الشعر الجاهلي واللغة

ذكر المؤلف في طالع هذا الفصل أن هناك شيئًا يمنعه من التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي، وأن هذا الشيء أبلغ في إثبات ما يذهب إليه. ثم قال: إن هذا الشعر الذي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، وخرج إلى تعريف اللغة بمعناها المتردد على آذان المبتدئين من طلابها، ثم عاد فقال في ص٢٤: «إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قيل فيه.»

لعلك تقرأ هذه الفقرة فيقع في ظنك أن المؤلف سيتعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي، وسيقف بك على جلية أمرها حتى تعرف ما إذا كانت في العصر الذي تزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه، حتى إذا قايستها باللغة الأدبية المستعملة في صدر الإسلام ظهرت لك مميزات هذه عن تلك. والواقع أنك تقرأ هذا الفصل الموضوع في نحو ست صفحات فتجده لم يتعرف اللغة الجاهلية، ولا يستطيع أن يتعرفها، وقصارى ما فعل أن قال لك ما سمع الناس يقولون من أن البحث الحديث أثبت خلافًا قويًّا بين لغة حمير ولغة عدنان، وحكى قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. ثم نكث يده من البحث ومدها إلى «ذيل مقالة في الإسلام» وقبض قبضة من أقواله المصطنعة لدعاية غير إسلامية وبثها في هذا الفصل بزعم أن لها صلة بهذا النحو الجديد من البحث، وبعد أن صحا من نشوة الطعن والغمز تذكر أن الفصل معقود لبحث «الشعر الجاهلي واللغة» فألقى كلمة سلبية زعم أنها نتيجة البحث وهي أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحًا، ثم رجع إلى ما سمعه عن البحث الحديث وشهادة أبي عمرو بن العلاء وأعادهما عليك تارة أخرى.

فلم يتعرف المؤلف اللغة الجاهلية هذه ما هي كما زعم، ولا ماذا كانت في العصر الجاهلي، ولم يسمع طالب الآداب بالجامعة إلا أن أبا عمرو بن العلاء والبحث الجديد قالا: إن بين اللغتين اختلافًا، وكان الأليق بقوله: «ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي.» أن يعرف أمثلة من مميزاتها ويضرب تلك الأمثلة في هذا الفصل حتى يخلص طلاب الجامعة من تقليده، فإن طلاب الجامعات أرفع شأنًا من أن يعوَّدوا على سيرة التلميذ الذي يثق بكل ما ينطق به لسان محدثه ثقة عمياء.

ذكر المؤلف أن الرواة يذهبون إلى أن العرب ينقسمون إلى قحطانية وعدنانية ثم قال في ص٢٥: «وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا.»

لم يتفق الرواة على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فمن الرواة من يجعل شأنهم شأن العدنانية، وهم الذين يذهبون إلى أنهم من ولد إسماعيل عليه السلام، وممن ذكر الخلاف ابن حزم في كتاب الجمهرة فقال: «فعدنان من ولد إسماعيل بلا شك في ذلك إلا أن تسمية الآباء بينه وبين إسماعيل قد جهلت، وتكلم قوم بما لا يصح فلم نتعرض لما لا يقين فيه، وأما قحطان فمختلف فيه ولد من هو؟ فقوم قالوا: من ولد إسماعيل عليه السلام، وهذا باطل بلا شك … فصح بهذا أن من العرب من ليس من ولد إسماعيل.»

وقال عماد الدين بن كثير في تاريخه: «وقيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل.»

ومن الرواة القائلين بأن قحطان من ولد إسماعيل الزبير بن بكار، ففي فتح الباري للحافظ ابن حجر:١ «وزعم الزبير بن بكار أن قحطان من ذرية إسماعيل.»

ومن هؤلاء الرواة ابن الكلبي قال المبرد في كتاب نسب عدنان وقحطان: «ونسب ابن الكلبي قحطان إلى إسماعيل عليه السلام.»

ومن الرواة من يجعل يعرب بن قحطان كإسماعيل عليه السلام، انتقل لسانه من السريانية إلى العربية، ففي مادة «برع» من كتاب الجمهرة لابن دريد: «وسمي يعرب بن قحطان؛ لأنه أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية.»

وقال ابن خلدون في تاريخه:٢ «وليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم، ويقال: إنه أول من تكلم بالعربية، ومعناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة، اليمنية، وإلا فقد كان للعرب جيل آخر وهم العرب العاربة، ومنهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة، ولا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه.»

وإذا كان من الرواة من يذهب إلى أن القحطانية كالعدنانية من ولد إسماعيل ومنهم من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، ومنهم من يقول: إن أول من تكلم بالعربية قحطان نفسه، فأين اتفاقهم على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله؟!

•••

قال المؤلف في ص٢٥: «وهم يروون حديثًا يتخذونه أساسًا لكل هذه النظرية، خلاصته: أن أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه إسماعيل بن إبراهيم.»

هذا الخبر رواه ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء مع التردد في أن راويه رفعه إلى النبي أم لا. وأول ما يخطر بالبال أن مراد المؤلف من النظرية التي اتخذوا هذا الخبر أساسًا لها، قوله فيما يعزوه إلى الرواة: «إن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب فمحيت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة.»

وأنت قد قرأت هذا الخبر المروي في طبقات الشعراء وهو لا يدل إلا على أن إسماعيل نسي لغة أبيه إبراهيم، ومقتضاه أن العدنانية الذين هم من ذريته قد خلقوا ينطقون بالعربية وليسوا هم الذين «محيت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة».

فإن قال المؤلف في تأويل حديثه: إن هذا من قبيل وصف القبائل بما جرى لآبائهم، قلنا له: أنت إذن تريد من النظرية التي جعلت هذا الخبر أساسًا لها، أن إسماعيل عليه السلام عرف من لغة العرب ما لم يكن يعرف، فنشأ أبناؤه العدنانيون على النطق باللغة العربية، ولكونهم نبتوا من أصل غير عربي سموا مستعربة.

وتنحل هذه النظرية إلى أن نسب العدنانية متصل بإسماعيل، وأن إسماعيل أول من تكلم بالعربية من آبائهم، والشطر الأول من النظرية قائم على أساس أوثق من هذا الخبر الذي لا يعرفه المحدثون، وهو مجموع الآيات والأحاديث أو ما استفاض على ألسنة العرب قبل الإسلام. أما الشطر الثاني منها وهو أن إسماعيل أول من تكلم بالعربية فهو جارٍ على طبيعة اتصاله بقبيلة عربية وإقامته بين ظهرانيهم، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى٣ حديث: «أول من فتق لسانه بالعربية المُبينة إسماعيل.» والمراد بالعربية المبينة هذه اللهجة الفصحى التي نزل بها القرآن لا اللغة العربية. ومتى صح الحديث لم يمانع من أن تكون هذه اللغة المبينة تمشت بعد عهد إسماعيل على سنة الرقي واتسعت حسب تجدد المعاني واختلاف الأذواق فيما تستحسنه من صوغ الجمل وابتداع الأساليب.

