الفصل السابع

(١) طفت العالم من مكاني

أعتقد أن كبار الرحالين الذين تستحوذ عليهم رغبة مُلِحَّة في الطواف بين أرجاء العالم تملكهم على الرغم منهم «ملكة شخصية» يصح أن تُسمَّى عبقرية السياحة، ويصح أن تتجاوز الحد فتُسمَّى هوسة السياحة …

وأعتقد أن هذه الملكة الشخصية مستمدَّة من ملكة قوية أصيلة في الأمة التي يخرج منها أولئك الرحالون المنقطعون للسياحة …

لأن معظم الرحالين الكبار خرجوا من أمم قد تعوَّد أبناؤها الرحلة، وشقت عليهم الإقامة الطويلة، كالعرب لأنهم من أبناء البادية، والفينيقيين والإغريق لأنهم يقيمون على الشاطئ، ويحتاجون إلى الملاحة، وكالبنادقة والبرتغاليين والإنجليز في العصور المتأخرة؛ لأنهم جميعًا بحريون وملاحون …

وأكثر الرحالين الكبار الذين اشتهروا في التاريخ، ونُسِب إليهم الفضل في الكشوف الجغرافية، هم من أبناء هذه الأمم، أو أبناء أمم تشبهها في البداوة والاشتغال بالملاحة …

ملكة شخصية مستمدة من ملكة قومية …

هذه هي عادة الرحلة التي تغلب على بعض الناس، أو هذه هي هوسة الرحلة إذا تجاوزت حدها المعقول …

على أنني أعتقد — إلى جانب هذا الاعتقاد — أن ملكة الرحالة غالبة على الرحالين وغير الرحالين.

ولكنها تظهر في صور كثيرة غير صورة الرحلة الخارجية، ومنها الرحلة في داخل النفس أو في عالم الخيال.

وبين كبار الرحالين من هذا الطراز أناس لم يفارقوا مكانًا واحدًا خلال عشرات السنين كأبي العلاء المعري!

فإنه سمى نفسه «رهين المحبسين» لملازمته داره وحبسه في جسده، ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه — وهو رسالة الغفران — فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وإلى الجحيم!

وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث …

فإن ما رآه من جوانب الأرض بالقياس إلى المشاهدات المأثورة عن كبار الرحالين شيء لا يُذكَر، ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أعماق البحار، وفي أجواء السماء، بل ساح في عالم الغيب، فوصف للناس مخترعات لم تُخلَق بعد، ثم خُلِقت في أوانها، فإذا هي كما وصف …! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» …

•••

لا بد من السياحة إذن في الخارج أو في الداخل! سياحة مع الانتقال، أو سياحة بغير انتقال.

والظاهر — لا بل المحقق — أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق …

ومع هذا يجوز لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه؛ لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون …

لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي، وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أيامًا بل أسابيع.

ولذلك سبب مني، وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه.

فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي …

وبعضها يرجع إلى شعوري بالقراءة التي تعنيني، فإنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورًا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء.

ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، وألفت بعض الأدباء في قراءة كلامهم فتمثلتهم في ملامح وجوههم وعاداتهم، في حركتهم وسكونهم، واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، وثبت له في خيالي شكل لا يتغير ولا يزال يلوح لي على هيئة واحدة كلما طاف بي طيفه في منام.

ومثله المعري والفارابي وابن سينا وطائفة من مشاهير الأدب والفن بين الشرقيين والغربيين.

فلو كنت مصورًا لاستطعت أن أرسم لكل منهم صورة كاملة كما يرسم المصور أناسًا من الأحياء يراهم كل يوم.

•••

أما السبب الذي من العصر، فلك أن تقول إنه في الحقيقة جملة أسباب …

لأن العاصر الحاضر أول عصر ييسر للإنسان — وهو جالس في مكانه — أن يدرك بالبصر والسمع بلادًا واسعة على مدى مئات الفراسخ وألوفها، فينظر مساكنها وسكانها، ويشرف على بطاحها، ويتغلغل في دروبها، ويتراءى له في لحظات من معالم هذه المدينة، أو تلك القرية ما ليس يتراءى لساكنها في ساعات أو أيام.

