الشعر الجاهلي واللهجات

قال المؤلف في ص٣١: «على أن الأمر يتجاوز هذا الشعر الجاهلي القحطاني إلى الشعر الجاهلي العدناني نفسه. فالرواة يحدثوننا أن الشعر تنقل في قبائل عدنان، كان في ربيعة ثم انتقل إلى قيس ثم إلى تميم فظل فيها إلى ما بعد الإسلام؛ أي: إلى أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير، ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين؛ لأننا لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة؛ لأننا ننكر أو نشك على أي تقدير شكًّا قويًّا في قيمة هذه الأسماء التي تسمى بها القبائل، وفي قيمة الأنساب التي تتصل بين الشعر وبين أسماء هذه القبائل، ونعتقد أو نرجح أن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى العلم اليقين.

يقول بعض الكاتبين في تاريخ الأدب كابن سلام الجمحي: كان الشعر في الجاهلية في ربيعة، ثم تحول إلى قيس، ثم آل إلى تميم واستقر بها.

يقولون هذا وهم يريدون أن أقدم من عُرفوا بالشعر الجيد كانوا في ربيعة مثل مهلهل وطرفة والمتلمس والحارث بن حلزة والأعشى، ثم ظهر في قيس شعراء فائقون كالنابغين الذبياني والجعدي وزهير بن أبي سلمى ولبيد والحُطيئة، ثم أصبح أكثر البارعين في الشعر من بني تميم إلى عهد الفرزدق وجرير، وفي شعراء تميم أوس بن حجر وعلقمة بن عبدة ومالك ومتمم ابنا نويرة.»

سمع المؤلف هذا الحديث فعرض لنفسه حال لم يدر هل هو إنكار أو شك، وقد توجه هذا الإنكار أو الشك إلى أن هناك قبيلة تسمى ربيعة وأخرى تسمى قيسًا وثالثة تسمى تميمًا، ثم توجه هذا الحال الذي هو إنكار أو شك إلى قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء وبين أسماء هذه القبائل.

أما الإنكار أو الشك في أن هناك قبائل تسمى بهذه الأسماء فلا يمكنك علاجه إذا استطعت أن تعالج أصم ينكر أن في الأصوات مزعجًا وآخر لذيذًا.

وأما الإنكار أو الشك في نسبة هؤلاء الشعراء إلى هاتيك القبائل فمنشؤه أن المؤلف لا يقدر عناية العرب بالمحافظة على أنسابها ويضعها بالموضع اللائق بها من البحث، ولا نريد بهذا إغلاق باب البحث في أنساب الشعراء أو غيرهم، بل أعني أنه متى أجمع علماء التاريخ على أن الحارث بن حلزة — مثلًا — من ربيعة، أو أن الأعشى من قيس، أو أن الفرزدق من تميم، وثقنا بهذا الطريق العلمي وليس لنا أن ننكر أو نشك في هذه الأنساب إلا أن يقع في أيدينا ما يحل عقدة ذلك الإجماع.

أما سلسلة النسب التي تصل الشاعر باسم القبيلة فقد يحف بها من الشواهد ما يلحقها بالظنون الراجحة، وكثير من هذا النوع ما يذكرونه على أنه رُوي وتُحدث به، فيدونونه وهم عارفون بقيمته التاريخية، ويقرؤه الناس دون أن يضلوا به أو يضعوه في سلك العلم أو الظن القريب منه؛ لأنهم لا يبنون عليه إرثًا أو مصاهرة أو مناصرة. فإن أراد المؤلف أن يتعاظم أمام طلابه في الجامعة بأنه يشك أو ينكر حيث يتيقن أهل العلم أو يتفقون، فقد تصور هذه الطائفة القليلة المستنيرة بمكان البله والغباوة.

وإذا ضل عن المؤلف الطريق العلمي لمعرفة أنساب هؤلاء الشعراء فليمش إليه على الطريق الذي عرف به أن في قبائل العرب قبيلة يقال لها: كندة، وأن عبد الرحمن الأشعث هو ابن محمد الأشعث، وأن محمد الأشعث هو ابن الأشعث، وأن الأشعث هو ابن قيس، وأن نسب آل الأشعث يتصل بقبيلة كندة.١ ومن بديع منطق المؤلف أن يتماثل الطريقان إلى الغاية فيرضى عن أحدهما ويسخط على الآخر، كأن إنكاره أو شكه اختياري يستدعيه متى شاء، ويصرفه في الوقت الذي يريد!

•••

ذكر المؤلف أن مسألة النسب لا تعنيه الآن، وأنه سيعرض لها إذا اقتضت مباحث هذا الكتاب أن يعرض لها، ثم قال في ص٣١: «إنما المسألة التي تعنينا الآن وتحملنا على الشك في قيمة هذه النظرية (نظرية تنقل الشعر في قبائل عدنان قبل الإسلام) مسألة فنية خالصة. فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتها قبل ظهور الإسلام.»

تختلف لهجات القبائل العربية اختلافًا لا يخرجها عن أن تعد لسانًا واحدًا، وأن يكون هذا اللسان ذا قوانين تجري في هذه اللهجات بأسرها.

تختلف في معاني بعض الكلمات، أو بتغاير بعض حروفها، أو هيئتها من حركة وسكون، أو صفتها كالإمالة والتفخيم، أو بقلبها، أو بالزيادة فيها أو النقص منها، وتختلف في حروف معدودة بالإعراب والبناء، وبإعمال بعض الأدوات وإهمالها.

ولا تزال هذه الوجوه من الاختلاف محفوظة في كتب اللغة والنحو، بيد أن علماء العربية قد يعزون الكلمة أو اللهجة إلى القبيلة المختصة بها، وربما ذكروا أنها لغة من غير عزو إلى قبيلة بعينها.

ولم تشتد عنايتهم بذكر اسم القبيلة عند كل كلمة ترد على وجهين أو وجوه؛ لأنهم أصبحوا ينظرون إلى هذه اللهجات بمرآة عامة هي اللغة العربية، فصارت تلك الحروف على اختلاف وجوهها وأحوالها مندرجة تحت اسم هذا العنوان الشامل، ولهذا تسمعهم يجعلون للمتكلم الخيار في أن ينطق بأي حرف شاء وعلى أي وجه اتفق له، وهو معدود في كل حال ناطقًا بالعربية. قال ابن فارس بعد أن ذكر الوجوه التي تختلف بها لغات العرب: «وكل هذه اللغات مسماة منسوبة لأصحابها لكن هذا موضع اختصار، وهي وإن كانت لغة قوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ.»٢ وقال ابن جني في كتاب الخصائص: «اللغات على اختلافها كلها حجة والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ.» وقال أبو حيان في شرح التسهيل: «كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه.»

فلغات العرب العدنانية تختلف على حسب الوجوه التي أومأنا إليها، وهذا الاختلاف المعقول لا يجد فيه المؤلف دليلًا أو شبه دليل على أن الشعر الجاهلي مختلق وإن ساقه هنا بتوهم أنه قائم مقام مقدمتين صادقتين لا مردَّ لهذه الدعوى عن أن تكون وليدتهما، وقد أريناك فيما سلف نوعًا من الأسباب التي تجعل هذا الاختلاف قليل الظهور في أشعار الفصحاء، وسيوافيك البحث بعد هذا بما يدحر هذه الشبهة عن سبيلك.