•••

قال المؤلف في ص٢٥: «على هذا كله يتفق الرواة، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضًا أثبته البحث الحديث، وهو أن هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) وقد رُوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا.»

أخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به مرغليوث قبله، وأكاد أثق بأن المؤلف استعاره منه، قال مرغليوث في مقاله المنشور في مجلة الجامعة الآسيوية: «هنا دليل لغوي واضح من هذه الأشعار وهو أنها كلها مكتوبة بلهجة القرآن.» وقال: «إذا فرضنا أن الإسلام أرغم قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالًا أدبيًّا لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه وهو القرآن، فمن الصعب اعتقاد أن يوجد قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات الأثرية، إن لهجة كل قبيلة تمتاز بمفرداتها ونحوها، وإننا لنجد جميع المخطوطات في هذه الأنحاء مرسومة بلغة أخرى غير لغة القرآن.»

لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن مرغليوث والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلًا لأن يكون موضع جدال بيننا وبين مرغليوث والمؤلف هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد وزال منه جانب من الفوارق ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد.

والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية وهي خافضة جناحها أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هيأهما لأن يكونا لغة واحدة، فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين.

يقولون: إن بعض هذه المخطوطات كان من آثار المائة الخامسة بعد المسيح، وهذا لا يخدش فيما نراه قريبًا، بل لا يقف في سبيلنا أن يكون هؤلاء المنقبون قد عثروا على أثر مخطوط في أواسط المائة السادسة بعد المسيح، فاللغتان كانتا في تباعد، والشواهد قائمة على أنهما قد أخذتا في التقارب من قبل أن يطلع في أفقهما كوكب الإسلام. ومن السهل علينا أن نفهم أن تقرب اللغة القحطانية من اللغة العدنانية لم تبتدئ به قبائلها في عهد واحد، بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل رويدًا رويدًا إلى أن أدركها الإسلام فخطا بها تلك الخطوة الكبرى، فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مائة سنة أو ما دونها إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية في نحوها وصرفها وتختلف عنها في قسم من الألفاظ المفردة أسماء أو أفعالًا.

ومن الممكن القريب أيضًا أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر تسمو به إلى درجة القبول. فاللغة البابلية تفرعت إلى عدة لغات من بينها اللغة الآرامية، وبقيت مع هذا الاختلاف لغة الكتابة إلى أن قامت اللغة الآرامية مقامها في السياسة والتجارة. وكذلك يقول جرجي زيدان في الحديث عن الأنباط: «أما لسانهم الذي كانوا يتفاهمون به فإنه عربي مثل أسمائهم، ولا عبرة بما وجدوه منقوشًا على آثارهم باللغة الآرامية فإنها لغة الكتابة في ذلك العهد مثل اللغة الفصحى في أيامنا، وذلك كان شأن الدول القديمة بالشرق ولا سيما فيما يتعلق بالآثار الدينية أو السياسية.»٤

ومما يلائم هذا البحث أنك تجد في السيرة النبوية أمثلة من أقوال زعماء اليمانيين الوافدين على النبي فتراها قريبة من اللغة العدنانية أو مماثلة لها من جهة قواعد الصرف والنحو، ولا أريد بأقوال هؤلاء الزعماء ما يحكيه المؤرخ بقصد إفادة معانيه كما يحكي لك كلامًا أعجميًّا بلفظ عربي مبين، بل أريد بها ما يحكيه الرواة قصدًا إلى بيان لهجتهم وأسلوب حديثهم.

ومن هذه الأمثلة خطبة طهفة بن أبي زهير٥ النهدي حين وفد على النبي وقال يشكو إليه الجدب: «يا رسول الله أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس،٦ ترتمي بنا العيس، نستحلب الصبير،٧ ونستخلب الخبير،٨ ونستعضد البرير،٩ ونستخيل الرهام،١٠ ونستحيل١١ الجهام من أرض غائلة النطاء،١٢ غليظة الوطاء، قد نشف المدهن،١٣ ويبس الجعثن،١٤ وسقط الأملوج،١٥ ومات العسلوج،١٦ وهلك الهدي،١٧ ومات الودي،١٨ برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن١٩ وما يحدث الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار،٢٠ ولنا نعم همل أغفال ما تبل ببلال، ووقير٢١ كثير الرَّسل٢٢ قليل الرِّسْل،٢٣ أصابتها سنة حمراء مؤزلة٢٤ ليس لها علل ولا نهل.»

وتجد خطاب مالك بن نمط الهمداني يجري على هذا النحو، ويروي أصحاب الحديث والسيرة أيضًا بعض كتب كان النبي قد بعث بها إلى نواحي اليمن مصوغة في مثال كلامهم، وهي لا تكاد تخرج عن نمط هذه الخطبة المضروبة مثلًا. وقد يسوق علماء اللغة شذرًا من هذه الأحاديث، كما حكى الأزهري في كتاب التهذيب عن وائل بن حجر أنه قال: كتب لي رسول الله «لا جلب ولا جنب ولا وراط، ومن أجبى فقد أربى.»

ومما يلفت نظرك أن لغة القبائل اليمانية أخذت تتصل باللغة العدنانية قبل عامل الإسلام أنك تطالع تاريخ العهد المتصل بالإسلام أو الأيام التي جعلت القبائل اليمنية تفد على مقام النبوة، فتفهم من روح التاريخ على اختلاف مصادره وتباين طرقه أن العدنانيين والقحطانيين لم يكونوا في حاجة عندما يتحاورون إلى مترجم ينقل حديث أحدهما إلى الآخر، ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات وقواعد النحو والصرف لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر إلا أن يأخذها بتعلم أو مخالطة غير قليلة.

وأما ما حكاه المؤلف عن أبي عمرو بن العلاء فقد مسه بالتحريف مسًّا رفيقًا، وعبارة أبي عمرو الواردة في كتاب الطبقات للجمحي: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.» فالمؤلف حول قوله: «ولا عربيتهم بعربيتنا.» إلى قوله: «وما لغتهم بلغتنا.» لقصد المبالغة في الفصل بين اللغتين وليصرف ذهن القارئ عن أن يفهم من قول أبي عمرو: «ولا عربيتهم بعربيتنا.» أن تلك اللغة عربية وإنما تختلف عن العدنانية اختلافًا يسوغ له أن يقول: «وما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا.» ومس المؤلف عبارة أبي عمرو بالتحريف مرة أخرى، فقد حذف قوله: «أقاصي اليمن.» حتى لا يأخذ منها القراء أن لغة غير الأقاصي وهي القبائل المجاورة للقبائل المضرية ليس بين عربيتها وعربية مضر هذا الاختلاف.

