الفصل الثاني

كامو، بين مُراسِل ومُحرِّر

أصبح كامو صحفيًّا في فترة الثلاثينيات التي تميَّزت بالصخب والاضطرابات. كان هتلر في سُدَّة الحُكم في ألمانيا. والحرب الأهلية الإسبانية كانت على أشدِّها منذ عامَين، وانتهت عام ١٩٣٩ بانتصار الديكتاتورية العسكرية بقيادة فرانكو. في هذه الأثناء في فرنسا، استولى ائتلافٌ من نوع مختلف على السلطة: أدَّى اجتماعُ جميع أحزاب اليسار معًا إلى أن يترأس يهوديٌّ الحكومة لأول مرة، وهو ليون بلوم. بعد تولِّيه السلطة، احتلَّ العُمَّالُ المصانعَ في كل أرجاء فرنسا، الأمر الذي دفعَ الحكومة المنتخَبة حديثًا إلى إصدار العديد من الإصلاحات الاجتماعية التقدُّمية التي كان من بينها تقليل عدد أيام العمل وإدخال الإجازات المدفوعة الأجر. ساهمت تلك التغييرات في تحسين نوعية الحياة لمعظم المواطنين الفرنسيين في فرنسا تحسنًا هائلًا. وقد عُرِفَ هذا الحراك، وحكومته، وسياسته باسم الجبهة الشعبية.

في هذا السياق، استمر كامو في التزامه تجاه العدالة الاجتماعية بوصفه صحفيًّا في جريدة «ألجير ريببليكان» لدى بسكال بيا. كانت صحيفة صغيرة، عدد موظفيها قليل. وكان كامو مسئولًا عن الأخبار القضائية، الأمر الذي أكسبه خبرةً أحسنَ استغلالها في رواية «الغريب». لم يكن بيا مجرد رئيس تحرير وصحفي يساري، بل كان أديبًا وداعِمًا للجبهة الشعبية. كانت ترويسة «ألجير ريببليكان» متبوعةً بالعبارة الفرنسية «جورنال دي ترافيير» (التي تعني جريدة العُمَّال). وبرغم أن مقالاتها الافتتاحية كانت مؤيِّدة لمناصري الديمقراطية في الحرب الأهلية الإسبانية، كانت الجريدة من مؤيِّدي استرضاء ألمانيا ومهادنتها في عهد هتلر.

كان من أُولى مقالات الرأي التي كتبَها كامو مقالٌ افتتاحي كتبه في أكتوبر ١٩٣٨، وكان متحمسًا بشدة للجبهة الشعبية، مع أخذ مصلحة العُمَّال الفرنسيين في الاعتبار، وإنْ كان هذا لبعض العُمَّال دونًا عن الآخرين. كانت فكرة كامو الرئيسية هي أن زيادة الأجور الناتجة عن إضرابات الجبهة الشعبية قد انتفى أثرُها بزيادة تكاليف المعيشة. وأنهى مقاله بالدعوة إلى جدولة الأجور تماشيًا مع تكاليف المعيشة. رغم ذلك، ذكرَ دون استنكارٍ حقيقة أن في الجزائر نظامًا ثنائيًّا، وأن أجور عُمَّال الأقدام السوداء ارتفعت من ٦ إلى ٧٫٢٠ فرانكات في الساعة، بينما زادت أجور الجزائريين من ١٫٤٠ إلى ٢٫٣٠ فرانك في الساعة. لم يذكر كامو تلك الأرقام لنقد التفاوت بين العُمَّال الأوربيين والسكان الأصليين، بل للتنديد بحقيقة أن زيادة العُمَّال من الأقدام السوداء كانت زهيدة مقارنةً بزيادة الأجر التي تكاد تبلغ الضِّعف تقريبًا لدى نظرائهم من الجزائريين. وقد أسَّسَ كامو حُجته بناءً على الهَرَمية الاستعمارية: حيث سَلَّمَ بصحة أن تكون أجور الأقدام السوداء لا تزال ٣ أضعاف أجور الجزائريين. ومن ثمَّ، يوضِّح هذا المقال الافتتاحي في هذه المرحلة المبكرة من حياته موقفَ كامو السياسي الإشكالي: أرادَ العدالة للجميع، لكن في نطاق مجتمع استعماري غير عادل.

