الفصل السادس

تأثير الكائنات بعضها على بعض، وتأثير الممالك الثلاث بأجزائها بعضها على بعض.

***

بقي نجيب وفريد جالسين على مقعدهما بعد ذهاب الشيخ؛ لأن الوقت كان متسعًا أمامهما، فالغد كان أحدًا وهو يوم عطلة وليس عندهما من الأعمال ما يدعوهما إلى الإسراع. فقال فريد لنجيب: إن شيخك يا صاح لهو نابغة حقيقة، فقد استصغرت نفسي أمامه إلى حد العدم مع أني ولا أخفي عليك لما شاهدته لأول مرة لم أسعِّره بقرش، فصحيح أن من يحكم على الظواهر يخطئ، ولكن مما يصعب علي فهمه أن هذا الرجل رغم معارفه الواسعة ورأسه المفكرة المملوءة بالحكمة يبقى هكذا هائمًا على وجهه ينام في العراء متوسدًا الغبراء وملتحفًا السماء، ليس له مكان يأوي إليه، يتنقل بأطماره البالية من بلد إلى بلد يستجدي أكف المحسنين، مع أنه — وأني واثق من هذا — باستطاعته بعمل واحد أن يشهر ذاته فيلفت إليه الأنظار، فينال مكانًا رفيعًا ويعيش سعيدًا متنعمًا فيفيد نفسه وينفع الغير.

فأجابه نجيب وقال: لربما كنت محقًّا في ملاحظتك، ولكن لا تتسرع يا أخي فلعل له عذرًا أو غاية مخصوصة يقصدها بحياته هذه ونحن نجهلها، بل لربما كانت السعادة لديه — حسب وجهة نظره — هي في معيشته على هذا النمط؛ لأن السعادة — إن كانت هناك سعادة — تختلف باختلاف وجهة نظر كل واحد، فمنهم من يراها في جمع المال، ومنهم من يراها في المناصب، ومنهم من يراها في الحب، ومنهم من يطلبها من وراء الشهرة، ومنهم من يراها في خدمة الناس، ومنهم من يراها في السكون والانفراد، ومنهم من يراها في طلب العلم والتوسع فيه، ومنهم من يراها في التمتع بالملذات، ومنهم كثير كل واحد على حسب ما يتراءى لها، ولكني أنا يا فريد أرى أن لا سعادة البتة في الحياة؛ لأن الحياة كفاح دائم مستمر، طالما أن سنة التبادل والتوازن طبيعية، وسنة التحول والانقلاب طبيعية أيضًا كما بين لنا الشيخ، وكما يثبت ذلك لنا الواقع. وعلى كلٍّ، فما لنا ولخصوصياته؟ فإن له من عقله ما يرشده إلى ما يراه أوفق له، ولنعد الآن إلى التفكير فيما قاله لنا، فهذا أولى وأنفع ولنغتنم هذه الفرصة لندرس عليه ونأخذ عنه ما أمكن. فقال فريد: لقد صدقت يا أخي، وسأمضي يوم غد في التفكير لعلي أصل إلى تفهم ما قال أو على الأقل إلى ترويض عقلي على تفهمه. فأجابه نجيب وقال: اسمع يا فريد أريد أن أشير عليك بأمر لعلك توافقني عليه، لقد صرحت لنا علنًا ولست أشك بصدقك لما أعلمه عنك وأعرفه فيك من الصراحة والصدق، بأن عاطفة حبك لفريدة قد تلاشت، وأعلم أيضًا أن عرى الصداقة متوطدة بينك وبين أفراد عائلتها، فاذهب غدًا وزرهم في منزلهم وحادث فريدة كالمعتاد كأن لم يكن شيء مما كان، وسهل السبل لمقابلتنا بها، ولا تسلني الآن عن السبب، فإن لي بحثًا أريد أن أجريه. فبُهت فريد لهذا الطلب، وعرته الدهشة، وبقي هنيهة حائرًا صامتًا، ولكنه لعلمه ببعد نظر نجيب، وأن لا بد أن يكون له ثمة غاية معينة يقصدها، وحقيقة يريد أن يستجليها لصالح الفريقين، قبِل ذلك رغم ما كان يخشاه من سوء تأثير هذه المقابلة بعد كل ما حصل.

رجع الاثنان إلى منزلهما صامتين لا ينبسان ببنت شفة، ولما اقترب نجيب من منزله صافح فريدًا على أمل المقابلة في الغد وتركه. ولما بقي فريد وحده خطر بباله خاطر، فنظر إلى ساعته فوجد أن لم يزَل في الوقت متسع؛ فسار يسرع الخطى إلى منزل فريدة؛ لأن اليوم كان يوم استقبال أهلها، وحضوره في مثل هذا اليوم يكون عاديًّا مألوفًا، فلهذا، ولدافع خفي أيضًا يجهله سار من ساعته لزيارتهم.

