الفصل الثاني

(١) أساتذتي

كان زعيم مصر الكبير سعد زغلول — رحمه الله — يُعَدُّ من مزايا نظام التعليم في الجامع الأزهر على عهده، أنه كان نظامًا يسمح للطالب أن يختار أساتذته، ويجلس في الحلقة التي يروقه أن يجلس فيها …

وهي مزية لا شك في نفعها للمعلمين والمتعلمين؛ لأنها تنوط مكانة الأستاذ بعمله واجتهاده، ولا تُقيِّد التلميذ بفرصة واحدة في درس من دروسه، وليس في هذا النظام ضرر على الأخلاق ما دام طلب العلم هو الغرض الخالص للأساتذة والتلاميذ.

ومما أحمد الله عليه أن أساتذتي جميعًا قد اخترتهم بنفسي، ولم يفرضهم عليَّ أحد يملك سلطة التعيين والفصل دون غيره؛ لأنهم كانوا جميعًا مؤلفين مشهودًا لهم برسوخ القدم في صناعة التأليف، أقرأ منهم ما أشاء في المرحلة الأولى من مراحل التعليم الدراسي، أفدت منهم غير قليل، ولكنني كنت في استفادتي منهم على اختيار يرجع إلي، ولا يرجع إلى البرنامج المقرر أو النظام المفروض.

في المرحلة الأولى

استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريقة الإفادة، فإن أحدهما قد أفادني وهو قاصد، والآخر قد أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة في الحالتين.

كان أحدهما الأستاذ الفاضل مدرس اللغة العربية والتاريخ الشيخ محمد فخر الدين، وكان «الإنشاء» صيغًا محفوظة في ذلك الحين كخطب المنابر، وكتب الدواوين، ولكنه كان يبغض الصيغ المحفوظة، وينحى بالسخرية والتقريع على التلميذ الذي يعتمد عليها، ويمنح أحسن الدرجات لصاحب الموضوع المبتكر، وأقل الدرجات لصاحب الموضوع المقتبس من نماذج الكتب، وإن كان هذا أبلغ من ذاك، وأفضل منه في لفظه ومعناه.

وكان درسه في التاريخ درسًا في الوطنية … فعرفنا تاريخ مصر، ونحن أحوج ما نكون إلى شعور الغيرة على الوطن والاعتزاز بتاريخه؛ لأن سلطان الاحتلال الأجنبي كان قد بلغ يومئذ غاية مداه …

أما الأستاذ الآخر، فقد كان أستاذ حساب وهندسة ورياضة، ولا داعي لذكر اسمه في هذا المقام، كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولا سيما المسائل العقلية في درس الحساب، وقد كانت هذه المسائل شائعة في ذلك الحين، ثم أبطلوها بعد ذلك؛ لأنهم زعموا أن القدرة على الحساب شيء والقدرة على فضِّ المغلقات العقلية شيء آخر، وقد أصابوا من ناحية وأخطأوا من ناحية؛ لأن القدرة على فض المغلقات ألزم اللوازم لإتقان العلوم الرياضية خاصة، وإتقان العلوم الأخرى على العموم …

وكان يتردد على مسجد يعتكف في زاويته رجل من المشهورين بالولاية وصنع الكرامات، فدعانا جميعًا — نحن تلاميذ السنة النهائية — إلى صلاة المغرب معه في ذلك المسجد؛ للتبرك بالرجل الصالح، وتلقي النصائح منه فيما نحن مقبلون عليه من امتحان قريب.

وجاء دوري في تلقي النصيحة، فقال لي الرجل: «أما أنت فعليك باللغة الإنجليزية …»

وعجبت وعجب زملائي من هذه النصيحة؛ لأنني كنت من المتقدمين في هذه المادة على الخصوص، وكنت أقرأ فيها بعض الكتب الأدبية وأنا في السنة الرابعة الابتدائية، ولكن زملائي فسروا هذه النصيحة بسر الولاية … فلعل الرجل يعلم من سر الامتحان في تلك السنة ما لا يعلمون.

فلما اجتمعنا بالمدرسة في أول حصة للحساب، قال الأستاذ الرياضي: «تذكر نصيحة الشيخ يا فلان؟»

قلت: «إن الشيخ لم يقل شيئًا!»

قال وهو يحوقل وزملائي يأخذهم الوجل، ومنهم كثيرون بقيد الحياة: «كيف لم يقل شيئًا؟! … ألم ينصحك بالاجتهاد في اللغة الإنجليزية؟!»

قلت: «نعم؛ فعل … ولكنه سيظفر بالسمعة في علم الغيب أيًّا كانت النتيجة، فإن نجحتُ قيل إنها بركة لنصحه، وإن أخفقتُ قيل إنه قد عرف هذا فحذرني منه.»

فما زاد الأستاذ على أن قال: «دع هذا الضلال هداك الله.»

ولكن الدرس الأكبر — الدرس الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي — كان بصدد مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية … كنت شديد الولع بهذه المسائل لا أدع مسألة منها بغير حل مهما بلغ إعضالها …

وكان الأستاذ يحفظ منها عددًا كبيرًا محلولًا في دفتره يعيده على التلاميذ كل سنة، وقلما يزيد عليه شيئًا من عنده …

وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست في الدفتر، فعالجنا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: «إنما عرضتها عليكم امتحانًا لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر، وهذه من مسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين!»

لم أُصدِّق صاحبنا، ولم أكفَّ عن المحاولة في بيتي، وقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام … وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان.

قلت: «لقد حُلَّت المسألة.»

قال الأستاذ: «أية مسألة؟!»