وصفوة المقال في هذا البحث أن اللغة القحطانية تقربت من اللغة العدنانية في عهد قبل الإسلام وصارت تحاذيها في أكثر مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها، ولنا في شعر القحطانيين نظرة أخرى سنلقيها إليك في أمد قريب.

•••

قال المؤلف في ص٢٥: «إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول: إنهما لغتان متمايزتان، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكًّا ولا جدلًا.»

انقاد المؤلف إلى هذه الشبهة بما ادعاه سابقًا من اتفاق الرواة على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، ثم بتخيله أن اللغة العربية ذات لون واحد لا يمكنها أن تخرج في هيئات متقاربة أو متباعدة، وهو في كلا الأمرين بعيد عن التحقيق. أما الأول فإن كثيرًا من الرواة يذهبون إلى أن القحطانية تنتمي إلى أصل غير عربي، ومن هؤلاء من يسميهم المتعربة، ومنهم من يسميهم المستعربة. ويعلل هذه التسمية بأنهم صاروا إلى حال لم يكن عليه أهل نسبهم وهي اللغة العربية.٢٥

وأما الثاني فإنا لا ندعي أن طور اللغة العربية لأوائل عهد القحطانية هو طورها الذي تعرف به ألسنة العدنانية، فقد تكون هذه اللغة لعهد العرب البائدة وللعهد الأول للقحطانية لا تزال في طورها الذي يمكن أن تتشعب به إلى لغتين ذات فوارق في نحوها وصرفها، وإلى لهجات لا تختلف إلا بمفرداتها وكيفية النطق ببعض حروفها، وليس في البحث الحديث ما يمنع أن تكون اللغة القحطانية شعبة من شعب العربية الأولى، وليس في البحث الحديث ما يمنع من أن تأخذ اللغة العربية في ألسنة العدنانية شأنًا أرقى وأبين من شأنها في ألسنة القحطانية، فمن الممكن الميسور أن يتلقن إسماعيل عليه السلام من قبيلة قحطانية اللغة العربية التي لا تزال قابلة للتشعب إلى لغات ولهجات ثم تأخذ في ألسنة أبنائه العدنانيين هيئة غير هيئتها القحطانية.

•••

قال المؤلف في ص٢٦: «والأمر لا يقف عند هذا الحد فواضح جدًّا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية.»

في استطاعة كل أحد أن يأتي إلى أي واقعة يقصها التاريخ ويتلو عليها هذه الكلمات لا ينقص منها حرفًا، فيدعي أنه ملم بالبحث التاريخي عامة وبالأساطير خاصة، ثم يشير إلى الواقعة بأنها نظرية متكلفة مصطنعة، ويذهب في تعليل تكلفها واصطناعها ما شاء، ولكن باحثًا غير المؤلف يقدر واجبات البحث العلمي ونتائجه، فلا تجده يمس واقعة بتهمة الاصطناع إلا بعد أن يملأ يده بالدليل الطاعن في صحتها.

يريد المؤلف من النظرية المتكلفة المصطنعة مسألة اتصال نسب العدنانية بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقد أخذ من هنا يتحفز ليعلن الطعن في القرآن بكلام استرق سمعه من «ذيل مقالة في الإسلام».

•••

قال المؤلف في ص٢٦: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة.»

ورود اسمي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في القرآن يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وإخباره عنهما بأمر يكفي للدلالة على وقوعه، وهو بالطبيعة يكفي هذه الأمم التي خالط قلوبها الإيمان بأن الرسول المؤيد بالآيات البينات لا يقول على الله إلا الحق، أما الذين لم يبصروا بدلائل نبوته، ولم يقلبوا وجوههم في سيرته، فليس من شأنهم الاكتفاء بخبر القرآن ولا أن يدلهم ورود اسم شخص فيه على وجوده التاريخي، فلم يكن لهذه الكلمة المستعارة من «ذيل مقالة في الإسلام» وجه يشفع لورودها في هذا النسق، فإن المسلمين حقًّا يزدرونها، وغير المسلمين لا ينتفعون بها، ولا نرى لها من شأن غير إغواء النفوس التي لم تبلغ في إدراك الحقائق أشدها.

قصة إسماعيل وإبراهيم كانت تدور بين العرب أيام جاهليتهم، ثم ساقها القرآن على وجه محكم وبيان ساطع، ومن حاول الجهر بإنكار ما تتداول نقله أمة ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقًّا عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفًا للمعقول أو المحسوس أو التاريخ الثابت الصحيح، ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه القصة طريقة نقد التاريخ، فيحدثنا لماذا لم يسعها عقله أو كيف وقع حسه على ما يبطلها، أو من أين سمع أن مؤرخًا قبل صاحب «ذيل مقالة في الإسلام» قال ما يناقضها. إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية تزوجت تقليدًا لا يرى فحملت بهذا البحث وولدته على غير مثال.

•••

قال المؤلف في ص٢٦: «ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى، وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات.»

قلنا لكم: إن يد المؤلف تجول في بعض كتب شرقية فيقطف منها ما يلائم ذوقه ويضعه في كتابه على أنه وليد فكره ونتيجة بحثه، وهذا الحديث مما تعلق فيه المؤلف بذيل «مقالة في الإسلام» وإليك ما قال صاحب الذيل:٢٦ «وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود للعرب تزلفًا إليهم وتذرعًا منهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس أو إلى تأسيس مملكة جديدة في بلاد العرب يلجأون إليها، فقالوا لهم: نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد.»
لم يأخذ المؤلف في البحث مأخذ ذي أناة ينظر إلى ما عنده من أدلة أو أمارات أو شبه مثيرة للشك ويفصل العبارة عن مقداره، فصاحب الذيل يقول وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود، والمؤلف يقول: ونحن مضطرون إلى أن في هذه القصة نوعًا من الحيلة، وأنت إذا قرأت ما كتبه وفحصته الكلمة بعد الأخرى لم تجد ما لديه ما يساعده على دعوى أنه مضطر إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعًا من الحيلة، فهذه القصة تعرض لها القرآن وكان لها ذكر عند العرب قبل نزوله، فالذي يسهل عليه الحكم بكونها دسيسة أو حيلة ويدعي الاضطرار إلى أن يراها حيلة هو الذي يجد في التاريخ الموثوق بصحته، ما يصرح بأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يهاجرا إلى مكة، أو يصرح بأن العرب لم يكونوا ذرية إسماعيل عليه السلام، أو يجد في سياق القصة ما يخالف حسًّا أو عقلًا أو سنة من سنن الله في الخليقة، وكل ذلك لم يكن، وغاية ما فعل المؤلف أنه اجتذب أصل البحث من كتاب الذيل ووقع اختياره على العلة الاستعمارية فتشبث بها وزاد عليها ملاحظة الحروب العنيفة التي شبت بين اليهود والعرب، وجعل أيام تلك الحروب أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه فكرة وضع القصة. هذا مبلغ علمه من التاريخ، وهذا ما اكتفى به في دعوى اضطراره إلى الاعتقاد بأن في القصة نوعًا من الحيلة، وقد نظر جرجي زيدان في المسألة من وجهتها التاريخية البحتة وتعرض في كتاب العرب قبل الإسلام٢٧ لما جاء في التوراة والقرآن ثم قال: «وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية أو تؤيدها.» وهذه الكلمة أقصى ما يقوله الباحث غير المسلم متى وقف على جانب من الإنصاف، ولكن المؤلف يقصد التشفي من غيظه على دين لا يرضى عن الإباحية المتهتكة.

