الشاويش مرة أخرى!

قال الأصدقاء في نفس واحد تقريبًا: كيف؟ لقد قال الشاويش إنه سمع الرصاصات الثلاث، ثم شاهد اللص وهو يترنَّح ويسقط على الأرض.

قال: «تختخ»: معكم كل الحق … ولكن السؤال هل فحص الشاويش اللص وتأكَّد أنه أصيب بالرصاصات الثلاث؟

رد «عاطف»: لا … لقد خرج لمطاردة الذي أطلق الرصاص، وعندما عاد لم يجد الجثة.

تختخ: وهذا يعني أنه لم يتأكَّد أبدًا أن اللص قد قتل؟

نوسة: والرصاص؟

تختخ: الحقيقة أنه كانت في ذهني هذا الصباح فكرتان.

وسكت لحظات يستجمع ذهنه ثم مضى يقول: طبعًا استبعدت تمامًا حكاية الجثة الهاربة … فليس هناك جثث تتحرَّك وتهرب إلا في أفلام الرعب … طبعًا كلام فارغ … إذن كان أمامي احتمالان؛ الأول أن يكون اللص قد أصيب فقط، واستطاع أن يتحامل على نفسه ويهرب، والثاني أن يكون اللص لم يصب على الإطلاق … وعندما ذهبنا اليوم إلى «الفيلا» بحثت الاحتمال الأول وفحصت أرض الغرفة التي جرت فيها أحداث هذه القصة المثيرة … ولم أجد أثرًا لدماء على الإطلاق … ثم بحثت عن آثار الطلقات … ربما تكون قد أصابت الحائط أو سقطت منها واحدة على الأرض ولكني لم أجد شيئًا … ثم خرجت وبحثت في الأرض الفضاء التي حول «الفيلا» باحثًا عن آثار اللص المصاب فلم أجد شيئًا … كما أني فحصت السلالم والطرقات فلم يكن هناك أثر … ومعنى هذا أن الاحتمال الأول غير صحيح. ويبقى الاحتمال الثاني … وهو أن اللص لم يُصَب … فماذا حدث إذن؟ من الممكن أن يكون الرصاص الذي أطلق هو رصاص «فشنك» أي رصاصٌ بلا رأس … فكما تعرفان بأن الرصاصة تتكون من جزأين؛ جزء أجوف به البارود، ومركب عليه جزء صلب هو الذي يندفع ويُصيب الهدف … فإذا نزعنا الرأس، وأغلقنا الجزء الذي به البارود، فهو يفرقع كالرصاص الحقيقي بالضبط … ولكن تأثيره لا يزيد على إحداث صوت الانطلاق فقط …! وهو ما يسمونه الرصاص «الفشنك» … ولكني استبعدت هذا الحل؛ فمن غير المعقول أن يكون اللص قد استعد بهذا الرصاص لهذا الموقف، لأنه لم يكن يعرف طبعًا أنه سيحدث … وعدت إلى فكرة … إنه سيطلق الرصاص ولكن لا يصيب زميله ولكن ليخرج الرصاص من النافذة المفتوحة، أي يمر بجواره فقط.

نوسة: ولكنه ترنح وسقط على الأرض.

تختخ: إنها حركة تمثيلية بسيطة يمكن أن يقوم بها أي شخص … حتى الأطفال الصغار يقومون بها في منتهى البراعة … وقد فهم اللص عندما شاهد المسدس الذي في يد زميله أنه سيطلق عليه الرصاص ولكن لن يصيبه، وعرف أن عليه أن يتظاهر بأنه أصيب … وقد فعلها … وعندما جرى الشاويش للبحث عن الذي أطلق الرصاص … أطلق اللص «القتيل» ساقيه للريح وخرج من «الفيلا». وعندما عاد الشاويش و«شوقي» المزعوم للبحث عنه ولم يجداه أدرك «شوقي» أن خطته قد نجحت، فأعطى الشاويش اسمًا زائفًا، وعنوانًا لا يسكن فيه، وهكذا انتهت القصة الظريفة …

لوزة: ولكنك لم تعثر على الرصاص في الحديقة!