قلت: «المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية.»

قال: «أوصحيح؟! … تفضَّل أرِنا همَّتَك يا شاطر …»

وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني، وطول ما راجعتها وكررت مراجعتها.

وانتظرت ما يُقَال …

فإذا بالأستاذ ينظر إليَّ شزرًا وهو يقول: «لقد أضعتَ وقتَك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان!»

وإذا بالزملاء يعقبون على نغمة الأستاذ قائلين: «ضيَّعت وقتنا … ما الفائدة من كل هذا العناء؟!»

كانت هذه صدمة خليقة أن تكسرني كسرًا، لو أن اجتهادي كان محل شك عندي أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح فيها قول نيتشه: «إن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه، أيًّا كان القائلون.» ولم أحفل بعدها بإنكار زميل أو رئيس.

•••

كان أساتذتي جميعًا ممن اخترتهم بنفسي …

نعم! … ولكنني أحب أن أستثني أستاذًا واحدًا كان حضوري عليه من اختيار أبي لا من اختياري، وذاك هو الشيخ أحمد الجداوي — رحمه الله — كان الشيخ أحمد من أبناء أسوان، وحضر العلم في الأزهر، وزامل الأستاذ الإمام «محمد عبده» على أيام السيد جمال الدين.

وتولى القضاء في قنا، ثم تولى إدارة التعليم في السودان، ثم نشبت الفتنة المهدية، فهجا «محمد أحمد» بقصيدة نونية نشرَتْها الحكومة في جميع الأقطار السودانية، ومنها على ما أذكر قوله:

يا ذا الذي حسب الضلال هدايةً
ما أنت إلا مبتلى بجنون

فجعل المهدي جائزة لمن يأتيه برأس «الكويفر» الجداوي حيًّا أو ميتًا، وبادرت الحكومة بإبعاده إلى أسوان عند استفحال الثورة مخافة عليه، فأقام في بلده، وفتح بيته الواسع لإلقاء الدروس الأدبية والدينية، وكان الرجل في عمله على النهج القديم، ولكنه كان على دأب تلاميذ الأفغاني جميعًا نهمًا بالمعرفة، يطلب منها كل ما استطاع طلبه، ولو لم يكن من سلكه ولا اتجاهه.

من ذاك أنه تعلم اللغة الإنجليزية في شيخوخته على المرحوم نعوم شقير باشا، وكان يومئذ شابًّا ناشئًا يعمل في قلم الترجمة بمعسكر الجيش، وقد ذكره نعوم باشا في كتابه عن السودان …

ومن ذاك أنه تعلم الشعوذة، وألعاب السينما، وحيل الحواة حتى برع فيها …

ولم يكن أعجب من مفاجآته حين يتكلم إلى أحد الضباط الإنجليز باللغة الإنجليزية، أو حين يجتمع بالموظفين والأعيان لمشاهدة «حاوٍ» ماهر يبهرهم بألعابه، وكان «الحواة» يكثرون يومئذ في أسوان لازدحامها بالطارئين عليها، فيقف الأستاذ ويشمر عن أكمامه العريضة، ويفحم «الحاوي» المسكين في صميم فنه، أو يضربه بعصاه!

•••

كان هذا النابغة الألمعي أوسع من لقيت محفوظًا في الشعر والنثر.

كان يطارح وحده خمسة أو ستة من القضاة والمدرسين والأدباء.

والمطارحة هي أن تأتي ببيت من الشعر فيأتي مطارحك ببيت يبدأ بحرف القافية في البيت الأول … فإذا اجتمع خمسة أو ستة من الأدباء كان لكل منهم أن يقترح بيتًا، وكان الشيخ الجداوي هو الذي يرد عليهم جميعًا … فيسكتون في النهاية وهو لا يسكت، ولا ينضب معينه، وكان كثيرًا ما يتعمد التعجيز؛ فيذكر في رده بيتين أو ثلاثة أبيات أو أربعة.

وكان يحفظ مقامات الحريري والهمذاني، ويلقيها أحيانًا موقعة مفسرة، فيأخذني والدي معه إلى بيت الشيخ؛ لأنه كان من أصدقائه ومحبيه، أو يدعوني إلى حضور المجلس إذا زارنا الشيخ كما كان يفعل أحيانًا.

ومن خصائصه أنه على قدرة فائقة في نظم الشعر المؤرخ، أو الشعر الذي يجتمع من حروف كل شطرة فيه أو كل بيت فيه تاريخ سنته. وقد نظم في استقبال الخديو عباس — عند مروره بأسوان في طريقه إلى السودان — قصيدة كبيرة في كل بيت منها تاريخان.

ولم يكن مجلسه كله مقامات ودروسًا ومطارحات، بل كان من طرائفه أنه يعرف ألعاب الحواة، ويبتدع الملح والفكاهات، وكان مولعًا بشيخ معمر جاوز الثمانين اسمه «علوب»، لا يفتأ يناوشه ويستثيره ويحرك غيظه؛ ليستمع إلى ردوده الساذجة التي لا يبالي فيها بكبير ولا صغير.

ومن دعاباته معه أنه كان يُقسِم له لئن وصل من مكانه إليه قبل أن يفرغ من عد «خمسة» ليعطينه قطعة بخمسة …

وقطعة بخمسة في ذلك العصر شيء مهول عند «علوب».

ثم يأخذ القاضي الجداوي في العد، فيطيل نفسه «بالواحد» حتى تستغرق ثواني كثيرة، والسلحفاة تطمع في الوصول من أول المجلس إلى آخره إذا استمر العد على هذه النغمة، فيتحرك الطمع في صدر «علوب».

