فنّ القصَص

تكاد القصة اليوم في الغرب تستأثر بالأدب المنثور كله، وهي ولا ريب تتقدم كل ما سواها من صور هذا الأدب: فالرسائل التي كانت ذات مكانة سامية في زمن من الأزمان قد اختفت أو كادت، والقطع الوصفية القائمة بذاتها، والمكاتبات الأدبية الطريفة الأسلوب … وما إلى ذلك من أنواع النثر، قد اندمج في القصة وأصبح بعض ما تشتمله، وأنت إذا سمعت اليوم بكتاب رسائل لكاتب معروف كحديقة أبيقور لأناتول فرانس، والحكمة والقدر لماترلنك وغيرهما من مثلهما، لم تجد لهما في عالم الأدب من المكانة مثلما كان لرسائل مونتني في القرن السادس عشر ولبعض رسائر روسو وفولتير في القرن الثامن عشر، وأصحاب هذه الرسائل أنفسهم إنما يكتبون كتب رسائلهم على سبيل التنويع بين العدد الكبير من القصص التي تجود بها قرائحهم، ولم يذكر كاتبٌ في النقد الحديث أن كتابًا من كتب الرسائل قد أثر في سيرة الجماعة تأثير قصة من القصص، في حين يذكر كثير من هؤلاء الكتاب ما كان لقصة إميل في التربية لروسو، ولرواية فرتر الخالدة لجيتي، ولبعض روايات فلوبير وزولا وفرانس وبول بورجيه وغيرهم من بالغ الأثر. بل إن كثيرين ليعترفوا بأن القصة الروسية في العصر الأخير منذ تولاها دستويفسكي وترجنيف وتلستوي كانت ذات أثر بالغ في توجيه الحياة الأوربية كلها.

ويذكر مؤرخو الآداب أن فنّ القصص على الصورة المعروفة اليوم في الغرب فنٌّ حديث. لكنهم يذكرون كذلك أن القصص لذاته قديم يرجع إلى أيام اليونان وإلى ما قبل أيام اليونان في مصر والصين. من اليسير أن يقدر الإنسان قدم القصص، وأنه نشأ مع الإنسانية منذ نشأت، ثم تطور بعد ذلك في صور مختلفة إلى أن وصل إلى الصورة الفنية المعروفة اليوم في الغرب، وأقرب دليل على ذلك ما نشاهده من ارتياح الأطفال للقصص، وإنصاتهم لها، وعظيم استمتاعهم بها. كذلك نرى أشد أنواع الأدب أثرًا في نفس الجماهير أيًّا كان المدى الذي بلغته من الحضارة، هو هذا النوع. هؤلاء «الشعراء» الذين يذهبون إلى الأرياف وإلى مقاهي المدن يقصون حكايات عنترة وأبي زيد ودياب بن غانم يستثيرون من حماسة الجماهير بأدبهم القصصي هذا ما لا سبيل إلى مثله عن طريق غير القصة من صور الأدب، والأطفال والدهماء هم صورة الإنسانية في بدء حياتها، وإذن فقد كانت هذه الإنسانية مولعة بالقصص منذ نشأتها، وقد كانت القصة من أول الصور للفن الأدبي ظهورًا فيها.

إلى جانب هذا الدليل دليلٌ آخر يضارعه قوة أو يزيد عليه؛ ذلك أن الحياة من أولها إلى آخرها قصة تتكرر في صور مختلفة باختلاف الأفراد واختلاف الأزمنة والأمكنة التي يعيشون فيها. ثم إن حياة كل فرد من الأفراد تتكون في مجموعة من القصص الصغيرة أو الكبيرة، وماذا تراك تذكر لصاحب لك حين تراه بعد انقطاعك عنه أيامًا أو شهورًا أو سنين؟ أوَلا يسأل كل منكما الآخر عما فعل الله به أثناء انقطاعكما، فيقص عليه صاحبه ما حدث له في هذه الأثناء، وما وقعت عليه أو اتصل به خبره؟ والقصة بوصفها فنًّا لا تزيد على جمع هذه الأخبار التي يتحدث الناس بعضهم إلى بعض بها، واختيار طائفة من بينها، وخلق صورة حيّة منها تمثل عالمًا خاصًّا له مميزاته وأشخاصه، وما وقع لهؤلاء الأشخاص من خير وشر، وما أثروا في البيئة المحيطة بهم وما تأثروا بهذه البيئة.