تختخ: من المؤكد أنه موجود. ولكنه مختفٍ في الحشائش التي تُحيط بالمنزل.

محب: إن هذه الحوادث حذرت العصابة. فسوف تكون أكثر حذرًا، بل لعلها ستتوقف عن أسلوب السرقات الحالي، وتلجأ إلى وسيلة أخرى.

تختخ: أعتقد أننا لم نَخسَر كل شيء.

محب: كيف؟

تختخ: عندنا أولًا السيارة التي كانت تركبها العصابة. وهناك شيء آخر …

قالت «لوزة» بلهفة: ما هو؟

تختخ: شيء قاله «محب» ونسيناه في وسط الزحمة … ذلك الرجل الذي نزل من سيارة العصابة وكان يُسنده شخصان حتى باب «الفيلا». ثم عاد بعد ذلك إلى السيارة … ألم يَلفِت نظركم هذا؟

سكت الأصدقاء وأخذوا يتذكروا ما قاله «محب»، ثم قال «تختخ»: والآن يا «محب» ما دمت أنت الذي رأيته … قل لنا … ماذا أحسست عندما رأيته؟

فكر «محب» قليلًا ثم قال: لا أدري … ربما كان أكثر ما أحسستُ به … أنه رجل عجوز.

لوزة: عجوز! ولكن لماذا تأخذ عصابة للسرقة معها رجلًا عجوزًا لا يستطيع السير؟ إن اللصوص عادة خفاف الحركة.

تختخ: هذا ما فكرت فيه بالضبط … ما هي حكاية هذا الرجل؟ ولماذا — فعلًا — تأخذ عصابة معها رجلًا عجوزًا أو مصابًا؟

نوسة: شيء مُحيِّر!

تختخ: هناك شيء واحد … أن تكون العصابة في حاجة إليه … ألا يكون في استطاعتها الاستغناء عنه!

وفي هذه اللحظة دق جرس التليفون … وكان المتحدث هو المفتش «سامي»، وتحدث قائلًا: إنهم وجدوا السيارة التي التقط رقمها «محب»، وقد وجدت أمام مستشفى «قصر العيني» واتضح أنها مسروقة … سرقتها العصابة لتقوم بعملية السطو بها، ثم تركتْها هناك.

تختخ: وهل عرفتم صاحبها؟

المفتش: نعم … إنه طبيب بمستشفى «قصر العيني» … وقد اكتشف سرقتها بالصدفة.

تختخ: بالصدفة … كيف؟

المفتش: كان عنده «نوبتجية» في المستشفى، وعادةً يترك سيارته بجوار المستشفى، ولا يخرج إلا في الصباح، ولكن تصادف أن أمرًا عاجلًا في منزله استدعى خروجه قرب منتصف الليل. فلم يجد سيارته … وأبلغ عنها … وفي الصباح وجدناها مكانها.

تختخ: شيء عجيب!

المفتش: للأسف إنه أسلوب بعض الشباب المنحرفين … يأخذون السيارات للنزهة بها ثم يتركونها مهجورة في أماكن بعيدة.

تختخ: ولكنهم في هذه المرة أعادوها إلى مكانها.

قال المفتش ضاحكًا: ربما كان عندهم بعض الذوق فقط!

وانتهت المكالمة … والتفت «تختخ» إلى الأصدقاء وروى لهم حديثه مع المفتش «سامي»، فقال «عاطف» معلقًا: لا جديد؟

فرد «تختخ» وهو مُستغرق في تفكير عميق: من يدري؟

شاهدوا الشاويش «فرقع» قادمًا على دراجته … كان وجهه يتصبَّب عرقًا وقد بدا عليه الإجهاد الشديد.

أسند الشاويش دراجته ودخل بخطوات متعثرة على الأصدقاء، ثم ألقى بنفسه في أقرب مقعد وقال: شيء لا يصدق … جريمتا سرقة في ليلة واحدة … ومطاردة في الظلام ثم ينتهي كل شيء ولا أحصل على أية معلومات؟!