ويدس قدميه خفية في النعال ليفاجئ القاضي بالجري إليه قبل أن يفرغ من عده.

فما هو إلا أن يخطو خطوتين أو ثلاثًا، وينطلق في جلاله ووقاره عاديًا مهرولًا حتى يسرع القاضي، فيأتي على بقية الخمسة عدًّا في نفس واحد.

فيحوقل الشيخ، ويصيح به: «والله ما أحسبك تعلمت الفتاوى الشرعية إلا لتأكل على «علوب» هذه الخمسة القروش.»

وربما تمادى القاضي في إطماعه عمدًا فيستمر في عده على النغمة الأولى حتى يصل إليه «علوب»، ويكسب الرهان، ويعترف له القاضي بالهزيمة، ويأتي دور التسليم بعد البحث في الجيوب من اليمين والشمال، و«علوب» واقف بالانتظار …

ويطول البحث في الجيوب و«علوب» ضاحك متهلل ضحك الشماتة والانتصار، ثم يصيح به القاضي وقد أطال لهفته، وأثار طمعه: «خذ يا شيخ، بارك الله لك فيما أعطاك.»

ويدس في يده شيئًا فيرتاع «علوب»؛ لأنه يحس في يده خمسة مليمات لا خمسة قروش.

ويأتي دور القاضي في الشماتة والنكاية، ويعود إلى الفتاوى الشرعية التي يكرهها «علوب» فيقول له: قطعة بخمسة يا صاحبي، يعني خمسة مليمات، أتحلف بالطلاق أن القرش التعريفة لا يُسمَّى قطعة بخمسة يا «شيخ علوب»؟ … إن حلفت فلك خمسة القروش التي تريدها، ولكن — يا «شيخ علوب» — حاسب قبل اليمين … كم مؤخر صداق «الولية» يا أبا العلاليب؟!

وهكذا تنقضي مجالسه في سرور وفائدة وإيناس، ولا أدري على التحقيق كيف تعلم ألعاب الحواة وأشباهها من الحيل الحسابية والسينية، ولكني لاحظت عليه أنه لا يرى أمامه بابًا للمعرفة إلا تطرق إليه، ومن ذلك أنه تعلم الإنجليزية؛ لأن مجلسه كان يجمع بعض الأدباء المحيطين بها، ومنهم المرحوم نعوم شقير الذي كان يومئذ مترجمًا بمعسكر أسوان، فانتهز هذه الفرصة ليتعلم عليه الإنجليزية، ويعلمه درسًا في الآداب العربية …

وليس الشغف بالمعرفة على هذا النحو بالخلق المستغرب من تلاميذ جمال الدين، فلولا حبهم للمعرفة ومخاطرتهم في سبيلها لما عرفوه.

وقد حَبَّبت مجالسُ الجداوي الأدبَ إلى نفسي لأول مرة، ورغبت أن أتخذه فنًّا أضرب فيه بسهم، كما ضرب فيه الأستاذ، وصرت من ذلك الحين مهتمًّا بحفظ الشعر، ومطالعة كتب الأدب.

ومما يلذ ذكره أنني لما أُغرِمتُ بالأدب أخذت أتمرن على نظم الشعر، وساعدني في ذلك مباراتنا المدرسية التي كان الناظر يعقدها لنا في إلقاء الشعر العربي، حتى كنت أستعيض عن محفوظاتي الشعرية بأبيات أنظمها من تلقاء نفسي، وكانت أول أبيات نظمتها — وأنا لم أتجاوز الحادية عشرة — هذه الأبيات التي أذكرها هنا على سبيل الفكاهة:

عِلْمُ الحسابِ له مزايا جمَّةٌ
وبه يزيدُ المرء في العرفانِ
النحوُ قنطرة العلومِ جميعِها
ومُبِينُ غامضِها وزَيْنُ لِسانِ
وكذلك الجغرافيا هاديةُ الفتى
لمسالكِ البلدانِ والوديانِ
وإذا علمتَ لسانَ قومٍ يا فتى
نلتَ الأمانَ به وأي أمانِ!

الشيخ محمد عبده

والشيخ محمد عبده في اعتقادي أعظم رجل ظهر في مصر وما جاورها منذ خمسة قرون، أثره في نفسي من أقوى الآثار …

وقد أُعجِبت به؛ لأنني سمعت بذكره في مجلس الأستاذ الجداوي مرات، وكان محبوبًا في بلدتي أسوان على الرغم من الضجة التي شنها عليه حساده، والجاهلون بفضله.

وذلك لأنه توسط في قضية متشعبة الأطراف شغلت المدينة والإقليم كله أكثر من عشر سنوات؛ حتى سماها ظرفاء المدينة قضية دريفوس … وكان أحد الطرفين فيها رجلًا سريًّا مفرط الذكاء، شديد العناد، خبيرًا بحيل المقاضاة، وأساليب المراوغة والتأجيل، وإعادة النظر، وإهمال التنفيذ، وكان الطرف الآخر رجلًا من المهاجرين إلى السودان الذين عادوا إلى وطنهم مفتقرين بعد الثورة المهدية، فلما بحث عن بيوته وأمواله وجدها في يدي ذلك السري الذكي العنيد، ولم يجد معه دليلًا حاضرًا يعينه على المقاضاة، ولولا العداوة بين ذلك السري الذكي العنيد وبين أسرة أخرى في المدينة لما استطاع الإنفاق على القضية سنة واحدة.

