية المتخصصة نفسها قد تُشكِّل هذه الأساليب الخطابية الاجتماعية على نحوٍ تكراري. وتأكيد ساك هنا على الطابع المجرد للثقافات الحديثة (أو ربما، لمزيدٍ من الدقة، المكتوبة) مهم؛ فكما رأينا في الفصل الثاني، تتحوَّل الأساليب الخطابية المتمحورة حول السيادة والملكية الخاصة والذات إلى أساليبَ خطابيةٍ ملموسةٍ وواضحةٍ بالاعتماد على رؤيةٍ خاصةٍ للإقليم كبنياتٍ مميزةٍ للحدود لا كبنياتٍ مقسمةٍ تقسيمًا صارمًا إلى «داخلية/خارجية» على الحيز الاجتماعي.

(٣-٣) الهويات

بدافع من النظريات النسوية، ونظرية ما بعد الاستعمارية، ونظرية العِرْق النقدية، ونظرية الكوير، والنظرية الثقافية، وغيرها من المشروعات الأكاديمية الحديثة الأخرى؛ خضعت مسائل الهوية أيضًا لتدقيقٍ أكبر على نحوٍ ملحوظٍ منذ نُشِر كتاب «الإقليمية البشرية». ويرتبط جزءٌ كبيرٌ من هذا بعملية إعادة التفكير في الإقليمية التي نُوقِشت في الفصل الثاني. وكما أشرتُ فيما سبق، قد تُدعَم التفسيرات السائدة للهوية بالأساليب الخطابية التقليدية للإقليم. وقد تطوَّرت التحديات التي تُواجِه هذه التفسيراتِ السائدةَ من خلال الانتقادات التي تُوجَّه للأساليب الخطابية التقليدية للإقليم، التي تفترض وجود علاقة تَشابُه بين الهوية والإقليم. ويصبح هذا الأمر جليًّا للغاية فيما يتعلق بالقومية. وقد تطرَّقَ كتاب «الإقليمية البشرية» بالكاد لهذا الشأن؛ فالهُوِيَّة، على أقصى تقدير، مفترضةٌ ببساطة (ما يعني وجود دخلاء ومنتمين إلى الداخل)، والمشكلات المتعلقة بالهُوِيَّة والاختلاف والتشابه والتسلسل الهرمي لا تكاد تلعب أيَّ دورٍ في النظرية. ولعل من ضمن السمات المميزة للإقليمية الحديثة، بالنسبة إلى ساك، بروزَ التعريفات الإقليمية للعلاقات الاجتماعية (أو ربما «العضوية»). وبينما يُعَدُّ هذا بلا شكٍّ تعميمًا دقيقًا في هذا الإطار، فإن تأكيدًا أقوى ممَّا ينبغي على هذا يمكن أن يعتم على جوانب الغموض والتباين والتذبذب المتعلقة بعمليات تكوين ونسب الهُوِيَّة؛ ومن ثَمَّ لا يتيح سوى رؤيةٍ جزئيةٍ للدور الذي تلعبه الإقليمية في هذه العمليات.