يتصدَّر تناقضُ كامو الوجداني تجاه النظام الاستعماري المشهد من جديد في مقال آخر له بعنوان «مَن محوناهم من الإنسانية»، يصف فيه زيارته لسفينة المساجين التي نقلت على مَتنها ٦٠٩ محتجزين. بطريقة ما، يُعَدُّ مقاله تنديدًا صريحًا بظروف المعيشة داخل السفينة: الأماكن الشديدة التكدس، حيث توجد أربع زنزاناتٍ صغيرة يأوي كلٌّ منها ١٠٠ سجين، وتنعدم الإضاءة تقريبًا. يكتب كامو مضطربًا: «لست شديدَ الفخر بأن أكون هنا.» ومع ذلك، عندما طلبَ منه أحدُ المساجين سيجارة — السلوك الذي فسره كامو بأنه استجداءٌ لإبداء شيءٍ من المشاركة والإنسانية — أصبحَ في مأزق: القوانين معروفة ولا جدوى من ذكر نصوصها؛ ومن ثمَّ قرَّر أن يتجاهل طلبه. هذا التألُّم الذي ارتسم ببطءٍ على وجه كامو تجاه محنة السجين كان كاشفًا، فرغم تعاطف كامو مع موقف السجين، تجاهلَ طلبه. يشعر كامو بالشفقة تجاه المُضطهَد، لكنه لن يخرق القوانين في النهاية. تلك المُعضلة، في أوضح صورها، هي ما واجهه كامو مع الاستعمار.

لم يكف كامو عن التفكير في الرجل الذي طلبَ منه سيجارة. ولم يتبنَّ في الحقيقة موقفًا تجاه مساجين الدولة الفرنسية أولئك؛ حيث رأى أنَّ البشاعة الحقيقية لمحنتهم تكمن في انعدام سبل الانتصاف لديهم. وبخلاف هذا التصريح المحايد، تمنَّى أن يتمكَّن أولئك المجرمون من استئناف الأحكام الصادرة في حقهم. مرةً أخرى جاءت دعوته الإصلاحية مستترة. لم تكن بُغيته مناهضة النظام القضائي، بل إصلاحه، وإضفاء مزيدٍ من الحماية على المحرومين من حقوقهم. أرادَ أن يجعل النظام الاستعماري أكثر إنسانية.

ثَمة مقالٌ قصير آخر بعنوان «اعتقالات مؤسِفة» يمثِّل علامة فارقة في موقف كامو تجاه حقوق الجزائريين. في الرابع عشر من يوليو لعام ١٩٣٩ — يوم الباستيل في فرنسا — تظاهرَ آلافُ المناضلين المطالبين بالاستقلال والمنتمين إلى حزب الشعب الجزائري الذي يرأسه مصالي الحاج ضد الحكم الاستعماري. اعْتُقِل ثلاثة مناضلين وأربعة من قادة الحزب، وحصلوا بعدها على إطلاق سراحٍ مشروط. كانت حكومة الجبهة الشعبية قد حَظَرَت حزبَ مصالي الحاج السابق، حزب نجم شمال أفريقيا. مارست السلطات الفرنسية في ذلك الحين مناوشاتٍ ضد مناضلي حزبه الجديد، ونالت منهم بالضرب والاعتقال. أثارت تلك المعاملة حفيظة كامو واستياءه بشدة. لمَ؟ لأنه كما يقول: «من شأن تلك التصرفات … الإضرار بمكانة فرنسا بقدر الإضرار بمستقبلها.»