كانت السياحة هي الوسيلة الوحيدة للإحساس بالبلاد البعيدة.

أما اليوم فنحن نحسها بالعين والأذن كلما أردنا، ونحن في الدار أو على مقربة من الدار …

الصحف تنقل إلينا أخبارها.

والإذاعة تسمعنا أصواتها وأصداءها.

والصور المتحركة تستدني للآذان — كما تستدني للعيون — كلَّ ما هو خليق منها بمشاهدته أو الاستماع إليه.

وعلم تخطيط البلدان قد يعرِّفك بما يجهله المقيمون فيها، ومراجع التاريخ قد تملأ نفسك بما يملأ عصورها من الأحداث والذكريات، ونقوش الفنانين وأغاني الشعراء والموسيقيين تهيئ لك أن تنفذ إلى روحها، وتمتزج بعبقريتها، وتحياها على أحسن أنماطها في الحياة.

•••

نعم، إن الإحساس بالمكان — وأنت فيه — غير الإحساس به وأنت على مسافة منه … ولكن هل نستطيع أن نقول: إن الإحساس بالمكان القريب يغني عن الإحساس بالبعيد؟ أو هل نستطيع أن نقول: إن الإحساس من الداخل يغني عن الإحساس من الخارج؟ أو أن الإحساس بالعين والأذن يغني عن الإحساس بالوعي والخيال؟

هما إحساسان — ولا شك — لازمان …

والخير كل الخير أن تجمع بينهما، وأن تكون رحلتك الخارجية مقرونة برحلتك الداخلية …

فإذا تعذَّر الخير كل الخير، فالخير بعض الخير «خير» من لا شيء!

ولست أزين لأحد أن يفضل طريقتي في السياحة على طريقته، ولكنني أنا على الأقل لن أنقطع عن السياحة في العالم رحالة بغير رحلة، وطوَّافًا بغير طواف!

(٢) أجمل أيامي

قال: حدثنا عن أجمل أيامك من شبابك إلى مشيبك.

قلتُ: أمهلني حتى أذكر.

ثم راجعتُ نفسي قبل أن أمعن في التذكار، وأستقصي ما عندي من ودائع الأسرار والأخبار، فسألتها مصارحًا في سؤالها: فيمَ هذا الإمهال، وفيمَ هذه المراجعة؟ إنك لا تفعل ذلك إلا أن تكون أيامك الجميلة قد بلغت من الكثرة أن تفوق الحصر والحساب، وأن تحتاج منك إلى العناء في التمييز بينها، وتفضيل ما يُذكَر منها، بعد طول الأخذ والرد والترجيح والتعديل!

فهل تراك تزعم لنفسك، أو تزعم لقرائك، أنك صاحب هذه الثروة التي لا تُحصَى من الأيام الجميلة، وأنك في حيرة بين ما تأخذ منها وما تدع، وبين ما تُقدِّم منها وما تُؤخِّر، وبين ما تنشره منها وما تطويه؟

دعواك هذه — إن ادعيتها — لا يدعيها أحد من بني آدم وحواء، فما بلغت السعادة بهذا النوع البشري المسكين أن يستمتع في حياته بكل هذا المقدار من جمال الأيام أو جمال الأوقات التي تُحسَب بالساعات.

فإن لم يكن هذا مبلغ ثروتك من الأيام الجميلة، ففيمَ العناء في التذكر والاستعادة، وفيمَ التسويف والإرجاء؟

هل هذه الأيام الجميلة من الخفاء بحيث يحجبها ظلام السنين عن النظر، وتطويها حوادث الأيام في زوايا النسيان؟

كلا … ولا كل هذا التواضع «الجميل» في رأي الكثيرين من المزيفين للأقوال والأعمال، فما من إنسان يعمل في دنياه، ويتصل بإخوانه من ذرية آدم وحواء تفوته الأيام المذكورة التي لا تُنسَى على طول العهد أو التي تغلب النسيان ولو تقلب عليها الليل والنهار.

فلا محل للبحث في أعماق الذاكرة لاستخراج تلك الودائع الباقية، وإنما البحث في أعماق الذاكرة لغرض آخر غير حصر أيام الحياة التي تُحسَب من الحياة، ونحب من أجلها الحياة.