ونحن واجدون من رواية التاريخ ما يعزز هذين الدليلين ويزيدهما قوة، ولسنا في هذه السبيل بحاجة إلى استقصاء تاريخ الأمم المختلفة في الأزمان العريقة في القدم. بل يكفينا أن نرجع إلى التاريخ الديني وإلى الكتب المقدسة نفسها. فهذا التاريخ يقصُّ على الناس من أخبار من تقدمهم ما فيه لهم موعظة وعبرة، والتاريخ نفسه ليس إلا قصصًا يسبغ عليه كل مؤرخ من خياله ما يسبغ على حياته قوةً وفيضًا. كما أن القصة ليست إلا تاريخًا إن أبدعه خيال كاتبٍ أو أديب فهو إنما أبدعه من واقع الحياة، وكثيرون من القصصين يلجأون إلى التاريخ يستلهمونه مادة قصصهم كلّها. فوالتر سكوت في إنجلترا، وإسكندر دوماس في فرنسا، إنما اتخذا من تاريخ إنجلترا ومن تاريخ فرنسا مادة قصصهما جميعًا، وهما قد أسبغا على هذه القصص من خيالهما قوةً تجعلنا نتشكك إلى حدٍّ كبير في صحة كل الوقائع التي يرويانها، وإن كان خيالهما يزيد هذه الوقائع رواء وروعة عما كانت عليه الوقائع التي حدثت بالفعل، ومن لا يلجأون إلى التاريخ من القصصين إنما يلجأون إلى ملاحظة الواقع أمامهم، وتدوين مشاهداتهم في قصصهم، وهذا نوع من التاريخ أيضًا، تاريخ الحاضر، في حين أن السابق تاريخ الماضي، ولذلك كثيرًا ما يلجأ المؤرخون إلى ما كتب في عصر من العصور من قصص، وما وضع أهله من رسائل يستلهمون هذه الصور الحية من فنون الأدب؛ ليرسموا صورة صحيحة من الجمعية التي عاش هذا الأدب بين أظهرها. هذه الصلة الوثيقة بين القصص والتاريخ هي التي جعلتنا نستشهد بالتاريخ الديني للدلالة على قدم القصة. كذلك جعنا نستشهد بهذا التاريخ أنه لم يرو ما روي من قصص السابقين بقصد تحقيق وقائعها وتدوين تفاصيلها، وإنما رواها عبرًا ومزدجرًا، والرواية للعبرة والزجر تقتضي اختيار وقائع معينة من حياة من سبقوا يكون فيها موضع العبرة، كما تقتضي صياغة هذه الوقائع في الأسلوب القويّ الذي يدخل العبرة إلى النفس ولو كانت بطبيعتها جامدة عن أن تفهمها، والقصاصُ المؤرخون الذين يكتبون بهذا الأسلوب ولهذه الغاية يقيمون فنًّا من فنون الأدب، ومن أسمى فنون الأدب.