طالَبَ كامو بعدها بإطلاق سراح المتظاهرين الثلاثة، وهو موقفٌ جريءٌ بالنسبة إلى الجزائر الواقعة تحت وطأة الاستعمار الفرنسي عام ١٩٣٩. إلا أن عبارة كامو الختامية في مقاله الافتتاحي أظهرت أن هدفه لم يكن مثيرًا للجدل مثلما بدا: «… السبيل الوحيد إلى «استئصال» القومية الجزائرية هي قمعُ الظلم الذي وَلَّدها.» تمثِّل هذه العبارة صميم موقف كامو من الجزائر؛ أرادَ أن يستأصل القومية الجزائرية، وارتأى أن تبنِّي نهج تصالحي هو الوسيلة المُثلى لهذا الغرض. كان كامو محقًّا في إحساسه أنَّ تَعنُّت فرنسا تجاه الجزائريين سيكون مُدمِّرًا. ومن ثمَّ، اقترحَ إطلاقَ سراح المعتقلين، ونادى على الملأ بالمزيد من الحقوق الاجتماعية وحياة أفضل للجزائريين — لكن فقط تحت مِظلَّة الحُكم الفرنسي.

باختصار، كان كامو مناصِرًا لسياسة الاستيعاب والإدماج؛ أرادَ أن يجد السبيل الأفضل لكي يبقى الجزائريون فرنسيين، وتبقى فرنسا في الجزائر. كان هذا الموقف في صميم مجموعة مقالاته الأكثر شهرةً التي كتبَها عن منطقة القبائل.

تحقيقٌ صحفي في منطقة القبائل

منطقة القبائل هي منطقة جبلية في الجزائر يسكنها سكانُ القبائل، وهي مجموعة عِرقية بربرية. كان سكانُ منطقة القبائل من أشرس المقاومين للاحتلال الفرنسي. فقد حاربوا المحتل الفرنسي منذ عام ١٨٣٠، ولم تأخذ فرنسا بزمام السلطة في المنطقة إلا عام ١٨٥٧، وإن كان قد تخلَّل ذلك بعض القلاقل. وكان غالبية الأعضاء المؤسِّسين في حزب الحاج الداعم للاستقلال من منطقة القبائل. فكان رد فعل فرنسا هو التجاهل؛ وهو توجُّه عارَضه كامو بشدة بناءً على أسس إنسانية واستراتيجية.

كتبَ كامو سلسلة من أحد عشر مقالًا تضمَّنت انطباعاته عن زياراته للقرى الصغيرة في جبال منطقة القبائل وحواراته مع السكان، تخلَّلها حقائقُ وأرقام تتعلق بالتعليم، ومتوسط العُمر المتوقع وما شابه. وفي مجموعة المقالات تلك — المعروفة باسم «مأساة القبائل» — وصفَ كامو نقصَ مياه الشرب وشبكات الصرف، وأوضاع البيوت المُزرية، والأهم من ذلك كله نقص الأطباء. وبعدها بحوالي عقدَين؛ أي عام ١٩٥٨ في خِضم حرب الاستقلال الجزائرية، أعادَ كامو طباعة سبعة مقالاتٍ من الأحد عشر مقالًا الأصلية في محاولة لإبراز اهتمامه المستمر بالجزائريين، وخاصة مَن هم في منطقة القبائل.

رغم ذلك، كانت المقالات الأربع التي اختار ألَّا يعيد طباعتها تحوي بعض الفقرات الأشد وقعًا. في المقال الأول، «اليونان في أسمال بالية»، وصف كامو رد فعله على ما شهده من تدمير تام لسكان منطقة القبائل:

لا أستطيع أن أنسى ذاك الرجل القاطن في تلك البلدة الأهلية، برج منايل، الذي أراني جسدَ ابنته الصغيرة، الشديدَ النحول والمغطى بأسمالٍ بالية، وسألني: «ألا تعتقد أن تلك الفتاة الصغيرة، إذا كسوتُها، وإذا ما أبقيتُها نظيفةً وأطعمتُها، ألا تعتقد أنها ستكون بجمال أي فتاةٍ فرنسية؟» وكيف لي أن أنساه بعد ما شعرتُ به من عذاب الضمير الذي لربما كان يتوجب ألَّا أكون وحدي مَنْ يشعر به.

أرادَ كامو أن يثير ضميرَ قرائه من الأقدام السوداء لكن بأسلوبٍ دبلوماسي، من خلال تأكيده على إحساسه الشخصي بعذاب الضمير وبث الأمل في أن يتفاعل الآخرون بالطريقة نفسها مع محنة القبائل.