زعم المؤلف أن اليهود اخترعوا هذه القصة لتأكيد الصلة بينهم وبين العرب ثم قال: إن فيها نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة، ويعني بهذا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام اتخذها أيضًا وسيلة إلى عقد الصلة بين الإسلام واليهودية وبين القرآن والتوراة ليأخذ الأمة اليهودية بزمام الاحتيال إلى اعتناق الدين الذي قام يدعو إليه، وهو الإسلام. وسنعرج على هذا الرأي في مناقشة الفقرات الآتية؛ لأن المؤلف أعجب به وطفق يعيده على قراء كتابه مرة بعد أخرى.

•••

قال المؤلف في ص٢٦: «فنحن نعلم أن حروبًا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد وانتهت إلى شيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام.»

قد عرفت أن هذا الرأي غنمه المؤلف حين غزا «ذيل مقالة في الإسلام» غير أن صاحب الذيل يقول: إن اليهود قالوا للعرب نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد، وكأن المؤلف لم ترقه هذه العبارة فحولها إلى زعم أنهم قالوا لهم: نحن وأنتم أبناء أعمام.

دخل اليهود البلاد العربية محاربين مستعمرين، وبعد أن ألقت الحرب أوزارها وانعقدت بينهم وبين العرب مسالمة ومحالفة ومهادنة، اصطنعوا هذه القصة التي تجعل العرب واليهود إخوة كما يقول صاحب الذيل، أو أبناء أعمام على ما يقول المؤلف!

يخطر هذا التعليل على قلب من لم يدرس طبائع الأمم عامة وطبيعة الأمة العربية خاصة، أو درسها ولكنه يتغابى عنها في كل حين يدعوه ذوقه وهواه إلى أن يصطنع له حديثًا ولا يجد مندوحة في التغابي عنها أو الانسلاخ منها.

لم يكن العرب في زعم المؤلف أو صاحب الذيل يعرفون الأصل الذي ينتمون إليه حتى حاربهم اليهود أو طمعوا في نجدتهم فاصطنعوا لهم أصلًا ربطوا به قبائلهم وهو إسماعيل أخو إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.

لنقل: إن العرب كانوا يجهلون الأصل الذي ينتمون إليه، وإنهم بلغوا في الغباوة أن تصنع لهم الجالية اليهودية نسبًا فيقبلوه على اختلاف قبائلهم، ولنا أن نتسائل: هل كان هؤلاء العرب يؤمنون بنبوة إبراهيم وإسماعيل قبل اتصالهم بهذه الجالية؟ أم كانوا يسمعون بها ولا يؤمنون؟ أم كانوا لا يسمعون بها ولا يؤمنون.

فإن كانوا يؤمنون بها فالإيمان إنما يكون عن علم شيء من تاريخ حياتهما وأقل واجب في هذا السبيل معرفتهم أين بعثا وأين كان مقامهما، وإذا كانوا يتلقون عن آبائهم حديث إبراهيم وإسماعيل عليها السلام وفرضنا أن إسماعيل لم يكن نزل بمكة ولا عاش بها طول حياته أو أكثرها، فمن الصعب على تلك الجالية أن تعبث بعقول أمة كاملة وتحولها إلى الاعتقاد بغير ما عرفته خلفًا عن سلف دون أن تأتيهم بسلطان مبين.

وإن كانوا يسمعون بنبوتهما ولا يؤمنون، أو لا يسمعون بها ولا يؤمنون، فمن الجلي الواضح أن شرف إبراهيم وإسماعيل وسمعتهما الفاخرة إنما اكتسباها من النبوة، وإذا كان العرب لا يؤمنون بنبوتهما فهم لا يسلمون لهما هذا الشرف حتى يسرعوا إلى قبول ما تزوره لهم الطائفة المستعمرة، فلا بد من أن يضاف إلى حديث الاحتيال أن الجالية اليهودية أقنعتهم بصحة نبوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حتى وثقا بما لهما من شرف المنزلة وسمو القدر، ورأوا أن ربط نسبهم بإسماعيل يزيد في فخرهم ورفعة شأنهم.

وإذا كان في إمكان الجالية اليهودية أن تقنعهم بنبوة إبراهيم وإسماعيل فلماذا لم تقنعهم بما هي أحرص على إقناعهم به وهو نبوة موسى عليه السلام، فتكون بينها وبينهم قرابة دينية وهي أشد صلة وأدعى إلى التآلف والسكينة.

ولا ندري لماذا لم يعد المؤلف هذه الحروب العنيفة أسطورة مع قيام رواية بجانبها تقول: «إن السريانيين واليونان طردوا اليهود من بلادهم فقابلهم بنو إسماعيل بالترحيب، وتهود منهم كثير لما رأوه في كتب اليهود القديمة من التعظيم للإله الذي اهتدى إليه الخليل — عليه السلام — لعبادته.»٢٨

•••

قال المؤلف في ص٢٧: «ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود، فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، كلها ترمي إلى التوحيد، وتعتمد على أساس واحد هو الذي يشترك فيه الديانات السماوية السامية. لكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب، فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود.»

يقول المؤلف فيما سلف: إن في القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة، ويقول هنا: إن الخصومة بين الإسلام والوثنية قد اقتضت إثبات صلة بين الدين الجديد والديانتين القديمتين، ثم جعل القصة مستغلة لعقد صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب. فالقصة جاءت في القرآن على وجه الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، وجاءت في القرآن لإثبات الصلة بين الدين الجديد وهو الإسلام والديانتين اليهودية والنصرانية، وجاءت في القرآن لإثبات صلة مادية بين العرب وأهل الكتاب.

هكذا يقول المؤلف! ويقول صاحب ذيل مقالة في الإسلام: «ولما ظهر محمد رأى المصلحة في إقرارها فأقرها، وقال العرب: إنه إنما يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه.»