ولقد اتُّهم الأدب العربي القديم خطأً بخلوه من القصص، وكانت دعامة أصحاب هذه التهمة أن ليس في الأدب القديم من القصص والقصائد القصصية المطولة مثلما في تاريخ اليونان. لكن القصص كما أسلفت قديم، وهو في الحقيقة قوام الأدب العربي المنثور كله، وبحسبك أن ترجع إلى أي كتاب من أمهات كتب الأدب؛ لتراه جامعًا بين دفتيه من الأقاصيص القصيرة ومن القصص الطويلة ما لا شبهة عندي في أن الخيال كان له الأثر الأول في وضعه، وأنه لذلك بعض فنون الأدب، ولهذا لا يصح أخذه حجة تاريخية على الوقائع التي رواها، وإن صح اتخاذه حجة على نفسية الأمة الإسلامية في الأوقات التي أنشئ هذا الأدب فيها، واعتباره وثيقة وسندًا تاريخيًّا من هذه الناحية، وبحسبك أن تعود إلى كتاب الأغاني، وإلى كتاب العقد الفريد، وإلى كتب الأمالي؛ لترى مادة الأدب فيها مقصورة على رواية قصص الغرام أو الحماسة أو ما إليها من أنواع الرواية، ويتعذر عليَّ أن أعتقد أن الرواية التي يروونها عن حروب وائل وما فيها من الأشعار المنسوبة لجليلة ولغير جليلة تمثل وقائع تاريخية، ولست بهذا أنكر وقوع هذه الحروب، كما لا أنكر جمال الرواية التي رويت عنها، وما للعرب في ذلك على التاريخ والأدب من فضل. لكني أعتقد أن الرواية الأدبية الجميلة التي وضعت لهذه الحروب والأشعار التي وضعت على لسان أبطالها، إنما وضعها أديب قصاص أراد بما خلعه عليها من روعة الفن أن يجعلها أعذب في النفس وأسلس مدخلًا إليها، وهو في ذلك إنما صنع ما صنع هوميروس حين وضع إلياذته، وأجرى فيها على لسان أبطال تاريخ اليونان ما أجراه من أدب رائع هو لليونان فخر؛ لأنه من صنع هوميروس اليوناني، وهو لتاريخ اليونان فخر كذلك؛ لأنه يمثل بطولتها وشهامتها في خير صورة يمكن أن تمثل فيها، وكتاب الأغاني فيه من هذا القصص الأدبي البالغ ذروة الفن الشيء الكثير، وإن لم يكن قد نسج على منوال القصة الحديثة؛ لأن القصة الحديثة لم تظهر في الغرب نفسه — على ما يقول الباحثون استنادًا إلى مؤرخي الأدب الغربي — إلا منذ قرنين اثنين.

ولقد تطور الأدب القصصي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوربا في صور وألوان عدة، وهو لا شك سيتطور من بعد في صور وألوان أخرى. ذلك بأن القصة تمتاز عن غيرها من صور الأدب بأن ليس لميدانها حد إلا الخيال، وليس لتطورها آخر إلا ما ينتهي إليه تطور الجماعات، إن أمكن أن يكون لهذا التطور نهاية. فهي بعد أن تحررت من قيود الأدب اليوناني والأدب الروماني، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، تطورت من الأدب الوجداني الذي أنشأه روسو بقصته الكبيرة «هلويز الجديدة» إلى أنواع متعاقبة من الأدب أطلقت عليها أسماء مختلفة حسب الغاية التي يتوخاها القصاصون عن قصصهم، فسميت الأدب الواقعي، أو الطبيعي، أو النفساني، أو التصويري، أو الأخلاقي، أو الفلسفي … أو ما إلى ذلك من مسميات ليس من غرضنا هنا تحديدها ولا الحديث عنها. لكن ما لا ريبة فيه أنها كانت تمثل صورًا من ميول العصر وأخلاقه ونزعات أهله، وبخاصة من يتجه هذا الأدب إليه منهم. فكما أن أدب القرن الثامن عشر كان يتجه قبل كل شيء إلى الذين تجمعهم الصالونات، والذين كانوا يضعون العواطف والغرام فوق كل اعتبار آخر، ولذلك غلب الأدب الوجداني فيه ما سواه، وكما أن أدب القرن التاسع عشر كان أكثر ذيوعًا بين طبقات الأمة، وأكثر تأثرًا بالمبادئ العلمية التي ظهرت في ذلك العصر، ولذلك تخطى الوجدانيات الغرامية إلى تمثيل الواقع فيما كتب «زولا» و«فلوبير» و«موباسان» على اختلاف النزعة التي نزع إليها كل واحد منهم، كذلك تخطى أدب القرن الذي نعيش فيه — والعهد الأخير من القرن التاسع عشر — الرياليسم والناتورالسم إلى صور أخرى بدت مختلفة في أدب «لوتي» و«أناتول فرانس» و«بول بورجيه» و«جول لومتر» وغيرهم، ولكنها تعبر جميعًا عن ميول العصر العلمية، وعن الحرص على الطرق التحليلية في البحث، وعما تدفع إليه هذه الطرق التحليلية في أحيان كثيرة من التشكك واللاأدرية، وها نحن أولاء نرى في وقتنا الحاضر الرواية النفسانية تجاور الرواية الإباحية؛ لأن هذا العصر الذي تمخضت الحرب عنه لما يهتد إلى سبيل تتحد فيه الغاية وإن اختلفت فيه وجهة النظر، وهو مدى يجمع بين المتناقضات، لعل احتكاكها يثير منها شررًا يهديه الطريق إلى الحق وإلى السعادة بعدما انبهم عليه هذا الطريق وبعد ما ضل فيه رشاده.