ومع هذا عزَّ على الأسرة القوية إثبات حقه، وأوشكت القضية أن تنقلب عليه، لولا أن هداه نائب أسوان في مجلس الشورى إلى الشيخ محمد عبده، فقص عليه قصته، واستفز نخوته، فتولى القضية بنفسه، وخاطب فيها زعيمنا الكبير سعد زغلول رحمه الله، بعد أن تحولت إليه، فحكم فيها حكمًا فاضلًا هز الإقليم بأسره، وتحدث به الكبار والصغار في كل مجلس وفي كل قرية، وغلبت هذه السمعة الحسنة التي تكلل بها اسم الشيخ محمد عبده في أسوان على كل تهمة باطلة من تهم الحساد الذين افتروا عليه الزندقة والإلحاد.

ومن حظي الحسن أنني سمعت به في تلك الأيام فراقني أن أقتدي به في غيرته على الحق، ونجدته للضعيف، وقلة اكتراثه للقيل والقال، واطلعت على معظم ما كتب في شئون الدين والدنيا، ولكنني أعجبت بخلقه فوق إعجابي بعلمه، فإن الاقتداء بخلقه نافع لكل إنسان كائنًا ما كان مذهبه في الدراسة والتفكير، ولكن العلوم والمعارف تتعدد بين فريق وفريق من الناس، فلا ينتفع المرء إلا بمن يماثله في معارفه وعلومه.

وأنا مدين بخطتي في السياسة الوطنية لإعجابي بالشيخ محمد عبده ومريديه.

فإعجابي به هو الذي أعظم في نفسي الثقة بسعد زغلول يوم كان الفتيان من عمري كلهم أنصارًا لمصطفى كامل وعبد العزيز جاويش، وأتباعًا لهما في الحملة على سعد زغلول.

ولما اشتدت هذه الحملة ذهبت إلى سعد في ديوان المعارف لأستطلع رأيه، وأسمع حجته على حضور، وقلت في خطابي إنني أثق به لأنني أثق بأستاذه، ودخلت المكتب فاستقبلني واقفًا، وأشار إلى كرسي أمامه فجلس وجلست، وسألني: «أعرفت الشيخ محمد عبده؟»، قلت: «نعم! … قرأت رسائله وتفسيراته، وترجمة حياته.» قال: «أين؟ … أفي الأزهر؟» قلت: «لا … بل في أسوان، قدمني إليه أستاذي فناقشني في علومي المدرسية، وبعض الآراء العامة، ثم سمعت منه بشرى طيبة …»

قال: «ماذا سمعت منه؟»

قلت: «التفت إليَّ الأستاذ، وقال وهو يربت على كتفي: ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعدُ!»

فتبسم الباشا وقال: «أرى أن نبوءة الإمام تتحقق.» واستطرد إلى كلام عن الشيخ يثني عليه.

وهكذا ترتسم لنا في بواكير الصبا مناهج السياسة التي نُقَاد بها، ونقود بها غيرنا مدى الحياة.

شيطنة التلاميذ

ولا أحسب أن أحدًا يتكلم عن أساتذته إلا انتظر منه القارئ شيئًا عن «شيطنة» التلاميذ مع الأساتذة.

وللقارئ حق …

فما خلت قط علاقة تلميذ بأستاذ من تلك «الشيطنة»، ولم أكن أنا من أبطال «الشيطنة» المدرسية … ولكنني كنت أستطيبها، وأشجع عليها حين تقع في موقعها، ولا أطيل في سرد النوادر، فهي كثيرة تكفي هنا واحدة منها على سبيل المثال …

كان معلم الخط في مدرستنا من أبرع الخطاطين في البلاد العربية، ولكنه كان رجلًا غريب الأطوار، يهتاج لأقل خطأ، فيشتم التلميذ المغضوب عليه شتمًا يناله هو قبل أن ينال التلميذ؛ لأنه يبدأ كل شتيمة بقوله: يا ابني … ثم يكيل الشتائم كيلًا، فإذا هي كلها مردودة إليه.

وكان التلاميذ يهجونه لشتمهم وشتم نفسه على هذا النمط الغريب، ومنهم تلميذ خبيث أعيى أساتذته وأهله خبثًا في جميع سنوات الدراسة، يملك أهله مطاحن بخارية توشك أن تحتكر طحن الغلال في المدينة.

ولم يكن من الميسور طحن مقطف من القمح في اليوم الذي يرسل فيه إلى المطحنة؛ لأنها كانت تكتظ بالمقاطف وأصحابها؛ فيبيتون إلى جوارها في بعض الأيام …

واغتنم معلم الخطوط فرصة وجود هذا التلميذ في فصله، فجعل يستدعيه إلى المنزل ظهر كل خميس ليحمل الطحين إلى مطحنة أهله ويعود به في اليوم نفسه …

وما أدراك ما يوم الخميس؟! … إنه هو اليوم الذي ينتظره التلميذ بنافد الصبر ليسرح ويمرح، لا ليخزن نفسه في مطحنة تعج بأصوات الآلات وأصوات الطاحنين.

وصبر التلميذ الخبيث أسبوعًا وأسبوعين وثلاثة أسابيع، ثم نفد صبره، وعول على استنجاد خبثه … وهو لا يخذله حيث يتخابث في غير طائل، فكيف بالخبث الذي ينقذه من هذا البلاء؟!

وجملة القول أنه باع المقطفين بأبخس ثمن، ولم يذهب في يومها إلى المطحنة، ولا رجع إلى بيت الأستاذ.

وقبل حصة الخط جمعنا وهو لا يملك نفسه ضحكًا، فحدثنا بما حدث … فدخلنا الفصل ونحن نتلهف شوقًا إلى ما يكون!