وتميل الأساليب الخطابية الإقليمية السائدة، كتلك التي تتركَّز على القومية، إلى التعامل مع الهُوِيَّة بمصطلحاتٍ ماهوية: «نحن» ببساطةٍ نحن، و«هم» ليسوا «نحن». بالمثل، يُعَدُّ العِرْق والجنسانية والنوع ببساطةٍ تصنيفاتٍ طبيعيةً ومتمايزةً ودائمة. والممارسات الإقليمية عادةً ما تكون موجَّهة نحو تحقيق التطابق الملائم بين الهويات (الاختلافات) والحدود؛ فَلِكَي يتم إبعاد «الغرباء»، علينا أن نعرف مَن هم ومَن نحن. ولكن، كما هو مشار إليه فيما سبق، إذا استوعبنا جوانبَ عديدةً من الهُوِيَّة لا ﮐ «حقائقَ» موضوعيةٍ ثابتةٍ خالدةٍ عاكسة، ولكن كتكويناتٍ مخلقةٍ ومنقحةٍ ومتفاوَضٍ عليها على نحوٍ استطرادي؛ فسوف ننظر إلى علاقتها بالأقاليم نظرةً مختلفة؛ فمشكلة الهُوِيَّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة الاستطراد؛ ففي مقالٍ بعنوان «الهُوِيَّات الإقليمية كتكويناتٍ اجتماعية»، يذهب الجغرافي السياسي أنسي باسي إلى أنه يتعين على الباحثين أن يولوا اهتمامًا أكبر ﻟ «الممارسات والأساليب الخطابية التي تتكوَّن من خلالها روايات ورموز ومؤسسات الهُوِيَّة القومية، وكيف أنها تصبح «رواسب» للحياة اليومية، التي تُعَدُّ الأساسَ الجوهريَّ الذي تُستنسَخ بناءً عليه الأشكالُ الجماعية للهوية والإقليمية» (باسي ٢٠٠٠أ، ٩٣). ومن خلال وضع الهوية داخل سياق العولمة، يتساءل: «ما الكيفية التي ينبغي فهم «الهوية» بها في عالم التدفقات المعاصر؛ حيث الأفكار والسلع ليست وحدها التي تتنقل، بل البشر أيضًا؛ وحيث التفاعل بين الأشخاص الذين يعيشون في شتاتٍ يصبح أسهل بفضل تطوير تقنيات جديدة؟»

يذكر ويلسون ودونان «سياسةً جديدةً للهوية، حيث تتبارى تعريفات المواطنة، والأمة والدولة مع الهويات التي اكتسبَتْ دلالةً سياسيةً جديدة، مثل النوع والجنسية والانتماء العِرْقي والعِرْق، ضمن هوياتٍ أخرى، من أجل التحكم في الخيالات الشعبية والعلمية للعالم المعاصر» (١٩٩٩، ١). ولهذه السياسة آثار مباشِرة على كيفية فهم الإقليم، وعلى الأخص الحدود. «بفضل طبيعتها الحدية والمتنازع عليها دومًا، تميل الحدود لأن تتميز بهُوِيَّاتٍ متغيرةٍ ومتعددة، بطرقٍ تُحاط بإطارٍ من التشكيلات الخاصة للدولة التي تطوقها، والتي لا بد للناس أن يضيفوا بداخلها معنًى لخبرتهم مع حياة الحدود. ولا ينطبق هذا فحسب على الهوية القومية، بل أيضًا على الهويات الأخرى، مثل الانتماء العِرْقي، والطبقة الاجتماعية، والنوع، والجنسانيات؛ تلك الهويات التي غالبًا ما تتكوَّن على الحدود بطرقٍ تختلف عن الكيفية التي تتكوَّن بها تلك الهويات نفسها في أماكنَ أخرى داخل حدود الدولة، بل وتسلط الضوء أيضًا على هذه الكيفية» (ص١٣).