•••

نستطيع أن نقول: إن القصة تطورت في الأدب الغربي بما يجعلها تمثل عصوره المختلفة إلى عصرنا الحاضر، وإذا كانت لدينا بعض قصص تمثل تفكير عصر من العصور، كما تمثل قصة حي بن يقظان التفكير الديني الحر في عصر ابن الطفيل، فإن ما يُزْهَى به الأدب العربي بعد ذلك من قصص فيه من الخرافة الشيء الكثير، وهي ولا ريب خرافة قوية لا تقل روعة ولا انفساح خيال عن أساطير الميثولوجيا المصرية واليونانية القديمة، لكنها مع ذلك تمثل حالًا نفسية لعصور لا غلو في تسميتها عصور التدهور. فكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي جمع القصص الرائعة الخيال الباهرة التركيب والذي لا يزال عند الأمم كلها يعتبر مصدرًا من مصادر الأدب القوي، لا يخلو في كثير من أجزائه من الخرافة التي كانت سائدة في العصر أو العصور التي كُتب فيها، ومع ما فيه في كثير من الأحيان من دقة تصوير الواقع من حياة الأسرة وحياة الجماعة تصويرًا مضبوطًا دائمًا على أساس من الملاحظة الصحيحة، فإن ما يبلغه الخيال فيه من رسم صور الجن وأخبارهم، ومن الحديث عما في الهند والسند وغيرهما من آثار لم تعرفها الهند والسند إلا في مخيلة أصحاب هذا الكتاب العربي، يدل على عقلية خاصة كانت تسيغ هذا النوع من التفكير وتعتبره مصدرًا للحقيقة. فأما قصة عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن ورأس الغول وما إليها فدون ألف ليلة وليلة في خصب الخيال، وإن كانت تزعم أنها تعتمد على وقائع التاريخ اعتمادًا قصصيًّا ليست له روعة ألف ليلة وليلة ولا قوته، وهي مع ذلك تصور الحياة العقلية للعصور التي ظهرت فيها، وتدل على ميول أهل تلك العصور ونوع حياتهم.

