و… حكاية «شوقي»

وصل الأصدقاء إلى شارع ٨٩، وسألوا عن المنزل ١٩ … كان عمارة كبيرة يجلس أمامها بواب نوبي أسمر ظريف الشكل. وتقدَّم «محب» للحديث معه فسأله عن الأستاذ «شوقي».

قال البواب النوبي: الأستاذ «شوقي».

محب: نعم الأستاذ «شوقي».

البواب: أي «شوقي»؟

محب: هل يَسكُن هنا أكثر من «شوقي»؟

البواب: نعم … هناك الأستاذ «شوقي السيد» و«شوقي بسطا» فأيهما تريد؟

تردد «محب» قليلًا ثم قال: الأستاذ «شوقي السيد»!

البواب: شقة ٧ الدور الثاني.

عاد «محب» إلى الأصدقاء الذين كانوا يقفون على الرصيف الآخر، وروى لهم الحوار الذي دار بينه وبين البواب، وقال: والآن … ماذا نفعل؟

لوزة: نصعد إلى الأستاذ «شوقي السيد» ونسأله عن حوادث الأمس … فإن لم يكن هو الذي ساعد الشاويش «فرقع»، يكون الأستاذ «شوقي» الثاني هو المقصود.

عاطف: ولكن بأية صفة نصعد، ماذا نقول له بالضبط؟

محب: ليست مشكلة … سنقول له إننا من طرف الشاويش «علي».

عاطف: أنا شخصيًّا لن أصعد.

محب: سأذهب أنا …

تختخ: وننتظرك نحن عند قمة الشارع.

وتقدم «محب» إلى العمارة بجرأته المعروفة، وسرعان ما كان يقف أمام الشقة رقم ٧ وضغط الجرس.

مرت لحظات، ثم فتح الباب وظهرت سيدة سمراء نظرت إلى «محب» مُستفسِرة، فقال «محب»: آسف لإزعاجك … ولكني أُريد مقابلة الأستاذ «شوقي».

نادت السيدة بصوت مُرتفِع: يا أستاذ «شوقي».

وظهر الأستاذ «شوقي» … وكان رجلًا متوسط العمر أشقر، يلبس جلبابًا أبيض ويُمسك مسبحة … وكان يقول وهو يمر بالصالة في طريقه إلى الباب: تفضل يا أستاذ … تفضل!

ولكنه لم يكد يرى «محب» حتى خفت حماسته قليلًا وقال: نعم، هل تُريدني حقًّا؟

محب: نعم يا سيدي … إنني قادم من طرف الشاويش «علي»!

الرجل: الشاويش «علي»؟ الشاويش «علي»؟ من هو الشاويش «علي»؟

محب: الشاويش «علي» رئيس نقطة الشرطة بالمعادي!

وبدا التوجس على وجه الرجل وقال: وماذا يريد الشاويش «علي» منِّي؟

محب: ألم تكن معه ليلة أمس تُطاردان لصًّا؟

وقبل أن يكمل «محب» جملته رفع الرجل يده بالمسبحة واستوقفه قائلًا: أنا؟ … لم يحدث شيء من هذا مطلقًا … إنني لم أخرج من منزلي بالأمس … بل إنني لا أخرج بعد عودتي من العمل إلا قليلًا جدًّا.

محب: آسف جدًّا … يبدو أن الأستاذ «شوقي بسطا» هو المطلوب!

الرجل: إنه يسكن فوقنا مباشرة!

وأقفل الرجل الباب وصعد «محب» السلالم قفزًا، ووقف أمام باب الشقة لحظات يستردُّ أنفاسه ثم ضغط الجرس … وفتح ولد صغير الباب وقال: ليس عندنا مكوى اليوم.

ابتسم «محب» وقال: إنني أريد مُقابلة والدك.

ترك الباب مفتوحًا، وجرى داخل الشقة مناديًا: «وجدي» «وجدي» … وظهر ولد آخر أكبر سنًّا، وجاء إلى الباب. وسأل «محب»: ماذا تريد؟

محب: أريد أن أقابل والدك.

الولد: لماذا؟

محب: قل له إنني من طرف الشاويش «علي».

أخذ الولد ينظر باسترابة إلى «محب» لحظات ثم قال له: ولكن والدي في الفراش.

وسمع «محب» صوتًا نسائيًّا يخرج من إحدى الغرف: من يا «وجدي»؟

رد «وجدي»: إنه ولد يُريد مقابلة أبي.

وظهرت سيدة يبدو عليها الحزن، وأخذت تفحص «محب» وقالت: تريد مقابلة الأستاذ «شوقي»؟

محب: نعم.

السيدة: ولكنه لا يقابل أحدًا.