إنما البحث في أعماق الذاكرة للتمييز بين الأيام التي يحق لنا أن نصفها بالجمال، والأيام التي يكفي أن تُحسَب من أيام المتعة واللذة، أو أيام السرور والارتياح …

وبين الصنفين فارق بعيد فيما يُذكَر وما لا يُذكَر.

بينهما الفارق الذي يجعل أحد الصنفين جديرًا بالغبطة والتنويه ولو لم يكن منه في العمر غير يوم واحد، ويجعل الصنف الآخر على أحسن الأحوال نموذجًا يتكرر على نمط واحد، ويكفي أن يُذكَر منه عنوانه ليغنينا بعد ذلك عن ذكر المئات والألوف من الأيام، يدل عليها ذلك العنوان …

•••

في حياة كل إنسان ذخيرة وافرة من الأيام اللذيذة الهنيئة، والأوقات الرخية الراضية، ولكنك تحسبها من أمتع أيام الحياة، ولا تحسبها من أجمل أيام الحياة.

فمن هذا الذي يعرف ما يُذكَر وما يُنسَى من الأيام، ثم يستوقف السامعين ليحدثهم عن الأكلة الشهية التي ساغت له أمس أو قبل عشر سنين؟! …

ومن هذا الذي يعرف معنى الجمال، ثم يحسب منه تلك الليلة اللذيذة التي قضاها في أحضان الحب والهوى، ونعم فيها بنعومة ذلك الجسد وحرارة ذلك العناق.

هذه اللذائذ لا تفوت إنسانًا من بني آدم وحواء، وليست من جمال النفس الإنسانية في شيء، وإنما هي تمرينات محبوبة للحواس ينعم بها كل ذي حس من الحيوان كما ينعم بها كل ذي نفس من بني الإنسان.

ليست هذه أجمل أيام الحياة، ولكنها كما تقدم أمتع أيامها، أو قد تكون في حساب الجسد أحب الأيام إليه.

أما اليوم الجميل فهو اليوم الذي يرتفع بنا إلى مقام فوق المتعة والألم والراحة، وفوق المعدات والأكباد والجلود، وفوق مطامع النفس التي يغلبها الطمع، ويسومها أن تقبل الجميل والقبيح، وأن ترضى بالحميد والذميم …

•••

اليوم الجميل هو الذي نملك فيه دنيانا ولا تملكنا فيه، وهو اليوم الذي نقود فيه شهواتنا ولذاتنا، ولا ننقاد لها صاغرين أو طائعين.

ومن هذه الأيام ما أذكره ولا أنساه، ولا أحتاج إلى العناء في البحث عن ذكراه …

فكل يوم ظفرت فيه بنفسي، وخرجت فيه من محنة الشك فيما أستطيع وما لا أستطيع؛ فهو يوم جميل بالغ الجمال.

جميل ذلك اليوم الذي قضيت عشرات الأيام في انتظاره مترددًا بين إغراء اللذة وإيحاء الكرامة، حتى وصلت إليه فحمدت لنفسي أنها عملت بما ينبغي أن تفعل، واستطاعت أن تفعله ولا تندم عليه …

جميل ذلك اليوم الذي ترددت فيه بين ثناء الناس، وبين عمل لا يثني عليه أحد، ولا يعلمه أحد، فألقيت بالثناء عن ظهر يدي، وارتضيت العمل الذي أذكره ما حييت، ولم يسمع به إنسان …

جميل ذلك اليوم الذي وقفت فيه بين الخوف من عواقب الخروج على زمرة الأقوياء القابضين على أزمة الأمر والنهي في البلد، وبين الرضا بمساوئهم وأباطيلهم، وغنائم رضاي ورضاهم، فخرجت من الزمرة غير ملتفت إلى الوراء، وأسعدني الطالع المبارك، فجمعت بين جرأة المجترئ وحكمة الحكيم، وبين تضحية المجازفة، وثواب الحزم والروية.

جميل ذلك اليوم الذي كاد يحشو جيوبي بالمال، ويفرغ ضميري من الكرامة، فآثرت فيه فراغ اليدين على فراغ الضمير.