تُركِّز مثل هذه المناقشات على تشرذم أو ميوعة الهويات القومية في عالم معولِم غير مؤقلِم ظاهريًّا، والمشكلات التي يخلقها هذا للارتباط المتشابه للهويات القومية بالأقاليم السياسية. ولكن يوجد جوانب أو مكونات أخرى عديدة للهويات الفردية والجماعية (مفروضة أو منسوبة ذاتيًّا) تتعامل مع افتراضاتٍ أخرى مسلَّم بها بشأن الإقليم كإشكاليات. ومرةً أخرى، يُقدِّم العِرْق والنوع أمثلةً توضيحيةً مفيدة؛ ففي تاريخ الولايات المتحدة كانت الأقلمة المفرطة للعِرْق تُنظَّم جزئيًّا بواسطة الإشارة إلى «قاعدة القطرة الواحدة»، التي بمقتضاها كانت «قطرة واحدة» ممَّا كان يُسمَّى «الدم الزنجي» (أيْ سلف أفريقي واحد، مهما كان من زمنٍ بعيد) تؤدي إلى تصنيف شخصٍ ما «زنجيًّا»؛ ومن ثَمَّ «ليس أبيض» بطبيعة الحال؛ ولذلك، رسميًّا، كانت كل عمليات الإقصاء والعيوب والمزايا التي تَئُول إلى «الزنوج»، بمجرد أن ترتبط بهم، تصبح أبديةً لجميع ذُرية الفرد، حتى لو حُكِم عليهم في الظاهر بأنهم «قوقازيون». وكانت الفئات المهجنة، مثل «الموَلَّدين» أو «مَن كان ثُمن أسلافهم من الزنوج» أو «ذوي الدماء المختلطة»، التي كان العِرْق في أمريكا يوضح من خلالها في الخطابات الاجتماعية؛ تُطمَس بفضل فئتَي «الزنجي» و«القوقازي» القانونيتين الحصريتين، وكانت هذه الفئات تنظم بموجب قاعدة القطرة الواحدة. وردًّا على هذا، كان بعض الناس ممَّن استطاعوا اتخاذَ القرار المصيري «بتحويل» هُوِيَّتهم العِرْقية إلى العِرْق الأبيض، استطاعوا الهرب من عمليات الأقلمة المقيدة لتفوُّق البِيض. فالعِرْق هُوِيَّة واحدة فقط ضمن هوياتٍ عديدةٍ مسجلةٍ اجتماعيًّا. ولما كنَّا «نُصنَّف عِرْقيًّا» على نحوٍ مختلف، «نُصنَّف كذلك جنسيًّا» و«عمريًّا»، وهكذا، على نحوٍ مختلف. ويمكن العثور على ظاهرة «تغيير الهُوِيَّة العِرْقية» عبر محاور السلطة الأخرى أيضًا. ولما كانت محاور السلطة هذه خاضعة للأقلمة، فإن «تغيير الهُوِيَّة العِرْقية» (أو عدم تغييرها) أو كَوْن الفرد مطرودًا، بعد كشف هويته الحقيقية، قد يُقحَم على نحوٍ بالغٍ وعميقٍ في كيفية معايشة الإقليمية. والتعامل مع «الهُوِيَّة» كمشكلةٍ بهذه الطريقة من شأنه لَفْت انتباهنا إلى طرقٍ أخرى لتسيير الإقليم والتفاوُض عليه، ويُتيح لنا رؤية الممارسات الإقليمية بوصفها تتضمَّن أكثر من ممارسات التصنيف، والتواصل، وفرض السيطرة التي هي جميعًا في صميم نموذج ساك.

بعد ذلك توجد الهويات الأخرى التي لا تُحصَى، والتي لها أساس ولو جزئيًّا على الأقل في الآليات العملية للإقليم: اللاجئ، والمواطن الأصلي، والمستأجر، والسجين، والحارس، والهارب، والمحتل، والأجنبي، والمدير، وما إلى ذلك. وهذه الهويات أيضًا تتعارض وتندمج مع الفئات الاجتماعية الأوسع — أو تجنح عنها — و«المحتومة» فيما يبدو، الخاصة بالجنسية، والعِرْق، والنوع، والسن. وبقدر ما تُعَدُّ الهوية الآن متلونة، فإن العناصر الإقليمية التي تأخذ الأهمية الظاهرية للهوية كأمرٍ مُسلَّمٍ به (باعتبارها ثابتةً بدرجةٍ ما أو بأخرى بفعل الإقليم) مفتوحةٌ للمُساءَلة والتشكيك. والهوية في هذا الإطار ليست من الشواغل البارزة لكتاب «الإقليمية البشرية». فبمجرد أن تصبح إشكالية، يتوجب كذلك أن يكون فهمنا للإقليمية. وفي الفصل القادم سوف نبحث العلاقةَ المعقدةَ بين الإقليمية وتركيب هُوِيَّات «الإسرائيليين» و«الفلسطينيين».