دخل فريد وحي، فقوبل بكل حفاوة وإكرام من آل البيت وممن حضر عندهم من الزائرين، وبعد تبادل عبارات المجاملة مما تطلبه المقام سأل أخو فريدة فريدًا عن سبب تغيبه في هذه الأيام عن القهوة حيث كان مجمع الخلان عادة. وقبل أن يجيبه على هذا السؤال دخلت فريدة وكانت شاحبة اللون يدل منظرها على ألم خفي وتأثير نفسي كانت تعلله أمام الحضور بألم في معدتها، ولما رأت فريدًا ازداد اصفرارها، ولكنها تجلدت وتقدمت إليه وحيته كالمعتاد دون أن ينتبه أحد لما بدا عليها غيره فدعاها إلى الجلوس بالقرب منه ومن أخيها، ولما جلست أجاب فريد وقال: تسألني عن سبب تغيبي عن القهوة هذه الأيام فما قولك إذا قلت بأني كنت مشغولًا بدرس الفلسفة؟ فتبسم أخو فريدة وقال: ولا شك على صديقك نجيب؟ فأجاب فريد وقال: ليس عليه، ولكن معه على شيخ غريب عجيب. فقال أحد الموجودين، وكان يبغض نجيبًا ولا يترك فرصة تمر دون الحط من كرامته والسب فيه حسدًا وخساسة، وقد تجرأ بتبسم أخي فريدة عند ذكر الفلسفة، فقال: شيخ غريب عجيب أستاذ صديقك نجيب، فطبعًا يجب أن يكون مثله، فالطيور على أشكالها تقع، ولكن ما لا أفهمه هو كيف أنك وأنت الكاتب الذكي القدير ترضى بمعاشرة نجيب الغريب الأطوار النصف مجنون؟ وأراد أن يتابع القول؛ ولكن فريدًا غضب لهذا وشاركته في غضبه فريدة، لا بل زادت عليه؛ لأنها كانت أدرى بحقيقة نجيب من غيرها، كما اشمأز من هذا التطاول أكثر الحاضرين منهم لمعرفتهم لنجيب ومنهم للتطاول نفسه وللقدح في الناس. فنال الرجل نصيبه من المقت واللوم مما اضطره إلى الخروج، وعاد فريد إلى الكلام فأخبرهم عن معرفته بالشيخ وعن بعض ما قاله وشرحه، فتعجب بعضهم ممن فهم القول كما أن البعض الآخر لم يعِر ذلك اهتمامًا، وكانت فريدة أكثر الحاضرين تعجبًا فقالت: يا حبذا لو تمكنت من التعرف بهذا الرجل، قالت هذا مدفوعة بجملة عوامل منها؛ لكونها أديبة متعلمة ذكية، وكانت تتوق لمثل هذه المباحث؛ ومنها لكونها امرأة تحب الاستطلاع بطبيعة الحال، ومنها أنها كانت تريد أن توجد مع فريد للتكلم عن الحادثة. فأجابها فريد: إني غدًا قرب المغرب على ميعاد في الجزيرة مع نجيب ومعه، فإذا شئتِ وشاء الأخ حضرت أنا ونجيب إلى هنا قبل الموعد، فنذهب سويًّا أو أن نتقابل عند آخر الجسر عند مدخل الجنينة. فقال الأخ: إذا أحببت يا فريد فاحضر غدًا مع نجيب إلى هنا فنشرب القهوة ثم نرى رأينا. وعلى هذا تمَّ الاتفاق فاستأذن فريد في الذهاب وودع الحاضرين وخرج.

في اليوم الثاني تقابل فريد مع نجيب فأخبره بكل ما حصل واتفق معه على الذهاب سوية إلى منزل فريدة بعد الظهر، وأخبره أيضًا بتطاول ذلك الرجل وما ناله من الحاضرين، فتبسم نجيب وقال: عجيب، فهذه مرة أخرى يصدق معي الحديث «اتق شر من أحسنت إليه»، اعلم يا فريد أن هذا المتطاول مدين لي بحالة اليسر التي هو فيها، فلولاي كان على الحضيض، ولكن لا بأس فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

فقال فريد: لقد صدقت، ومثل هذا قد صادفني أيضًا مرارًا، ولكني لا أدري كيف أعلله وسأسأل الشيخ هذا المساء عله يفيدنا بشيء عنه، فقال نجيب: سأكفيك مؤنة الانتظار حتى المساء وسأكفي الشيخ مؤنة الرد، فإني أفيدك عما طلبت ولعلي مقنعك وأنت حر بأن تقبل أم لا، وعلى كلٍّ فإن هذا الحديث يساعدنا على تمضية الوقت لحين موعد الغداء: إن من طبع الإنسان العنفوان وحب السيادة والعظمة سيان في هذا الغني والفقير، الكبير والصغير، العظيم والحقير، وهو لا يأتيك لطلب حاجة إلا مرغمًا لاحتياجه إليك أو مدفوعًا بعامل آخر، فإذا أنلته إياها شعر بأنه مدين لك وهذا يؤلم عنفوانه ويحط من سيادته وعظمته في عينيه، ولربما شعر بإهانة عزة نفسه أمام الآخرين؛ فيزين له الوهم أن يثلم من قدرك أو يسعى ليؤذيك بمالك وبمركزك حتى يظهر بمظهر أهم منك، فينتقم لعنفوانه ولعزة نفسه منك لجهله — وما أكثر الجهال — أما إذا كان ممن تثقف عقلهم حقيقة — وما أقل هؤلاء — عرف لك الجميل وشكر لهذا، واعتمادًا على الأكثرية يجب الحذر من انتقام المحسن إليه، ويوجد أيضًا أناس بينما يعرفون لك جميلك ويحفظونه تراهم يغمطون إحسان شخص آخر، والعكس بالعكس. وهذا أعلله بتجانس بين الأرواح أو بتنافرها، فالمتعارفة تزداد بمثل هذا تقربًا، والمتباعدة تباعدًا. ففكر فريد هنيهة ثم قال: لربما كنت مصيبًا يا نجيب. وأخذ الاثنان يسردان على بعضهما ما حصل لهما وما سمعا به من مثل هذه الحوادث ويطبقانه على إحدى النظريتين، إلى أن حان وقت الغداء فافترقا على موعد اللقاء أمام منزل آل فريدة.