كانت المقالات أيضًا محاولةً للوصول إلى غالبية القراء من الأقدام السوداء بطريقة مختلفة، بالإشارة إلى أن منطقة القبائل والجزائر ككلٍّ مسئولية فرنسا؛ لأن الجزائر دولة — كما كتبَ كامو — «انتزعناها لأنفسنا» — وهذا يشكِّل استهانةً باحتلال الجزائر وتهوينًا به. في العبارة الأخيرة في ذلك المقال، أعلنَ كامو أن مهمة الفرنسيين هي أن يوفِّروا احتياجات منطقة القبائل ولوازمها؛ وهي نظرة انتقدها بشدة كثيرٌ من سكان القبائل باعتبارها قائمة على أسلوب الرعاية. رغم ذلك، كانت مقالات كامو عندما نُشِرَت بمثابة صرخة استغاثة، تطالب بتمويل البنية التحتية في منطقة القبائل.

بغضِّ النظر عن ردود أفعال المثقِّفين الجزائريين لاحقًا، وُصِفَت مقالات «مأساة القبائل»، ولا تزال تُوصَف في الغرب وخاصةً في فرنسا، بأنها مجموعة مقالاتٍ «مناهضة للاستعمار». وبسببها صار يُنظَر إلى كامو نفسه على أنه مناهضٌ للاستعمار. صحيحٌ أنه أراد أن يحظى سكان منطقة القبائل بظروفٍ معيشيةٍ أفضل، ومتوسط عمر أطول، وأجور وتعليم أفضل، لكن ذلك كله تحت سلطة الإمبراطورية الفرنسية، التي لم يتحدَّها كامو قط. أرادَ كامو أن يُصلِح الاستعمار، لا أن يُنهيه.

على الرغم من ذلك، غضبت السلطاتُ الاستعمارية الفرنسية من التزام كامو تجاه تحسين ظروف العرب والبربر. في الواقع، كان نشاط كامو الصحفي في سبيل إصلاح الاستعمار أحد الأسباب التي جعلت السلطات الفرنسية في النهاية تُوقِف تمويلَ جريدة «ألجير ريببليكان» وتُغلقها، وإنْ كان السبب الرئيسي هو موقف الجريدة السِّلمي. أصدرت الجريدة آخر أعدادها في سبتمبر لعام ١٩٣٩، في حين واصلت الجريدة الملازمة لها، واسمها «سوار ريببليكان»، نشاطها. كان من الواضح لكلٍّ من بيا وكامو أن أيامهما في العمل بالصحافة داخل الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي صارت معدودة. ولم يكن السياسيون في الجزائر وباريس وحدهم مَن عارضوا إدخال أي إصلاحاتٍ في النظام الاستعماري، بل عارضه أيضًا الرأي العام بين الأقدام السوداء والسلطات المحلية، حتى وإنْ كان طفيفًا.

خشيَ كامو من أن يؤدِّي تعنُّت سلطات الأقدام السوداء إلى أن تصبح الغلبة لأنصار حَلٍّ أكثر راديكالية؛ وهو استقلال الجزائر. أرادَ الأقدام السوداء عدم مشاركة شيءٍ مع الجزائريين، وبالفعل بعد مرور أكثر من عشرين عامًا بقليل، رحلوا بخُفَّي حُنَين. خلال تلك المدة، عزمَ كامو على عدم التطرق إلى تلك المسألة. ويمكن بالتأكيد أن نستشفَّ نظريته في العَبث — التي ترى أن العالم غير عقلاني وغير قابل للتفسير — من موقفه تجاه الإصلاح السياسي في الجزائر؛ حيث امتنع عن محاولة تغيير الأمور، أو بالأحرى إسباغ معنًى عليها.