محب: لماذا يا سيدتي؟

السيدة: لأنه يا ولدي مُصاب بأزمة قلبية، والأطباء منعوا عنه الزيارة، إلا إذا كانت مسألة ضرورية جدًّا.

أحس «محب» بالخجل ولكنه لم ينس أن يسأل السيدة: ألم يخرج أمس.

السيدة: لا طبعًا … إنه منذ عشرة أيام لم يغادر الفراش مطلقًا!

أسرع «محب» ينزل السلالم مسرعًا … ووصل الشارع واتجه إلى حيث كان الأصدقاء ينتظرونه على أحر من الجمر.

وصاحت «لوزة»: هل وجدته؟

محب: وجدتهما.

وبدت على وجه «تختخ» علامات استفهام كثيرة وقال: وجدت «شوقي» الذي كان مع الشاويش أمس؟

محب: هناك اثنان باسم «شوقي»… «شوقي» الأول لا يُغادر منزله بعد الظهر ولا يعرف الشاويش ولم يره في حياته، و«شوقي» الثاني مصاب بأزمة قلبية ولم يغادر فراشه منذ عشرة أيام.

وابتسم «تختخ» قائلًا: كما توقعت بالضبط.

نوسة: توقعت ماذا؟

تختخ: ألم أقل لكم إننا ذاهبون للبحث عن رجل غير موجود! هيا بنا إلى حديقة «عاطف»؛ فعندنا حديث طويل.

وركبوا الدراجات وانطلقوا إلى حديقة منزل «عاطف»، وعندما وصلوا إلى هناك، تحدث «تختخ» تليفونيًّا مع المفتش «سامي»، وروى له ما حدث ليلة أمس وصباح اليوم، وأملاه رقم السيارة الذي التقطه «محب» وهو ٢٢٦٨ ملاكي القاهرة … وأثنى المفتِّش على ما قام به الأصدقاء، ثم قال: لقد وصلني تقرير الشاويش «علي» عن هذه الحوادث، وإذا كان فيه جديد فسوف أخطركم لأنني لم أقرأه بعد.

ووضع «تختخ» السماعة ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: والآن … ما رأيكم في كل ما حدث؟ صمت الأصدقاء ينظرون إلى «تختخ» الذي عاد يقول: لقد قلت لكم إننا ذاهبون للبحث عن رجل غير موجود. فهل أدركتم الآن ما كنتُ أعني؟

لوزة: تقصد «شوقي»؟

تختخ: بالضبط، لقد كنتُ متأكدًا أن «شوقي» شخصية خُرافية لا وجود لها!

عاطف: هل تقصد أن الشاويش اخترع حكاية «شوقي»؟

تختخ: لا … إن الشخص الذي انضمَّ إلى الشاويش في مطاردة اللص، شخص لا شك في وجوده، ولكن اسمه وعنوانه كذبتان جازتا على الشاويش وهو معذور في هذا … ففي مثل أحداث الأمس يمكن للإنسان في لحظات التوتُّر أن يُصدِّق ما يقال له.

نوسة: ومن هو هذا الشخص إذن؟

تختخ: ببساطة جدًّا … هو أحد أفراد العصابة!

انطلقت صيحات الدهشة من أفواه الأصدقاء، وقالت «لوزة»: إنه رجل جريء جدًّا … لقد كان في إمكان الشاويش أن يقبض عليه.

تختخ: بأية تهمة؟ إنه رجل ساعده في مطاردة اللص، وقال إنه يَعرف الشاويش، وطبعًا الشاويش سعد جدًّا بأن هناك شخصًا يعرفه، ثم أملى الشاويش اسمه وعنوانه، وهكذا وثق فيه الشاويش.

محب: ولكن لماذا اشترك اللص في مطاردة زميله؟

تختخ: إنه لم يشترك في المطاردة، لقد اشترك في تخليص زميله من يدَي الشاويش.

عاطف: لا تنسَ أن هناك شخصًا ثالثًا هو الذي أطلق الرصاص على اللص.

تختخ: ليس هناك شخصٌ ثالث على الإطلاق.

عاطف: والذي أطلق الرصاص؟

تختخ: إنه «شوقي» المزعوم.

لوزة: إنك تتحدَّث بالألغاز يا «تختخ»!

تختخ: مطلقًا … وسأحكي لكم الآن تصوراتي عن هذا اللغز الذي يبدو عجيبًا … إنه لا يحلُّ لغز عصابة يوم الخميس، ولكن يحلُّ لغز الجثة الهاربة وهي لغز في قلب اللغز!