التقى صاحبانا في الموعد المحدد أمام منزل فريدة فصعدا سوية إليه، وبعد شرب القهوة خرجا وخرجت فريدة وأخوها، وسار الجميع نحو قصر النيل قاصدين الجزيرة فدخلوا إحدى القهوات، وبعد أن شربوا بعض المرطبات وهم يتجاذبون أطراف الحديث طلب سليم أخو فريدة — وكان لا يهمه من الحياة سوى اللهو والطرب ولعب الميسر — أن يعفَى من مرافقتهم إلى مقابلة الشيخ؛ لأنه يرغب في الذهاب إلى رهان صيد الحمام. فأجابه فريد: خيرًا تفعل يا سليم؛ لأني على يقين من أن منظر الشيخ في نظرك لا يوازي منظر الحمام، ولا حديثه يسليك كحديث من ستكون معهم هناك من الأصحاب، ولكن حيث إنه لم يزَل عندنا وقت، فسنرافقك إلى هناك ثم نعود مشيًا إلى مقعدنا إذا سمحت بذلك فريدة. فوافق الجميع على هذا ونادوا بإحدى العربات فركبوا، ولما وصلوا إلى محل صيد الحمام تفارقوا على أمل المقابلة مساء. ودخل سليم محل الصيد ونجيب وفريد وفريدة ساروا إلى مقابلة الشيخ؛ يفكر كل منهم بماذا يفتتح الحديث، ولكنهم لم يبتعدوا بضعة أمتار حتى شعر نجيب بقشعريرة هزت جسمه، فنظر حواليه يبحث عن السبب فتنبهت فريدة لهذا وسألته عما به، فقال: لا أعلم لقد شعرت بقشعريرة هزت جميع جسمي من أخمص قدمي إلى قمة رأسي كما لو كنت بالقرب من وحش كاسر أو حية أو قاطع طريق في مكان منفرد؛ لهذا فإني أنظر يمينًا وشمالًا لعلي أرى الموجب لهذا التأثير الخفي الذي به شعرت، إذ إن شعوري كما لاحظت دائمًا لم يخنِّ البتة. فأجابه فريد وقال: دع عنَّا يا أخي مثل هذه الأوهام ولا تزعج فريدة. ففطن نجيب لملاحظته، ولكنه عاود الكلام وقال: نعم إنك مصيب في قولك، ولكن ألا ترى فريدة أننا نحن الاثنان هنا فمما نخاف. لذا أقول لك وأكرر القول بأنه لا بد أن يكون بالقرب من هنا ثعبان أو ذئب أو أي شيء مثل هذا فقفا أنتما هنا فإني مقترب من هذا الهشيم لأتحقق الأمر، قال هذا وتقدم من شاطئ النيل بكل احتراس، ولما دنا منه رأى بضعة عصافير ترفرف بأجنحتها تريد الهرب والطيران ولكنها لا تستطيع الارتفاع، كان هناك قوة تجذبها إليها، ورأى على الأرض ثعبانًا رافعًا رأسه محدقًا بها النظر يتقدم منها رويدًا رويدًا لافتراسها. فتراجع نجيب قليلًا وأومأ إلى فريد بالتقدم وحده بكل تروٍّ وهدوء فجاء وجاءت وراءه فريدة، ولم يكَد يقع نظرهما على هذا المشهد حتى ذُعرا وهمَّا بالتقهقر، فهدأ روعهما وقال مهلًا، فإن لنا بهذا المنظر درسًا مفيدًا جدًّا فأنصتا ولا تأتيا بأقل حركة؛ لأني أريد المراقبة إلى النهاية، فقالت فريدة: مسكينة هذه العصافير، فإن هذه الحية ستلتهمها. فأجاب نجيب: لا تخافي عليها، فإني قد احتطت للأمر وسأضربها بهذه الحجارة فتنفر وتخلص العصافير. ولم تزل الحية تدنو والعصافير تقلل من صياحها وحركتها كأن الخوف قد هدَّ منها كل حيل حتى كادت تقع فريسة، عندئذ تناول نجيب الأحجار وأخذ يرشق الحية، وفعل فريد وفريدة فعله فنفرت وهربت وتطايرت العصافير، وتراجع أصحابنا بكل سرعة إلى الطريق.

سار أصحابنا بضع خطوات دون كلام منذهلين مما رأوه، ولكنهم لم يطل صمتهم كثيرًا حتى قطعه نجيب بقوله لهما: كيف رأيتما؟ ألم أكن محقًّا في زعمي؟ لقد قلت لكما ذلك ولكن الصديق فريد لم يرِد أن يصدق، فها قد حقق الواقع ما به شعرت. فأجابت فريدة: لقد كنت الآن أفكر بهذا وأقيسه ببعض حوادث جرت أيضًا لي، وقد ذكرتني هذه الحادثة بجملة حوادث حصلت لي مع أناس كنت عندما أراهم أشعر بانزعاج أو بعدم ارتياح لمحضرهم، وكان يتحقق دائمًا انزعاجي بما كان يجري منهم لي، أو بما كان يصدر عنهم مما كنت أراه أو أسمعه عنهم؛ لذا أصبحت تراني يا نجيب أعير أهمية كبرى لأول تأثير عند مقابلتي لأي كان، فما هو السر يا ترى في هذا؟ لعل الشيخ الذي أطنبتما في مدحه يفيدنا عن هذا. فأجاب فريد وقال: إني لا أشك في ذلك، ولكن أرى أن المسائل تراكمت اليوم لدرجة ربما أنستنا ما طلبناه من إيضاح مسائل الأمس، فقال نجيب: لا تخف، فإنا وإن نحن نسينا فهو سيذكرنا به ويفيدنا عنه، ولا سيما أني أعتقد بأن جميع ما حصل اليوم لهو مترابط متماسك مع ما قاله الأمس، وما سيقوله اليوم. قالت فريدة: إني كلما سمعتكما تذكران هذا الرجل يزداد اهتمامي بمعرفته وشوقي لرؤياه واستماع كلامه، فلعله لا يتأخر كثيرًا عن الحضور، فها قد قاربنا الوصول، لا بل علَّنا نراه وقد سبقنا فيكفينا مؤنة الانتظار؛ لأنه مما يشغل الآن فكري كثيرًا هو كيف أن هذه العصافير وهي بنات الجو لم تقدر على الهرب من هذه الحية رغم ما كانت تبديه من العزم عليه، بل بقيت محاولتها عبثًا كأنها رُبطت في مكانها مكهربة من نظر الحية، فما سر هذه القوة التي أوقفتها في مكانها رغم خطر الموت؟ فحالتها والحالة هذه كانت تشبه بعض الشبه حالتي مع هذا الرجل الذي رآني فريد معه في الشارع، فكان سلام فريد كالحجر الذي نفَّر الحية وأطار العصافير.

