الفصل الثاني

الواقعة الأولى

(ولادة – جواريها – مهجة)
ولادة :
أُسامِرُ في ليلي سَنا طلعةِ البدرِ
لبُعدكَ عن عيني وإن كنتَ في صدري
هواك له شغل بقلبيَ شاغلٌ
به ضقتُ ذرعًا وهْوَ — إن حقَّقوا — عذري
ولا أستطيبُ الشهدَ مِن بعد ما قضى
علي بما مرَّ البعادُ من الصبر
وما خامرتْني الراحُ من كفِّ شادِنٍ
يُدير بعينيه كئوسًا مِن الخمر
ولكنَّني نَشْوى بذكراكَ والهَوَى
أُعانِي به سُكْرًا طويلًا على سُكْرِ
فيا مَن غرامي لا يزالُ غريمَه
ويهفو به كفُّ الصبابة مِن ذِكري
ترقَّبْ إذا جَنَّ الظلامُ زيارتي
فإني رأيتُ الليلَ أكتَمَ للسِّرِّ
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تَلُحْ
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسري
وزُرْني ولا تخشَ الأَسِنَّة شُرَّعًا
فمن رام بيضًا لا يخاف من السُّمْرِ
كم ذا أنادي من ظمأ الفُؤاد وجوابي الصدى، وأعشو في ليل الوجد ولا أجد على النار هدى، وفؤادي الكليم بمُوسى اليأسِ والجَوَى، يشبُّ نارَ الخليل به نمرودُ الهوان والهوى، ونفحات نسيم الأسحار إذا سرت في الروض المعطار، تُحيل بردها بالتعصد أنفاسي، وإن كانتْ ذكية وتضيع بإضاعة طيبها حواسي، وإن اهتدى بها البرية، يا ويح العاشق الهائم في أودية الغرام، كم ذا يعاني في ليل أمانيه من لواعج الشوق والهيام.
لحاظكم تجرحنا في الحشا
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرحٌ بجرحٍ فاجعلوا ذَا بِذَا
فما الذي أوجبَ جرح الصدود
فاشرحْنَ شوقي بالألحان، وأثِرْنَ لواعجَ الأشجان.
الجواري (عروض كل أنوطما) :

دور

طال ليلي وغرامي لا يُطاق
وفؤادي من أُوَاري باحتراق
وشجوني سجعت وُرْق اللِّوى
من معانيها بما العشاق شاق
ولادة : أوَّاه من العشق وعناه.
الجواري :

دور

قد كفَى يا ربةَ الحُسن العجيب
ما تعانين من الوجْد المُذيب
سوف يقضي الله بالفتْح القريب
بتلاقٍ لك في الآفاق فاق

الواقعة الثانية

(الحاضرات – الوزير أبو عامر)
أبو عامر (عروض، شجني يفوق) :

دور

وأنا كَلِيمُك والذَّبِيح
يا ربة الوجه المَلِيح
مُنِّي عليَّ بما به
قلبي المعذَّب يستريح
الجواري (منه) :

دور

كمْ ذا تُروِّع سِربَنا
عمدًا وتُظهِر كَربَنا
دعنا وباعِدْ قُربَنا
فسواك ذلك يستبيح
أبو عامر : إلامَ هذا النفار والدلال، وإظهار الجَفا والمَلال، وأُنس جمالك أنيق، وطبعك الكريم رقيق، وحضرتك مطمح نظر الأدباء، وناديك يجاب فيه نداء الشعراء، وقد قلتِ يا بديعة الجمال، ما أعربَ — والبيت الحرام — عن السحر الحلال.
لحاظكم تجرحنا في الحشا
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
فما الذي أوجب جرح الصدود

فاحكمي بفتواك الصحيحة، وداوي بلُطفِ كلامك كبدي الجريحة، واستعملي الرفق بالعشاق، وقيِّديني رقيقَ حبك على الإطلاق.