•••

قال المؤلف في ص٣٢: «ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية، وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجة.»

أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفًا وود في هذا الفصل أن تصح وتستقيم له؟ هي تلك النظرية التي رماها على أكتاف «الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي من درس الحياة العربية قبل الإسلام»، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه، وكنا قد أمطناها عنهم ببيان أن في الشعر الجاهلي نفسه ما يدل على أنهم كانوا يتصلون بالأمم المجاورة لهم بمقدار.

أنكر المؤلف نظرية العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالًا بالعالم الخارجي! وودَّ في هذا الفصل أن تستقيم له؛ لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية!

ولعله يعود فيقول: إنما أنكر اعتزال العرب للأمم الأخرى، وأما حالهم فيما بينهم فالتقاطع والتباعد، ويلزمه على هذا التأويل أن يكون العرب الواقفون على سياسات الأمم الأجنبية إنما هم النازلون بأطراف الجزيرة؛ لأن القبائل النازلة في أحشاء الجزيرة لا يمكنها أن تتصل بالفرس والروم والحبشة ومصر إلا أن تجوس خلال من يجاورها أو يجيء على طريقها من القبائل الأخرى.

وليس بمستبعد على مثل المؤلف أن يقول لك في صراحة وعجل: إن تلك القبائل كانت على مدنية شائقة، وكانت تمتطي طيارات تمخر بها في الجو حتى تتصل بالأمم الأجنبية ولا تلقى في سبيلها شخصًا من قبيلة أخرى عربية، تفعل ذلك حذرًا من أن تتقارب لهجاتها ويتماثل شعرها!

•••

قال المؤلف في ص٣٢: «فإذا صح هذا كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي.»

هذه الشبهة علقت بذهن المؤلف فيما علق من مقال مرغليوث، وهي مطرودة بنظرية وجود لغة أدبية يحتذيها الشعراء على اختلاف قبائلهم منذ عهد الجاهلية، وهذا لا يقوله أنصار القديم وحدهم، بل يقوله كثير ممن هم أخلص لمذهب الجديد وأعرق فيه من المؤلف، فهذا البستاني يقول في دائرة معارفه:٣ «وكان أشد الخلاف بين أهل نجد والحجاز وأهل اليمن الحميريين، وكانوا كلهم مولعين بقول الشعر، وأرادوا أن تبقى الاتصالية في الأخبار والأحوال بين قبائلهم على اختلافها، ولم يكن لهم كتب يدونون فيها الوقائع بحيث يفهمها الجميع، فأجمع الشعراء على أن ينظموا شعرهم بألفاظ فصيحة مشهورة شائعة بين كل القبائل، وبذلك اشتركت ألفاظ اللغة العربية وشاعت بمنطوق واحد وتقررت من الجميع.»
وهذا سيديو يقول في خلاصة تاريخ العرب:٤ «كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة ثم مالوا إلى الوحدة السياسية … ورأوا الأشعار وسيلة لانتشار فخارهم في بحيث جزيرة العرب وسبيلًا لوصول أعمالهم العجيبة ومآثرهم إلى ذراريهم فأحيوها وعكفوا عليها، لكن كلام مؤلفي نجد والحجاز لم يفهمه مؤلفو اليمن، بل لم تتفق قبائل بلد واحد على لغة واحدة، إلا أن شعراء العرب الموكول إليهم اختراع لغة أعم من تلك اللغات رُويت أشعارهم في كل جهة فتعينت الألفاظ المعدة للدلالة على الأفكار والتصورات، فإن العشائر المستعملة للعبارات المختلفة للدلالة على فكرة واحدة متى سمعت قول الشاعر اختارته في ذلك الموضوع وفهمت مع ذلك فوائد التمدن، فلذا قابلت الأمة العربية هذه الابتكارات العقلية بالاعتبار، وأنشأوا في عكاظ والمجنة وذي المجاز للمفاخرة بالشعر مجالس حافلة خالية من التحكم على النفوس.»

وقال الدكتور «تشارلس ليال» في مقدمة المفضليات بعد أن أمتع الرد على مرغليوث: «إنه مما لا شك فيه أنه وجد بجزيرة العرب قديمًا كما يوجد اليوم في كثير من أنحاء الجزيرة لهجات وفروق عظيمة، ولكنا نرى فرق اللهجات في لغة الشعر قليلًا — إلا في أشعار طيئ — ومعناه أن لغة الشعر في أنحاء الجزيرة صارت واحدة، ومجموعة لغات الشعر الجاهلي وكثرة المترادفات العظيمة إنما وجدت في الشعر بامتصاص تدريجي، وبذلك نشأت لغة شعرية هضمت لهجات القبائل المختلفة. ولا محالة أن هذا يستغرق زمنًا يكون المشتغلون فيه لوضع هذه اللغة الشعرية وأوزانها في أقصى ما يمكن من العزم والنشاط.» ثم قال: «ويظهر لنا أن هنالك أثرًا من الصحة للرواية القائلة بأن سوقًا سنوية كانت تعقد في الأشهر الحرم بجوار مكة ويتنافس فيها الشعراء بمآثر الفصاحة، وأن مثل هذه المجتمعات والأسواق هي المدرسة التي رقت الشعر وأسلوبه وأحكمت قواعده.»

وفي دائرة المعارف الإسلامية الإنكليزية: «نتساءل كيف أمكن الشعراء وأكثرهم أميون أن يوجدوا لغة أدبية واحدة، ففعلوا ذلك رغبة منهم في انتشار أشعارهم بين جميع القبائل، وهم إما أن يكونوا قد استعملوا كلمات وجدت في جميع لهجات القبائل بسبب الصلات التجارية بين القبائل المختلفة فأتى الشعراء وهذبوها، وإما أنهم اختاروا بعض لهجات خاصة فأصبحت هذه اللهجة لغة الشعر.» وفيها: «كان جميع شمال جزيرة العرب في أوائل القرن الخامس للميلاد لهم لغة واحدة وهي لغة الشعر، ويمكننا القول بأنها نشأت تدريجيًّا بمناسبات واختلاطات بين القبائل المختلفة مثل هجرة القبائل في طلب المرعى، وحجهم السنوي إلى أماكنهم المقدسة أمثال مكة وعكاظ، ويظهر أن هذه اللغة استقت من لهجات كثيرة.»

وقد أخذ «أدور براونلشر» في رد هذه الشبهة على مرغليوث بتسليم أن لغة الجنوب مخالفة للغة العربية، وذهب إلى أن اللغة الأدبية وحدت لهجات القبائل الشمالية، ولم يمنع مع هذا أن ينظم أناس من القحطانيين أشعارًا بهذه اللغة؛ لأن كثيرًا منهم يتكلمون باللغتين، فقال: «إن اختلاف الشعر العربي عن نصوص المخطوطات الموجودة في جنوب بلاد العرب لا يدل إلا على أمر واحد وهو أن سكان هذه الممالك الجنوبية لا نصيب لهم في صنع الشعر العربي، على أن هذا لا ينفي اشتراك بعض أشخاص منهم في وضع الشعر؛ لأن كثيرًا من سكان جنوب بلاد العرب كانوا يتكلمون باللغتين قبل أن يظهر عامل التوحيد الإسلامي بأزمان عظيمة.» ثم قال: «إن اختلاف لغة جنوب بلاد العرب عن لغة الشماليين ليست بالأمر المستغرب، ولا سيما إذا علمنا أن لغة الجنوب ليست بلهجة عربية بل هي لهجة سامية، بينما لهجات العربية الشمالية المختلفة أمكن توحيدها في لغة أدبية راقية.»