فدُهش فريد عند سماعه هذا، ولبث صامتًا حائرًا لا يدري أَهَل يصدق فريدة وما قالت، أم هل يُعد هذا القول ادعاء منها ذرًّا للرماد في العيون؟! أما نجيب فلم يكن أقل دهشة من فريد، إلا أنه لم يخامره أقل شك فيما قالت، ففكر قليلًا ثم تبسَّم تبسُّم الفوز لإدراكه ما كان يبغيه، وقال لفريدة: لقد أخبرني فريد بهذا الأمر فاستغربته جدًّا، وفكرت به طويلًا؛ لذا أشرت عليه أمس بالذهاب إليكم سعيًا وراء هذه المقابلة لأستوضحك السبب، وكنت من ساعة وجودنا عندكم إلى الآن أفكر بطريقة أفتتح بها هذا الحديث دون أن آلم شعورك، أما الآن وقد قلت ما قلت، فلا حاجة لزيادة الإيضاح، وما مثلك مع الرجل وفريد ومثل العصافير مع الحية ومعنا إلا كمثل ما نشاهده في الجيوش في الحروب، تُساق إليها مرغمة بقوة معنوية أكثر منها مادية تضطرها لملاقاة حتفها وهي تنظر إليه ولا يمكنها الهرب منه. قال هذا ونظر إلى الأمام فرأى الشيخ قادمًا من الجهة المقابلة، فقال: وها هو الشيخ قد حضر، وهو سيوضح لنا هذه المعميات فلنسرع الآن لعلنا نصل قبله، فسار الثلاثة مسرعين، وبعد قليل كان الجميع معًا قرب المقعد المعلوم.

بعد مبادلة السلام قال نجيب: لا تستغرب يا شيخنا وجود هذه الآنسة معنا، فهي فريدة فريد وهي على ما أعرفها من البنات ذوات القلب والنفس والفكر؛ لذا عسر عليَّ فهم بعض ما حصل لها معه، فأوفدته إليها توطئة لمقابلتها لعلي أقف منها على بعض السبب، والحمد لله فقد تسهل الأمر وسمعَت بذكر الشيخ فطلبَت التعرف به وسماع حديثه والدرس عليه. ثم قص عليه جميع ما جرى وما قيل. ففكر الشيخ مليًّا ثم نظر إلى فريدة وقال: يسرني جدًّا أن أراكِ هنا وقد تركتِ ما يروق عادة لبنات جنسك، وجئت إلينا مدفوعة بحب العلم طلبًا للمعرفة والحكمة؛ لهذا فإني أرحب بك ترحيبًا مزدوجًا، ثم مد إليها يده وصافحها.

جلس الجميع ولزموا الصمت هنيهة كأن على رءوسهم الطير؛ حتى افتتح الشيخ الحديث، وقال: إن من ينعم النظر في هذا الكون يرى أن جميع الكائنات تتأثر بعضها من بعض، بلا استثناء من ذلك أي جنس من الأجناس، أو أي صنف من الأصناف، أو أي مملكة من الممالك الثلاث، أو أي عنصر من العناصر، إلا أن التأثير يختلف باختلاف القوى.

لقد سألني فريد بالأمس كيف يتغلب السلبي على الإيجابي أو الإيجابي على السلبي مع بقاء التوازن محفوظًا؟ سؤال وجيه، ولكن لو كان هذان العاملان موجودين في القوتين المتنازعتين فقط، ومحصورين فيهما دون غيرهما، وتغلب عامل على آخر صح القول بأن الزيادة في أحدهما والنقصان في الآخر يخل في حفظ التوازن، ولكن حيث إن هذا التغلب لا يتعدى وحدة أو وحدات من مجموع الكائنات بينما العكس يجري على غيرها أيضًا إن سلبًا أو إيجابًا، أو إيجابًا أو سلبًا، يبقى التوازن دائمًا محفوظًا، لقد قلت لكما والآن أقول لكم: حيث إن أصل جميع الكائنات واحد كما سيأتي بيانه فيما بعد، وكانت كل وحدة من الكائنات، وكل جزء منها مهما كان صغيرًا، وكل مظهر من مظاهرها هو قوة قائمة بذاتها تسير على نظام واحد ثابت تضم إليها أو تنضم إلى غيرها حسب ما بها من قوة نسبية أمام المنضمة إليه أو المضموم إليها، فعلى قدر القوى المتنازعة يكون التأثير والتحول، كما أنه على قدر التجانس يكون الانضمام أو الانفصال.

رأى فريد فريدة فجذب أحدهما الآخر إليه، وبما أنه وجد بينهما تجانس، والتجانس يختلف كثرة وقلة، وهو إما أن يكون تجانس المادة كالدم، أو تجانس الروح، وقد وجد بينهما تجانس دم وروح، فقد ائتلفا وما زالا يقويان ببعضهما ويتصارعان مع بعضهما دون أن يشعرا كما يتصارعان مع بقية العوامل والقوى حسب نظام الكون، فيقوى شيء ويضعف آخر، وينضم شيء وينفصل آخر، والتحول جارٍ مجراه؛ إلى أن صدمتهما بأحدهما قوة أقوى فجذبت فريدة إليها، إلا أن الجاذب كان فقط دمويًّا لا تجانس للروحين فيه البتة سوى تأثير قوة أحدهما، وهو الرجل الذي كان معها؛ لذا لمَّا تقابل الثلاثة وكان الاثنان متجانسين دمًا وروحًا، أخذت فريدة قوة من فريد؛ بها تغلبت على الرجل الآخر وبقيت مع فريد لأن تجانس الدم يتقلب مع المادة، وتجانس الروح دائم؛ لأن العوامل التي تخضع المادة لها لا شأن لها مع الروح، فالروح هي المظهر الثالث من العنصر الفرد الأصيل. نعم، يمكن الضغط على الروح بواسطة المادة طالما هي متصلة بها، إلا أن هذا التأثير تأثير مفتعل يذهب مع زوال السبب، وليس هو بأصيل، فالروح لا تتأثر فعليًّا إلا بالروح، وعلى هذا، فإن الحب — وما هو إلا تأثير التجانس بين الرجل والمرأة إذا كان تجانس دم فقط — ذهب عندما يتلاقى ويتحد الدمان؛ لأن القوة التي تصدر من هذا الاتحاد المادي إما أن يأخذها أحد الاثنين فيزداد ميل الأول ويقل ميل الثاني، أو أنها تذهب عنهما فتزول بزوالها تلك العاطفة، أما إذا كان تجانس دم وروح تقوَّى تجانس الروح باتحاد وتلاقي المادة بما تستنفده روح الاثنين من تلك القوة الصادرة من تلاقي واتحاد المادة، فتتمتن تلك العاطفة وتلك الصلة، وتصير فيما بعد صداقة؛ لأن الروح تأخذ من المادة وتتقوى بها، ولكن المادة لا تأخذ من الروح بل تحفظ بها.