تابع المؤلف صاحب الذيل في زعمه أن النبي وجد أمامه هذه القصة المزورة دائرة على ألسن العرب فابتغاها وسيلة في بث الدعوة إلى هذا الدين الجديد، غير أنهما اختلفا في تصوير الغاية من تقريره لهذه القصة، فصاحب الذيل يزعم أنه أقرها لاستمالة العرب بإراءتهم أنه يدعوهم إلى ملة جدهم الذي يعظمونه بقلوب لم تعرفه، والمؤلف أراد التظاهر بأنه لا يمشي خلف صاحب الذيل في كل رأي فأخذ يتحسس لعله يلمس وجهًا غير وجه صاحب الذيل حتى وقع خاطره على تخيل أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بالقصة في القرآن لاستمالة أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث اشتدت الخصومة بينه وبين الوثنيين.

لا يهمنا كثيرًا التنقيب عن مصادر الآراء، والخوض في أن المؤلف اعتصرها بفكره أو تناولها على حين غفلة أو موت من أهلها، والذي يعنينا كثيرًا إنما هو نقد الآراء نفسها حتى ينجلي أمرها ويمتاز حقها من باطلها.

تعرضت التوراة لذكر إسماعيل عليه السلام ولم تأت على أبوته للعرب بصراحة، وإنما جاء فيها خطابًا لإبراهيم عليه السلام: «وأما إسماعيل فإني أجعله أمة؛ لأنه نسلك.» وجاء في حديثها عنه: «وسكن في برية فاران.» وفاران جبال بالحجاز، قال المرتضى في شرح القاموس: وإليها ينسب أبو الفضل بكر بن قاسم الفاراني المتوفى سنة ٢٧٧ وفرج بن سهل الفاراني المتوفى سنة ٢٣٨. وغير العرب يقولون إنها برية أو جبل عند العقبة في جزيرة سيناء. وقد سلك جرجي زيدان مسلك التوفيق بين القولين فقال في تاريخ العرب قبل الإسلام: «ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال الحجاز تسمى أيضًا «فاران»، فيكون المراد أن البرية التي أقام فيها إسماعيل برية الحجاز أو أنه أقام حينًا في سينا ثم خرج إلى الحجاز وسكن هناك وتزوج.»٢٩
وذكرت التوراة أن إسماعيل حضر لدفن أبيه إبراهيم عليه السلام فقالت: «ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة.» وليس في هذا ما يعترض قصة هجرته ونزوله بمكة؛ لأن التوراة كما قال جرجي زيدان: «لم تذكر إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه على عادتها من الاختصار فيما يخرج عن تاريخ أمة اليهود أو ديانتها.»٣٠

وإذا لم يوجد في المنقول ما ينفي هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز تبيَّنَّا أن المؤلف إنما دخل لإنكار القصة عن طريق العاطفة المضادة للإسلام وحدها، ولم يزد على أن غمرها بالإنكار وادعاء أن اليهود اصطنعتها للعرب، ولم يزد على أن اتهم صاحب الرسالة باستغلالها واتخاذها حيلة لتأليف أهل الكتاب.

فحديث المؤلف عن هذه القصة يرجع إلى معنى أن اليهود اصطنعوها احتيالًا على العرب، وأن الرسول الأمين محمد بن عبد الله أتى بها في القرآن احتيالًا على اليهود، وإذا بُلي المؤلف بإخراج القصة في ألوان من الحيل أفلا يعذر آخر إن قال: إن صبغ المؤلف للقصة بألوان الاحتيال نوع من الاحتيال على عقائد السذج من قراء كتابه أو طلاب دروسه في الجامعة!

أيحتال أطيب البرِيَّة سريرة وأبهرهم حجة على اليهود بقصة خرجت من مصنع تزويرهم! كلَّا، إن القرآن ليدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست القصة المزورة من الحكمة في شيء، وليس في القصة المزورة موعظة حسنة، ومن يتلو القرآن بتدبر وينظر السيرة النبوية في مرآتها الصادقة، يعلم أن الإسلام بريء من هذا السخف والهزل، وما كان لمثل المؤلف أن يجعل سيرته أو سريرته قياسًا لرسل الله الأكرمين.

نحن نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وجد من قومه الذين يشاركونه في آبائه الأقربين صدورًا مطوية على عداء، وألسنة مبسوطة بالكيد والأذى، ووجد من قوم لا يصل نسبهم بإسماعيل ولا بإبراهيم إيمانًا وطاعة وتأييدًا، فلا نستطيع أن نفهم كيف يخطر على باله أن يأتي في القرآن بقصة القرابة بين العرب واليهود احتيالًا على أهل الكتاب، وهي قرابة قديمة العهد بعيدة الأثر، تكاد تشبه القرابة بين العرب وأكثر من في الأرض حيث يتفقان في جد أعلى هو نوح عليه السلام، وليس ببعيد من صاحب هذه الفلسفة الغريبة أن يقول: إن قصة آدم الواردة في القرآن مستغلة لعقد الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد والديانات وغير الديانات الكائنة على وجه البسيطة؛ لأن في القصة صلة ملموسة أو كالملموسة وهي القرابة بين العرب وسائر البشر!

•••

قال المؤلف في ص٢٧: «وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح. فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السعادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية، وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخرى.»

رأى المؤلف فيما سلف أن القصة مصنوعة بيد اليهود تأليفًا للعرب يوم عقدوا معهم صلحًا بعد حروب عنيفة، ورأى هنا أن قريشًا مستعدة لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، حيث إن نهضتها السياسية الاقتصادية تدعوها إلى البحث عن أصل تاريخي قديم متصل بالأصول التاريخية الماجدة، وزعم أنها لم تجد مانعًا من قبول هذه الأسطورة واستنبط من هذا أن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام.

فالقصة صنعها اليهود للعرب يوم حروبهم العنيفة تأليفًا لهم! والقصة صنعت قبيل الإسلام يوم قام العرب يبحثون عن أصل تاريخي قديم!

ولم يصرح المؤلف في حديث هذا الرأي بمن لقنها قريشًا فلا ندري هل اصطنعها قريش بأنفسهم أم اصطنعها لهم اليهود المستعمرون مساعدة لأهل دين «يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية!»

عرف المؤلف أن التاريخ طافح بالشواهد على أن لمكة بين بلاد العرب ميزة ظاهرة، ولها في قلوب العرب حرمة بالغة، والناس يرون أن هذه المنزلة المحترمة قد أحرزتها مكة من عهد إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، فبدا له أن يضع لقصة إسماعيل وإبراهيم عهدًا قريبًا، ورأى نفسه مضطرًا إلى وضع يده على شيء يزعم أنه السبب في اصطناعها، فمكث غير بعيد وجاءك يقول: إن قريشًا كانت في أول القرن السابع للمسيح على حظ من النهضة السياسية الاقتصادية، وزعم أن قصة إسماعيل وإبراهيم وليدة هذه النهضة، ثم انطلق يتحدث عن مصدر نهضة قريش، وانظر ماذا ترى!