وقد تكون هذه القصص التي ذكرنا آخر ما نعرف من القصص العربي، وهي على الأقل آخر ما نعرف من القصص الذي يستحق أن يضيع الإنسان شيئًا من وقته في قراءته. ثم كانت بعد ذلك فترة ركد فيها القصص حتى في صوره التافهة كما ركدت سائر صور الأدب، وقد لا يجازف من يقول: إن القصص يحاول الآن استعادة حياته. على أن الأقاصيص الصغيرة التي تظهر من حين إلى حين، والقصص التي لم يظهر بعد منها ما يعد على الأصابع، ما تزال بعيدة عن أن تعد بعثًا لهذا النوع من الأدب؛ ذلك بأن القصة — أيًّا كانت الحوادث التي ترويها — إنما تدل على فكرة، وتتصل بمثل أعلى في نفس كاتبها. لتكن هذه الفكرة تافهة، وليكن المثل الأعلى وضيعًا، فهما على كل حال يترجمان عن غرض يتطلع صاحب القصة إليه … بل إن القصص التي تكتب للتسلية ليس غير، والتسلية العامة لا الخاصة كالقصص البوليسية ونحوها، لا يمكن أن تخلو من التعبير عن فكرة في نفس الكاتب. فأما القصص التي تسمو فوق هذا المستوى، وأما القصص التي تعد بحق أدبًا وفنًّا، فالفكرة والمثل الأعلى يتكرران خلالها واضحين في صور مختلفة وألوان شتى. قد يختلف وضوح الفكرة والمثل الأعلى باختلاف مقصد الكاتب؛ فقد تكون الفكرة ويكون المثل الأعلى هما الغاية من القصة، ويكونان لذلك هما الواضحين فيها، كما ترى في قصة حي بن يقظان، وكما ترى في قصة إميل عن التربية لروسو، وكما ترى في قصص الوزير الإنجليزي الكبير دزرائيلي الذي كان كلما ترك الحكم والبرلمان عاد يكتب القصص يمثل فيها ما يجول بخاطره من صور إصلاح الجماعة الإنجليزية، وقد يكون قصد الكاتب إلى غير الفكرة؛ قد يكون قصده فنيًّا بحتًا. لكن كل إنسان واسع الخيال محب للجمال قدير بذلك على أن يبدع في الفن، لا يمكن أن يلهَم في فنه ما لم تكن له فكرة يرمي إليها، ومثل أعلى يطمح إلى تحقيقه. فالأدب فنٌّ، وكل من لا تحركه فكرة ولا يستهويه مثل أعلى من أرباب الفن لا قيمة لفنه ولا بقاء، والقصة في الأدب العربي الحديث ما تزال أغلب أمرها تستلهم القصة الغربية مقلدة إياها في صورتها غير صادرة في الوقت نفسه عن فكرة ومثل أعلى يحركان نفس صاحبها، وإذا كان التقليد في أغلب الأحيان مقدمة البعث، وكان تقليد الأدب اليوناني والروماني مقدمة بعث أوربا في القرن السادس عشر، فإن البعث الصحيح هو الذي يقوم على فكرة ويلهم مثلًا أعلى. فنحن، إلى أن نصل إلى التأليف القصصي القائم على هذا الأساس، إنما ننفخ في حياة القصص روحًا تقليديًّا صرفًا، روحًا لا يسمى بعثًا حتى يستقل بنفسه، ويستمد كل مقومات حياته من البيئة المحيطة بالكاتب، ومن القومية والوراثة التي يخضع الكاتب لأثرهما.

والحقيقة أن القصص على انفساح ميدانه وتشكل صوره وألوانه لا يكفي فيه مجرد المحاكاة والتقليد إذا أريد به أن يكون ذا قيمة تكفل له أن يحشر في ظاهرات فنّ الأدب؛ لذلك كان الكتاب القصصيون — الذين استحقوا البقاء وحفظ لهم التاريخ شيئًا من التقديس — من ذوي السعة في العلم والاطلاع إلى جانب ما لهم من موهبة الفن في التصوير والأسلوب. هؤلاء يحرك اطلاعهم في نفوسهم الأفكار المختلفة، وينتهي بهم تفكيرهم إلى مثل أسمى يطمحون إليه، وقد ينحو غيرهم ممن لم يمنح هبة الفن نحوًا آخر في تدوين ما هدته إليه أفكاره، وتصوير المثل الأعلى الذي يرجو أن تصل الإنسانية إليه من بين هؤلاء الفلاسفة والحكماء. لكن الفلسفة غذاء جاف للسواد الأعظم من الناس، فهم لا يسيغونه ولا يطيقون هضمه. أما القصة التي تحتوي هذه الفلسفة وتلك الحكمة فتشتملها على صورة غير تلك الصورة المطلقة الجافة. هي تحتويهما بعيدين عن التجرد ملابسين للحياة في مختلف صور الحياة على ما يعرفها السواد بحواسه لا على ما يستشفها الحكيم والفيلسوف بمنطقه وبصيرته. هي ترسم الحياة على ما يراها ويحسها عامة أهل الحياة، وترسم ما في الحياة من حقائق، وما تصبو إليه الحياة عن طريق المثل الأعلى من كمال … وهي ترسم ذلك متصلًا بعواطف الناس ومشاعرهم، وبالواقع المحسوس في الكون، وبالمشاهد في الأفلاك، وبما سوى ذلك مما لا يستعصي على الإدراك، ولا يحتاج لانقطاع خاص ولدراسة خاصة قد يحولان بين الشخص وبين أن يدرك كثيرًا مما في الحياة غير ما انقطع له واختص به.