وكان التلاميذ يتعلمون الخط يومئذ في كراسة مُذَهَّبة تُسمَّى «المشق»، على رأس كل صفحة منها نموذج مطبوع، تحته نموذج مفرغ بالنقط، تحته فراغ لكتابة التلميذ …

ولا أذكر ما هو النموذج الذي كان مكتوبًا في رأس الصفحة ذلك اليوم … ولكنني أذكر أنه كان مبدوءًا بحرف «ميم».

وجاء دور التصحيح، فذهب التلاميذ واحدًا بعد واحد إلى منصة الأستاذ، فجعل لا يلتفت إليهم إلا قليلًا، ولا يشتمهم على عادته في كل تصحيح؛ لأنه على ما يظهر كان يدخر «الشتيمة» كلها لتلميذ واحد، هو ذلك التلميذ الخبيث.

– أهذه «ميم» تكتب يا ابني يا ابن اﻟ …؟!

قالها قبل أن يضع التلميذ كراسته أمامه … فنظر التلميذ الخبيث إلى أستاذه متجاهلًا، وهو يسأل: «أي ميم يا أفندي؟! إنني لم أكتب ميمًا!»

وكانت الكراسة قد استوت أمام الشيخ فنظر فيها، فرأى أن الخبيث قد تخطى الصفحة إلى التي بعدها عن عمد أو سهو …

فلم يسكت الشيخ بل راح ينطلق في شتمه لهذا السبب الجديد، وقال له: «وتتخطى الصفحة أيضًا يا ابني يا ابن اﻟ …»

ثم ضحك على الرغم منه …

فنجا الخبيث بهذه الضحكة من العقاب، ومن سخرة الطحين في كل خميس …

رحمهم الله جميعًا، وأطال بقاء الأحياء منهم …

إنهم كانوا أساتذة نافعين: نافعين بما علمونا من دروس، ونافعين بما علمونا من أطوار بني آدم، ونافعين بما قصدوه وما لم يقصدوه …

(٢) ثلاثة أشياء جعلتني كاتبًا

إنني أومن بكلمات التشجيع التي يتلقاها الناشئ في مطلع حياته ممن يثق بهم ويعتز برأيهم، فيمضي إلى وجهته على يقين من النجاح.

وأومن بالظروف وفعلها في تمهيد أسباب النجاح، وتيسير البدء في طريقه، ثم المثابرة عليه إلى غاياته القريبة والبعيدة.

وأومن بالرغبة في الوجهة التي يتجه إليها الناشئ، والعمل الذي يختاره، ويحس من نفسه القدرة عليه، والاستعداد له مع الاجتهاد، والتذرع بالوسيلة الناجعة.

أومن بها مجتمعات، ولا أومن بها متفرقات.

أومن بالتشجيع والظروف والرغبة تتلاقى معًا، وتتوافق في الخطوات الأولى … ولا أومن بها متفرقة يتيسر بعضها ويتعذر سائرها في مستهل الطريق.

فكلمات التشجيع إذا امتنعت الظروف المواتية قلما تفيد، وكلمات التشجيع مع مؤاتاة الظروف تضيع كلها عبثًا إذا امتنعت الرغبة في نفس الناشئ، ودل امتناعها على نقص الاستعداد أو على الرغبة في عمل آخر يضل عنه حتى يهتدي إليه في ظرف من الظروف.

واتجاهي إلى الصحافة — أو إلى الكتابة على الأصح — قد تلاقت فيه كلمات التشجيع مع مؤاتاة الظروف، والرغبة الكامنة في الطوية من أيام الطفولة، ولا أقول من أيام الصبا أو الشباب؛ لأنني عرفت أنني أحب الكتابة، وأرغب فيها قبل العاشرة، ولم أنقطع عن هذا الشعور بعد ذلك إلى أن عملت بها، واتخذتها عملًا دائمًا مدى الحياة.

كان أستاذنا في اللغة العربية والتاريخ الشيخ فخر الدين محمد الدشناوي يعرض كراساتي التي أكتب فيها موضوعات الإنشاء على كبار الزوار لمدرسة أسوان، وكان كبار الزوار لهذه المدرسة أكثر عددًا وأعظم شأنًا من كبار الزوار لمدارس القطر كله؛ لأن أسوان كانت قبلة العظماء والكبراء من جميع الأرجاء في موسم الشتاء.

واطلع الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» على إحدى هذه الكراسات، فقال: «ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعد! …»

فكانت هذه الكلمة أقوى ما سمعت من كلمات التشجيع، ولكنها جاءت بعد سنوات في القراءة، ومحاولة الكتابة، وإصدار الصحف التي تُطبَع على «البالوظة» … ولا يقرؤها أحد غيري وغير تلميذين أو ثلاثة من الزملاء …

كان والدي — رحمه الله — من أنصار الحركة العرابية، وتعلمت الأبجدية وكتابة الحروف الأولى وأنا أرى بين يدي أعداد مجلة «الأستاذ»، وغيرها من مجلات عبد الله نديم، ومعها أعداد قليلة من «أبو نضارة»، والعروة الوثقى، ونشرات الثورة التي كانت تُوزَّع في الخفاء.

وكنت أسمع على الدوام أخبارًا في سير الكتاب الذين يصدرون هذه الصحف، ولا سيما عبد الله نديم.

فأصدرت يومًا صحيفة باسم «التلميذ» محاكاة لصحيفة «الأستاذ»، وافتتحتها بمقال عنوانه: «لو كنا مثلكم لما فعلنا فعلكم» معارضة لمقال النديم المشهور: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا» يعني بها الأوروبيين.

