قصص وتاريخ

قال المؤلف في ص١٢٥: «نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء أو نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم.»

عرف القراء أن ما تحدث به المؤلف بإنكاره أو الشك فيه من أخبار أو شعر جاهلي، قد سبقه إليه قوم آخرون، وقرأ الأدباء ما كتبه أولئك الباحثون ولم يسخطوا عليه. وإذا لم يسخطوا على الرأي عند صدمته الأولى، أفيسخطون عليه حين يردده قلم المؤلف بعد أن ألفوا سماعه! وقد قلنا فيما سلف: إن الناس لم يغضبوا لما تحدث به في هذا الكتاب إلا حين مد يده إلى مطاعن ورمى بها إلى ناحية الإسلام في هيئة ينبذها أدب الاجتماع جانبًا.

•••

قال المؤلف في ص١٢٥: «ولن نستطيع أن نسمي حقًّا ما ليس بحق وتاريخًا ما ليس بتاريخ. ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه أو الثقة به.»

يقع في ذهن القارئ أن في مصر طائفة تحمل الكاتب على أن يسمي ما ليس بحق حقًّا، وأن يسمي ما ليس بالتاريخ تاريخًا، وأن هذه الطائفة هي التي تتراءى للمؤلف عند كل بحث فتأخذه لوثة ويقبل على هذه الخيالات إقبال المشير بسبابته، يريها أنه لا يتمثل أمرها ولا يبالي نهيها. وشأن الكاتب بإخلاص أن يجيل نظره ويطلق قلمه، وإذا انتهى به البحث إلى رأي، حفه بأدلته وأذاعه بين الناس، فإما أن يمكث في الأرض وإما أن يذهب جفاء. ولو لم يكن في نية المؤلف الانحراف عن الأدب إلى غايات مؤذية لما أنطق كتابه بمثل هذه الجمل التي لا تتقدم بالبحث خطوة، ولا يكون بها عند ذوي العقول الراجحة وجيهًا.

•••

قال المؤلف في ص١٢٥: «وإنما كثرة هذه كلها قصص وأساطير لا تفيد يقينًا ولا ترجيحًا، وإنما تبعث في النفوس ظنونًا وأوهامًا، وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض، فيدرسها محللًا ناقدًا مستقصيًا في النقد والتحليل.»

ليس في هذا شيء زائد على المنهج المقرر لتحقيق ما يرجع إلى الرواية والتاريخ، وليست المزية في تصوير المنهج وإنما المزية في العمل عليه بجد واستقامة، وقد رأيتم المؤلف كيف يجد الخبر أو الشعر مفصلًا على قدر بغيته فيغمره بالتصديق من كل وجه، وأنت لو استعرضته بعناية وأناة لسقط من يدك ولم يبق فيها من أثره إلا مقدار ما يبقى من الماء في يد القابض على الماء.

•••

قال المؤلف في ص١٢٦: «ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث؛ طريق الفكاهة واللعب.»

يعرف القراء ما كان للعرب من العناية برواية الشعر وإنشاده، لا يمتاز بذلك الرجال عن الغلمان، ولا الطبقة المستنيرة عن طبقة العوام، وكانوا يتنافسون في هذا المجال، وكادوا لا يعرفون فنًّا من فنون العلم سواه.

جاء الإسلام فقلت هذه العناية، وضعف أمر هذا التنافس، بمعنى أن قسمًا عظيمًا ممن شأنهم العناية بالشعر والتنافس في روايته شغلوا بالجهاد أو صرفوا هممهم إلى التفقه في الدين، ولكن الطبقة التي عنيت بالأشعار أيام جاهليتها قد بقي منها عدد وافر إلى العهد الذي راجعت فيه رواية الشعر شبابها.

ترى من هذا القبيل الشعراء الذين عاشوا حينًا في الجاهلية وحينًا في الإسلام كلبيد، وسويد بن أبي كاهل، وحسان، والنابغة، والحطيئة، ومتمم بن نويرة، والشماخ، ونهشل بن حري. وإذا كنا نرى للشعراء الإسلاميين والمحدثين عناية بحفظ أشعار من تقدمهم، فلا شك أن هؤلاء المخضرمين كانوا يحملون من شعر الجاهليين أوقارًا يتلقاها عنهم الناس إلى أوائل عهد الدولة الأموية.

ومن المستفيض في كتب الأدب أن للشعراء رواة يصحبونهم ويروون عنهم أشعارهم، كما كان عبيد راوية للأعشى، وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير. واستمرت هذه العادة في الإسلام فكان هدبة راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة.

