حكاية الشاويش «علي»

في صباح اليوم التالي … في حديقة «عاطف» جلس المغامرون الخمسة يتحدثون … فروى «محب» و«عاطف» ما حدث لهما في الليل … ولكن برغم القصة المثيرة التي روياها كانت هناك قصة أكثر إثارة حملها إليهم الشاويش «فرقع» عندما ظهر بعد قليل وهو يركب دراجته وقد بدا تعسًا ومبتئسًا إلى أقصى حد.

وكان الأصدقاء بالطبع في غاية الاهتمام بالمطاردة … فقد كان آخر ما شاهده «محب» و«عاطف» اللص الهارب وخلفه الشاويش «علي»، وصاح «عاطف» عندما رأى الشاويش: هل قبضت عليه؟

قال الشاويش وهو يسند دراجته ويجلس: نعم … قبضت عليه … حاصرته في غرفة مغلقة ولم يكن بيني وبينه إلا متر أو متران وأمسكته من رقبته.

ومد الشاويش يديه الكبيرتين، وكأنه يتخيل أنه يقبض على رقبة اللص … ومضى يقول بانفعال: جريت خلفه … برغم الحذاء الثقيل كنت أجري — صدقوني — كالريح، وأخذت المسافة بيني وبينه تقل تدريجيًّا … ولحسن الحظ … انضم إليَّ رجل في المطاردة وأخذنا معًا نجري خلفه.

وأخذ الشاويش نفسًا عميقًا ثم مضى يقول: وجرى وجرينا … مسافة طويلة في الظلام … وللأسف لم يكن معي سلاحي … فإني أتركه في القسم حسب التعليمات … ولو كان معي لأطلقت عليه الرصاص … ولكن لم يكن — كما قلت لكم — معي أي سلاح … لم يكن معي سوى قدمي …

قالت «لوزة» بنفاد صبر: المهم يا شاويش هل قبضت عليه؟

رد الشاويش متضايقًا: انتظري لحظات … ستعرفين كل شيء … لقد جريت كما لم أجر في حياتي أبدًا … و…

وسكت الشاويش لحظات ليسترد أنفاسه ثم عاد يقول: وحدث لي أغرب حادث في حياتي.

وانتبه الأصدقاء جميعًا … شدتهم كلمات الشاويش الأخيرة … وأخذوا يستمعون في شغف وقال الشاويش: لأول مرة في حياتي أرى جثة تتحرَّك — جثة تَهرُب — رجل ميت يَختفي من أمام عيني.

وبدت على وجوه الأصدقاء الخمسة علامات الدهشة أولًا — ثم عدم التصديق ثانيًا … ولوى «عاطف» فمه وكاد يُطلق تعليقًا ساخرًا … لولا أن الأصدقاء لاحظوا أن الشاويش كان جادًّا جدًّا وهو يتحدث … ولم يكن من الممكن أن يكون قد جاء إليهم ليقول لهم قصة خرافية تثير ضحكهم.

قال «تختخ» بهدوء: اشرح لنا هذه النقطة يا شاويش … جثة تتحرَّك … ميت يهرب … إنها كلمات مخيفة وغريبة في الوقت نفسه.

عاد الشاويش إلى الحديث: صدقوني إنكم طبعًا تعرفون أنني لا أكذب أبدًا … ولماذا أكذب؟ … إنني قلت هذا الكلام نفسه للمفتش «سامي»، فهل أكذب على المفتش أيضًا؟

قال «محب»: اطمئن يا شاويش «علي» إننا نُصدِّقك … المهم قل لنا كيف تحركت الجثة وهرب الميت؟

هز الشاويش رأسه قائلًا: جريت ومعي هذا الرجل خلف اللص … وبعد فترة كان واضحًا أنه أدرك أننا سنلحق به في النهاية فدخل منزلًا … فتح الباب ودخل … ونظر الشاويش إلى الأصدقاء ليرى وقع كلماته ثم مضى يتحدث: ولم أتردَّد طبعًا ودخلت المنزل خلفه …

قال «تختخ» لحظة واحدة يا شاويش … تقول إنه دخل المنزل … هل كان المنزل مفتوحًا أو فتحه ودخل؟

الشاويش: لا … كان الباب مغلقًا … ولكن الرجل أدار مقبض الباب فانفتح، وقبل أن يغلقه خلفه كنت قد وصلتُ ومنعتُه من إغلاق الباب، فتركه وجرى، ودخلت جاريًا … وسمعت صوت أقدامه فوق السلم الداخلي؛ فقد كان المنزل «فيلا» … وصعدت خلفه … وفتح باب إحدى الغرف ودخل … ثم أغلق الباب … ففتحت الباب ودخلت … ودخل معي الشخص الذي اشترك في المطاردة.