إن كل وحدة من الكائنات مهما صغرت لهي شبه آلة، فالجماد والنبات آلات صامتة، والأحياء آلات عاقلة، ففي الأولى لا يتعدى التأثير المادة، أما في الثانية فالتأثير بينها على المادة والروح تأثير يجريه الحي على الحي بإرادته مدفوعًا بغريزته الفطرية أو بآرائه أو بعوائده المكتسبة أو يتقبله مرغمًا بالنسبة لصلته بالروح والمادة، فعلى هذا فإن التأثير عام بين الكائنات بأجمعها، غير أن الأحياء تعانيه وتشعر به، والبقية تعانيه بلا شعور؛ لأن الأولى كاملة والأخرى ناقصة، فالأرض بحيوانها ونباتها وجمادها تتأثر بعضها ببعض كما أنها تتأثر بالعناصر الأخرى وبالكائنات العلوية، وتؤثر عليها كما تؤثر الشمس والقمر على الأرض كما نرى في المد والجزر في البحار، رأت الحية العصافير فجاءت إليها مدفوعة إما بطبيعتها الفطرية طلبًا للغذاء أو بعوائدها المكتسبة ترفهًا بالمأكل، وحيث إن القوة التي بالحية إن جسمية أو روحية هي أقوى من العصافير، فقد تسلطت عليها وأوقفتها بقوة تأثيرها رغم ما كانت العصافير تراه من الخطر المهلك، فكانت والحالة هذه، قوتها الإيجابية ضعيفة جدًّا بالنسبة لقوة الحية السلبية، ولكن لما حضرتم وكنتم مع العصافير على الحية انقلبت الآية وتحولت دفة الميزان فنجت العصافير، وهكذا فإن الغلبة دائمًا للقوة. قال هذا وصمت قليلًا، ثم نظر إلى أصحابنا الثلاثة يستطلعهم فكرهم، وحدَّق بفريدة بنوع خاص ليعلم مبلغ فهمها وما استوعبته من هذا الشرح، ولكنها لم تطِل وقت انتظاره بل قالت له: لقد أفهمني الشيخ الآن بما أدلى به ما كان لغاية الآن مبهمًا عليَّ فهمه؛ أولًا من أمور وحوادث شتى، وثانيًا مما لقيت أخيرًا في حادثي مع فريد. لقد كنت أسمع كثيرًا عن مثل هذا، وكنت أقول: إن هذه المسائل خارقة للطبيعة، وبهذا كنت أقنع نفسي، أما الآن فقد أصبحت يمكنني بناءً على هذه القاعدة أن أعلل مسائل جمة، ولما كان الشيء بالشيء يذكر أقول: كنت ذات يوم مع إخوتي في نزهة، وإذا بطائر كان كأنه جامد في الهواء انقض بسرعة على الأرض، ثم ارتفع وبمنقاره حية فخفنا وارتعبنا قليلًا خوفًا من أن يفلتها فتقع علينا، فتعجبت جدًّا من أن هذا الطائر لم يخَف الحية بل انقض عليها واصطادها. فتبسم نجيب وقال: لو كنتِ معنا يا فريدة قبل اليوم حين شرح لنا شيخنا سُنة التبادل والتوازن، لعلمتِ أكثر من هذا، فحقيقة أن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ؛ فكما أن حيتنا اليوم تقتات بالعصافير، كذلك كان طائرك يقتات بالحية، وحيث إن شيخنا قد أذن بدخولك في مدرستنا، فسنتولى فريد وأنا إفادتك عما سبق وشُرح لنا. قال هذا ثم نظر إلى الشيخ وقال: لقد استلفت نظري في كلام فريدة قولها: إنهم خافوا لما رأوا الطائر مرتفعًا وبمنقاره الحية، فالخوف كان من الحية طبعًا، والخوف يكون عند تغلب القوة المهاجمة على المدافعة، أو على حسب لغتنا الآن السلبي على الإيجابي، فبماذا نعلل تأثيرهم وهم جماعة من الحية، وهي واحدة، وفي حالتها هذه لا قوة فعلية لها مع أنه إذا كان هناك تأثير خوف وجب أن يكون من الطائر صاحب القوة على الحية؟ فأجاب الشيخ وقال: لقد أصبت فيما قلت، ولكم اعلم أن الخوف من الحية في هذه الحالة هو نتيجة، وهم تسلط عليهم عند رؤيتهم للحية، فذكرهم بما كانوا سمعوا وقرءوا عن الحيات فأضعف فيهم القوة، وما أشد تأثير الوهم على الأحياء! ويكون الخوف أيضًا من الشيء على قدر توهم الأذية منه، فأذية الطائر للإنسان جزئية، لكن الحية إذا لدغته لربما مات.