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشًا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء المشركين نوعًا من السلطان قويًّا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزًا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية والمسيحية من ناحية أخرى.»

ندع المؤلف يسمي ذلك النوع من التجارة كيف يشاء، وننظر فيما يذهب إليه بعدُ من أن الكعبة كانت موضع احترام العرب الوثنيين من قبل أن تصطنع لهم قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام؛ لأنه يجعل سيادة قريش الدينية من مصادر هذه النهضة السياسية، ويجعل النهضة السياسية باعثًا على تلفيق هذه القصة.

فإذا كان العرب المشركون يحجون إلى الكعبة في كل عام، وليس لديهم شعور بقصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو الأمر الذي بعث قلوبهم على احترام هذه البنية؟ وما هو السائق لهم إلى أن يؤمُّوا مكة في كل عام رجالًا وركبانًا؟ فسنة الله في الخليقة تقتضي ألَّا يتفق قبائل شتى على احترام بقعة وحط الرحال إليها في كل عام إلا لعامل خطير يكون له هذا الأثر الكبير، ولا بد أن يكون هذا العامل مذكورًا على ألسنة تلك القبائل تتناقله أجيالهم طبقة بعد أخرى.

وإذا أطلقنا البحث في الروايات المحكمة أو الأساطير الملفقة لم نجد بها سوى أن تلك الحرمة التي يحملها العرب لمكة تتصل بعهد إسماعيل وإبراهيم. فمن يدعي أن لتلك الحرمة سببًا آخر فعليه بيانه، وعلينا حسابه. والمؤلف على الرغم من كونه يهاجم بهذا البحث دينًا تفل السيوف القاطعات ولا تُفَلّ حججه، لم يتعرض لسبب إقبال العرب على مكة بالاحترام والتعظيم، ولم يزد على أن ذكر أن قريشًا تجتمع حولها، والعرب المشركون يحجون إليها.

وإذا سلمنا أن الباعث للعرب في القديم على احترام مكة والحج إليها غير قصة إسماعيل وإبراهيم، فما هو العامل القوي الذي استطاع التأثير على عقول تلك القبائل بأسرها حتى تحولت عما كانت تتصور من وجه احترام الكعبة إلى اعتقاد أنها من بناء إسماعيل وإبراهيم؟ فانقلاب قبائل من عقيدة إلى أخرى واقعة خطيرة، وشأنها أن تتلمح ولو في الأساطير والأسمار.

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية، وبحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجه في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية.»

قال سيديو في تاريخ العرب:٣١ «كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم بمكة واتحادهم في الأخلاق والعوائد.» ولعلك تطالب المؤلف بأثر تاريخي يشهد بأن قريشًا حاولت توجيه وحدة سياسية وثنية تقاوم تدخل الأمم المجاورة لها وديانتها، فلا تجد لديه وثيقة على هذه النهضة سوى هذه الكلمة التي رماها سيديو في تاريخه. أما نحن فنتيقن أن العرب على اختلاف قبائلها تمقت السلطة الأجنبية وتطمح إلى أبعد غاية في الحرية، ولكنا لم نجد في تاريخ الجاهلية ما يدل على أن قريشًا أو زعماء قريش سعوا في وحدة عربية تقف في وجه السياسة الأجنبية. نعم، قرأنا في ذلك التاريخ أن حروبًا شبت بين قريش وهوازن قبل البعثة المحمدية بنيف وعشرين سنة وهي المسماة بأيام الفِجار، ولعلها كانت في سبيل هذه النهضة العاملة على وحدة السياسة العربية!

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «وإذا كان هذا حقًّا — ونحن نعتقد أنه حق — فمن المعقول جدًّا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير.»

قد رأيت المؤلف كيف اقتدى بصاحب الذيل في دعوى أن القصة من صنع اليهود المستعمرين، ثم بدا له أن يحدث طلاب الجامعة بباعث آخر على وضع القصة وهو أنها صنعت لقريش يوم نهضت نهضتها السياسية القائمة على نهضتها الاقتصادية الدينية، وأخذت تبحث عن أصل قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة، وقد لبس الكتمان هنا فلم ينم على من أسر إلى قريش بهذه الضالة التي قاموا ينشدونها، وقال لهم: إنكم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم. وربما كان هذا من أسرار كتابه التي لا يفضي بها إلا إلى المتعلقين بأذياله، فاسألوهم إن كانوا ينطقون.

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «وإذن فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم، كما قبلت رومة قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة باينياس بن پريام صاحب طروادة.»

يريد المؤلف أن يقابل الجد بالهزل والحجة باللغو، يريد من هذه الأمم التي تعقل أكثر مما يعقل أن تضع قصة اليونان مع روما في وزان آيات تقوم بجانبها دلائل النبوة المتجلية في حياة أكمل الخليقة من حكمة في التشريع إلى استقامة في الأعمال، إلى بلاغة في الأقوال، إلى عدل في القضاء، إلى رشد في السياسة، إلى صدق اللهجة، إلى صرامة العزم، إلى حسن السمت، إلى رونق الحياء، إلى ما جدع أنف الباطل، إلى ما قوض عروش الجبابرة، إلى ما قلب العالم رأسًا على عقب، وموجز القول أن كل حلقة في سلسلة حياة محمد معجزة، فإن أساليب دعوته ومظاهر حكمته لا يربطها بالأمية وغير الأمية إلا من له الخيرة في أن يمنح البشر ما لا تعهده البشرية.

هذه النبوة الساطعة، والهداية المحفوفة بالآيات من كل ناحية هي التي خطر على بال المؤلف أن يزلزل أركانها بحكاية أسطورة يونانية!

يجعلون لروما تاريخًا خرافيًّا، وتاريخًا حقيقيًّا، والحقيقي يبتدئ من سنة ٧٥٣ قبل المسيح، وقصة أنياس داخلة في دور التاريخ الخرافي، وقال ناقدوها: إنها صادرة من أرباب الخرافات والخزعبلات. وقصة إسماعيل لا يسهل على المؤلف أن يجعلها من هذا القبيل إلا إذا آنس من نفسه قوة على نقض الأساس الذي قامت عليه وهي رسالة محمد بن عبد الله ، وهو لا يستطيع أن يسل من هذا الأساس لبنة ما دام قلمه لا يمشي إلا وقع في كبوة، ولا يطعن إلا رجع بنبوة: إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِي * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.

•••

قال المؤلف في ص٢٩: «أمر هذه القصة إذن واضح. فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضًا. وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى.»

أمر الطعن في هذه القصة إذن واضح، فهو حديث العهد ظهر قبيل كتاب «في الشعر الجاهلي» واستغله كتاب في الشعر الجاهلي لسبب اقتصادي وديني غير إسلامي، ولم تقبله الثقافة الشرقية لسبب ديني وسياسي أيضًا، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل به عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى.