ولادة : أيها الشيخ، إن القلوب بِيَدِ الله يُقلِّبها كيف يشاء، وهو — سبحانه وتعالى — مالك الأشياء، ولم يُلقَ لك في فؤادي من المحبة ما يبيحك من دينار خدي أقلَّ حبة، فلا تطلب ما لستَ له بواجد، ولا تضرب لنيل الجواهر في حديد بارد، وتلك الفتوى نفثَ بها في رُوعِي رُوحُ الغرام، لمَن جرح فؤادي من حركات جَفنه حدُّ الحسام.
قد جرح القلبَ غزالٌ جَنَى
طرفي بخدَّيْه جنيُّ الوُرود
وما اكتفى بالحدِّ من جفنه
حتى بصدِّي جازَ تلك الحدود
فلا تُطِل الأمل وأنت قصير الباع، بأن تَشُمَّ طيبَ وَصْلي وإن ضاع، ودعني أسامر ذِكرَ سواك، وحوِّل وجهك عني لئلا يقع ما لا يرضيك في قفاك.
أبو عامر : يا ويح محب غير محبوب، حسناتُه تُعدُّ من الذنوب، ماذا جنيتُ أيتها الشمس المنيرة؟ وماذا الذي جررتُه في هواك من الجريرة؟ مع أني لم أتعرف بطيب النشر من ذكر اسمك، ولم أضف إلى إدراك هذه الوسامة حقيقة وَسْمك، فهل لك أن تعرفيني؟ وإن متُّ بعد ذلك فلا تقبليني.
ولادة : ويحَك ما أنت وهذا السؤالَ أيها الطفيلي الذي يقترح، ويُفسد عليَّ مِن لذَّتي ما يظن أنه به يصطلح؟ قد استَنْوَقَ الجمل بما كذبت به الأمل، إن جهلك بي مُعرِب عن بلادتك، وغلظ طبعك وسماجتك، إني أُعرَف وإن لم أَضَعِ النقاب بالوسامة؛ إذا كان ابنُ جَلا يُعرَف بوضع العمامة، ومَن يجهل الشمس وهي لا تتعدد؟ أو ينكر البدر في الدجى وسناه يتوقَّد؟ فمر عن مُنادمة الغزالة أيها الفارُّ إليَّ حيث يعوي الذيب، ولا تطمع أن أشتغل بك وإن كنت امرأَ القيس عن ذكري حبيب.
أبو عامر : يا ربة الحسن والإحسان، كفاك ما أثرتِ في فؤادي من النيران، فهل كلمةٌ منك رقيقة الحاشية ينتعش بها فؤادٌ نارُه وارية، ويعلق بها الأمل الكاذب، مندوب قلب بالأسى واجب، وإلا ففي الحِين الحَيْن، يدعني أثرًا بلا عَيْن.
ولادة : كلا ليس لك إلا أقبح رد، ولا يجمعني بك مكانٌ من بَعْد، فإنك كثير الكلام قليل الحياء، تستعمل زخرف القول بإبهام أنك من الشعراء، سِيرِي بنا فقدْ أضعْنا الزمان مع حيوان، بهيمٍ في صورة إنسان.
أبو عامر : مهلًا يا راحة الأرواح، حتى يطلع الصباح، يا ذات البُرْد المُذَهَّب عُودِي وأنا أَذْهَب.

الواقعة الثالثة

(أبو عامر)
أبو عامر : هيهات أن تعود! ويُثمِر لأملك في رياض قُربِها عود، فلا تَغترِرْ برقة خدِّها المورَّد، فإن في الياقوت طبعَ الجَلْمَد.
يا وَيحَ صبٍّ يُعنِّيه الهوى أبدا
بمن يَجِدُّ بقتْلي حسنُها عبثا
رُقْيَا عزائمِ سِحْرِ القولِ أبطلها
جفنٌ لها فيه هاروتُ لقد نَفَثَا
أين صاحبي حسَّان، فأُطلِعه على ما كان، وإن كان يستعمل إطالة الشرح ويزيد الفؤاد قَرْحًا على قَرْح، وقد فهمتُ من تلك الفتانة أنها تُسامر ذِكرَ حبيب، له من سهام محاسن عينيها أوفر نصيب، فهي مشغولة به عن الميل إلى سواه، مشغوفةٌ دونَ ذِكر أحدٍ بذكراه، فمَن يكون ذلك الحبيب، الذي أصبح هواه لقلبي أنكى من الرقيب؟ وها حسَّان مقبل فأسأله عنه، وآخذُ حديثَ أحوالِه منه.