الغريزة الفطرية في الأصل هي واحدة في الإنسان كما في بقية الأحياء، وضعت فيها لأجل حفظ كيانها في المرحلة التي تقطعها في حياتها، فهي الميزان في كل حي لدرجة معلومة بين السلبي والإيجابي، غير أنها في بعض أجناس من الأحياء قد ترقت أكثر منها في الأخرى حسب ما طرأ عليها من التأثيرات والتطورات، كما أنها في الإنسان قد ترقت لدرجة صار يمكن القول عنها: إنها تغيرت معالمها بما حل محلها من ترقي التصور والابتكار، وبما تأثرت به من العادات والأوساط حتى لم تعد البقية الباقية منها تكفي لوحدها لأداء الغرض فوضعوا القوانين والشرائع، وما أحاطوها به من الأوهام لتقوم مقام هذه الغريزة الفطرية لحفظ ميزة الجنس على غيره، وبما أن الغريزة التي بالحيوان هي نفس العقل الذي بالإنسان، وهو من خصائص الروح، وحيث إن هذه هي مشتركة بين الإنسان والحيوان مع حفظ نسبة التفاوت؛ فلهذا كان تأثير الحيوانات ومنها الإنسان بعضها على بعض عظيمًا كما سبق فذكرت ذلك. لقد قلت لكم الآن: إن كل وحدة من أجزاء هذا الكون هي قوة قائمة بذاتها مهما صغرت أو كبرت، وهي إنما تختلف كبرًا أو صغرًا بما تقارن به من بقية الوحدات؛ فلهذا فإن تأثيرها يختلف فيما تنضم إليه أو تنفصل عنه أو تصطدم به حسب نسبتها إليه، وفي كل الأحوال لا بد لحصول التأثير فيها ومنها، وهذا التأثير هو سبب اختلاف المظاهر والأشكال وتنوع الأجناس وتعدد الوحدات إلى ما لا نهاية. واعلموا أن الجاذبية ليست سوى مظهر من مظاهر التأثير في المتجانسات إيجابيًّا أو سلبيًّا للضم أو للانفصال. فقالت فريدة: إن لي استفهامًا آخرًا أظن أن له علاقة بالموضوع أرجو من الشيخ إيضاحه، وهو أمر شائع جدًّا خصوصًا بين بنات جنسنا، فالبسيطات الجاهلات تؤمن به والمتعلمات تعده من الخرافات والخزعبلات، ولقد شاهدت جملة حوادث بنفسي أوقعتني في حيرة، ولا بد أن شيخنا يكون قد سمع بمسألة العين وما ينسبون لها من التأثير، وهاكم ما شاهدته بنفسي وما سمعته ممن أثق بهم تمام الثقة:

كنت ذات يوم مع والدتي وأخي الصغير في زيارة عند بعض الأقارب، وكانت هناك امرأة قيل لنا أنها عاقر لم ترزق أولادًا، فلما شاهدت أخي قالت لأمي: يا لحسن حظك بهذا الولد، وأحدقت النظر بأخي هنيهة، ولكنها لما خرجت اعترى أخي ألم شديد اضطرنا إلى العودة إلى البيت، ولما كشف عليه وجد في جنبه ألم يشبه العين في الجهة المواجهة لجلوس تلك المرأة، فداويناه عدة أيام كاد فيها أن يقضى عليه حتى شفي وزال الألم. وأذكر أيضًا أني كنت مرة مع بعض صديقاتي فجاءتنا إحدى البنات من أقارب صديقتي ونظرت إليَّ وكنت أرسم بيدي بعض الرسوم على قطعة من قماش، فقالت: ما أجمل هذا الرسم! وما أخف يدك! فيا حبذا لو كنت أستطيع مثل هذا العمل، فشعرت في الحال بألم في يدي أوقفني عن متابعة الرسم ولم يزُل ذاك الألم إلا بعد علاج بضع ساعات. وأمثلة هذه الحوادث كثيرة جدًّا لا بد أن يكون نجيب وفريد يعرفان أيضًا منها الشيء الكثير. فقال نجيب: نعم، إني سمعت كثير عن مثل هذا، ولكن أغرب ما سمعته من هذا القبيل حادثتان: الأولى جرت في بيتنا أرويها عن أهلي، والثانية بالقرب من بستان لعمي، فالأولى هي أنه كان أمام بيتنا دالية عنب كبيرة كانت مرفوعة من مدة مديدة على سقالة من خشب متينة الوضع؛ كي تقاوم عواصف الشتاء، ففي ذات يوم وكان الزمن صيفًا والدالية عليها من العنب الشيء الكثير، جاءنا بعض الزائرين ومعهم رجل مشهور عنه على حسب اصطلاحهم؛ أنه يصيب بالعين، وكان أهلي لا يعلمون ذلك فرحَّبوا بهم حسب المعتاد، وبعد تقديم القهوة قطفوا لهم بعض العناقيد من عنب الدالية وكانت كبيرة الحجم جميلة المنظر حلوة الطعم للغاية، فأكلوا هنيئًا، ثم نظر ذلك الرجل إلى الدالية وقال حقًّا: إن هذا العنب لهو في غاية الجودة، وهذه الدالية هي حقيقة فريدة في نوعها هنا، وفي الحال مالت السقالة وتفككت أخشابها بعضها من بعض وسقطت إلى الأرض.

والحادثة الثانية هي أن عمي كان مدعوًّا مع أهل بيته عند بعض الجيران في بستان لهم، وكان بين الحاضرين رجل مثل الأول، فجرى الحديث عن العين وتأثيرها فتبسم الرجل وقال: إذا أردتم أن أبرهن لكم على ذلك فليتفضل أي منكم ويعين لي أي غصن من أغصان هذه النخلة؛ وأنا بنظرة من هنا أقطعه لكم، وفعلًا تم ذلك مرة ومرتين وثلاثًا، فكان هذا الرجل ينظر إلى الغصن المعين محدقًا به فيسقط الغصن كأنه قُطع بسكين حادة؛ حتى دُهش الجميع وتولاهم بعض الخوف من عينه وأفعالها، فقال الشيخ: نعم، إن هذه الحوادث لهي مما يستلفت الأنظار، ولكنها الآن يجب أن تكون عندكم بسيطة لا تستوجب الاستغراب بعد الذي شرحته لكم، فإن تينك المرأتين في حادثتي فريدة وهذين الرجلين في حادثتي نجيب، يملكون قوة عظيمة تخرج من عيونهم كالسهم فتؤثر على الهدف المسلطة عليه على نسبة قوتها وقابليتها، وكما أن هذا التأثير جرى في هذه الحوادث على المادة مثل يد فريدة وجسم أخيها وسقالة الدالية وأغصان النخلة، كذلك يجري كثيرًا على الأرواح وخصائصها كما كان الحال في حادثتي الحية مع العصافير والطائر مع الحية، وكما في التنويم المغناطيسي وانتقال الأفكار وخلاف ذلك، فقالت فريدة لفورها: نعم هذا صحيح، وأزيد عليه بأن الحيوان يمكن أن يؤثر روحًا على الإنسان، كما أن الإنسان يمكنه أن يؤثر روحًا على الحيوان.