فهؤلاء الباحثون المتمرنون على منهج ديكارت قد قرروا نظرية وجود لغة أدبية زمن الجاهلية، إلا أن من هؤلاء من يجعلها للعرب قاطبة عدنانية وقحطانية، ومنهم من يجعلها للقبائل العدنانية، ولا يمنع مع هذا أن ينظم بعض القحطانيين في هذه اللغة أشعارًا حيث إن فيهم من هو قائم على اللغتين. وعلى أي حال لا يستقيم لأحد أن ينكر شعرًا يعزى لقيسي أو ربعي أو كِندي لمجرد ما يوجد بين لغات هذه القبائل أو لهجاتها من اختلاف.

•••

ذكر المؤلف المطولات أو المعلقات وأصحابها وقال في ص٣٣: «تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة أو تباينًا في مذهب الكلام. البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين والمذهب الشعري هو هو.»

لا يشعر القارئ في هذه المطولات بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة؛ لأن للشعر والخطابة منذ عهد الجاهلية لغة واسعة النطاق بعيدة ما بين الأطراف.

وليس كل ما تسمعه فيما يصوغه الفصحاء من شعر أو نثر هو لغة قبيلة واحدة، بل هو مستخلص من لغات شتى، وفي هذه اللغة الضاربة في نواحي الجزيرة يمينًا ويسارًا نزل القرآن وتفقهت فيه سائر القبائل حتى القحطانية من غير أن يحتاجوا في فهمه إلى ترجمان، ومن يسمي هذه اللغات المهذبة لغة قريش فلأن لغة قريش كانت المبدأ الذي شبت عليه هذه اللغة وأخذت تجتني من لغات القبائل ما يخف وقعه على السمع والذوق واللسان، فأنت إذا قرأت قصيدة من هذه المطولات قد تمر على كثير من لهجات القبائل ولكنك لا تشعر بها؛ لأنها أصبحت بفضل هذه اللغة سائرة في شعر كندة وربيعة وقيس وتميم كسيرها في شعر قريش.

ومن آثار وحدة اللغة الأدبية هذه المترادفات الفائقة كثرة، وهذه الكلمات التي تنقلها من معنى إلى معنى أو معان، وهذه الألفاظ التي يحق لك أن تنطق بها في هيئات متعددة، وقد تكون هذه الأوزان الشعرية متفرقة في لهجات القبائل ووقع اختيار الفصحاء عليها وأخذوا ينسجون في النظم على مثالها، فلا عجب أن تظهر هذه المطولات في لهجة مماثلة وأوزان متشابهة، وأن تكون ألفاظها مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين.

•••

قال المؤلف في ص٣٣: «كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما. فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حمل عليها حملًا بعد الإسلام. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث.»

لتختلف اللغات، لتتباين اللهجات، ليكن البعد بين اللغات واللهجات مثل ما بين مطلع الشمس ومغربها، ليقم على اختلافها سبعون برهانًا، لتكن براهينها أجلى من الشمس في رونق الضحى. والذي لا يهتدي المؤلف إلى نفيه سبيلًا هو قيام لغة أدبية باسطة أشعتها في كل ناحية، ولا سيما بعد أن كانت قدومه القاسية إحدى الضاربات في أساس نظرية العزلة العربية.

أما ما يدعيه من أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما، فناشئ من قلة خبرته بحقيقة نوع يسمى المترادف، وآخر يسمى المشترك، وثالث يستعمل على وجهين أو وجوه، والألفاظ المترادفة والمشتركة وذات الوجوه المتعددة موجودة في الشعر الجاهلي، وهي من تأثير اختلاف القبائل ولغاتها؛ لأن «العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي»، و«لم يكن العرب كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين»، و«إذا كانوا أصحاب علم ودين وأصحاب ثروة وقوة وبأس وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها فما أخلقهم أن يكونوا» على اتصال فيما بينهم وأن تتربى على ألسنتهم لغة ينطق بها فصحاؤهم إذا ألقوا خطبة أو نظموا شعرًا.

•••

قال المؤلف في ص٣٣: «وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه وتفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينًا كثيرًا.» ثم قال: «ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا في ضبط الحركات سواء كانت حركات بنية أو حركات إعراب. لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب «الطير» في الآية: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أو رفعها، ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو كسرها في الآية: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ولا إلى اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن فتلك مسألة معضلة نعرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح لنا أن ندرس تاريخ القرآن.»

الكتاب عنوانه «في الشعر الجاهلي»، ولكن مؤلفه أولع كثيرًا بوثبات فجائية يقع بها على الطعن في القرآن، فيضاهي قول الذين تساقطوا على عدائه والصد عن سبيله من قبل. هل من أدب الدرس أن يسوق المعلم بنفسه مسألة لم يضطره البحث إلى ذكرها ثم يقول لطلابه: تلك مسألة معضلة نعرض لها من بعد! وهل يليق بذي علم يؤلف في الشعر الجاهلي أن يكب على كتب الدعاة إلى غير الإسلام وينبشها ليستخرج من شبهها ما يلصقه بأذهان هذه الناشئة قبل أن تشتد في الدفاع عن الحقائق قناتها.

إنك لتجد أولئك الدعاة يتوسلون باختلاف القراءات إلى قذف القرآن بالاختلاف أو التحريف، وكذلك فعل المؤلف حيث نقر في القراءات ولم يبال أن تكون شاذة، والتقط منها بعض آيات بدا له أن في اختلاف قراءتها ما يلبس حقائق الإسلام بالريبة، فأوردها في نسق ورماها بالإعضال، وما هي بمعضلة على أحد، ولكن المؤلف يعجب بالشبهة أكثر من الحجة، ويؤثر لهو الحديث على الحكمة، والمسألة بحثها العلماء وقرروها على وجه خالص من كل شائبة، وهو إذا عرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج لا يقول فيها إلا كما قال في الشعر الجاهلي. وأنتم تعلمون أنه لم يزد على أن نهب واضطرب، ثم افتخر وهجا.

جاء في السنة الصحيحة ما يثبت تعدد القراءات لعهد النبي ويشهد بأن تلك الوجوه كانت تتلقى بطريق الرواية عنه، ومن هذه الدلائل حديث الجامع الصحيح للإمام البخاري عن عمر بن الخطاب قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ، فقلت: كذبت فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال : «أرسله.» اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال : «كذلك أنزلت.» ثم قال: «اقرأ يا عمر.» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال : «كذلك أنزلت.» ثم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه.» وفي الجامع الصحيح للإمام البخاري أيضًا: «أن رسول الله قال: أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.»