جميل ذلك اليوم الذي احتجت فيه، واحتاج فيه مسكين، فغلبت شح النفس، ووجدت بين جوانحي طاقة الصبر على الضيق، ولم أجد فيها طاقة الصبر على منظر العين الذليلة، والقلب الكسير …

جميل ذلك اليوم الذي استغنيت فيه عن العمل، وملكت فيه ما يغري بالكسل، فطاب لي التعب الذي لا حاجة إليه، ولم يطب لي الكسل الذي يحببه إليَّ طول الجهد، وقلة الجزاء على العمل الكريم …

•••

هذه الأيام جميلة أجمل ما فيها أن نصيبي منها جد قليل، إلا أن يكون النصيب عرفاني باقتدار نفسي على ما عملت، فهو إذن كثير بحمد الله لا أبادل عليه المكثرين من خيراتهم وطيباتهم، كما يحسبون الخيرات والطيبات …

أجمل ما في الحياة يوم تملك فيه نفسك، فتعلم أنك ملكت الثروة التي لا يُقاس بها ملك المال، ولا ملك اللذة، ولا ملك الثناء.

أيام لا أقول إنها تكثر حتى تُعَدَّ بالعشرات ولا أقول إنها تندر حتى لا تُذكَر، ولكنني أذكرها وقد سُئِلت عنها؛ لأنها تعريف بالجمال حين نتحدث عن جمال الأيام، وعزاء لمن قنع بها من حياته ليعلم أنها تبقى في الذاكرة، وأنها محصول سني العمر، ويحمده من ملكه، ولو لم يملك سواه …

(٣) أكره الصيف

قال شاعر حديث:

يطلبُ الإنسانُ في الصَّيف الشِّتا
فإذا جاء الشِّتا أنكره
ليس يرضى المرءُ حالًا واحدًا
قُتِل الإنسانُ ما أكفره!١

أما أن الإنسان كَنُودٌ كَفُورٌ، فحقيقة لا شك فيها، إنه كثيرًا ما ينعم بالخير فلا يشكر ولا يذكر، وكثيرًا ما يقابل الخير بالشر، والإحسان بالإساءة، فلا يخطئ الشاعر الذي ينعى عليه كنوده ونكرانه، وكفره بنعماء ربه وبني جنسه …

•••

وقريبًا كنت أعاود القراءة في مقالات طبيب عالم فاضل له شهرة بالعطف على الحيوان، فقرأت للمرة الثالثة أو الرابعة قوله: إن «حب النوع الإنساني» فضيلة عليا، ولكنه هو «آسف لأنه لا يستطيع أن يدعي هذه الفضيلة» … وحسبه منها أنه قانع بحبه لأنواع الحيوان ومصاحبته لما عنده من الكلاب والقردة، وهو الذي لا يطيق أن يزيد في حديثه مع أحد من الناس على نصف ساعة ثم يحاول النجاة، ويعجب لمحدثه كيف لم يسبقه إلى هذه المحاولة!

قرأت هذا الاعتراف لكاتبه الدكتور «آكسل مونته» أصدق الناس عطفًا على العجماوات، فلم أعجب لقراءته في هذه المرة ولا في المرات السابقة؛ لأنه في الواقع رجل صادق لا يخفي حقيقة شعوره، ولا يلقي القول على عواهنه، فإن جنسنا البشري — ولا فخر — يستحق هذا، وأكثر منه من فضلاء أبنائه، والدكتور (آكسل مونته) في طليعة هؤلاء الفضلاء …

قتل الإنسان ما أكفره … صدق الشاعر وصدق الطبيب، ولكن الشاعر لم يُصِبْ في اختيار «الحيثيات» كما أصاب في الحكم على المتهم، فقد يشتاق الإنسان في الشتاء إلى الصيف، وقد يشتاق في الصيف إلى الشتاء، ولا يستحق وصف الكفر والكنود من أجل هذا! ولا يُقَال فيه إلا أنه يصبر إلى حين، ثم يخذله الصبرُ بعد ذلك الحين.