وقد حدت طبيعة الفن القصصي هذه ببعضهم إلى القول بأن الأدب إنما يعبر عن أنصاف الحقائق، على حين تعبر العلوم وتعبر الفلسفة والحكمة عن الحقائق عريانة واضحة في جميع نواحيها، ولست أدري هل التعبير عن الحقيقة الكاملة مما يدخل في باب الممكنات، وها نحن أولاء ما نزال نرى العلم يهدم مقررات العلم نفسها الحين بعد الحين، كما أنه لا يفتأ يهذب هذه المقررات في آونات متقاربة، على أنه إن صح أن الفن يعبر عن أنصاف الحقائق لا الحقائق الكاملة، فإن ما في طبيعة الفن من سهولة التناول بما يمكن القارئ من التحصيل منه أضعاف ما يحصل من مقررات العلم قد يكشف له أنصافًا وأنصافًا من الحقائق تجلو له الحقيقة كاملة آخر الأمر، وبعد، فهل يستلهم الفن غير العلم في آخر صوره؟ وهل يعبر إلا عن آخر مقرراته؟ هذا إلى أن الفن كثيرًا ما يسبق العلم إلى الكشف عن الحقائق، وكثيرًا ما يصل إلهام الفنان إلى ما تضطرب أمامه أدوات العلم عصورًا وعصورًا قبل أن تصل إلى إقرار ما كشف الفن عنه، وإن كثيرًا من العلماء الجنائيين وغير الجنائيين ليرون في كثير من روايات شكسبير أقباسًا من إلهام الفن كان يعتبرها العلماء بعض نزغ الخيال في الماضي، ثم انتهى العلم إلى الاعتراف بصحتها ودقتها. من ذلك وصف شكسبير لمكبث حين قتل دنكان وظل ويداه ملوثتان بالدماء يضطرب أمام جريمته ويناجي نفسه بأن ما في الأرض من بحار والغيث يمدها بتهتانه لا يكفي لتطهير يده من الدم. كم رأى الناقدون في هذا من عبث الخيال حتى أثبت العلم الجنائي صحة ما ذهب إليه شكسبير من أن الجاني لا يحرص، في فزعه مما اجترحت يداه، على ستر آثار جنايته في حين هو شديد الحرص على التمسح بهذه الآثار. كذلك قل عن هملت وجنونه، فقد أثبت العلم ما بلغه إلهام شكسبير من توفيق لم يصل العلم إليه إلا بعد مئات السنين من بعد شكسبير. فإذا قيل مع هذا إن الأدب إنما يعبر عن أنصاف الحقائق، كان لنا أن نقول: إن الأدب، والفن القصصي بنوع خاص، هو الكفيل بنشر ما يكشف العلم عنه من حقائق، كما أنه طليعة العلم في استلهام الحقائق يضعها أمام العلماء لبحثها وتحقيق صحتها.

وللفنِّ القصصي إلى جانب ذلك فضل إلهام غيره من الفنون الجميلة؛ فهو أسبق من الشعر ومن التصوير ومن الحفر، بل من الموسيقى نفسها، إلى التقاط صور حياة الجماعة التي يعيش فيها وإثباتها على الورق. ثم هو أقدر من هذه جميعًا على رسم أمل الجماعة في المستقبل، وتصوير المثل الأعلى الذي تصبو إلى تحقيقه.

وكم من قصص خيالية حاول أصحابها فيها أن يصفوا حياة الجماعة على ما يجب أن تكون، وأن يصوروا المدينة الفاضلة، إذا نحن أردنا أن نستعير عبارة الفارابي، وكم من قصص أريد بها التهذيب والتعليم، وكم من قصص غيرها قصد بها إلى مختلف الأغراض مما يجعلك في حل من القول بأن مكان القصة من الفن الأدبي يتناول نواحي هذا الفن الأدبي جميعًا، كما يلهم الفنون الأخرى أجمل إلهام وأسماه.

•••

مع أن هذا شأن القصة وهذه مكانتها من آداب الأمم المختلفة فإنها ما تزال في أدبنا العربي في حال من الركود، حتى لنكاد نقول إنها لم تجد. فالقصص التي كتبت في نصف القرن الأخير تعد على الأصابع، وإذا كان أدب الأقصوصة قد انتعش في السنين الأخيرة فإنه ما يزال في بداءته من ناحية، والأقصوصة شيء والقصة شيء آخر في فنون الأدب من ناحية أخرى. فما هي العلة في ضعف أدب القصص، وفي فتوره وركوده؟ هذا ما يتناوله بحثنا في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