الواقعة الرابعة

(أبو عامر – حسان)
حسان : عِمْ مساءً أيها الوزير الجليل، والكامل الفاضل النبيل.
أبو عامر : أهلًا وسهلًا بك أيها الخليل، جئتَ في وقتٍ يَتَمَنَّى فيه الطبيبَ العليل؛ فقد تفاقَم خَطْبُ ما أطلنا به الخطاب، وأُغلِق دونَ فتْح أمانينا الباب، وضلَّ العقل في تِيهِ الغرام ولا طريق إلى السلوى، ولم أذُقِ المنَّ لما مرَّ عليَّ من عَلْقَم البلوى.
حسان : ماذا حدث بعد ذلك المقام، مما أضلَّ فؤادك في أودية الغرام؟
أبو عامر : قد عدتُ إلى هذا المكان بعدك ثانية، متبعًا أثر مَن لها القلب مملوك والعين جارية؛ فألفيتُ جواريَها تُنشِد من الأوج ما يُطرِب العراق، طال ليلي وغرامي لا يُطاق، فأخبرتُها أني كَليمُ غرامها والذبيح، وسألتُها أن تمُنَّ عليَّ بما يرتاح إليه فؤادي الجريح، فصرَّحَتْ بأن ذلك لا يكون، وكلمتْ قلبي بسيف الجفون فاستعملتُ بمراجعتها زُخرف الكلام، وطُفتُ في حَرَم احترامها لِأفوزَ من رُكنِ وَصلِها بالاستلام، فلم أنلْ منها إلَّا شدة النفار، وتضحية آمالي بعد رمي الجِمار، وسأَلتُها بلسان الضراعة عن اسمها الكريم؛ فاستجهلتْني وقالت: مَن يُنكِر البدرَ في الليل البهيم، وكلامها الجامع بتوجيه المراجعة متشابه الأطراف، لم تخرج به عن القول بالموجب في مقابلة استخدام الاستعطاف، وقد استعملتْ بإشارتها الإبهام عند تحريك الأصابع، بما فهمتُ منه بالتلميح أن لها حبيبًا هواه لفؤادها رائع، ولم ينجحْ لدَيْها حسنُ البيان بعد براعة المنزع، واستعمل سيف جفنها مع عدم مراعاة النظر براعة المطلع، فراجعتُ تعطُّف أعطافها بانسجام المدامع؛ لم تلتفتْ إليَّ ووارتْ من إشراق محياها تلك المطالع.
حسان : ما شاء الله لك معرفة بفن البديع، تطلع منه في كلامك أزهار الربيع! فهل عانيتَ مع ذلك علمَ المعاني، ووصلتَ إلى أبيات الوصل بعد الفصل من أبواب تلك المغاني، وقرعتَ باب الإنشاءِ للدخول إلى القصر، وفزتَ عند استعمال الإيجاز والإطناب من أفنان الفنون بالهصْر، وعرفتَ أحوال الإسناد وحصلتَ من متعلقات الفعل على غاية المراد؟ عجِّل بتتميم الفائدة واشتغل عن النساءِ بما يُقْرَى من المائدة.
أبو عامر : بالله عليك أيها الخليل لا تتعمل العبث عند الجد بفؤادي العليل، واستمع تمام حديثي مع تلك الرعبوبة، والمهاة التي يَطلُب بازُ جُفُونها فؤادي وهي له مطلوبة، فإنها بعد إطالة المجادلة بما لا يقوى عليه الحديد تركتْ مُرسَلات دموعي ما عليها مزيد، وخرجتْ تجرُّ ذوائبها على مران القوام، وخلفتني مسلسلًا بسلاسل الوجد والغرام، فعرِّفْني مَن هي ومَن حبيبُها، وانشر لديَّ نوافج أخبار عنها يَضوع ولا يَضيع طِيبُها.
حسان : أعجل لك بفائدة إحدى القضيتين أيها المغبون، إن حبيبها الذي تُشبِّب به هو أبو الوليد الوزير ابن زيدون؛ فتهيأ أيها الأعزل لكفاح من رمحه الأصم، واستعدَّ لنِطَاحه وإن كنتَ في الحقيقة أَجَم.