فالحديث ناطق بتعدد القراءات وصريح في أن هذه القراءات المختلفة متلقاة من النبي وموقوفة على السماع. وليس في هذا ما يعثر في قانون المنطق، أو يضايق العقل في شبر من مجاله الفسيح، وهل يصعب على الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أن يفهم أن أحد أولئك الملائكة نزل على أحد هؤلاء الرسل بكتاب من تلك الكتب وبلغه بعض آياته على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات متعددة! واختلاف القراءات على نوعين:
  • أولهما: اختلاف القراءتين في اللفظ مع اتفاقهما في المعنى، ومن هذا النوع ما يرجع إلى اختلاف اللغات كقراءتي: اهْدِنَا الصِّرَاطَبالصاد والسِّرَاطَ بالسين، إلى ما يشاكل هذا من نحو الإظهار والإدغام والمد والقصر وتحقيق الهمز وتخفيفه. والحكمة في هذا تيسير تلاوته على ذوي لغات مختلفة: «فلو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلًا وناشئًا وكهلًا، اشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ثم لم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للبيان وقطع للعادة، فأراد الله عز وجل بلطفه ورحمته أن يجعل لهم متسعًا في اللغات ومتصرفًا في الحركات.»٥
    ومن هذا النوع ما لا تختلف فيه اللغات وإنما هما وجهان أو هي وجوه تجري في الفصيح من الكلام نحو: وما عملت أيديهم وما عملته أيديهم وهذا النوع وارد على سنة العرب من صرف عنايتها إلى المعاني ونظرها إلى الألفاظ نظر الوسائل فلا ترى بأسًا في إيراد اللفظ على وجهين أو وجوه ما دام المعنى الذي يقصد به بالخطاب باقيًا في نظمه ومأخوذًا من جميع أطرافه، وفي هذا توسعة على القارئ وعدم قصره على حرف، ولا سيما حيث كان محجورًا عليه أن يغير الكلمة عن القرآن ويحيد بها عن وجهها المسموع.٦
  • ثانيهما: اختلاف في اللفظ والمعنى في صحة المعنيين كليهما، وحكمة هذا أن تكون الآية بمنزلة آيتين وردتا لإفادة المعنيين جميعًا، كاختلاف قراءتي: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالألف وملك يوم الدين بغير ألف، فقد أفادت إحدى القراءتين أن الله مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتصرف فيه كيف شاء، وأفادت الأخرى أنه ملكه الذي يحكم فيه بما يريد.

أما اختلاف اللفظ والمعنى مع تضاد المعنيين فهذا لا أثر له في القرآن، قال أبو محمد بن قتيبة في مشكل القرآن: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير واختلاف تضاد، فاختلاف التضاد لا يجوز، ولست واجده بحمد الله في شيء من كتاب الله، واختلاف التغاير جائز. ثم ضرب لهذا النوع من الاختلاف أمثلة من الآيات، وأتى في بيان جوازه على ناحية أن كلًّا من المعنيين صحيح، وأن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، ولا جرم أن يكون هذا الاختلاف فنًّا من فنون الإيجاز الذي يسلكه القرآن في إرشاده وتعليمه.

والآيات التي سردها المؤلف، منها ما يرجع إلى اختلاف اللغات كآية: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ومنها ما يفيد معنيين كل منهما مستقيم كآية: مِّنْ أَنفُسِكُمْ ومنها ما جاء على وجهين كل منهما فصيحٌ عربيةً كآية: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أما آية: غُلِبَتِ الرُّومُ فنكتفي في الجواب عنها بأن قراءتها بالبناء للمعلوم شاذة، والشاذ ليس بقرآن، وما علينا إلا يكون له معنى مستقيم.

•••

قال المؤلف في ص٣٤: «إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش، فقرأته كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش، ومدت حيث لم تكن تمد، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت حيث لم تكن تسكن، وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل. فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام.»

كل نوع من اختلاف القراءات الثابتة يقبله العقل ويسيغه النقل، وقد أريناك أن ما لا يقبله العقل وهو اختلاف القراءتين المؤدي إلى تنافي المعنيين، غير موجود في القرآن، ولا يستطيع المؤلف وشركاؤه أن يظفروا له بمثل: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وأما ما يقوله من أن لهذه اللهجات أثرها الطبيعي اللازم في أوزان الشعر وتقاطيعه وقوافيه فمقتضى إتقان البحث أن يضرب مُثُلًا من هذه اللهجات وترى طلابه بالجامعة كيف لا تجد في هذه الأوزان والقوافي ما يصلح لأن يكون مظهرًا لآثارها الطبيعية.

•••

قال المؤلف في ص٣٤: «ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها على ما كان بينها من تباين اللغات واختلاف اللهجات.»

لا يستطيع المؤلف أن يفهم كيف استقامت هذه الأوزان لقبائل العرب كلها مع تباين لغاتهم واختلاف لهجاتهم! وهذه الشبهة من فصيلة شبهة مرغليوث التي أوردها في مقالة إنكار الشعر الجاهلي بقوله: «إن أول من وضع هذه الأوزان الشعرية وادعى أنه انتزعها من أشعار القبائل العربية الخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٠، وقد قام أحد معاصريه وألف كتابًا أبطل به عمل الخليل.»٧ وقد تعرض «أدور براونلش» في رده على مرغليوث لهذه الشبهة فقال: «وما ذكره مرغليوث من أن بعضهم نقض على الخليل صنعه في أوزان الشعر، فإنا بمراجعة كتاب الإرشاد نجد الذي ألف في النقض على الخليل لم يجد من العلماء قبولًا أو في الأقل لم يجد قبولًا من ياقوت وابن درستويه اللذين عدا «برزخا» كاذبًا وبهذا سقطت شبهة مرغليوث كأن لم تكن.»

أما شبهة المؤلف التي هي أخت شبهة مرغليوث أو ابنة عمها فتزاح من ساحة هذا البحث بأن الأوزان التي دونها الخليل ليست بالعدد القليل حتى يستبعد أن تكون أشعار هذه القبائل دائرة عليها، فالخليل جعل أصولها خمسة عشر وزنًا، وهي الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والخفيف والمنسرح والسريع والمضارع والمقتضب والمجتث والمتقارب. وزاد عليها الأخفش وزنًا آخر يسمونه المتدارك أو الخبب.

فالمجموع ستة عشر وزنًا، وإذا لاحظت ما يذكرونه على أنه فروع لهذه الأصول مما يسمونه مجزوءًا ومشطورًا ومنهوكًا، ثم ما يدخلها من علل وزحافات جائزة أو مستحسنة، ارتفع حسابها إلى ما لا يضيق عن أي لغة أو لهجة عربية.

•••

قال المؤلف في ص٣٥: «وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعرًا ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر وهو مقيد بما تعلم من القيود، أن يستقيم لها، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي، أي كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟»

إن كان المؤلف يكتب لأولي الألباب فأولو الألباب لا ينزلون إلى فهم ما يقوله إلا أن يأتي إلى الفوارق بين لهجات العرب، ويريهم كيف يأبى بعض هذه اللهجات أن يفرغ في الأوزان التي استقرأها الخليل. والفوارق التي ذكرها في القراءات مما تحتمله هذه الأوزان جميعًا، فإن أراد فوارق غيرها واعتذر بأنه لا يعرفها، فخير له أن يكتم هذا البحث حتى يقف عليها وتكون ملموسة له أو كالملموسة ثم يتحدث بها على بينة ويجد يومئذ من أولي الأبصار سامعًا وظهيرًا.