(٣-٤) السياسة

لم تكن موضوعات الهوية، والخطاب، وما بعد الحداثة، سائدةً في المناقشات الأكاديمية للإقليم على هذا النحو وقتَ تأليف كتاب «الإقليمية البشرية». وحتى لو كانت كذلك، لم يكن غيابها النسبي عن نظرية ساك ليُشكِّل خللًا بالضرورة. على الجانب الآخر، ربما توقع المرء أن موضوع السياسة قد أُعطِي أهميةً أكبر بكثير، ويصحُّ هذا على نحوٍ خاصٍّ بالنظر إلى مجال الجغرافيا الذي يُعَدُّ المجال الأم بالنسبة إلى ساك؛ فقد كان «الإقليم» ملكًا للجغرافيين السياسيين لأجيال. يحدد وصف ساك على نحوٍ صارمٍ موضعَ آليات الإقليمية لدى أولئك الذين يمتلكون السلطة على الآخرين أو يطمحون إليها، ولكنَّ وصفه في النهاية هو قراءة هزيلة نوعًا ما للسلطة، و«السياسة» بأي حال شبه غائبةٍ تمامًا. ولكن على الرغم من ذلك، لا بد من الانتباه إلى حقيقة أن نوعيات الأحداث والعلاقات والممارسات، التي تُعَدُّ الآن على نحوٍ روتينيٍّ «سياسيةً»، مختلفةٌ نوعًا ما عن تلك التي عادةً ما كانت تُعَدُّ سياسةً منذ جيلٍ مضى.

وكما شاهدنا في الفصل الثاني، قد يكون مفهوم «السياسي» في حد ذاته محدودًا بافتراضاتٍ «بديهية» بشأن الإقليم؛ فترى نظرية العلاقات الدولية «الواقعية» التقليدية، على سبيل المثال، أن «العنصر السياسي» يوجد فقط داخل الدول السيادية، وليس بينها. وثَمَّةَ رؤًى تقليديةٌ أخرى تربط العنصر السياسي بالمنافسات من أجل السيطرة على الدولة، أو بإجراءات وممارسات الديمقراطية. ومرةً أخرى، وتحت تأثير النظريات النقدية مثل النسوية، والماركسية، وما بعد البنائية، ونظرية العِرْق النقدية؛ صار «العنصر السياسي» الآن مُعترَفًا بوجوده داخلَ جميع جوانب الحياة الاجتماعية تقريبًا؛ لذلك قد يكون مُعرَّفًا فيما يتعلَّق تقريبًا بأي حدثٍ خاضعٍ للأقلمة. والواقع أن نزع مصطلح «سياسي» من آليات العلاقات الاجتماعية قد يُفهَم في حد ذاته كإزالةٍ تكتيكيةٍ للصفة السياسية، أو بعبارةٍ أخرى كعمليةٍ سياسيةٍ في حد ذاته. إذًا، إذا كان «العنصر السياسي» موجودًا في كل مكان، وإذا كان عنصرًا غير قابلٍ للحذف أو الطمس (ربما) من أي حدثٍ إقليمي، فما الذي كانت ستعنيه قراءة كتاب «الإقليمية البشرية» من منظورٍ أكثر سياسيةً؟ كما هي الحال مع موضوعات الحداثة، والخطاب، والهوية، لا يسعني هنا سوى تقديم بعض المقترحات؛ فهدفي ببساطةٍ هو الإشارة إلى بعضٍ من حدود إقليم ساك.