أبو عامر : آهِ! كيف حصلَ على مَيْلها إليه وتعويلها بإخلاص محبتها عليه؟ وهل وصلت حبل رجائه، وأسعفته بإسعاد وفائه؟
أبو عامر : بالله عليك، استعمل الإيجاز، ودع الاستعارات في سلوك هذا المجاز.
حسان : لا بد من ذكر مقدمة أمام المقصود، يَطيب بعدها لمن يشرع في بيان القضايا وُرود.
حسان : اعلمْ أنهم اختلفوا في حدِّ العشق ورسمه، وكشفِ حقيقته وما يُعرِب عن وَسْمه، فقال فيثاغورس: العشق طمعٌ يتولَّد في الفؤاد، ويتحرك وينمو ثم يتربَّى وتجتمع له دواد، وكلما قَوِي وهاج؛ زاد صاحبه في اللِّجاج، وتمادى في الطمع والحرص على المطلب، حتى يؤدي به إلى الهمِّ المُقْلق واحتراق الدم المفضي إلى العطب، وقال أفلاطون: العشق قوَّة غريزية متولدة من وسواس الطمع، وأشباح التخيل ممن إليه نزع مُحدِث للشجاع جُبْنًا وللجبان شجاعة، يكسو كلَّ إنسان ما يُبايِن طِباعَه، وقال ابن سينا: العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا لمن فيه نظر يجلبه المرءُ في نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور، وقال بعض الأدباء الظرفاء مخالفًا لهذه النصوص، العشق عبارة عن طلب ذلك الفعل المخصوص من شخص مخصوص، وقيل: العشق من الجنون، وهو — على ما قيل — فنون.
أبو عامر (عروض البدر أضحى خدامك) :
خرجتَ في هذ القصد
عما يرى الصبُّ المغبون
وجزتَ حدًّا بالحد
على فتًى عانٍ مفتون
فدع أحاديثًا يُعْدِي
سماعها القلب المحزون
وكيف عَمَّالي تُبْدِي
مما به أغدو مجنون
حسان (منه) :
لا بد من طول الشرح
بما به يبدو المحدود
إن رمتَ تَرقَى للصرْحِ
بالعشق والوجْد المَورود
هيئ فؤادًا للجرح
بحدِّ صِمْصَام مَحْدُود
وسوف مِن بعدِ الصبْح
للخُلْد تغدو في أُخدود
أبو عامر : كفى ما ذكرتَه أيها الخليل من هذا الشرح الطويل، فإن العشق معلوم عند كل إنسان لا ينتطح بعدم معرفته فذَّان، وهو يُحرِّك الساكن ويسكن المحرَّك، ويُسبَر غَورُه بالذوق ويُدرَك، فعرفني تلك الحبيبة وحال الحبيب، وداوِ قروحَ فؤادي أيها الطبيب.
حسان : أبيتَ إلا التصريح، وأغضيتَ عن التلويح والتلميح، إن عشق الوزير ابن زيدون جرَّه السمعُ والنظرُ بالاتفاق، وهما إلى الآن لم يحصل بينهما تلاق، وتلك الغزالة التي سهام عينيها تَبْرِي ولا تَشفِي هي ملكة المحاسن في الأندلس ولَّادة بنت المستكفي، وهي أشهرُ مِن أن تُذكَر، ولها أحسن مخبر وأجمل منظر، وقد أوقعتَ نفسك بعشقها للأخطار، ولسوف تقضي في محبتها دون قضاء الأوطار، وقد عرضتُ لك بما أطلتُ من الشرح، أن لا تصعد بأمانيك إلى الصرْح، فأصمَّ الهوى سمعَك أن يَلِجَ ذلك فيه، وعددتَ ما قلتُه لك من زخرف التمويه، فها أنا ذاهب لمعاطاة أشغالي أيها الوزير، ودُمْ أنتَ هنا لأباطيل الأماني نجيًّا وسَمِير.
العشق يُورِد من وَافى موارِدَه
من العَنَا والأسى ما يمْنَع الصدرَا
وربما قد قَضَى دونَ المُنَى أسفًا
وليس يقضي بلا مال له وطرا