•••

قال المؤلف في ص٢٩: «وإذن فنستطيع أن نقول: إن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلم بها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة.»

كنا وضعنا بين يديك أن الاختلاف بين العدنانية واللغة القحطانية لم يكن في العصر القريب من ظهور الإسلام بعيدًا إلى الغاية التي يخيلها إليك المؤلف، وقلنا لك: إن هضم اللغة العدنانية للغة القحطانية بعد الإسلام بأمد غير بعيد يدل على أن الفوارق بينهما أخذت تذوب منذ عهد الجاهلية، وهذا لا تعترضه الآثار المخطوطة باللغة المخالفة للعدنانية في نحوها وصرفها ولو دلت بتاريخها على أنها رسمت قبل الإسلام بعهد قريب؛ إذ قصارى ما تدل عليه أن لغة أهل المكان المنطوي عليه ذلك الأثر، أو اللهجة التي جرت عليها عادة الكتابة لم تتخلص من مميزاتها الشديدة، ولا يعترضه أيضًا قول أبي عمرو بن العلاء: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.» فإنه يصدق حيث يكون بين لغة حمير وأقاصي اليمن وبين لغة عرب عدنان اختلاف في بعض المفردات وشيء يسير من القواعد النحوية، وهذا الاختلاف سماه ابن جني في كتاب الخصائص٣٢ بعدًا، وأثبت مع هذا البعد أنها لغة عربية فقال: «ويكفي من هذا ما تعلمه من بُعد لغة حمير من لغة بني نزار.» ثم قال: «غير أنها لغة عربية قديمة.»

•••

قال المؤلف في ص٢٩: «وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه.»

من الأمة العربية أقوام يدور حديثهم في الجزيرة ويتناقل المؤرخون أثرًا من أخبارهم كعاد وثمود وطسم وجديس وجرهم، ولم يبق على وجه الجزيرة من ينتمي إلى هذه القبائل، وقد ذكر القرآن بعضها كعاد وثمود وقال في شأنهما: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ وهؤلاء يسمونهم البائدة لعدم بقاء جماعة معروفة تنتمي إليهم في البلاد العربية.

ويمتد بجنوب الجزيرة قبائل يقال لها: القحطانية، وبشمالها قبائل أخرى يقال لها: العدنانية، ووجدوا في كل من هاتين الأمتين رجالًا لهم عناية بأنساب القبائل فأخذوا عنهم ما يذكرونه في أصل بني قحطان وسموهم المتعربة، وتلقوا منهم أن هذه القبائل العدنانية تتصل بإسماعيل فسموهم المستعربة، وما تأيد من هذه الأخبار بقرآن أو بحث حديث يستند إلى محسوس حل منا محل العلم، وما كان حظه النقل عن أولئك الرواة فقط فإن نافاه حس أو عقل أو سنة كونية رددناه على ناقله خاسئًا، وإن لم يناف شيئًا من هذه الأصول قصصناه عالمين بمبلغه من الظن، ودوناه إلى أن نظفر بما نضعه في محله من أنباء هي أرجح منه وأقوى.

•••

قال المؤلف في ص٢٩: «والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحًا، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئًا كثيرًا من الشعر الجاهلي قومًا ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء: إن لغتها مخالفة للغة العرب، والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير لغة العربية.»

قد عرفت أن المؤلف نحا بعبارة أبي عمرو بن العلاء نحوًا من التحريف ليجد فيها من الشاهد لرأيه ما لا يجده حين يوردها على وجهها. وقلنا لك مرة بل مرتين: إن أبا عمرو لا يريد إلا أن بينها وبين العدنانية اختلافًا، وذلك ما لا ينكره قديم أو جديد، ولم يقل: إن لغة اليمن مخالفة للغة العربية بل سمى لغتهم عربية وقال: وما عربيتهم بعربيتنا، وخضنا فيما يدل عليه البحث الحديث وانتهينا إلى أنه لا يعترض الاعتقاد بأن فوارق اللغة القحطانية كانت حوالي القرن الأول قبل الإسلام خفيفة إلى حد أن قبلت الخروج في زي العدنانية بعده بسهولة.

هذا شأن الاختلاف بين اللغتين، أما تشابه الشعر القحطاني والعدناني فله سبيل غير هذا السبيل، والرأي الذي يوافق إجماع الروايات ويؤيده النظر ولا يعترضه البحث الحديث أن الشعراء في جنوب الجزيرة وشمالها أصبحوا من قبل الإسلام ينظمون الشعر بلهجة واحدة أو متقاربة، وإليك البيان:

من الواضح الذي تستحي أن تعزوه إلى كتاب أو تقيم عليه شاهدًا أن لغة قريش كانت أفصح لغات العرب قاطبة، وسبب هذا التفوق موقع سوق عكاظ وذي المجاز ومجنة من ديارهم؛ إذ كانت القبائل تفد عليها في موسم الحج وتتخذ فيها معرضًا لمصنوعات القرائح ونوادي للتفاخر بالأحساب والأنساب، أو التقاذف بالوعيد والهجاء، وهذا ما يضع لغات العرب بين يدي قريش فتلقط منها ما يستخفه السمع ويتسوغه الذوق، ومن المعقول أن تكون هذه المحافل الأدبية أفادت لغة قريش وزادتها فصاحة على فصاحتها، وتقدمت بها على سائر لغات العرب شوطًا بعيدًا.

وإذا قامت في قلب الجزيرة لغة قبضت على أعنة الفصاحة، وكان للناطقين بها مظهر من مظاهر السؤدد، فمن سنة تقليد الأفضل والأجود أن تنزل القبائل إلى محاكاة لهجة قريش ونسج الكلام على منوالها، وأول من يسبق إلى هذا الشأن ذوو الفكر المنتج والخيال الواسع والمعاني الغزيرة وهم الخطباء والشعراء.

فتقارب الشعراء في اللهجة جاء من جهة محاكاتهم بالشعر أفصح لهجة وأشهرها بين القبائل وهي لغة قريش. قال أبو إسحاق الشاطبي في شرح الخلاصة:٣٣ «فإن الحجازي قد يتكلم بغير لغته وغيره يتكلم بلغته، وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية جاز للتميمي أن يتكلم اللغة الحجازية بل التميمي بذلك أولى.» ومما قال في توجيه هذه الأولوية: «إن الحجازي أفصح وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعًا من العكس.»

فرغبة الشعراء في أن يكون لشعرهم جولة في البلاد العربية بأسرها، ووجود لهجة تشهد القبائل موطنها وتألفها أسماعهم وترتاح لها نفوسهم مما يحمل هؤلاء البلغاء على أن يحتذوا في شعرهم حذو هذه اللهجة الفائقة المألوفة.