وهاكم حادثة من جملة حوادث سمعتها عن الضباع: كان أحد أصدقائنا مسافرًا في ليلة ظلماء شاتية من بلد إلى بلد، وفي الطريق تصدت له ضبع في مكان منفرد، ولما رآها اعتراه خوف شديد أضاع رشده وعقد لسانه وفقد كل قوة للمقاومة أو الهرب، فجمد في مكانه كالتمثال لا يبدي حراكًا كأنه أُنيم مغناطيسيًّا، فتقدمت منه وابتدأت تنهشه حيًّا، وتصادف أن مر من هناك في تلك اللحظة أناس سمعوا أنينه فوجدوه على تلك الحالة فعرفوه وكانت الضبع لما شعرت بقدومهم تركته ولاذت بالفرار فلحقوا بها ورموها بالرصاص فقتلوها، وجاءوا بصاحبنا إلى بيته. فأجاب فريد وقال: لقد كنت سمعت كثيرًا عن مثل هذه الأمور، فكنت أنسبها فقط إلى الجبن والذعر أو لا أصدقها، ولكن الآن نرى أنها نتيجة عوامل طبيعية كما بين لنا شيخنا ذلك، حيث شبه جميع وحدات الكون بالآلات الميكانيكية تنبعث منها القوة السلبية والإيجابية، وعلى هذا نرى أنه ظهر لنا سبب كثير من الأسرار.

صمت الجميع هنيهة بعد ذلك محدقين بالأرض لا ينبسون ببنت شفة، ولا يأتون بأقل حركة حتى قطع نجيب ذلك السكوت بقوله مخاطبًا الشيخ: لقد قال الكتاب: «هذا هو الناموس أحبب قريبك كنفسك، وأكرم أباك وأمك.» وقد بين الشيخ لنا في كلامه عن التوازن السلبي والإيجابي أصل حكمة الآية الأولى. والآن بناء على قاعدة التأثير هذه التي لها أيضًا مساس بتلك الآية بما يتأثر به الجاني من الانفعالات المسببة عن المجني عليه، يتضح لنا أصل حكمة الآية الثانية؛ لأنه ما من أحد يمكنه أن يشعر بتأثير الوالدين من فرح أو حزن، بغض أو حب، غضب أو سلام، مرض أو صحة أكثر من الأولاد؛ لأنهم أكثر صلة وأكثر تجانسًا دمًا وجسمًا وروحًا، وعادة من أي شخص آخر؛ لأن الأولاد هم جزء من الوالدين كما أن الغصن يتأثر من الأصل أكثر من تأثره من الخارج؛ ولذا فقد قال الكتاب أيضًا: «إنه يثأر من الآباء بالبنين إلى الجيل الرابع والخامس»؛ أي: إن التأثير يدوم ما دام التجانس؛ لأنه بعد هذا يضعف أو يضمحل بما يطرأ عليه من التغييرات. وهأنذا أروي لكم حادثة من هذا القبيل سمعتها من أحد أصدقائي قال: كان غلام سيئ السيرة مبذرًا، يبعثر كل ما يصل إلى يديه من الدراهم في اللهو والملذات، ضاقت في إصلاحه جميع حيل وإرشادات والديه حتى قبض عنه أبوه يده أخيرًا، فلم يعد يعطيه غير النذر اليسير جدًّا، فتضايق الغلام، وعزم على الفتك بأبيه. وسمعت الأم بالأمر فخافت على زوجها من شر ابنها وعلى الابن من سوء المغبة، فأخبرت الأب بذلك، ورجت منه أن يحتاط للأمر ولا يعرض نفسه للخطر؛ لأنها عرفت أن الابن كان عازمًا على الإقدام على فعلته في تلك الليلة، أما الأب فلم يعِر الأمر ما كانت تنتظره من الاهتمام، بل اكتفى بأن سألها إذا كان هذا الولد حقيقة من صلبه أم لا؟ قائلًا لها: إن على صدقك يتوقف أمر حياتي، أما الأم — وكانت امرأة طاهرة الذيل — فقد أكدت للأب أنها لم تخُنه قط، وأن الولد هو لا شك ولا ريب من صلبه، فاطمأن الأب لهذا التصريح وقبَّل امرأته وخرج رغم توسلها إليه بالبقاء، ولما رجع بالليل كان الولد كامنًا له في إحدى منعطفات الدار المظلمة، فلما شعر بقدوم أبيه هجم عليه والسكين بيده، وهَم أن يغمدها في صدره إلا أن الأب، وكان حذرًا ومتوقعًا مثل هذا الهجوم وهذه المفاجأة، صاح بالغلام وقال له: اضرب يا ولد هذا صدري أمامك، فحين سمع الولد صوت أبيه ارتجفت يداه وخارت قواه وسقطت السكين من يده وانطرح على قدمي أبيه باكيًا يقبِّلهما متوسلًا نادمًا واعدًا بإصلاح سيره، وفعلًا كان ذلك. وأصبح ذاك الغلام السيئ السيرة المسرف من خيرة الناس سلوكًا واقتصادًا.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، أروي لكم أيضًا حادثة حصلت لي شخصيًّا تبين لنا تأثير التجانس بأجلى بيان: كنت يومًا مسافرًا إلى حلب الشهباء لأول مرة، وكان معنا أحد المسافرين اخترت محادثته دون غيره لما ظهر لي من الائتلاف بيني وبينه مشربًا وفكرًا، فقضينا الطريق نتحادث في مختلف الأمور حتى وصلنا إلى محطة قرب المدينة، كان وقوف القطار فيها مقررًا له بضع دقائق فقط، ولكن بسبب عطل طرأ على الآلة طال الوقوف كثيرًا، فقمنا إلى النافذة لنعرف السبب، فوقع نظري على ناظر المحطة يجيء ويذهب ملاحظًا عمل إصلاح العطل، فاستلفت نظري جدًّا وشعرت حال رؤيته بميل شديد إليه لم أتمالك من إخبار رفيقي به، وكدت لولا أن عاود القطار السير حالًا أن أنزل لأخاطب هذا الرجل فأعلم علمه ومن أين هو. مضت على هذه الحادثة مدة، رجعت في خلالها من سياحتي والتقيت بعدها بصديق سألني عما إذا كنت لم أجتمع هناك برفيق صبانا فلان؟ فقلت: وأين هو؟ فقال: إنه ناظر محطة كذا، فعلمت إذ ذاك أن ذلك الذي شعرت بالميل إليه لم يكن سوى ذلك الصديق؛ فلهذا لما رأيته في تلك البلاد، وكان أكثر تجانسًا معي من جميع الباقين، شعرت بهذا التأثير. وعليه، أفلا نرى أيضًا مثلًا أن الإسكندري يأتنس بابن الإسكندرية في القاهرة، والمصري بالمصري في الشام، والشرقي بالشرقي في أوروبا، ولو اختلف عنه بلدًا وأصلًا ولغةً؛ لأنهما فيما بينهما أكثر تجانسًا منهما مع الغربي، وعلى هذا قال المثل: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.