(عروض يا أهيل الحبش):

هكذا قد حكم
في البرايا حكم
حكمُه في الأمم
ليس بالمنكَرِ

(ويتهيأ للذهاب.)

أبو عامر :
قف قليلًا هنا
وأنِلْنِي المُنى
بعد هذا العَنَا
والبَلَا الأكبرِ
حسان (منه) :
أنت عاني خطر
دون نيل الوطر
فارتقب للقدر
والردى الأحمرِ

(ويذهب.)

الواقعة الخامسة

(أبو عامر)
أبو عامر : لم تخرج عن عادتك بالذهاب بعد أن تغلق دون فتح مطالبي الباب، قد اشتد عليَّ خطب الغرام بعد تلك الخطبة التي أطال بعرضها الكلام، فكيف الحال يكون مع الوزير ابن زيدون والمحبوبة ولادة التي تصيد الصيد، ولدى محاسنها الأحرار من جملة العبيد؟ ولم يُفدني تجاهل العارف لذة خطاب، ولم أحصل على ما يُبري جواي من سلسبيل جواب، وقد ملأ هوى ابن زيدون فؤادَها فلم يبقَ فيه مكان تفرغ فيه صبابة من صبابة إنسان، فما تكون الحيلة لاستعطاف تلك الجميلة، أرى من الصواب الذي يفتح الباب أن أُرسِل لها جارتنا العجوز أم رحمة، التي هي أَمْوَهُ من ظلمة، فلعلها تفكُّ طلسم ذلك الكنز برقياها، فتَصِل النفس من روضة حسنها إلى مشتهاها، ينبغي المبادرة لهذا الأمر، بدون تأخير وكمْ يُسْرٍ نَالَه المرءُ بعدما حالَ دونه كلُّ عُسْرِ.

الواقعة السادسة

(ولادة – مهجة – جواريها)
ولادة : الحمد لله الذي ذهب ذلك الفدمَ الثقيل، واسترحنا في مراجعته من إطالة القال والقيل، تعالَيْ نُبْدِي درس الأشجان ونُعيد بالتقرير ما كان بلغني أن الوزير ابن زيدون متهافت على وصالي، وكَلِفٌ بأن يجني في رياض التلاقي ثمار دلالي، ويقطف ببَنَان النظر وَرْدَ الحياء والخَفَر، وقد تقاضاني على لسان نديمه وعدًا بذلك صادقًا، يصل به معشوقٌ على رُغْم الرقيب عاشقًا، فأجبتُ ذلك النديم بما تمَّ منه عُرْف نجاح آماله، ولم أُسرِع كأم خارجة إلى الدخول من باب وصاله، وربما يجيء إلى هنا ليأخذ الجواب الشافي، فما ترين والأمر عندك ليس بخافي.
مهجة : ما دمتِ حريصةً على لقائه، وكَلِفَةً بوصله ووفائه، فالصواب أن تُجيبي مطلوبَه، وتُحقِّقي بأُنس التلاقي مرغوبه، لكن يحسن تلاقي الاثنين، لدفع التهمة عنك بلا عين، وإلا سارتْ بأخباركما الركبان، وأشاعوا أنه كان ما كان، وإني لأعلم أنكِ طاهرة عفيفة نقية لم يشمَّ خمارَك أحدٌ من عموم البرية، لكن ورد في المثل: مَن يُسمَع يُخَل، فتكثر الظنون، ويشيع السر المصون.
ولادة : أوضحتِ العبارة، وأحسنتِ الإشارة، فالتلاقي يكون كما قلتِ حسب ما يقتضيه عفافي، بما ينفي التهمة عنا وأنت لنا كثالثة الأثافي، أشعر بقادم علينا، كأنه حاضرٌ لدينا، فلعله نديم أبي الوليد جاء لتحقيق الوعد دون الوعيد.
مهجة : هو ذاك بدون مَيْن، والصحيح لاحَ لذي عينين.