وإذا كان الشعراء الذين يضاف إليهم هذا الشعر الجاهلي إنما يبعدون عن عهد الإسلام بنحو عصر، وكانت العناية برواية الشعر وإنشاده في القبائل والحواضر بالغة متواصلة، فليس بمستنكر أن يصح معظم هذا الشعر الذي يضيفه الرواة الثقات إلى الجاهليين ولا يكون من المنحول في شيء.

•••

قال المؤلف في ص١٢٦: «القرآن وحده هو النص القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصًا للعصر الذي تلي فيه.»

المؤرخ الذي يؤمن بنبوة من نزل عليه القرآن لا يسعه إلا أن يعتبر ما جاء في القرآن من أنباء الأمم واقعًا على نحو ما تنطق به آياته المحكمات، والعصر الذي تلي فيه ذلك الكتاب والعصور الخالية تقف تجاه هذا الإيمان على سواء.

وقد شهدنا المؤلف كيف اشتد حرصه على أن يمس القرآن بخدشة، وما كان منه إلا أن فلى ذيل مقالة في الإسلام، ووقعت يده على أذى مخلوق في شكل يلائم ذوقه، فانقلب يرمي به نحو قصة إبراهيم وإسماعيل، سلام الله عليهما، والباطل الملقوط خفية كلحم خنزير ميت، حرام في حرام.

•••

ذكر المؤلف أن لكل أمة تاريخًا صحيحًا وتاريخًا منتحلًا، ثم قال في ص١٢٧: «ولسنا ندري لِمَ يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذي كان ينتسب إلى عدنان وقحطان؟»

يزعم المؤلف أن طائفة يسميها أنصار القديم يسوءها تقسيم تاريخ الأمة العربية وأدبها إلى صحيح ومنحول، والمعروف لدى القراء أن القدماء والمحدثين يجمعون على أن للأمة العربية وآدابها تاريخًا صحيحًا وتاريخًا منتحلًا، وكم أنكر المؤرخون من حوادث، وكم من منظوم حكم عليه نقاد الأدب بالتوليد والانتحال.

ما كان لأستاذ في الجامعة أن يلهج بسخف إنما تلهج به أقلام لا تفصل بين الحق والباطل ولا تفرق بين الحجة والشبهة، وإنما تعرف الجديد والقديم، وتدعو إلى الجديد وإن كان سمًّا ناقعًا، وتتهكم بالقديم وإن كان قمرًا ساطعًا.

ليس ببعيد أن يكون المؤلف من هذه الفئة التي ترى اسم الجديد بمنزلة البرهان على أن المسمى به حق وترى اسم القديم كافيًا في الدلالة على أنه باطل، فإن نوبة «أنصار الجديد» و«أنصار القديم» تكاد تحضره عند كل حديث.

•••

ذكر المؤلف أن للعرب خيالهم الشعري، وأن هذا الخيال أثمر هذه القصص والأساطير التي تروى عن العصر الجاهلي والإسلامي ثم قال في ص١٢٧: «وقد رأيت في فصولنا التي سميناها: «حديث الأربعاء» أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي.»

أنكر جماعة من الرواة حديث قيس بن الملوح (مجنون ليلى) وقالوا: إن الشعر المعزو إليه كله مولد، وقال بعضهم: إنه اسم مستعار لا حقيقة له١ وقال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية:٢ «ومما وضعه العرب من عند أنفسهم أيضًا قصص العشاق العذريين ونحوهم.» وقال: «وأخبار العذريين في العفة أكثرها موضوع، وقد أجمع الرواة على أن أخبار مجنون ليلى موضوعة، ويراد بها تمثيل العفة مع الثبات على الحب، وقِسْ على ذلك أكثر ما يرونه من هذا النوع.»٣

فنظرية الشك في طائفة من هذه القصص الغرامية قد أذاعها جرجي زيدان من قبل، ولكن المؤلف يجد في صدره حاجة مما يؤتى هؤلاء المحدثون، فيغبطهم حتى في نظرية شك لا يضرهم فقدها ولا ينفعه أن يضيفها الناس إليه.

•••

قال المؤلف في ص١٢٧: «ويجب حقًّا أن نلغي عقولنا — كما يقول بعض زعماء السياسيين — لنؤمن بأن كُلَّ ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب الأغاني أو في كتاب الطبري أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ.»

هذه الكلمة مما يلفى في كل سبيل، وليست من النوع الذي يعزى إلى زعيم سياسي، ولعل المؤلف أحس بابتذالها كما أحسسنا فلم يحرص على أن يقطع نسبها من ذلك الزعيم ويجرها إليه.