•••

أورد المؤلف سؤالًا ملخصه: إن اللهجات استمرت قائمة بعد القرآن، وفي هذا العهد كانت القبائل تتعاطى الشعر، وإذا استقامت لهم أوزانه مع اختلاف اللهجات بعد الإسلام فما الذي يمنع من أن تستقيم لهم في العصر الجاهلي؟ ثم قال كالمجيب عن هذا السؤال في ص٣٥: «ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف. ولكني أظن أنك تنسى شيئًا يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها، وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة، أي أن الإسلام قد فرض على العرب جميعًا لغة عامة واحدة وهي لغة قريش فليس غريبًا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في أدبها بوجه عام. لم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم أو قيس ولهجتها.»

قال المؤلف فيما سلف:٨ «قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة.» وقال هنا: «إن الإسلام قد فرض على العرب جميعًا لغة واحدة هي لغة قريش.» والخبير بحقائق الإسلام يعرف أن القرآن أو الإسلام لم يفرض على العرب لغة واحدة، واختلاف القراءات القائم على اختلاف اللهجات شاهد صدق على أن الإسلام لم يكلف القبائل بترك لهجاتها ولم يحملها على لغة «النبي وعشيرته من قريش».

والواقع أن الوحدة العربية التي استحكمت حلقاتها بهداية الإسلام، وكون أكثر القائمين بالدعوة إلى هذه الهداية والممثلين لسياستها ينطقون باللغة التي نزل بها القرآن، وكون القرآن أصبح متلوًّا بكل لسان، هذه الأسباب الثلاثة ذهبت بجانب عظيم من اختلاف اللهجات وأصبحت اللغة الجارية على ألسنة العرب تقارب لهجة القرآن، فإن أراد المؤلف بفرض القرآن وفرض الإسلام هذا المعنى، وأغضينا عن هذا التعبير الذي يوهم طلاب الجامعة أن الإسلام يفرض على الناس لغة واحدة، كان معنى جوابه أنه وُجِدَ سبب طبيعي لتوحيد تلك اللهجات أو تقاربها وهو واقعة الإسلام.

ونحن نعرف ما للإسلام من تأثير في تقارب اللهجات، وهذا لا يمنع من أن يكون سبب آخر طبيعي قد وُجِدَ قبل ظهور الإسلام فساق ذوي العقول المنتجة من هذه القبائل إلى أن يشتركوا في لغة يصوغون فيها الأشعار والخطب مسجعة أو مرسلة، وقد ذكرناك بسبب يصح أن يكون السائق إلى هذه اللغة الأدبية، وهو فصاحة لسان قريش، وتلك المجامع التي كانت تنعقد حوالي مكة وتؤمها القبائل للتفاخر بالأحساب أو التنافس في حلبة البيان.

•••

ضرب المؤلف لذلك الجواب ثلاثة مُثُل:
  • أولها: أن الدوريين كانت لهم لهجة وأوزان دورية، ولما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة عدلوا عن لهجتهم وأوزانهم إلى اصطناع اللهجة والأوزان اليونانية والنثر الأتيكي.
  • ثانيها: أن لكل إقليم في فرنسا لغة ذات قوام خاص، ومع ذلك فأهل الإقليم إذا أرادوا أن يظهروا آثارًا أدبية يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية.
  • ثالثها: أن في مصر لهجات وأوزانًا مختلفة، ومع هذا فإن من ينظم الشعر الأدبي ويكتب النثر الأدبي يعدل عن لهجته الإقليمية إلى هذه اللغة لغة قريش ولهجتها. وقد أخذت المؤلف عند ضرب هذا المثل نشوة فاتح البلاد بعد حروب عنيفة فافتتحه بقوله، في ص٣٧: «وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب.»

لندع البحث في هذه الجملة من جهة صلتها بنفس كاتبها ودلالتها على ازدهائه بما يسميه رأيًا له وإن كان مطروحًا في كل سبيل، ولا يحتاج الأحداث في فهمه إلى تلقين، وإنما نعرض لبحثها من حيث صلتها بالمثل الذي ألقاها في صدره، فإن إهمال نقدها من هذا الوجه «قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من» الناقدين للحديث الذي يتغنى صاحبه بمديحه قبل أن يصل إلى آذان قرائه.

هل من أحد يقرأ أو يستمع إلى من يقرأ، لا يدري أن اللهجة التي يقال فيها الشعر وتؤلف فيها الكتب غير اللهجة التي يتحاور بها الناس في شؤونهم الخاصة أو العامة! ومن ذا الذي يقرأ أو يسمع مقالًا أو إعلانًا في هذه الصحف السيارة، أو قصيدة لأحد أدباء العصر فلا يفرق بين لهجتها واللهجة التي يتحدث بها السوقة أو ينظم بها بعض الأميين ما يسمونه «زجلًا».

فإن قال المؤلف: إنهم يدركون هذا الفرق ولكنهم لا يستطيعون كما أستطيع ضربه مثلًا لحال العربية الفصحى مع بقية اللهجات بعد ظهور الإسلام، قلنا: إن ربط حال اللغة الفصحى في هذا العصر بحالها يوم ساد الإسلام، قد يحفل به الأطفال الذين لم يأخذوا في أذهانهم غير البديهيات، أما الذين يدرسون الأدب العربي فلا أحسبهم يحفلون به فضلًا عن أن يدهشوا له، فقد جالوا في نتائج عقول راقية، وألفوا من الآراء المستنبطة بحكمة وروية ما لا يُبقي لأمثال هذا الحديث في أعينهم قيمة ولا خطرًا.

ولعل المؤلف رأى بعض طلابه في الجامعة العتيقة يقابلون ما كان من نوع هذا الحديث بالتصدية، فتخيل أن كل من يسمع حديثًا كهذا تقع به الدهشة على وجه الأرض أنَّى كان قائمًا، ولم يستطع أن يكتم هذا الخيال فقال: «أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب!»

وهذا الحديث المدهش — على سذاجته وعدم توقف استنباطه على قريحة جيدة — قد وقع على أُذن المؤلف ما يشابهه يوم تلي عليه مقال الدكتور مرغليوث المنشور في مجلة الجمعية الآسيوية حيث يقول: «نسلم أن سطوة الإسلام أرغمت قبائل جزيرة العرب على توحيد لغتهم بتقديمه مثالًا أدبيًّا لا يقبل الجدل في جودته وعلو شأنه وهو القرآن، ولهذا نظائر فإن فتوحات رومة عملت بإيطاليا وبلاد الغول وأسبانيا مثل ذلك، ولكن من الصعب قبول فكرة أن يكون قبل هذا العامل الحيوي لغة عامة لقبائل الجزيرة تختلف عن لغات المخطوطات وتشمل جميع الجزيرة.»

•••

قال المؤلف في ص٣٨: «فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن فنتوسط ونقول: إنها سادت قبيل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية، ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكن تتجاوز الحجاز.»

يعترف المؤلف بأن لسان قريش أحرز سيادة لعهد الجاهلية ثم يزعم أن هذه السيادة لم تمتد في عصر الجاهلية إلا قليلًا عبَّر عنه بقبيل الإسلام، وقد شعر بأن المقدر لطور من أطوار الأمم يحتاج إلى بيان بدئه وأصل نشأته، فذكر أن مبدأ تلك السيادة الحين الذي عظم فيه شأن قريش وأخذت مكة تستحيل فيه إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية.