الواقعة السابعة

(الحاضرات – نديم)
النديم :
أُهديك يا مَن لها الحسن البديع ثَنا
يضوع في طَيِّه نشرُ النسيم سَحَر
كما أصوغ بمعناك الجليل حُلًى
نظمٌ لكل مُجِيد في الأنام سَحَر
ولادة :
وأنت مني لك الشكرُ الجزيل بما
يعتو لمعناه مَن صاغ الحُلَى وشَعَر
فاستجلِ أُنسَ مُحيَّا لاح شمس ضحًا
أو نور بدرٍ تجلَّى في ظلام شعر
نديم : هل تمَّ شيءٌ بتحشُّمه المتقاضي، بإبداء ما عرضتُه لديكِ في اليوم الماضي.
ولادة : قُلْ ما تُريد بلا احتشام، فما دون الجواري إخفاء كلام.
نديم : قد لَمَّحتُ لك أمس، بكَلَفِ الوزير بك يا طلعةَ الشمس، وأنه مُعنًّى بجمالك، وحريص على وصالك فأجبتِ بما علَّق الأملَ بالنجاح، وأسْفَرَ بعدَ طول السُّرَى عن طلعة الصباح، وها أنا حضرتُ الآن لآخذ على صدق وعدك الضمان، وهو حسن الإجابة منك بنعم؛ إذ كان هذا من أجَلِّ النعم، فهل يجوز الاجتماع بما يمنع النواظر والأسماع، حيث يطيب الحديث والقديم، ويسرح الطرف في روض النعيم؟
ولادة : إني أتمنَّى قُرْبَ أبي الوليد، وأُريد من وَصْله ما يُريد، وفي غدٍ إذا أوتي القَدَر، يزهو بنور الشمس أفقُ القمر فأبْلِغْه عني التحية وعرِّفْه نتيجة القضية وقل له: قُضِي الأمر، وفاز ابن زيدون من دون عمر.
نديم : إذن؛ أذهب إليه على هذا الضمان؟
ولادة : اذهب إليه بسلام وأمان.

الواقعة الثامنة

(ولادة – جواريها – مهجة)
ولادة : شَنِّفْنَ الأسماع بشرح الحال، بما يكون مقدمة للسرور الوصال.
الجواري (عروض نبه الندمان صاحي) :

دور

أيها القلب تهنَّا، سوف تحظَى باللِّقا
وفؤادي ما تمنَّا، نالَ من بَعْدِ الشَّقا
أَبْعِدِ الحُسَّاد عنا، يا سميعًا للدعاء
وأنلنا العفو مَنًّا، بختام الأنبياء

دور

نارَ مصباحُ السرور، ودنا وعدُ المزار
فإذا للحَظِّ سَيرِي، حيث جامُ الأنس دار
وسنا البدر المنير، لاح معْ شمس النهار
ولنا فضل القدير، بالهنا يُرخِي الستار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