بادئ ذي بَدء، ما معنى أن يكون الشيء «سياسيًّا»؟ إن أي علاقةٍ مشربةٍ بالسلطة يمكن التفكير فيها بوصفها تعني ضمنيًّا نوعًا من السياسة؛ فالسياسة تتمحور حول كل الأنشطة والأحداث الاجتماعية المحيطة بالعلاقات الاجتماعية التي تتسم بالهيمنة، أو التبعية، أو التجريح، أو المقاومة، أو التعاون، أو التضامن، أو الوفاق، أو التفاوض. وينطبق هذا على علاقات النوع، أو علاقات العِرْق، أو العلاقات بين الشباب والسلطات، أو العلاقات في محيط العمل، بقدر ما ينطبق على العلاقات بين الحكومات أو بين الجهات الفاعلة الحكومية والجهات الفاعلة غير الحكومية. ووفقًا لهذا، فإن أي تعبيرٍ للإقليمية (مثل فرض شبكاتٍ إقليميةٍ على الشعوب الأصلية، وإخراج الأطفال من الفصول، وعزل اللاجئين في المعسكرات، وإجلاء واضعي اليد عن الأبنية، واستبعاد النساء من الأندية الاجتماعية) سيكون له بُعْد سياسي. وعلى نحوٍ تبادُلي، سوف يُشير العديد من أشكال الحراك السياسي (سياسة الهوية، وسياسة الحركات الاجتماعية، وسياسة النوع، والسياسة البيئية) ضمنيًّا إلى الإقليم بطرقٍ معقدة. ولما كانت السلطة تتخلل العلاقات الاجتماعية، وجب أن تكون السياسة كذلك. وجزء من الفكرة وراء تحليل الخطاب هو كشف النتائج السياسية المترتبة فرضًا على أحداثٍ غير سياسية، والكشف عن كلٍّ من الأيديولوجيات التسويغية والأيديولوجيات المضادة التي يصبح لعناصر العالم من خلالها معنًى ومغزًى. وبالرغم من كل مزاياها الكبيرة، فإن كتاب «الإقليمية البشرية» يتبنَّى موقفَ أولئك الذين يفرضون إرادتهم على الآخرين (يتحكمون فيهم). فلا يوجد سوى اهتمامٍ محدودٍ للغاية بما يبدو عليه الأمر حين تكون الطرفَ المتلقِّيَ لمحاولات السيطرة، أو كيفية تأثير ديناميكيات المقاومة أو المراوغة على عمليات الأقلمة. وعمومًا، يرى ساك أن الطرف المتحكَّم فيه إما أن يخضع وإما أن يُعاقَب؛ وهذا يُعطي إدراكًا ملتويًا للغاية للطبيعة الفعلية للإقليمية في العالم؛ ولذلك فهو يُعطي إدراكًا ملتويًا لكيفية خلق وتنقيح العوالم الاجتماعية والحفاظ عليها عبر الإقليمية.

على نحوٍ متصل، يسقط من النماذج والأمثلة التوضيحية العديدة الواردة في كتاب «الإقليمية البشرية» أيُّ اعترافٍ بالدور الذي يلعبه العنف في الممارسات الإقليمية؛ فقد «تُفرَض» أوامر وتعليمات المسيطِرين بالقوة، وقد «يُعاقَب» المنتهكون لهذه التعليمات، ولكنَّ هاتين الكلمتين تميلان إلى تجميل التشكيلات الإقليمية محل النقاش. وهكذا لا تبين التحولات في العمل في أقاليم التشيبيوا الواردة في الفصل الأول من كتاب «الإقليمية البشرية» أيَّ أثرٍ للعنف والمعاناة اللذين جلبتهما. بالمثل، وصفت نتائج التحولات على ظهور الرأسمالية واستمرارها على هذا النحو: «من بين الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري «تجريدُ» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيارَ العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص٧٩). كيف تسنَّى لهم هذا «الضمان»؟ كيف استجاب الفلاحون «لتجريدهم» من خيار إطعام أنفسهم؟ الكثير من مظاهر الإقليمية، وربما معظمها، تولَّد من الاستخدام المباشِر للعنف، ولكن الكثير منها، وربما معظمها، يجلب على الأقل التهديد الضمني إذا لم يُتَحْ ﻟ «المسيطِرين» تحقيق ما يرغبونه. والسيادة والملكية الخاصة — الأعمدة التأسيسية لجزءٍ كبيرٍ من الإقليمية الحديثة — في حد ذاتهما جزءان ثابتان في لعبة العنف والخوف؛ لذا يُعَدُّ كتاب «الإقليمية البشرية» وصفًا لا دمويًّا نوعًا ما لما يُعَدُّ في الغالب جانبًا فوضويًّا للغاية يتسم بالتقلب العاطفي من التنظيم الاجتماعي المكاني البشري. ولو كان ساك قد نظر بمزيدٍ من الاهتمام إلى الجانب الآخر من العلاقات الإقليمية، لربما حدَّدَ ميولًا وتوافقاتٍ أخرى مهمة.