وانتبه الأصدقاء جميعًا، فقد كانت اللحظة الحاسمة قادمة وقال الشاويش: وجدت الرجل يقف في طرف الغرفة وهو يلهث … وصدره يعلو ويهبط بشدة … كان واضحًا أنه مُرهَق من كثرة الجري … وكنت مثله … وتقدمتُ لأُمسكَه … ولم يبد مقاومة … وفجأة …

وصمت الشاويش وبدت على وجهه علامات التوتُّر الشديد: وفجأة سمعت ثلاث طلقات رصاص تأتي من خلفي … ورأيت الرجل يصرخ ثم يترنح ويسقط على الأرض … كان شيئًا مذهلًا … مات اللص في لحظة بعد أن كدتُ أصل إليه … وأفقت إلى نفسي بعد لحظات من الذهول وتلفَّت خلفي … ورأيت الرجل الذي كان معي يجري … فجريت خلفه … ونزلت السلَّم مُسرعًا … ووجدته يقف أمام الباب وقال لي: إن الرجل الذي أطلق الرصاص خرج من الباب … ولا أدري إذا كان قد جرى في اتجاه اليمين أو اليسار … وفكَّرت بسرعة … وطلبت منه أن يجري هو من ناحية، وأنا من الناحية الأخرى، فلم يكن حول «الفيلا» منازل قريبة … جريت أنا ناحية اليمين، وجرى هو ناحية اليسار، وتقابلنا خلف «الفيلا» بدون أن نجد أحدًا … لقد استطاع القاتل الهرب في الظلام … ووقفت أنا والرجل الذي اشترك في المطاردة نُحدِّق في الظلام … لم يكن أمامنا ما نفعله فعدنا إلى المنزل … وعرفت أن اسمه «شوقي» وأنه كان عائدًا من «القاهرة»، عندما شاهدني أطارد اللص فاشترك معي لأنه يعرفني …

وسكت الشاويش لحظات ثم مضى يكمل قصته: وقال لي «شوقي» إن القاتل شخص طويل القامة … يرتدي ملابس قاتمة اللون … وشعره طويل … وطبعًا هو رآه من الخلف فلم يستطع أن يحدد شكله بحيث نتعرف عليه … وعدنا كما قلت إلى «الفيلا»، وكانت في انتظارنا مفاجأة أكبر من كل المفاجآت التي مرت بنا …

وتعلقت أبصار المغامرين الخمسة بشفتي الشاويش «علي» الذي لمعت عيناه وهو يقول: صعدنا السلالم، واتجهنا إلى الغرفة التي قُتل فيها اللص … كان النور خفيفًا كما كان … وكانت الغرفة خالية!

وسكت الشاويش فقال «محب»: خالية؟ واللص القتيل؟

الشاويش: لم يكن في الغرفة أحد على الإطلاق، لقد هرَب القتيل! طارت الجثة كأنها لم تكن.

لوزة: غير معقول يا شاويش!

الشاويش: أقسم أن هذا ما حدث … وأخذت معي «شوقي» نجري في أنحاء «الفيلا» المهجورة، ولكن لم يكن للصِّ القتيل أثر … لقد اختفى كأنما هو دخان تلاشى في الهواء!

وصمت الشاويش وأخذ ينظر إلى الأصدقاء كأنما يبحث عندهم عن تفسير لهذه الظاهرة العجيبة، وكان المغامرون الخمسة صامتين … يفكرون فيما سمعوه من الشاويش … محاولين الاقتناع بحكاية الجثة الهاربة.

وكان «تختخ» أول المتحدثين فقال: هل أنت متأكد يا شاويش أن الرصاصات الثلاث أصابت اللص؟

الشاويش: طبعًا … لقد انطلقَت من خلفي، ورأيته وهو يترنَّح ثم يسقط على الأرض صارخًا وهو يُمسك بقلبه.

تختخ: وبعدها؟

الشاويش: كما قلت لك … أُصبتُ بالذهول لحظات، ثم تلفَّت خلفي وجريت ووجدت «شوقي» قد سبقني جاريًا إلى باب «الفيلا» خلف القاتل.

تختخ: وهل فحصتها فحصًا دقيقًا؟

الشاويش: لا؛ فكما قلت كان الضوء فيها قادمًا من الخارج، ضوء خفيف لا يكفي لفحص أي شيء.

تختخ: هل تَعني أنها ليسَت مسكونة؟

الشاويش: لستُ مُتأكدًا … ولكن الغرفة التي دخلها اللص كانت غرفة نوم بها الأثاثات الخاصة بها.

تختخ: إننا نُحبُّ أن نفحصها … إذا كان ذلك ممكنًا!

الشاويش: إنني ذاهب إلى هناك الآن فتعالوا معي.

وقام الأصدقاء جميعًا … وتدحرجت الدراجات في طريقها إلى «الفيلا» التي جرَت فيها الأحداث … وكان في ذهن المغامرين جمعًا أسئلة كثيرة حول هذه الواقعة الغريبة؛ فإن ما رواه الشاويش عن الجثة الهاربة كان شيئًا بعيدًا عن العقل.

وعندما وصل الأصدقاء والشاويش، كان في انتظارهم مفاجأة أخرى في سلسلة المفاجآت التي يمر بها هذا اللغز العجيب. لقد وجدوا «الفيلا» مفتوحة الباب وأمامها بعض الأشخاص، وسيارة عليها بعض الحقائب.