وتطلع الأصدقاء إلى «تختخ» الذي مضى يقول: كما وصف «محب» و«عاطف»، لقد ركبَتِ العصابة السيارة وفرت هاربة وتركت اللص الأخير. وكانوا طبعًا متأكدين أنه إذا قبض عليه الشاويش فسوف يعترف عليهم. ويقعون جميعًا في يد الشرطة … فماذا كان في إمكانهم أن يفعلوا؟

ونظر «تختخ» إلى الأصدقاء، ثم مضى في حديثه: لقد قال «عاطف» إنه عندما انحنى على «محب» سمع صوت سيارة تسير ثم تقف قريبًا من مسرح الأحداث، ثم تسير مرة أخرى … لقد كانت سيارة العصابة، فقد أنزلت أحد اللصوص ليراقب ما يحدث لزميله، فلما شاهد الشاويش يطارد زميله، كانت فكرة ذكية منه أن يتظاهر بأنه يساعد العدالة ويشترك في المطاردة، وبالطبع كان سيتدخل إذا قبض الشاويش على زميله، وفي إمكانهما معًا أن يتغلبا على الشاويش … وهكذا جرى اللص وخلفه الشاويش و«شوقي» المزعوم، ولما وجد اللص أنه تعب من الجري، ووجد نفسه قريبًا من «الفيلا» التي سرقوها أسرع يَختبئ فيها.

قاطعته «نوسة» قائلة: هل تظنُّ أن العصابة سرقة «فيلتين» في الليلة نفسها؟

تختخ: طبعًا لقد سرقت «الفيلا» الأولى التي لجأ إليها اللص، ثم ذهبوا لسرقة «الفيلا» الثانية حيث كان «محب» و«عاطف» يراقبان. والدليل على أنهم سرقوا «الفيلا» الأولى أن اللص لجأ إليها … فقد كان يعرف أن الباب مفتوح، وأنه ليس فيها أحد … ولو كان منزلًا عاديًّا مسكونًا لما لجأ إليه!

محب: معقول جدًّا!

تختخ: دخل اللص … ودخل الشاويش خلفه يتبعه «شوقي» المزعوم … وصعدا إلى الدور الثاني حيث حاول اللص الاختباء في إحدى الغرف … وشاهد اللص أولًا الشاويش … ثم خلفه زميله … وأدرك بالطبع أن هناك محاولة لإنقاذِه … وسكت «تختخ» لحظات ثم قال: أريدكم أن تتصوروا ما حدث … فهناك عدة احتمالات …

ونظر إليهم فوجدهم جميعًا في غاية الانتباه إليه فقال: الآن … اللص في الغرفة ظهره إلى الحائط ووجهه إلى الباب … الشاويش يدخل … وجهه إلى اللص وظهره إلى «شوقي» … هل هذا واضح؟

نوسة: واضح جدًّا.

تختخ: يُخرج «شوقي» مسدسه وطبعًا الشاويش لا يراه، ثم يطلق النار على زميله ويذهل الشاويش لحظات أمام طلقات الرصاص من ناحية وسقوط اللص صريعًا من ناحية أخرى، وكان ذلك وقتًا كافيًا ﻟ «شوقي» كي يخفيَ المسدَّس … ويجري متظاهرًا بأنه يطارد الرجل الذي أطلق الرصاص … هل هذا معقول؟

قال الأصدقاء في نفس واحد تقريبًا: معقول جدًّا …

وابتسم «تختخ» معجبًا بنفسه ثم مضى يقول: ويجري الشاويش للإمساك بالرجل الذي أطلق الرصاص، ويجد «شوقي» واقفًا أمام الباب مُتظاهِرًا بالحيرة … في أيِّ اتجاه جرى الرجل الذي أطلق النار؟ ثم يتفقان على أن يلفا حول «الفيلا» كل واحد في اتجاه مختلف … ويلتقيان خلفها ويتحدثان. وفي هذه الفترة يكون اللص الذي أطلق عليه الرصاص وحده … واضح؟

قال الأصدقاء: واضح.

ولكن «محب» يقول: هناك نقطة هامة … ألم يلفتْ صوت الرصاص انتباه أحد؟

تختخ: هذا شيء لا أعرفه الآن … ولكن لعلكم لاحظتم أن «الفيلا» بعيدة عن بقية المساكن بمسافة طويلة … والناس نيام … فالساعة كانت الثانية تقريبًا بعد منتصف الليل … وحتى لو استيقظ شخص على صوت الطلقات فلن يعرف مصدرها … وحتى لو تصورنا أن شخصًا خرج للبحث عن مصدر الطلقات فهل سيذهب إلى الاتجاه الصحيح؟

ورد على نفسه قائلًا: في الغالب لا …

وقالت «لوزة»: المهم الآن … أين ذهبت الجثة؟

ابتسم «تختخ» قائلًا: وهل كانت هناك جثة؟

وفتح الأصدقاء أفواههم دهشة وعجبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