فإذا قرأنا هذه المطولات ورأينا فيها مطولة لشاعر كندي ومطولات لشعراء من ربيعة، ولم نشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة، فالسبب ما لوحنا إليه من أن الاختلاف في أصله يسير، وأن هناك ما يسوق الشعراء إلى أن يتحروا بالشعر أفصح اللهجات وأكثرها وقعًا على الأسماع.

ونحن نعلم أن قبائل اعتنقت الإسلام وفيها بقية من حضارة وعلم بالكتابة فلا يصح أن يبلى شعرها الذي قيل في عهد جاهليتها، فلا بد أن ترث منه نصيبًا مفروضًا، وأن يبقى في يدها ولو الشعر الذي قرب عهده ولم يتوغل في الجاهلية أكثر من مائة سنة، ومن هؤلاء الذين تقلدوا الإسلام ويجب أن يكونوا عارفين بلهجة شعرائهم من شهدوا يوم أصبحت العرب أمة واحدة وحين بدأت القبائل تراجع مآثر شعرائها ومفاخر أحسابها.

ولا يخلو هؤلاء اليمانيون العارفون بلهجة شعرائهم إما أنهم اشتركوا في هذا السباق وقدموا للناس أشعار سلفهم بلهجتها الأولى، ولو فعلوا ذلك لرأينا له في التاريخ أثرًا، أو يحدثنا عنه التاريخ وإن لم يرو لنا منه قافية، كما حدثنا عن أسد بن ناعصه المشبب بخنساء وقال إنه «كان صعب الشعر جدًّا وقلما يروى شعره لصعوبته».٣٤ وإما أن يكونوا قد طرحوا ما بأيديهم من الشعر القديم ودخلوا السباق بشعر صاغوه في لهجة قريش وعزوه إلى شعرائهم الأقدمين، ومن البعيد جدًّا أن يعدموا في هذا الحال من يعرفون لهجة أولئك الشعراء ويدرون الفرق بينها وبين لهجة قريش فيفسدون عليهم صنيعهم ويحثون في وجوههم الإنكار بملء أفواههم، وواقعة أدبية أو لغوية كهذه لا تمر على الناس من غير أن يضعوها في يد التاريخ وتبدو لنا ولو في شبح ضئيل.

ومما يتعذر قبوله أيضًا أن يضع غير اليمانين أشعارًا في لهجة قرشية ويعزوها إلى القدماء من شعراء اليمن دون أن يجدوا من اليمانين أو ممن يعرف لهجة شعراء اليمانين من ينكر صنيعهم، ويناضلهم بحجة أن هذا الشعر غير منطبق على لهجة أولئك الشعراء.

وانصباب العرب في الحروب والفتوحات إنما يصلح أن يكون علة لضياع الكثير أو الأكثر من شعرهم، أما أنه يذهب بأثره جملة فواقعة لا يؤمن بها إلا من يكون «على حظ عظيم جدًّا من السذاجة».

فالمعقول أن الاختلاف بين اللغة القحطانية واللغة العدنانية قبل الإسلام بعشرات السنين لم يكن كحاله في العصور الغابرة، وأن الشعر كان يظهر في لهجة يسير عليها شعراء القبيلتين للأسباب التي سقناها آنفًا، وإذا فرض أن ينحو شاعر نحو لهجته فأيسر شيء على الرواة تغييره إلى اللهجة الأدبية العامة، وسنعود إلى البحث تارة أخرى.

•••

قال المؤلف في ص٣٠: «ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقًا قليلًا ولا كثيرًا بينه وبين شعر العدنانية. نستغفر الله! بل نحن لا نجد فرقًا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن. فكيف يمكن فهم ذلك وتأويله؟ أمر ذلك يسير، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء، لم يقله شعراؤها، وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام.»

قد جئناك بتفصيل القول في أن للشعر لغة غير لغة الكلام، وأقمنا هذا الرأي على ما يتفق مع الرواية المتضافر عليها في الصدر الأول، وأومأنا إلى أن البحث الحديث لا يعترضه في قليل ولا كثير، وهذا الدكتور مرغليوث يقول في صدر مقاله المنشور في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية: «لا نجد في المخطوطات الأثرية شيئًا من الشعر بالرغم من وجود مدنية عالية.»

فلا موضع لعجب المؤلف إذا لم يجد فرقًا قليلًا ولا كثيرًا بين شعر القحطانية وشعر العدنانية. وأما ما يقوله من أنه لا يجد فرقًا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن؛ فإن أراد أنه يوافق لغة القرآن في قواعد نحوها وصرفها وكثير من مفرداتها، فذلك ما لا يناقشه فيه أحد، وسره ما كنا بصدد الحديث عنه من أن الاختلاف بين اللغتين أصبح ضئيلًا، وأن لغة الشعر والخطابة بين العرب غير اللغة المستعملة في مخاطباتهم العادية، ولا ننسى أن اللغة التي نزل بها القرآن وكان البلغاء في الجاهلية يحتذونها، هي لغة أساسها لغة قريش، وسائر بنائها قائم من لغات شتى.

١  ج٦، ص٣٤٦.
٢  ج٢، ص٤٦.
٣  أخرجه الطبراني، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.
٤  العرب قبل الإسلام ص٧٩.
٥  منسوب إلى نهد قبيلة باليمن.
٦  شجر صلب يعمل منه رحال الإبل.
٧  السحاب.
٨  العشب، واستخلابه احتشاشه بالمخلب؛ أي: المنجل.
٩  ثمر الأراك.
١٠  الأمطار الضعيفة؛ أي: نتخيل الماء في السحاب القليل.
١١  السحاب الذي فرغ ماؤه، والمعنى لا ننظر إلى السحاب في حال إلا إلى جهام.
١٢  البعد.
١٣  الغدير.
١٤  أصل النبات.
١٥  ورق الشجر.
١٦  الغصن.
١٧  ما يُهدَى إلى الحرم من النعم ثم أطلق على الإبل وإن لم تكن هديًا.
١٨  فسيل النحل.
١٩  الباطل.
٢٠  اسم جبل.
٢١  القطيع من الغنم.
٢٢  التفرق.
٢٣  اللبن.
٢٤  آتية بالأزل؛ أي: القحط.
٢٥  تاريخ ابن خلدون ج٢، ص٤٦.
٢٦  ص٨.
٢٧  ص١٦٤.
٢٨  خلاصة تاريخ العرب لسيديو، ص٣٨، طبعة مصر ١٣٠٩.
٢٩  تاريخ العرب قبل الإسلام، ص١٦٤.
٣٠  تاريخ العرب قبل الإسلام، ص١٦٤.
٣١  ص٣٥.
٣٢  ج١، ص٤٢٧.
٣٣  حكاه البغدادي في خزانة الأدب، ج٢، ص١٣٤.
٣٤  التهذيب للأزهري مادة «نعص».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