يعرف الأدباء والعلماء أن في هذه الكتب طيبًا وخبيثًا، ويتمنون لمطالعها أن ينقدها بحكمة وأناة، ويهتزون طربًا لباحث ماز فيها خبيثًا عن طيب، وإذا رآهم المؤلف ينقلون عنها تاريخًا أو أدبًا، فها هو ذا يرجع إليها فيما يحتاج إليه من أدب أو تاريخ، وإذا قال: إنهم يأخذون منها أشياء ولا ينقدونها كما أنقدها، قلنا له: قد أخذت منها آثارًا لم تحس باصطناعها، وأخرى لم تشعر بتحريفها.

•••

قال المؤلف في ص١٢٨: «لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية. أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية وكتبًا متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان.»

يخرج المؤلف للتردد على مثل هذه الجمل الداخلة في استطاعة كل كاتب، ليتخذ منها شاهدًا على أن له عقلًا يستعين به على النقد والتمحيص! لا نستبعد أن يكون لتلاوة هذه الجمل سر يظهر أثره في نفوس الطائفة التي يسميها مستنيرة، وإنما الذي نراه لائقًا بمن يبحث وهو على ثقة من حسن تصرفه وقوة حجته أن يترسل في الموضوع ويأخذ البحث بالنقد والتمحيص فلا يسع القراء إلا أن يشهدوا بأن له عقلًا ينقد ويمحص، ولا خير في مؤلف يدعي أنه يأبى أن يكون أداة حاكية أو كتابًا متحركًا، وأنت إذا قلبت نظرك فيما يؤلف وجدته يشهد بملء صفحاته على أن صاحبه أداة حاكية، وكتب ومقالات متحركة.

•••

تحدث المؤلف عمن يسميهم أنصار القديم وقال في ص١٢٩: «فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين ولا يصطنعونها بالقياس إلى القدماء.»

لا يزال الذين أوتوا رسوخًا في العلم يفحصون كل رواية أو رأي تقع عليه أنظارهم، وهذا شأنهم في كل عصر، ولكن الرسوخ في العلم يدور على ما تهيأ لطلاب العلم من حسن نظام التعليم، ومن الظروف المساعدة لهم على أن تكون هممهم كبيرة وجدهم متواصلًا.

ننظر إلى ماضي الشرق فنرى العصور والبيئات التي يجري فيها التعليم على طريقة التحقيق كانت تنبت رجالًا مجتهدين في كل علم تناله أيديهم، وعلوم الشريعة والاجتماع واللغة والفلسفة في هذا الاجتهاد سواء، فالمائة الثامنة — مثلًا — أخرجت كثيرًا ممن اصطنعوا ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى القدماء. ثم بليت الحالة العلمية بخمول ولم تجد أيديًا قوية تنهض بها إلى أن يتنافس في مثلها المتنافسون، فلا عجب إذا لم يقص علينا التاريخ بعد ذلك القرن أسماء رجال كثير يصطنعون ملكاتهم الناقدة في صورة بارزة.

فاصطناع الملكات الناقدة يتبع غزارة العلم وانتظام أسلوب التعليم، فكل من غاص في علم ومشى في مباحثه على نظام فلا بد من أن يصطنع ملكته الناقدة بالقياس إلى القدماء، وربما خرج من ناحية التعليم غير المنتظم رجال يتصرف في معلوماتهم الذكاء الفطري فينظمها، ثم ينهض بهم إلى أن يضعوا كل رأي أو رواية تحت النظر ولا يقبلوا منها إلا ما ثبت على النقد والتمحيص.

•••

قال المؤلف في ص١٣٠: «وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة بحيث كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه سمكًا، ثم يرفع يده في الجو فيشويه في جذوة الشمس ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادًا.»

يتواضع المؤلف إلى نقد خرافات لم يبق لها أثر إلا في أفواه العجائز حين يؤانسون الأطفال، مرت علينا سنون وقصة عوج بن عنق أو «عوق» غائبة عنا لا نلمحها إلا في بعض كتب قديمة تسوقها في معرض الإنكار، ولم يكن يخطر على بالنا أنها ستحيا بعد أن أقبرت وأصبحت عظامًا نخرة، ثم تتجول في نوادي الأدب إلى أن تشهد محاضرات أستاذ آداب اللغة العربية في الجامعة.

كتب القدماء في إنكار هذه الأسطورة وأمثالها وجعلوا هذا من أساطير القصاص الذين يقولون ما لا يعلمون، قال الفيلسوف ابن خلدون في مقدمة٤ تاريخه: «وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظروا إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلقة٥ وشرشال بالمغرب أنها كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل أجسامًا تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها … وإنما هذا رأي أولع به القصاص عن قوم عاد وثمود العمالقة.» وساق قصة عوج التي تحدث بها المؤلف، وأنحى عليها بالإنكار.