فقال فريد: وإني أنا أيضًا أروي لكم بعض الحوادث مما كنت أستهجنه أولًا لعدم معرفتي لأسبابه، أما الآن فقد أصبحت أنظر إليه بغير تلك العين. كان لي قريب فقير يسكن في بيت حقير منزوٍ في إحدى نواحي القرية، فأثرَى بعد ذلك هذا القريب وأراد أن يحسن حالة مسكنه، فبدلًا من أن يبني بيته الجديد في موقع أطلق هواءً وأجمل موقعًا؛ هدم بيته القديم وأقام في محله بيته الفخيم الجديد، فضحكت وقتئذ من فعلته هذه، فقال لي: إنه يشعر بحنان إلى موضع بيته القديم وبميل شديد إلى ذلك المكان؛ حيث وُلد وعاش صبيًّا وشابًّا. وكان في حديقتنا شجرة كانت تأتيها ليلًا جميع عصافير الجوار لتبيت فيها دون غيرها، حتى كادت أن تتلف، فعمدت جملة مرار على تحويلها إلى مبيت آخر، ولكن عبثًا كنت أفعل، أخيرًا اضطرني الأمر لاتخاذ طرق شتى تمكنت فيها نهائيًّا من إبعاد العصافير عنها إلى غيرها حتى سلمت. وهذا شاهد آخر على أن قريبي ذلك وهذه العصافير كانوا مدفوعين بتأثير العادة والذكرى، ذاك للبقاء في موضعه، وتلك للمبيت على الشجرة. فقال الشيخ: وبدافع التجانس أيضًا لما تأثر قريبك به من بيته، والعصافير من شجرتك سلبًا وإيجابًا، أخذًا وعطاءً، حتى أصبح البيت والشجرة فيهم ومنهم أكثر من المواقع والأشجار الأخرى. قال هذا وهَمَّ بالقيام وإلقاء كلمة الختام، إلا أن فريدة نظرت إليه نظرة رجاء وقالت: بقي أمر آخر عن التأثير والشعور أريد قبل أن ننتقل إلى بحث جديد أن أستوضح الشيخ عنه؛ لأنه كثيرًا ما شغل ذهني وبحثت فيه مليًّا دون أن أتوصل لمعرفة السبب الحقيقي له، ولكن مما فهمت الآن فإنه لا بد أن يكون هناك سبب طبيعي واضح لهذا: لقد كنت عندما آتي بأي عمل يؤذي أو يضايق أحدًا؛ أشعر بانزعاج داخلي على قدر تصوري للأذية وللمضايقة، وكنت أيضًا أشعر بعض الأحيان بمثل هذا الانزعاج دون أن أفعل شيئًا، وقد كنت أيضًا عندما أَسُر أحدًا أو أنفعه أشعر بارتياح وسرور، كما أني أيضًا كنت أشعر بمثل هذا بدون سبب، ولكني في كلا الحالين كنت عندما أخبر بعض رفيقاتي بالأمر كان هذا الشعور إن بالارتياح أو بالانزعاج يخف وأحيانًا كان يزول. فما هو سر هذا يا ترى؟ فأجابها الشيخ وقال: اعلمي يا ابنتي أن التأثير الذي يرسله المصدر إلى المرسل إليه يخف أو يزول إذا تعداه إلى شخص آخر حسب قابلية هذا للقبول والتصدير بأسرع مما لو حصر في المرسل إليه؛ لأنه في إذاعته تقاومه عوامل خارجية رأسًا بخلاف ما لو كان بقي محصورًا؛ لأن المقاومة في هذه الحالة تبقى محصورة بين القوتين المرسلة والمرسل إليها فقط، والتأثير يكون عليهما حسب ما بينهما من التكافؤ أو التفاوت، وعلى هذا الأساس بنيت حكمة الاعتراف والإقرار، ثم اعلموا يا أولادي أنه كثيرًا ما يلتقط الإنسان رسالات فرح أو حزن غير موجهة إليه رأسًا؛ فيتأثر بها على قدر قابليته الوقتية، فهو والحالة هذه، مثل آلة اللاسلكي التي تلتقط ما يوجه إليها أو ما يمر في طريقها موجهًا إلى غيرها، فإذا دخل الواحد منكم مأتمًا مثلًا وكان فرحًا مسرورًا، تولى عليه الحزن والأسي، كذلك إذا دخلتم عرسًا وكنتم حزانى، تبدل حزنكم بسرور وطرب، فاكتفوا الآن بهذه، وسأزيدكم غدًا بيانًا، فقد أزِف وقت الفراق فانعموا مساء، وموعدنا هنا غدًا كما كان بالأمس واليوم، فشكروا له إيضاحاته، وتقدم منه فريد ووضع في يده بعض الشيء فشكر وحيَّا وقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