متى أخذت قريش في نهضة عربية ترمي إلى مقاومة السياسة الأجنبية؟

حدثنا التاريخ أن أحد ملوك الحبشة باليمن خرج بجيش قبل البعثة النبوية بنحو أربعين سنة وأقبل يشق البلاد العربية حتى نزل بالحرم ليهدم البيت الحرام، ولولا حماية الله لأصبحت الكعبة خاوية على عروشها.

حدثنا التاريخ أن حربًا وقعت بين الفرس وبعض القبائل العربية في صدر البعثة النبوية وهي المسماة بيوم ذي قار، ولم نتلمح من خلال هذه الواقعة أو من ورائها صلة بين تلك القبائل وهؤلاء القائمين بنهضة سياسية عربية.

فإن كان المؤلف لا يصدق بخبر هذا اليوم، فليأتنا بحديث أوثق منه سندًا يشهد بأن قريشًا قامت قبيل الإسلام بحركة ترمي إلى وحدة عربية سياسية.

لا نطالبه بإثبات أن قريشًا دخلت أو اشتركت في حرب مع أمة أجنبية، ولا نطالبه بإثبات أنها كانت تأتي إلى مثل «أولئك الذين قاموا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة» وترسل منهم وفودًا يطوفون في البلاد ويعقدون بين هذه القبائل وحدة سياسية عربية. بل نطالبه بأيسر من هذا كله، وهو أن هذه القبائل كانت تحج البيت الحرام في كل عام ويسابق شعراؤها وخطباؤها في حلبة البيان، فهل يستطيع أن يأتينا ببيت من قصيدة أو فقرة من خطبة قام بها قرشي أو غير قرشي يدعو بها إلى «وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية»؟

ولعل المؤلف لا يجد في تاريخ العرب قبل الإسلام سوى أن لمكة حرمة وللغة قريش فضل فصاحة، فمن اعترف للسان قريش بسيادة في الجاهلية وأراد أن يضع مبدأ لهذه السيادة، فليبحث عن منشأ تلك الحرمة، ثم ليبحث عن العصر الذي أخذت فيه لغة قريش زخرفها، فإن هو اهتدى إلى ذينك الأمرين سبيلًا، أمكنه تقدير زمن تلك السيادة تقديرًا يتلقاه جهابذة التاريخ بارتياح.

•••

قال المؤلف في ص٣٨: «ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلى تفصيل وتحقيق أوسع وأشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلى مسألة أخرى ليست أقل منها خطرًا، وإن كان أنصار القديم سيجدون شيئًا من العسر والمشقة؛ لأنهم لم يتعودوا هذه الريبة في البحث العلمي، وهي أنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قد القرآن والحديث كما يقد الثوب على قدر لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولًا وسعة، إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازنة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظًّا من السذاجة لم يتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازنة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا أليس يمكن أن لا تكون هذه الدقة في الموازنة نتيجة من نتائج المصادفة، وإنما هي شيء تكلف وطلب وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي.»

كانت سوق الأدب في البلاد العربية قائمة، وبضاعة الشعر نافقة. قرائح ترسل المعاني نظمًا، وقلوب سرعان ما تحيط به حفظًا. ويساعد القرائح على ما تصدر من الشعر، والقلوب على ما تعي من بدائعه أن ليس هناك علوم كثيرة وفنون شتى، تتجاذب القرائح ويذهب كل منها بنصيب من الفكر، أو يحوز ناحية من القلب. فعلى الباحث في تاريخ الأدب أن يدرس حال العرب كأنه يعيش بين ظهرانيهم، ولا يتسرع إلى إنكار أن تصدر ربيعة أو قيس أو تميم من الشعر في عصر أكثر مما تصدر الشام أو مصر أو العراق في مثله.

على أن إقامة الشاهد في تفسير القرآن غير موقوف على الشعر الجاهلي بل يتناوله العلماء من شعر من نشأوا في الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل وعمر بن أبي ربيعة. ومن التفت في تاريخ الأدب يمينًا وشمالًا ونظر إلى كثرة من نبت في البلاد العربية من الشعراء جاهلية وإسلامًا، عجب لفقدهم الشاهد لكلمة غريبة في القرآن أو وجه من وجوه إعرابه أشد من عجبه لوقوع يدهم عليه كلما نقبوا عنه، فمن النظر الخاسئ أن نحكم على هذه الشواهد بالاصطناع وندخل إلى الحكم عليها من باب موازنتها للمستشهد عليه بزعم أن هذه الموازنة منافية لطبيعة الأشياء.

فإذا كان القرآن واردًا بلسان عربي مبين، وكانت المواضع التي يحتاج في بيانها إلى الشاهد معدودة، وكان الشعر العربي في ثروة طائلة، أفيصدق أحد أن سوق بيت يطابق المعنى المستشهد عليه مناف لطبيعة الأشياء!

والصواب أن نذهب في نقد هذه الشواهد من نواح غير هذه الناحية، كجهة النظر في حال الراوي، أو جهة الذوق الذي تقلب في فنون الشعر وعرف طرز كل عصر ونزعة كل شاعر.

ونحن لا ننكر أن يكون فيما يساق للاستشهاد على تفسير القرآن شعر مختلق ينبه عليه أهل الدراية بفن الأدب من قبل، أو ينقده مؤرخ أو أديب مطبوع من أهل هذا العصر، والذي لا يقبله الراسخون في العلم أن يطرح هذا الشعر الذي يدخل في تفسير آية أو حديث لمجرد الدقة في الموازنة بينه وبين الآية أو الحديث.

يعلم الذين يدرسون التفسير والحديث بحق أن ما يستشهد به في هذين العلمين ليس بالكثير الذي لو ثبت اصطناعه صحت دعوى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى الجاهلية ليس منهم في شيء، فهذا تفسير الكشاف الذي يعد من أكثر التفاسير حملًا للشواهد اللغوية إنما يحتوي نحو ألف بيت، وفي هذه الشواهد كثير من أشعار المخضرمين كحسان ولبيد والنابغة الجعدي، والإسلاميين كرؤبة والفرزدق وجرير والعجاج وذي الرمة وأبي تمام وأبي الطيب والمعري وغيرهم.

ثم إن كثيرًا من الشواهد المعزوة للجاهلية تجدها في هذه المطولات التي يستحي المؤلف أن يقول إنها اصطنعت لأجل أن ينتزع منها شاهد على القرآن أو الحديث، وما لم يكن من هذه المطولات تجده واردًا في قصائد أخرى يصعب ادعاء أن تكون اختلقت لأجل ما تحتوي عليه من البيت المحتاج إليه في الاستشهاد.

فلو بحث المؤلف هذه الشواهد بروية لوجد الشعر الجاهلي الذي يحتمل أن يكون مصطنعًا لأجل الاستشهاد على القرآن مقدارًا لو ثبت وضعه لم يكن له أثر في الدلالة على أن الشعر الجاهلي مزور مصنوع.

•••

خرج المؤلف بعد هذا إلى الحديث عن ابن عباس — رضي الله عنه — وأتى على قصة نافع بن الأزرق، ووسمها بميسم الوضع، ولم يستند في هذا الحكم إلا إلى أن تصديقها من السذاجة وأن أهل الفقه لا يشكون في وضعها. ومرمى كلامه إلى إنكار أن يبلغ ابن عباس في حفظ الشعر منزلة تخوله أن يجيب عن نحو مائتي مسألة في التفسير ويسوق على كل مسألة بيتًا من الشعر، ثم ردد الغرض الداعي إلى وضعها على وجوه، وهي إثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو إثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين، أو إفادة معاني طائفة من ألفاظ القرآن في صورة قصة ثم خفف من غلوائه شيئًا وقال في ص٤٠: «ولعل لهذه القصة أصلًا يسيرًا جدًّا، لعل نافعًا سأل ابن عباس عن مسائل قليلة فزاد فيها هذا العالم ومدها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس.»