قال «تختخ»: وبالمناسبة يا حضرة الشاويش. أحبُّ أن أقول لك إننا ذهبنا للبحث عن الأستاذ «شوقي»، وقد وجدنا اثنين باسم «شوقي» في العنوان الذي أعطيته لنا.

ونسي الشاويش ما هو فيه وقال بصوت مُحتقن: ها أنتم تعودون إلى التدخُّل في عملي مرة أخرى … إنني سوف …

ولكن «تختخ» رفع يده قائلًا: آسف جدًّا يا شاويش. اعتبر أننا أخطأنا، ولن نعود للتدخل مرة أخرى … بل اعتبر أننا لا دخلَ لنا مُطلقًا بهذه العصابة التي استطاعت أن تسرق عدة مرات بدون أن تصل حتى إلى دليل واحد عنها.

أحنى الشاويش رأسه ثم قال: إنني مُتضايق جدًّا … إنني لا أصدق ما يحدث … إن الكوارث تنهال على رأسي ولا أدري ماذا أفعل.

تختخ: إننا نرجو أن تُحدِّد لنا ما تريد منا الآن.

تردد الشاويش لحظات ثم قال: إنني فقط … أقصد أنني … أعتقد أنكم ربما وصلتم إلى شيء …

تختخ: لقد وصلنا فعلًا.

أشرق وجه الشاويش قائلًا: عظيم … إلى أي شيء وصلتم؟

تختخ: لقد وصلنا إلى أن الأستاذ «شوقي» الذي اشترك في المطاردة معك لا وجود له على الإطلاق.

ذُهل الشاويش وعاوده عبوسه وقال: كيف؟ … لقد قلت منذ لحظات إنكم وجدتم «شوقيَّين» لا واحدًا فقط.

تختخ: تمامًا … ولكن كلاهما ليس «شوقي» الذي اشترك معك في المطاردة … فالأول واسمه «شوقي السيد» قال إنه لا يخرج من منزله ليلًا إلا نادرًا … وإنه لا يعرفك … ولم يشترك معك في أية مطاردة.

الشاويش: والثاني؟

تختخ: والثاني مُصاب بأزمة قلبية، ولم يُغادر فراشه منذ عشرة أيام، ولو جرى عشر خطوات فقط … لسقط من طوله ميتًا.

فتح الشاويش فمه في ذهول وهو يستمع إلى «تختخ»، وكانت أنظار بقية الأصدقاء تَرقُب الحوار بين الاثنين … وشاهد انعكاسات حديث «تختخ» على وجه الشاويش.

قال الشاويش بعد لحظات: هل تقصد؟ …

قال «تختخ» أقصد بالضبط ما قلتُه لك … وأكثر من هذا أننا نعتقد أن «شوقي» الذي اشترك معك في المطاردة … عضوٌ في العصابة التي أطلقنا عليها اسم «عصابة يوم الخميس».

لم تعد أعصاب الشاويش تَحتمِل، فقفز من مكانه كالملسوع قائلًا: إنكم لا تفهمون شيئًا … إنكم لستم مُغامِرين ولا أي شيء … إنكم تضحكون عليَّ … لقد قال لي «شوقي» إنه يعرفني!

تختخ: المهم هل تعرفه أنت؟ هل سبق لك أن رأيته أو تعاملت معه؟

رد الشاويش في ضيق: لا …

تختخ: آسف جدًّا يا شاويش … فقد كنتَ ضحية خدعة … ونحن على كل حال لا نلومك … فأي شخص في موقفك كان سيقع في الخطأ نفسه.

استرد الشاويش بعض هدوئه وقال: إذن كان اللص الأول في يدي واختفت جثته … وكان اللص الثاني في يدي وتركته.

تختخ: النصف الثاني من حديثك صحيح … أما النصف الأول الخاص بالجثة فلنا فيه رأي مختلف … وإذا تفضَّلت بالاستماع لي لحظات قليلة فسوف اشرح لك وجهة نظري … حتى تتمَّ تحقيقاتك حول الحادث، وعندك كل الحقائق الخاصة بهذه العصابة … أو بالتحديد ما حدث بالأمس.