فتقسيم الفصول في الدنيا لم يُقصَد به الدوام، ولم تُجمَع الخيرات كلها في موسم واحد، بل وُزِّعت على الفصول كلها، وجُعِلت في بعض الأقطار فصلًا واحدًا لا تختلف مواسمه على طول السنة، فلا يُلام الإنسان إذا هو تمنى بعض الخير الذي غاب عنه، أو شكا بعض الشر الذي ألح عليه، وقد يمهد له العذر في ذلك «أن الحال من بعضه»، وأن الكرة الأرضية نفسها تتقلب في دوائر الفلك، فلا تصبر على صيف أو شتاء، ولا تقنع بربيع أو خريف …

وحتى لو كانت «الفصول» رضى النفس في كل موسم لا أحسب أن الملل منها يدل على «الكفر والكنود» كما يدل على طلب التقدم وحب الاستطلاع، فإن الإنسان يترقى ويتقدم لأنه يترقب حالًا بعد حال، ويطمح إلى المزيد من الخير الذي يحصل في يديه، ولولا ذلك لبقي على نقصه وسوء حاله، ولم يرتفع إلى طبقة بعد طبقة في تاريخه، ولو جاز لنا أن نلوم الإنسان؛ لأنه يتغير ويحب التغير، لجاز لنا أن نلوم الطفل الذي ينتقل إلى الصبا، ونلوم الصبي الذي ينتقل إلى الشباب، ونلوم الشاب الذي يبلغ كمال الرجولة مع الزمن، ثم لا يقنع بذلك حتى يتمنى الخلود.

كلا أيها الشاعر الحكيم الذي صدق في حكمه ولم يصدق في حيثياته، فقل ما شئت في كنود الإنسان وكفره بالنعماء، ولكننا ندع لك «حيثياتك» تعيد النظر فيها على مهل، ونقول لك: يا صاح، إننا نحن أيضًا نطلب الصيف في الشتاء، ونطلب الشتاء في الصيف، ونعرف لكل فضله وحسنه، وسبب اختياره، فنحسب هذا العرفان «عرفانًا بالجميل»، ولا نحسبه من الكنود والكفر بالنعماء.

وإذا لم يكن بد من طلب الدوام … فليدم لنا فصل الشتاء وليذهب عنا الصيف حيث شاء إلى أقصى الأرض أو أطراف السماء!

•••

يُقال إن الناس يختلفون في تفضيل الفصول على حسب اختلافهم في المولد وموعده من تلك الفصول، فمن وُلِد في الصيف فهو صيفي الهوى والمزاج، ومن وُلِد في الشتاء فهو محب للبرد مستريح إليه! …

فإن صدق هذا الزعم فليصدق على من شاء من مواليد الصيف، ولكنه — مع الأسف — لم يصدق عليَّ قط ولا هو صادق عليَّ الآن؛ لأنني وُلِدت في أشد أيام الصيف من شهر يونيه بمدينة أسوان — ولا يزعجني شيء كما يزعجني الصيف إذا ارتفعت حرارته فوق حرارتي على الخصوص، وتقدم من «الثلاثينات» إلى حدود الأربعين، وهي — كما يقولون — سن النضج، وقد صدقوا … ولكنه نضج الجلود لا نضج الأعمار …

ولا تزعجني منه مضايقة المزاج فقد تعودنا من الدنيا مضايقات كثيرة أشد على النفس من هذه المضايقات، وإنما يزعجني منه أنه «يتعب الكبد» حقيقة ومجازًا، وتعب الكبد — والعياذ بالله — غاية الإزعاج، وقلب المزاج …

وقد سألت كثيرين ممن وُلِدوا مثلي في هذا الفصل الخانق، وإن لم يُوصَف بأنه بارد، فكان لسان حالهم أنهم نسوا مولدهم فيه، ويُخيَّل إليهم أنهم سيموتون فيه!

•••

ومن نقائض الصيف أن يمتد فيه وقت العمل، وتقصر فيه القدرة عليه عند معظم العاملين، فيبلغ النهار أربع عشرة ساعة، وتهبط الطاقة إلى بضع ساعات، فلا هو بالموسم العامل، ولا هو بالموسم المريح، وإذا احتالوا عليه في الغرب بتقديم الساعات، فهذه الحيلة في الشرق قلما تقدم أو تؤخر؛ لأنه يطالب أبناءه بالقيلولة في الظهر الأحمر كما يقولون، فينامون في النور الساطع، ولا ينامون في الظلام الحالك، وينقلب ليلهم بنهار، وهم يفرون من الديار ولات حين فرار.