ليس بالبعيد عن ابن عباس أو غيره ممن يصرف ذهنه إلى رواية الشعر أن يحفظ منه ما يحتوي نحو مائتي بيت تصلح للاستشهاد على تفسير طائفة من ألفاظ القرآن، وليس بالغريب أن يكون ابن عباس أو ذو ألمعية كابن عباس قد بلغ في سرعة الخاطر وجودة الذاكرة أن يحضره البيت الصالح للاستشهاد عندما تطرح إليه المسألة، فقد رأينا من بعض أساتيذنا ما يجعل هذه القصة حادثًا غير خارق لسنة الله في الخليقة، كنا نرى أستاذنا أبا حاجب يحفظ من الشعر الفصيح ما يجعله قادرًا على أن يضرب منه المثل للمعاني والوقائع التي تخطر في الحال، وتكاد لا تسأله عن معنى لفظ غريب أو وجه من الإعراب إلا أتاك بالشاهد على البداهة أو بعد تأمل قريب، وقد يقول قائل: إن هذا الشأن أيسر من شأن ابن عباس؛ لأن ذلك الأستاذ قد حفظ تلك الشواهد من مثل التسهيل والمغني وتاج العروس وغيرها من الكتب التي تربط الشواهد بمسائلها. أما قصة ابن عباس فيظهر منها أنه يتناول الشاهد من بين ذلك الشعر الكثير ويضعه على المسألة مثلما يصنع المجتهدون في علم اللغة، وذلك يحتاج إلى بحث وأناة، فالجواب عن نحو مائتي مسألة بمثل تلك السرعة فيه غرابة تلفت النظر إلى القصة أو تقدح الريبة في صحتها.

هذا البحث مقبول ولكني أريد أن أقول: إن هذه الغرابة وحدها لا تكفي في الحكم على القصة بالوضع، فمن المحتمل أن يكون ابن عباس ممن يقضي جانبًا من وقته في التماس الشواهد على تفسير الغريب من القرآن حيث رأى الناس مقبلة أو محتاجة إلى هذا النوع من العلم، فيكون جوابه عن مسائل ابن الأزرق نتيجة بحث سابق وتأمل غير قليل، فلا غرابة أن يلقم ابن الأزرق الجواب عقب كل مسألة يطرحها عليه.

وإذا كانت الغرابة لا تكفي للقطع باصطناع هذه القصة فلنذهب في البحث عنها من جهة الرواية لعلنا نجد في البحث من هذه الجهة هدى.

روى ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء نبذة منها بسند يتصل بمحمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران. وميمون بن مهران ثقة، ولو اطردت القصة مارة على رجال من مثله إلى ابن الأنباري لم نجد مانعًا من دخولها في تاريخ الأدب الصحيح، ولكن محمد بن زياد اليشكري مطعون في أمانته، قال ابن معين: كان ببغداد قوم كذابون يضعون الحديث منهم محمد بن زياد، وقال أحمد بن حنبل بعد أن وصفه بوضع الحديث: ما كان أجرأه! يقول حدثنا ميمون بن مهران في كل شيء.

وروى الطبراني في معجمه الكبير قطعة منها على طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم، والضحاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس، وهو في نفسه موثوق به عند قوم مضعف عند آخرين، وأما جويبر فمعدود من الضعفاء، سئل عنه علي بن المديني فضعفه جدًّا وقال: جويبر أكثرَ على الضحاك، روى عنه أشياء مناكير.

وروى هذه المسائل الجلال السيوطي في كتاب الإتقان بسند يبتدئ بشيخه ابن هبة الله محمد بن علي الصالحي، وينتهي إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي هذا السند رجال يوثق بروايتهم ولكنك تجد من بينهم آخرين نقدهم علماء الحديث وطرحوهم إلى طائفة وضاع الأحاديث، كمحمد بن أسعد العراقي المعروف بابن الحكم، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي.

ومتى لم نجد في طريق رواية القصة ما يثبت على النقد أصبحت القصة من قبيل ما يروى لفائدته الأدبية، وضعفت عن أن تستقل بالدلالة على معنى تاريخي لا شبهة فيه.

•••

ادعى المؤلف أن التكلف والانتحال للأغراض التعليمية الصرفة كان شائعًا معروفًا في العصر العباسي، وقال: لا أطيل ولا أتعمق في إثبات هذا، إنما أحيلك إلى كتاب الأمالي لأبي علي القالي وإلى ما يشبهه من الكتب، ثم قال في ص٤١: «سترى مثلًا بناتًا٩ سبعًا اجتمعن وتواصفن أفراس آبائهن فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلامًا عربيًّا ومسجوعًا يأخذه أهل السذاجة على أنه قد قيل حقًّا، في حين أنه لم يقل، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل وما يقال فيها، أو عالم يريد أن يتفيهق ويظهر كثرة ما وعى من العلم. وقل مثل ذلك في سبع١٠ بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن، فأخذن يقلن كلامًا غريبًا مسجوعًا في وصف الرجولة والفتوة والتعريض والتلميح إلى ما تحب المرأة من الرجل.»

لا يعنينا أن تبقى قصتا البنات السبع في هذا الأدب القديم، أو تطرحا من حسابه وتذهبا كما ذهب أولئك البنات عينًا وأثرًا، والذي يعنينا نقده هنا أن المؤلف يكاد يذهب إلى أن ما يذكر في تاريخ الأدب قسمان: ما هو ثابت قطعًا، وما هو مكذوب لا محالة، والمعروف أن من بين هذين القسمين قسمًا يقف فيه المؤرخ المحقق فلا يستطيع أن يقول عليه: إنه موثوق بصحته، ولا يستطيع أن يصفه بالكذب الذي لا مرية فيه، وشأنه فيما يقضي عليه بالكذب قضاء فاصلًا أن يذكر الطريق الذي وصل منه إلى معرفة اصطناعه، والمؤلف حكم على حديث البنات ولم يأت بدليل أو أمارة على اختلاقه ما عدا وصفه له بأنه كلام غريب مسجوع، إذًا لم ينكره المؤلف إلا لأنه غريب مسجوع، واشتمال الكلام على الغرابة والسجع غير كاف في الحكم عليه بالاختلاق.

أما الغرابة فإن المعزو إليهن هذا الحديث عرب، والألفاظ من نوع اللغة المستعملة في محاوراتهم ومسامراتهم، وقد تكون غريبة بالنسبة إلى الناشئ في غير عهدهم حيث لا تلاقيه هذه الكلمات في كلام فصحائهم إلا قليلًا.