(٣-٥) طرق أخرى للنظر عبر الإقليم

إن الهدف هنا ببساطةٍ هو إعادة فحص حدود أو تخوم كتاب «الإقليمية البشرية» من أجل الكشف عن بعضٍ ممَّا استُبعِد أو هُمِّش من هذا المنظور. وفي سبيل هذا الهدف قد يكون من المفيد عقد مقارنةٍ سريعةٍ بين كتاب ساك وكتاب ديفيد سيبلي «جغرافيات الإبعاد» (١٩٩٥). إن كتاب سيبلي ليس رحلةً نظريةً عبر مجال الإقليمية في حد ذاته، وأيضًا لا يتطلَّع سيبلي إلى بلوغ المجال التاريخي الواسع الذي بلغه ساك. وبينما تم تأليف الكتاب من منظور «ما بعد التخصصي» (صxv)، فإنه يُعَدُّ في الأساس جغرافيا اجتماعيةً مدعومةً بالتحليل النفسي وإثنوجرافيا للأشخاص العاديين؛ فالاهتمام الأساسي بالنسبة إلى سيبلي يتعلق بالجوانب المكانية للعلاقات الشخصية لكونها منظمة لأساليب الخطاب المتعلقة بالاختلاف. ومما يُمثِّل أهميةً خاصةً لسيبلي أساليبُ الخطاب المرتبطة بالعِرْق، والنوع، والسن، والأدوار التي تلعبها في «الإنتاج الخطابي للغرباء» (صxv). ولعل السمة الأهم لما أطلقنا عليه الإقليمية، بالنسبة إلى سيبلي، هي الكيفية التي تعمل بها في العمليات الاجتماعية للتهميش والاضطهاد. وهو يُعرِّف «السيطرة الاجتماعية» بمصطلحاتٍ مشابهةٍ لمصطلحات ساك: «إن السيطرة الاجتماعية هي التنظيم المدبر لسلوك الأفراد والجماعات من قِبل أفرادٍ وجماعاتٍ أخرى في مواقعَ حاكمة» (ص٨١). ولكن، على عكس ساك — ومعظم المنظِّرين الآخرين — يبدأ سيبلي بالجوانب التجريبية للإقليم؛ فيكتب قائلًا: «أود أن أبدأ بدراسة مشاعر الأشخاص تجاه الآخرين؛ نظرًا لأهمية المشاعر في تأثيرها على التفاعل الاجتماعي، خاصةً في مواقف العنصرية والأشكال الأخرى للاضطهاد» (ص٣). كذلك تتميَّز أسئلته الإرشادية بالاختلاف على نحوٍ مدهش؛ فيتساءل: «إلى مَن تنتمي الأماكن؟ مَن هم المستبعَدون منها؟ وكيف يُبقَى على أنواع الحظر هذه عمليًّا؟ بعيدًا عن دراسة النظم القانونية وممارسات وكالات السيطرة الاجتماعية، تتطلَّب تفسيراتُ الإبعاد وصفًا للحواجز والمحظورات والقيود على الأنشطة من وجهة نظر المُبعَد (صx). ومما يحظى باهتمامٍ خاصٍّ فَهْمُ «الكيفية التي تتجلَّى بها عمليات السيطرة في إبعاد أولئك الناس الذين يُحكَم عليهم بأنهم منحرفون، أو فاسدون، أو على الهامش، وعمليات إقامة الحدود من قِبل جماعاتٍ في المجتمع يَعتبِر أفرادُها أنفسَهم عاديين أو تقليديين» (صxv). ومن بين هذه العمليات تلك المتضمنةُ في فهم مصطلحَي «اعتراض» و«تطهير»؛ فالاعتراض هو «المفتاح لفهم الإبعاد» (ص١١). «إن الإصرار على إجراء عمليات فصل، بين الطاهر والدنس، المنظم وغير المنظم، «نحن» و«هم»، أي طرد الوضيعين؛ يتم تشجيعه في الثقافات الغربية؛ ممَّا يخلق مشاعرَ قلقٍ نظرًا لأن مثل هذه الانفصالات لا يمكن تحقيقها على نحوٍ مكتملٍ إطلاقًا» (ص٨). و«الفصل هو جزء من عملية التطهير — إنه الوسيلة التي يتم من خلالها تجنُّب التدنيس أو التلويث — ولكن الفصل يفترض سابقًا تصنيفًا للأشياء ما بين نقيةٍ ونجسة» (ص٣٧).
إن قراءة سيبلي للإقليمية في المنزل الحديث تتعارض تعارضًا صارخًا مع قراءة ساك؛ فبالرغم من اعترافه بأن «المنزل كملجأ» يُعَدُّ موضوعًا أكثر شيوعًا بكثيرٍ في العلوم الاجتماعية من «المنزل كمصدرٍ للصراع»» (ص٩٢)، فإنه مع ذلك يركز الانتباه على آليات الإقليم، والسلطة، والخبرة داخل بعض البيوت على الأقل. و«حيثما لا تُعَدُّ الرغبة في بيئةٍ نقيةٍ مشتركةٍ بين جميع أفراد عائلةٍ ما، يكون المنزل مكانًا للصراع» (ص٩١)؛ «ففي المجال المنزلي، سوف يُعنَى الأفراد المهيمنون بالحفاظ على الحدود المكانية، مثل إبعاد الأطفال عن المساحات الخاصة بالكبار، وبالتنظيم الزمني لأنشطة الأطفال؛ فالحفاظ على السيطرة يعني الحفاظ على حدودٍ واضحةٍ بعيدةٍ عن أي غموض.» (ص٩٦). وبربط هذه الأقاليم بقوًى اجتماعيةٍ أوسع، يعتقد سيبلي أن:

الإبعاد المستمر والفرض الصارم للحدود أو التدخُّل المتواصل في حياة الأطفال ومساحاتهم المعيشية؛ قد يُسهم في حدوث مشكلاتٍ سلوكيةٍ لدى الأطفال والمراهقين؛ فالمنزل المُعَدُّ كحيزٍ عالي التنظيم وخالٍ من التلوث، من قِبل متعهدي توريد لوازم ومفروشات المنازل، لا يوفر بيئةً عطوفةً ووديةً للأطفال. وتتفاقم الميول الإبعادية بفعل التمثيلات التجارية للمنازل المثالية التي تمنح الأطفال وجودًا باعثًا على التلوث. (ص٩٨)

إن رؤية سيبلي الأكثر قتامةً على نحوٍ ملحوظٍ للعمليات المحتملة للإقليمية في المنزل الحديث نابعةٌ من تعاطُفه الوجداني مع المبعَدين، والمهمَّشين، والمدنسين. والإقليم، وعوالمنا الحياتية المفرطة في الأقلمة، تبدو مختلفةً من هذا المنظور. والواقع أن وجهة النظر هذه في حد ذاتها عادةً ما تُستبعَد من الاستكشافات الخاصة بالإقليمية؛ غير أن الفكرة ليست في كون رؤية سيبلي صحيحةً أو أن رؤية ساك تقف في حاجةٍ إلى التصحيح؛ فكلتاهما منقوصة بالأساس. إن قيمة كتاب «جغرافيات الإبعاد» تكمن في تحديد بعضٍ من حدود كتاب «الإقليمية البشرية». وقراءة «الإقليمية البشرية» في ضوء «جغرافيات الإبعاد»، تكشف «ميولًا» أخرى بالإضافة إلى تلك التي عدَّدها ساك. ومثل هذه القراءة أيضًا من شأنها تعقيد الالتزام بالعقلانية الذي يُشكِّل جزءًا كبيرًا من «الإقليمية البشرية»، بل أيضًا العناصر الأمامية للباثولوجيا الاجتماعية التي تملأ التشكيلاتِ الإقليميةَ الحديثةَ على نحوٍ مميزٍ على جميع المستويات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