ومن نقائضه أنه يُدعَى موسم الثمرات؛ لأنه موسم الحصاد، ولولا أنها نبتت في الشتاء أو الخريف لما حُصِدت فيه …

وإذا ارتفعت فيه الحواجز، وتفتحت فيه الأبواب، فكثيرًا ما تنفتح للناس وهو من ورائهم كرار قهار، يطردهم طردًا إلى الخلاء بغير قرار، وقد يطردهم من ديارهم إلى خارج الديار، وإن شط المزار.

وإذا أغناهم عن النار أحوجهم إلى الثلج، أو أغناهم عن الكساء أحوجهم إلى نسمات الهواء.

يتأففون منه بحكم الفطرة قبل حكم المشيئة، فهم بين زافر ونافر، وبين نافخ في الهواء أو متطلع إلى السماء، فلو أراد أن يتجمل ويتلطف، غلبته «القافية» فتململ وتأفف، وأوجس شرًّا، وضاق صدرًا، وإن اتسعت حوله منادح الفضاء!

إلا أنني أحمد له ساعة لا يحمدها أحد؛ لأنها الساعة التي ينام فيها كل أحد، ولا أحس فيها لاغية في الطريق، ولا في البلد! …

عودت الليالي في صيفها أو شتائها ألا أقضيها كلها نائمًا، وإن قصرت مسافتها بين المغرب والمشرق، فلا بد من يقظة أو يقظات، ولا بد من كل يقظة من جلسة إلى صفحة أو أسطوانة، أو نظرة على الأقل إلى الشرفة قد تطول في كثير من الليالي إلى مطلع الفجر، وقد تنسيني الفراش حتى الصباح …

يتعمق بي الليل أو أتعمق به في هذه الجلسات الطوال، فتنقطع الرِّجْل من الطريق كما يقول سهارة الليل، وتنقضي اللحظة بعد اللحظة ولا حس ولا خبر، ولا موقع قدم، ولا همسة هامس من قريب أو بعيد.

وحدي في الكون كله، أو الكون كله لي وحدي … وحسبك من الصيف أن يعطيك لحظات معدودات تحس فيها بالكون كله بين يديك، مخلوقًا لك بغير منازع ولا شريك.

تحس بهذا، نَعَمْ، مُجرَّد إحساس لا تستولي به على الحقيقة في ظاهرها وباطنها، ولكنه الإحساس الذي يكفي؛ لأنه غاية الكفاية، وغاية الإمكان …

لحظة تنفرد فيها بالكون كله ولو في عالم بين اليقظة والمنام، وهل يتفرد أحد بشيء من الأشياء في غير عالم الوهم، أو عالم الأحلام؟!

أنانية؟! …

أتقول: أنانية؟! … قل ما تشاء، ولكن لا تنسَ أن «الأنانية» التي تتسع للكون كله أوسع من الزحام الذي تتصادم فيه الرءوس والأقدام …

في تلك اللحظات لا أنسى حكيمنا٢ رهين المحبسين وهو يقول:
ولو أنِّي حُبِيتُ الخُلْدَ فَرْدًا
لَمَا أحببتُ بالخُلْدِ انْفرادا

نعم؛ لا أنساه ولا أزال أقول معه: إنني كذلك لا أحب الخلد منفردًا به على حال، ولست أحسب أحدًا يحب هذا الذي كرهه أبو العلاء، أو يحسبه نعيمًا يحرص عليه أبناء الحياة الفانية.

فكلنا في هذا سواء … أحكم الحكماء وأجهل الجهلاء …

لا انفراد بالخلد ولا نعمة فيه، ولا نعيم عين … أما التفرد بالكون كله ساعة أو بعض ساعة فذلك غاية المنى ولو في الحلم، أو في يقظة كأنها من حلم الصيف!

فإذا أعطانا الصيف تلك اللحظة نحسها واهمين أو متخيلين، فتلك شفاعة له من لفحات لهيبه، ونفحات صبيبه، ومن أسباب الغفران أنه أوان لا يخلد به الزمان، وما دام يزول فله من إقباله عذر مقبول …!

١  شطر البيت مقتبس من القرآن الكريم، سورة عبس آية ١٧.
٢  أبو العلاء المعري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