واقترنت بهذه الظروف رغبة ملحَّة في القراءة والكتابة، بل في النظم والنثر المسجوع بعض الأحايين.

ولعل المرة الأولى التي عرفت فيها أنني أكتب ما يستحق التنويه بين الأقران قد عرضت لي من قبيل المصادفة وأنا في السنة الثانية الابتدائية، وكان مدرس الخط والكتابة عندنا الخطاط المشهور الشيخ مصطفى عاصم رحمه الله، وهو والد زميلنا أحمد عاصم «بك» الذي أصبح بعد ذلك من رجال التربية المعدودين …

طلب منا الشيخ مصطفى أن نكتب بالخط النسخ كلامًا من عندنا نصف به المدرسة التي نتعلم فيها، ولم تكن دروس الإنشاء مقررة علينا في تلك السنة، ولكنه أراد أن يجعلها درسًا من دروس الخط بكتابة من عندنا غير كتابة «المشق» المرسوم.

ونسيت هذا الطلب لأنه «نافلة» لا يدخل في باب المقررات، فلما التقيت قبل دق الجرس بزملائي سألني أحدهم: «هل كتبت ما طلبه مدرس الخط؟» فتذكرت ذلك الطلب «النافلة»، وبدا لي أن كتابته خير من إهماله، وأخرجت كراسة التجارب فكتبت صفحة من صفحاتها في هذا الموضوع.

وكان من المفاجآت لي وللزملاء الصغار — الذين علموا كيف كتبت ذلك الموضوع بعد تنبيههم إياي — أن المدرس لم يقرأ في الفصل غير ذلك الموضوع! وغار الزملاء، فقال بعضهم: إنه يا أفندي كان ناسيًا، وذكرناه به في اللحظة الأخيرة …

وظنوا أنهم يهبطون بدرجة الإنشاء في تقدير الشيخ، فإذا هو يضاعف التقدير، ويقول لهم: إن هذا أدل على الإجادة وحسن الاستعداد.

وبلغت السادسة عشرة وأنا أعمل في وظيفة حكومية، وكان عليَّ أن أنتظر سنتين قبل التثبيت؛ لأن الوظائف الدائمة لا تثبت قبل الثامنة عشرة!

فخطر لي ذات مرة أن أريح نفسي من هذا الانتظار، وأن أتوفر على إصدار صحيفة أسبوعية باسم «رجع الصدى»، واتخذت مستشاري لهذا العمل «كتبيًّا» بحي الأزهر كنت أشتري منه الكتب الأدبية بأرخص الأثمان؛ لأنها كانت مطبوعة — كلها — على الورق الأصفر، وبعضها مرجوع يُبَاع بنصف الثمن، ولا يزيد ثمنه على بضعة قروش.

قال لي الكتبي الناصح: إياك أن تفعلها وتترك خدمة «الميري» من أجل هذه الصناعة الملعونة!

ولم تمضِ ساعة حتى شهدت بعيني أنها في الحق صناعة ملعونة كما قال، أو كانت على الأقل ملعونة إلى ذلك الحين!

على مقربة من المكتبة مطبعة صغيرة تُطبَع فيها صحيفة أو اثنتان من الصحف الأسبوعية، ويقف فيها «مدير الصحيفة» ينتظر الوكيل الذي أرسله إلى المشتركين للتحصيل وسداد حق المطبعة من محصول الاشتراكات.

وحضر الوكيل.

مخلوق أشعث أغبر ليس على بدنه كسوة من قطعة واحدة، ولحيته مرسلة بغير قصد منه؛ لأنها معلقة على قرش واحد يؤديه للحلاق، ولا سبيل إليه … وبادره المدير قائلًا: ماذا صنعت؟ …

فأخرج له إيصالًا معادًا من أحد المشتركين، وقال له: إن صاحب هذا الإيصال قد أنبأني أنه سدد الاشتراك لك قبل الآن، وعنده إيصال بالسداد.

قال المدير: وأين الإيصال الآخر؟ …

قال الوكيل: قطعه الرجل ورماه في خلقتي! …

فانتهره المدير وهو يضربه، وقال له: مستحيل! … إن هذا الرجل ممن يخافون من الكتابة عنهم خوف البرد، ومسألة بنته أو أخته معروفة يخشى منها الفضيحة … فلا تقل لي أنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة … بل قل إنك قبضت الاشتراك، وسكرت به كعادتك …

وكانت بقية الفصل خناقة لا أدري كيف انتهت؛ لأنني لا أحب منظر «الخناق» … فتركتها وأنا أردد قول الكتبي الناصح: إنها صناعة ملعونة وايم الله!

•••

بعد هذا كانت علاقتي بالصحافة علاقة الكتاب من «منازلهم» …

فكنت أكتب إلى «الجريدة» التي أشرف على تحريرها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد، وكتبت قبلها إلى صحيفة «الظاهر» التي كان يصدرها «أبو شادي» المحامي، وإلى صحيفتي «المؤيد» و«اللواء»، ونشر أول ما نشر لي من الشعر في إحداها، وأذكر أنه في صحيفة «اللواء».

وإنني لأقرأ الصحف ذات يوم إذا بالأستاذ «محمد فريد وجدي» يعلن عن صحيفة يومية ينوي أن يصدرها باسم الدستور، ويطلب مخاطبته في شئون الصحيفة، ومنها شأن التحرير.