وأما السجع فنحن نعلم أنه أقرب منالًا وأيسر من صناعة الشعر، بل هو أدنى مأخذًا من الرجز؟ والتواتر شاهد بأن في الناس من يقول الشعر أو الرجز على البداهة، ومتى صح ارتجال الكلام الموزون لم يكن في الحديث الجاري على أسلوب السجع غرابة تدعو إلى الحكم عليه بالاصطناع، ومن المحتمل أن يكون الفتيات كالفتيان يتدربن لذلك العهد على طريقة السجع حتى ينقاد لهن ويجري على ألسنتهن كما يجري عليها المرسل من القول، ونحن لا نذهب إلى أن مثل هذه القصة داخل في التاريخ الموثوق بصحته؛ لأن طريق روايتها لا يكفي في الدلالة على أنها وقعت حقًّا، ونرى مع هذا أن الباحث الحكيم وهو الذي يفصل الحكم على قدر البحث لا يقول على حديث: «إنه لم يقل» إلا أن يأتي في بحثه بما يستدعي هذا الحكم القاطع، وقد عرفتم أن المؤلف إنما وضع حكمه على غرابة الكلام وسجعه وهما جائزان على العربي القح، فلا تدخل هذه القصة وأمثالها في قبيل ما يحكم عليه بأنه كذب لا محالة، ولا تتعدى في نظر المؤرخ المحقق موقع الظن الذي يسوغ له تدوينها لينتفع بما فيها من أدب وليتألف من مجموع أخبارها ما يكون كالمرآة ينظر فيه كيف كان حال المرأة في الجاهلية.

•••

قال المؤلف في ص٤١: «ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل، أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا ديانتهم ولا حضارتهم بل لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعًا وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام.»

ختم المؤلف الكتاب الأول بهذه الفقرات، وكأنه آنس في نفسه الفوز على «أنصار القديم» فدارت في رأسه نشوة وانطلق يمزح معك بقوله: «ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر.» يقول هذا وهو لا يشعر بما تصنع الأقلام فيما تركه خلفه من آراء منهوبة ومعان لا توجد إلا في خياله.

يقول المؤلف: إن من الحق علينا أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا ديانتهم ولا حضارتهم بل لا يمثل لغتهم.

ادعى المؤلف فيما سلف أن الجاهليين كانوا في علم وذكاء وقوة عقل فوق ما يمثله هذا الشعر الجاهلي، ولم يفرغ على هذه الدعوى دليلًا غير الآيات الدالة على أنهم كانوا يجادلون النبي ويحاورونه في الدين وفيما يتصل بالدين من تلك المسائل المعضلة التي ينفق فيها فلاسفة أمثال المؤلف حياتهم دون أن يوفقوا إلى حلها. وقد جاذبناه أطراف المناقشة هنالك، وأريناك رأي العين أن هذا الشعر الجاهلي أنفس بضاعة تفاخر بها أمة ذات ذكاء فطري وتفكير لا يستمد من دراسة أو تعليم.

وقد تساءل قبل المؤلف مرغليوث وجرجي زيدان عن هذا الشعر الجاهلي لماذا لم يمثل ديانة العرب؟ أما مرغليوث فقد اتخذ قلة اشتمال الشعر الجاهلي على الآثار الدينية كما اتخذه المؤلف شاهدًا على أن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء، وأما جرجي زيدان فلكونه أصبر على البحث من المؤلف وأعرف بحال الشرق من مرغليوث أجاب عن هذا السؤال بما قصصناه عليكم، وخلاصته أن حال العرب لذلك العهد ليست كحال من يُعنَى في شعره بكثرة التعلق بالمعاني الدينية، وأن المسلمين لم يكونوا ممن يرغب في نقل شعر يحتوي على آثار ديانات يرونها غير مستقيمة، وليس بمستنكر عليهم أن يحيدوا بروايتهم عن بيت أو أبيات يظهر فيها أثر نحلة أو ديانة قاموا بالدعوة إلى شرع يريد الظهور عليها، وعلى الرغم من عدم احتفالهم برواية هذا النوع من الشعر فقد بقي له أثر في بعض الكتب الأدبية أو التاريخية.

يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل حضارتهم، ولم يبحث في هذا الموضع ولا فيما سلف عن هذه الحضارة حتى يظهر أمرها ويوازن بينها وبين هذا الشعر ليعلم: هل هو ملائم لتلك الحضارة أم غير ملائم لها، ولم يكن منه فيما سبق سوى أنه كان يدخل هذا المعنى في أثناء حديثه عن قوة عقليتهم واستنارتهم وعلمهم بالسياسة، كقوله: كانوا أصحاب عيش فيه لين ونعمة، وقوله: وإذا كانوا أصحاب علم ودين وسياسة فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية، وكذلك كان يدخل في أثناء الحديث اسم الثروة دون أن يدل على أسبابها أو يأتي على شيء من آثارها.

والصواب أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر، وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول: إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء.

فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى، ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر وأوفى وسائل من حضارة العرب لعهد ظهور الإسلام.

يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل لغتهم، وهو إنما يبني هذا القول على نظرية العزلة العربية ونظرية جهلهم وغباوتهم وتوحشهم، ولو نظر إلى أن في الأمة العربية علمًا وذكاء، ونظر إلى أنها كانت ترتبط بصلة التعارف وتعقد مجامع تشهدها القبائل على اختلاف أوطانها، لسهل عليه أن يفهم كيف تكونت على طول الأيام لغة أدبية تتناولها ألسنة البلغاء حين تنطلق في شعر أو خطابة.

فالشعر الجاهلي يمثل اللهجة التي يتحراها الشعراء لتضرب قصائدهم في اليمين واليسار، وتسير مسير المثل لا تقف في واد، ولا يختص بها قوم دون آخرين. وقد يظهر على لسان الشعر أثر من لهجته الخاصة، وربما غيره الرواة إلى اللهجة الأدبية من غير أن يخسر وزن القصيدة حرفًا.

يقول المؤلف: ولكننا محتاجون بعد أن تبينت هذه النظرية أن نتبين الأسباب التي حملت على وضع الشعر، وهذا صريح في أنه انتهى من تقرير النظرية، وأنه نثل كنانته وكنانة مرغليوث في الاستشهاد عليها، وإنما يريد بعد هذا أن يبحث في الأسباب الحاملة على الانتحال، ونحن محتاجون بعد أن سقطت هذه النظرية أن نناقشه في بحث هذه الأسباب؛ لأنه رمى فيه عن القوس التي رمى عنها في هذه النظرية البائسة، وليس من اللائق أن ندعه يضرب في غير مفصل ويمشي في غير طريق، وإنه لتعز علينا أن تضع هذه الطائفة القليلة من المستنيرين أقدامها على أثره، فتستبدل بالصالح من مألوفها جديدًا لا خير فيه.

١  تحدث بهذا في ص١٣٤–١٣٧.
٢  الصاحبي ص٢٢.
٣  ج١٠ مادة «شعر».
٤  ص٣٦.
٥  مشكل القرآن لابن قتيبة.
٦  من أثر تعدد القراءات حفظ كثير من طرق البيان وضروب اللهجات وإن لم يكن القصد من القرآن تعليم اللغة وتقرير أساليب خطابها وفنون بيانها.
٧  الإرشاد (معجم الأدباء) ج٢، ص٣٦٦.
٨  ص٣٣.
٩  كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي الأمالي لأبي علي القالي ج١ ص١٨٧: «اجتمع خمس جوار من العرب فقلن هلممن نصف خيل آبائنا …»
١٠  كذا في كتاب الشعر الجاهلي، وفي أمالي القالي ج١ ص١٦: «قالت عجوز من العرب لثلاث بنات لها صفن ما تحببن من الأزواج …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