أشار الشاويش إلى «الفيلا» قائلًا: هذه هي!

محب: ومن هؤلاء؟

الشاويش: لا أدري … هذه أول مرة أراهم.

ولم يكد الواقفون أمام باب «الفيلا» يُشاهدون الشاويش حتى انطلقَت صيحاتهم وارتفعت أيديهم في الهواء … وعندما وقف الشاويش وخلفه الأصدقاء قال أحد الواقفين أمام الباب بانفعال شديد: لقد سُرقنا … سرقُوا منزلنا يا شاويش!

وفتح الشاويش فمه كأن صاعقة انقضَّت عليه، وقال: من الذي سرقها؟

رد الرجل في ضيق: ومن أين نعرف؟ إن عليك أنت أن تعرف، لقد جردوها من كل شيء ثمين.

نزل الشاويش من على دراجته وسأل: هل كنتم هنا أمس ليلًا؟

الرجل: لا طبعًا، لقد كُنا في إجازة بالإسكندرية منذ يوم الأربعاء، وحضرنا الآن فقط.

ونظر الشاويش إلى الأصدقاء كأنما يلتمس مشورتهم، فقال «تختخ»: من اللازم أن نفحص «الفيلا» يا شاويش «علي» لنرى ماذا سرق؟

وتشجع الشاويش وقال: نعم … سأقوم بذلك!

وقال «تختخ» للأصدقاء: انتظروا أنتم وسأدخل أنا معه … فسوف نلفت أنظار أصحاب «الفيلا» إذا دخلنا جميعًا.

وأسرع «تختخ» خلف الشاويش ودخلا معًا، وهمس «تختخ» في أذن الشاويش بأنه يُريد مشاهدة الغرفة التي كان بها اللص القتيل، وبينما كان الشاويش يستمع إلى السكان وهم يعدُّون الأشياء المسروقة وأوصافها، كان «تختخ» منهمكًا في فحص الغرفة … الأرض والنوافذ … والفِراش والأغطية … وكل شيء فيها … ثم ترك الشاويش يستمع إلى السكان وخرج، ودار حول المنزل ووقف تحت نافذة الغرفة التي كان بها اللص القتيل، وأخذ يقيس المسافة بين النافذة والأرض، ووقف يفحص الأرض تحت النافذة، ثم سار نحو ثلاثين مترًا وأخذ يفحص الأرض حوله بعناية.

وعاد «تختخ» ليجد الشاويش ما زال منهمكًا في الحديث مع السكان، فتقدَّم منه واستأذن في الحديث إليه لحظات، فترك الشاويش السكان ووقف مع «تختخ».

فقال له «تختخ»: لقد قلت لنا إن «شوقي» — الذي اشترك في مطاردة اللص معك — يعرفك … فهل تعرفه أنت؟ أقصد هل كنت تعرفه؟

قال الشاويش عابسًا: لا، لم أكن أعرفه من قبل، لكنه كان يُعرفُني … أنت تعرف طبعًا أنني مشهور في …

قاطعه «تختخ» قائلًا: طبعًا … طبعًا يا شاويش … ولكن هل أخذت اسم «شوقي» بالكامل وعنوانه؟

وقال الشاويش: طبعًا، هل تظنُّ أن مثل هذا الإجراء يمكن أن يفوتني، لقد أخذت اسمه وعنوانه.

تختخ: هل هو معك الآن؟

مد الشاويش يده في جيبه ثم أخرج نوتة قديمة، وأخذ يُبلِّل طرف إصبعه ويُقلِّب أوراقه في دقة ثم توقف عند صفحة منها وقال: هذا هو … «شوقي عبد …» «شوقي عبد …» إنني لا أستطيع قراءة بقية الاسم، ولكن عنوانه شارع ٨٩ رقم ١٩.

ردد «تختخ» الاسم والعنوان، ثم قال للشاويش: سنذهب الآن لمقابلة «شوقي» ونرجو أن نراك بعد أن تتَّخذ إجراءاتك هنا.

وترك «تختخ» الشاويش ثم اتجه إلى الأصدقاء، وما إن رأوه حتى انهالوا عليه بالأسئلة، ولكنه ظل صامتًا، ورفع يده إشارة لهم بالتوقف ثم قال: هيا إلى دراجاتكم سريعًا، إن عندنا عملًا هامًّا!

نوسة: ما هو؟

تختخ: ستَعرفون الآن.

محب: إنك تتصرَّف بغموض شديد! ماذا نفعل الآن؟

تختخ: سنذهب إلى البحث عن رجل غير موجود … رجل اسمه الأستاذ «شوقي»!

عاطف: عظيم … هذا هو الكلام … رجل غير موجود.

تختخ: نعم … لأنه لو وجد فسوف أكف عن حل الألغاز وأسرح بعربة لبيع الترمس.

لوزة: ما هذا الكلام يا «تختخ»!

تختخ: اتبعوني فقط … فإننا مُشتركون في أغرب لغز في العالم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