فتناولت ورقة في المقهى التي كنت أجلس بها بحي شبرا، وكتبت إليه خطابًا أرشح فيه نفسي للاشتغال بتحرير الدستور، ولم يمضِ يومان حتى جاءني الرد منه بالقبول، فذهبت إليه حيث اختار مكتب الصحيفة الأولى بدار مطبعة «الواعظ» لصاحبها الأستاذ محمود سلامة بدرب الجماميز، وعدت لأستقيل من وظيفتي الحكومية، وأبدأ حياتي الصحفية المنتظمة، ولم أزل أعمل في تحرير «الدستور» حتى اضطرت إلى التوقف عن الصدور.

وإنني لأحمد الله أن كانت بداية عملي المنتظم في الصحافة مع رجل كالأستاذ وجدي — رحمه الله — قليل النظير في نزاهته، وصدقه، وغيرته على المصلحة القومية، واستعداده للتضحية بماله وراحته في سبيل المبدأ الذي يرعاه، ولا يتزحزح عنه قيد أنملة، فقد عطل صحيفته وبين يديه عرض سخي من جماعة «تركيا الفتاة» التي أرادت أن تتخذ منها لسان حال لها في مصر والشرق باللغة العربية، وهذا غير العروض السخية التي توالت عليه من جانب «المعية الخديوية» … فأقدم على تعطيل الصحيفة لكيلا يخالف عقيدة من عقائده السياسية مرضاة لهؤلاء أو هؤلاء، وباع كتبه ليؤدي حساب العمال والصفافين والموظفين مليمًا بمليم.

أحسن الله ذكراه في مثواه.

وأكثر الله بين الصحفيين من ينحو في هذه الصناعة «المباركة» منحاه.

(٣) هجرت وظائف الحكومة

«الاستخدام رِقُّ القرن العشرين.»

كان هذا عنوان مقال كتبته في «الجريدة» حوالي سنة ١٩٠٧ وأنا في وظيفتي الحكومية، وكنت يومئذ على أهبة «الاستعفاء» منها للاشتغال بالصحافة …

ومن «السوابق» التي أغتبط بها وأحمد الله عليها أنني كنت — فيما أرجح — أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة، وخطل الرأي عند الأكثرين، بل ربما كانت حوادث الاستقالة أندر من حوادث الانتحار … ولو ظفرنا اليوم بإحصاء ثابت لحوادثهما معًا منذ بدأت عندنا الوظائف الحكومية إلى أوائل القرن العشرين لتحقق لنا أن الاستقالة من الوظيفة كانت أندر من الانتحار، ولا يخرج هذا عن حيز المعقول؛ لأن الوظيفة كانت معيشة وشرفًا ومزية اجتماعية، ولأن عدد الموظفين الذين تُسجَّل عنهم حوادث الاستقالة أقل من عدد الجمهرة الكبرى التي تُسجَّل عنها حوادث الانتحار، ولعلنا لو أخذنا في العددين بالنسبة المئوية لما اختلفت دلالة الإحصاء.

كان الشرف كله يومئذ منوطًا بالوظيفة الحكومية، وكانت كلمة القائلين: «إن خدمة الميري شرف» مثلًا سائرًا في كل طبقة من طبقات الأمة، ويضارعه في الشيوع قول القائلين: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» وهو القول القاطع الذي شاع وظل شائعًا إلى عهد قريب.

وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره، وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة — كما كانت يومئذ — عملًا آليًّا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخِّر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملًا إلا كعمل المسامير والآلات في تلك الأداة.

•••

وأعود فأقول مرة أخرى: إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها، وأحمد الله عليها … فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية؛ إذ كنت أومن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين.

وقد اشتغلت بوظائف كثيرة في المديريات، ومصلحة التلغراف، ومصلحة السكة الحديد وديوان الأوقاف، ويلحق بها — أي بهذه الوظائف — عملي في تعلية الخزان؛ لأنه كان بمثابة الوظيفة الحكومية في ذلك الحين.

وأذكر أنني تقدمت للامتحان في «نظارة الحقانية» يوم كان الكاتب المشهور في زمنه «أحمد سمير» رئيسًا من الرؤساء الكتابيين فيها، وكان موضوع الامتحان حسابًا وترجمة وإنشاء عربيًّا، سئلنا فيه أن نكتب تاريخ حياتنا؛ فكتبت تاريخ حياتي في الوظائف الحكومية قبلها، ومهَّدت له بمقدمة عن الوظائف، وما ينبغي لها من الإصلاح، ونظر الأستاذ أحمد سمير في ورق الإنشاء أمامنا، فقال: «يظهر أن خوجة هذا الطالب كان من المجاورين الحناشيص في اللغة العربية …» ثم أتم القراءة، فقال لي بعد أن دُعِيت باسمي: «ومن لنا بأنك تبقى عندنا أكثر مما بقيت عند غيرنا … أنت يا بني تريد إصلاح الوظائف كلها، ونحن مش قدك، والله العظيم!»

فقلت له: «والآن تستطيع أن تعتبر ورقة الطلب ورقة استعفاء، ما دامت هذه طريقتكم في الامتحان.»

•••

ولو أنني أردت أن أسجل تجاربي في تلك الوظائف جميعًا لما وسعتني المقالات؛ فإنها مما تستوفيه الكتب المطولات.

ولكنني أذكر هنا تجربة أو اثنتين من مهازلها ومآسيها، ويُقاس عليها غيرها من هذا الباب، وغير هذا الباب …

كانت الرسائل تُسمَّى يومئذ «بالإفادات» …

وكانت «للإفادة» صيغة مقررة مكررة لا تختلف من الديباجة إلى التقفيلة كما كانوا يسمونها، وكان من نماذجها ترتيب الألقاب من «حميتلو» إلى «رفعتلو» إلى «سعادتلو» إلى «عطوفتلو»، بين ملاحظ البوليس وناظر المالية الذي كنا تابعين له في أقسامنا المالية بالمديريات …

فإذا قلت «صاحب الحمية، أو صاحب العطوفة» بدلًا من «حميتلو» أو «عطوفتلو» بطلت الإفادة، ووجبت إعادتها من جديد.