•••

قال المؤلف في ص١٣٠: «فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك؟ كلا! كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقًا وأقل منهم ميلًا إلى الكذب، كانوا أذكى منهم أفئدة، كانوا أقوى منهم حافظة، كانوا أثقب منهم بصائر، لماذا؟؛ لأنهم قدماء؛ لأنهم كانوا يعيشون في هذا العصر الذهبي! أليس العصر العباسي عصرًا ذهبيًّا بالقياس إلى هذا العصر الذي نعيش فيه.»

لم يكن رأي أهل العلم في هؤلاء الرواة إلا على نحو ما يسعه تاريخ حياتهم فيجيزون على خلف أن يكون صنع أشعارًا ونحلها طائفة من الشعراء، ثم أناب وبيَّن ما نحل من الشعر، ويرون أن حمادًا لم يكن صادقًا في كل ما يرويه، وأن أبا عمرو بن العلاء والأصمعي كانا على صدق فيما يرويان، وأن صدقهما لا يمنع من أن يطلع باحث ذو أناة على أن شعرًا منحولًا دخل فيما روياه.

ولم يغب عن الناس حال تلك المبالغات التي تدخل في تقدير محفوظات القدماء. وإذا كان ما يحفظه أولئك الرواة من الشعر أكثر مما يحفظ أدباء هذا العصر وعلماؤه فلأنهم كانوا ينفقون مجهودهم في هذا السبيل، ولو أن قوي الحافظة في عصرنا يصرف شبيبته في حفظ اللغة والشعر كما يصرفون، ويعرف أن لعمله قيمة كما عرفوا، لكان نصيبه منهما لا يقل عن نصيب حماد أو أبي عمرو أو خلف أو الأصمعي.

ولا ندري من هذا الذي يعتقد أن خلفًا أو حمادًا أو أبا عمرو أو الأصمعي أذكى من المعاصرين أفئدة! ولم يقع من الناس سوى أنهم يرجعون إليهم وإلى أمثالهم في أمر كانوا يقومون عليه، ولا طمع في الوصول إليه من غير طريقهم، وهو هذا الشعر العربي.

والناس يعرفون تاريخ العصر العباسي وما كان فيه من جد وهزل، وتقوى وفجور، وإذا سموه ذهبيًّا بالقياس إلى هذا العصر فلأن الأمة كانت ذات عز وسلطان، تعزم فتقدم، وتقول فتفعل، وكيفما كان حالها فإن أعداءها يهابون سطوتها، وحرام عليهم أن يطأوا موطئًا يغيظها، وأدنى شيء يجعله ذهبيًّا هو أن فاقدي الفضيلة كبعض رجال «حديث الأربعاء» لم يجدوا طريقًا إلى أن يتصلوا بالعدو ليتخذ من أقلامهم سلاحًا يحارب به هذا الإسلام الذي يأبى لأهله إلا أن يعيشوا أعزاء أو يموتوا شهداء.

•••

قال المؤلف في ص١٣١: «كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين؛ لأن العقل لم يبلغ من الرقي في تلك العصور ما بلغ في هذا العصر، ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما استكشف في هذا العصر.»

يعلم الناس من هذه النظم المادية والفنون الحيوية أن المحدثين أوسعوا دائرة هذه العلوم وحققوا أشياء كانت غامضة واستكشفوا أمورًا كانت مجهولة، وهذا لا يدل على أن العقول التي وضعها الله في أدمغة المحدثين أكبر من عقول القدماء وإنما هي سنة ترقي العلوم والفنون، وأن يبني المتأخر على الأساس أو الحجر الذي يضعه المتقدم، ولو أخذنا نبغاء هؤلاء المحدثين وحشرناهم في بعض العصور المتقدمة لم يأتوا بأحسن مما أتى به نبغاء ذلك العصر، ولم يكن نصيبهم من المؤلف إلا أن يجعل حظهم من الخطأ أكثر من حظه، ويقول عنهم: إن مناهجهم في النقد أضعف من مناهجنا.

لا ينازع أحد في أن المحدثين قطعوا في هذه العلوم شوطًا واسعًا وأظهروا لها آثارًا أكثر مما أظهر القدماء؛ والذي نقف في بحثه ولا نمضي عليه في حين غفلة هو أن المباحث والآراء التي لا تقوم على وسائل مادية محضة، كآداب الاجتماع، وعلم ما وراء الطبيعة ونقد أدب اللسان، لم يبلغ المؤلف وأمثاله من المحدثين أن يكونوا أبصر بها وأصوب نظرًا من أولئك القدماء.

١  انظر الأغاني ج٢، ص١٦٧.
٢  ج٢، ص٢٩٥.
٣  ج١، ص٥٨.
٤  ص٢٨٨.
٥  في حوالي مدينة تونس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