وقيامًا بواجب الضيافة قالت «لوزة»: هل تحبُّ أن تشرب كوبًا من الشاي … أو من عصير الليمون؟

رد الشاويش: شاي لو سمحت …

وأخذ «تختخ» يعيد مع الشاويش الاستنتاجات التي رواها للأصدقاء … وفم الشاويش يفتح ويغلق بين كلمة وأخرى … ومنديله يدور مُجفِّفًا العرق الغزير الذي كان يسيل على وجهه وهو يسمع الاستنتاجات العجيبة التي توصَّل إليها «تختخ»، والتي كانت منطقية تمامًا.

وعندما انتهى «تختخ» من سرد استنتاجاته … كان الشاويش يُمسك بكوب الشاي الذي أحضرته «لوزة» وقد استغرق في تفكير عميق.

وكان لا بد أن تمضي دقائق طويلة حتى يستطيع الشاويش أن يَبتلِع هذه الحقائق كلها.

قال «تختخ»: والآن يا شاويش … إننا نريد ملاحظاتك على كلٍّ من اللص الهارب و«شوقي»، وسنُطلِق عليه هذا الاسم حتى نصلَ إلى معرفة اسمه الحقيقي.

فكر الشاويش لحظات ثم قال: ملاحظات؟ … ليس لي ملاحظات، إلا أن اللص الهارب كان يجري كالشيطان، وكأنه بطلٌ في الجري.

تختخ: ملاحظة لا بأس بها … وهل تذكر أوصافه؟

الشاويش: طبعًا … فقد شاهدته وهو في الغرفة … وبرغم أن الضوء لم يكن كافيًا إلا أنني أتذكر أنه كان قصير الشعر … له شارب يُخفي أغلب فمه … وقد لاحظت شيئًا عجيبًا …

وانتبه الأصدقاء جميعًا وقال الشاويش: عندما دخلت الغرفة … وجدته حافيًا!

عاطف: حافٍ! يا له من لص مسكين ليس معه ما يكفي لشراء حذاء.

أشار «تختخ» ﻟ «عاطف» حتى لا يَسترسِل في سخريته، وقال «تختخ»: ملاحظة هامة للغاية يا شاويش … ولكن هل عندك تعليل لها؟

الشاويش: لا أدري في الحقيقة!

نوسة: أعتقد أنه لم يذهب للسرقة وهو حافٍ … ولكنه تخلص من حذائه في الطريق ليكون أسرع في الجري.

تختخ: استنتاج معقول جدًّا … ومعنى ذلك أن الحذاء مُلقًى في مكانٍ ما بين «الفيلا» الأولى والثانية، فهل تذكر يا شاويش الطريق الذي مررتما به في أثناء الجري؟

الشاويش: طبعًا أذكره … فليس هناك مكان في المعادي لا أحفظه كما أحفظ الطريق إلى مسكني.

تختخ: و«شوقي» المزعوم … هل لك عليه ملاحظات؟

الشاويش: لا شيء مهم … شاب متوسط القامة … حاد الملامح … بارز الأسنان قليلًا … ولكن هناك شيء غريب فيه.

ومرة أخرى انتبه الأصدقاء إلى الشاويش الذي قال وهو يهز رأسه: ليس فيه بالضبط … ولكن في الجو الذي يحيط به … فعندما وقفنا نتحدث معًا شممت رائحة عجيبة … ليست عطرًا بالتأكيد … فهي ليست رائحة طيبة … إنها رائحة تُذكِّرُني بشيء ما.

قال «تختخ» يستحثه: تُذكِّرك بماذا يا شاويش؟

أخذ الشاويش يحك رأسه ثم قال: لا أذكر … إنها تذكرني بمكان كنت فيه لفترة من الوقت!

تختخ: أي مكان يا شاويش؟ حاول أن تتذكر.

هز الشاويش رأسه وقال: لا أذكر … إنني مرهق … ربما تذكرت فجأة … أما الآن فإنني لا أستطيع …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