وكذلك تبطل الإفادة إذا ختمتها بعبارة غير عبارة التقفيلة المعهودة، «وهذا ما لزم عرفناكم به أفندم.»

وتتخلل الإفادة قوالب تعبيرية أو «كليشيهات» على هذا المثال لا يجوز فيها التبديل ولا التقديم ولا التأخير.

وأكتب عشرين أو ثلاثين إفادة دفعة واحدة، فإذا هي تُعاد إليَّ «لتصحيحها وكتابتها مرة أخرى بالأسلوب المعهود».

•••

ويتكرر هذا مرة بعد مرة، ولا متسع من الوقت لكتابة الإفادات جميعًا، فضلًا عن كتابتها وتغييرها بلا سبب غير هذا الجمود على الأسلوب العتيق.

ويتفق يومًا أن أدخل على «الباشكاتب» بالإفادات المشطوبة فأجده منفردًا في المكتب، وتزين لي «شقاوة» التلمذة أن أعبث بالرجل عبثًا لم يكن يخطر له على بال، وبخاصة هذا الباشكاتب الذي اشتهر في مديريات القطر بالحزم والمهابة والدراية بأصول الإدارة، وأساليب المكاتيب.

قلت له في كل بساطة: «يا أيها الحمار الأزعر … أمثلك يصحح الكتابة العربية، وأنت لا تعرف منها غير الهجاء، وكتابة (العرضحالات)؟!»

ولم يصدق الرجل أذنيه، وظن أنه أمام مجنون لا يؤمن أن يبطش به ويعتدي على حياته، فقفز من كرسيه إلى خارج الحجرة ينادي الفراشين والموظفين المساعدين، ثم ذهب إلى مكتب وكيل المديرية يشكوني إليه؛ لأن المدير (محمد محب باشا) كان غائبًا عن البلد، وينوب عنه «محمد خليل نائل بك» الذي كان معروفًا في ذلك الوقت بأنه رجل «رياضي» بحبوح قبل أن تشيع كلمة اﻟ «سبورت».

ويدعوني الوكيل فأقول له مقسمًا أنني ما خاطبت الرجل إلا بما يستحقه من الاحترام. ويبتسم الوكيل الظريف، ثم يقول للبك الباشكاتب: دعه لي … فإنني سأنظر في أمره «بما يستحقه».

وما كاد الباشكاتب يولي قفاه حتى ضحك الوكيل وكاد أن يقهقه، ثم اصطنع العبوس وهو يقول: اسمع يا بني … شغل الحواة في المدارس لا ينفع هنا في الوظائف، ولو ثبت عليك أنك تطاولت على حضرة الباشكاتب لكان جزاؤك الفصل العاجل، فلا تعد إليها مرة ثانية.

وقد علمت بعد ذلك أن الباشكاتب قد استكبر على مهابته المشهورة أن يُذاع عنه أن موظفًا صغيرًا قال له: «يا حمار» … فلم يذكر للوكيل إلا بعض ما قيل!

وتجربة أخرى في هذا الديوان نفسه أننا كنا نعمل في بقسم المكلفات — أي تدوين الملكيات الزراعية — أيام فك الزمام، وليس أكثر من هذه الأيام من العقود الواردة من المحاكم ومن الأقاليم، فلا طاقة للموظف بإنجاز العمل مرة واحدة فضلًا عن إنجازه مرتين.

وأقرر … نعم أقرر، وأقولها الآن وأنا أضحك كما يضحك القارئ وهو يتصفحها …

أقرر عددًا من العقود أنجزه كل يوم ولا أزيد عليه ولو تراكمت الأوراق على المكتب كالتلال.

ومن هذه العقود عقد أذكر تمامًا … أنه كان لأمين الشمسي باشا والد السيد علي الشمسي الوزير السابق المعروف، مضت عليه أشهر وهو بانتظار التنفيذ في الموعد الذي قررته لنفسي، وجاء الباشا يسأل عنه، فرأيته لأول مرة ورأيته لا يغضب ولا يلوم حين تبينت له الأعذار التي استوجبت ذلك القرار.

•••

وإذا كان هذا قليلًا من كثير من تجاربي في وظائفي الحكومية، فلا أحسب القارئ المعاصر يعجب لاستقالتي منها واحدة بعد واحدة …

غير أنني أقول اليوم كما أقول كلما ذكرت أمثال هذه التجارب …

وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.١

وهكذا مرت بي تجارب الوظائف على خير لا شك فيه، فلولا اشتغالي بالمديريات بين قنا، والزقازيق، والفيوم، ولولا تنقلي فيها بين أعمال تتصل بالملكيات الزراعية، وأخرى تتصل بمساوئ الأوقاف، وغيرها بالمواصلات ومشروعات الأبنية والمقاولات، لفاتني كثير، بل كثير جدًّا، من العلم بحقائق بلدي ومواطن الإصلاح فيه.

ولو اطلعتم على ما في الغيب لاخترتم الواقع.

ولعلي لم أكن أختار هذه الوظائف بعينها، ولكنني أختار أن أعرف ما عرفت من حقائق وطني بالثمن الذي «تستحقه» … وهي تستحق الكثير.

١  البقرة: ٢١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