ضد الحرب

في عشية الحرب العالمية الثانية، عبَّر بيا وكامو عن دعمهما لمعاهدة ميونخ والسلام مع هتلر. لم تكن تلك النظرة شائعة بين السلطات، التي أخضعت العديدَ من مقالات كامو المتعلقة بهذا الموضوع للرقابة. وقد أوضحَ كامو وجهة نظره في مقالٍ صاغه بعنوان «مَوقِفُنا». في هذا المقال، دعمَ المفاوضات مع هتلر باعتبارها الطريقة الوحيدة لإضعاف ما اعتبره هيبة الزعيم الألماني. طبقًا لما رآه كامو، فإن مصدر شعبية هتلر يكمن بالأساس في معاهدة فرساي المجحِفة (التي فرضت التزاماتٍ مالية هائلة على ألمانيا كتعويضاتٍ لفرنسا وإنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى). كتبَ كامو أن بعض ادعاءات هتلر مشروعة، وعلى الرغم من أنه لم يتفق مع احتلال بولندا وتشيكوسلوفاكيا، فلم يكن يشعر أنها مبرِّر كافٍ لاندلاع حرب. قد يكون توجُّهه السِّلمي مرتبطًا بموت أبيه في الحرب العالمية الأولى؛ ولا شك أن الخوف من المجزرة دفعه إلى ذلك أيضًا كما دفع معظم المواطنين الفرنسيين. كان هذا الخوف والفتور يعبِّران عن نظرة مشتركة متداولة على نطاق واسع في فرنسا في ذلك الوقت، وكثيرًا ما يرِد كأحد الأسباب التي ساهمت في هزيمة فرنسا المفاجئة.

سُرعان ما أصبح الدفاع عن موقف كامو وبيا — المبني على التودد إلى هتلر — أكثر صعوبة. وفي مواجهة الرقابة الحكومية والهجمات العنيفة من الصحف المنافسة، أوردَ كامو دعمًا لموقفه عن طريق الحكومة والصحافة البريطانية. ففي أحد المقالات الأخيرة التي كتبَها كامو عن الحرب، كتبَ خطابًا إلى شابٍّ إنجليزي مجهول مدحَ فيه اتزان الرجل وصفاء فِكره، كطريقة لدعم السِّلمية. في تلك المقالات التي كتبَها دفاعًا عن نفسه، رفضَ كامو شعارات الشيوعية وأوضحَ يقول: «نحن سِلميون على نحو صارم». تأثَّر كامو في رفضه لاتخاذ موقفٍ مُعادٍ ضد هتلر بمنظوره الخاص عن العَدَمية، والذي سيطوِّره في مسرحيته «كاليجولا» المنشورة بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الأثناء، وقَّعَ العديدَ من مقالاته الداعية إلى السلام تحت اسم مستعار هو «نيرو» (وهو اسم إمبراطور روماني آخر مضطرب نفسيًّا). إلا أن عَدَمية كامو كانت ذات مَسحةٍ مثالية؛ حيث آمنَ أن اشتعال حرب أوروبية سيُبرهِن على ضرورة التنديد بالقومية.

هاجَم الألمانُ فرنسا في مايو ١٩٤٠. هُزِم الجيش الفرنسي هزيمة سريعة ومدوِّية. واحتلَّت القوات المسلحة الألمانية الموحَّدة (الفيرماخت) باريس بحلول منتصف يونيو. وفي يوليو ١٩٤٠، صوَّتت الأغلبية الساحقة من أعضاء البرلمان الفرنسي على إنهاء الجمهورية الثالثة ونقل جميع السلطات إلى الجنرال بيتان، الذي أرادَ أن يقيم سلامًا مع هتلر. انقسمت فرنسا إلى منطقتَين، إحداهما يحتلها الألمان (تشمل كلَّ السواحل الغربية والشمالية بالإضافة إلى باريس)، والأخرى تحكمها حكومة المتعاونين مع الألمان، ومقرُّها مدينة فيشي المشهورة بحمامات المياه المعدنية الصغيرة. والمهم في هذا الأمر، من وجهة نظر كامو، أن تلك كانت تحوي ساحل البحر المتوسط ومَعْبَره إلى الجزائر. كان السفرُ أسهل في تلك المنطقة الحُرَّة كما كان يطلق عليها، وإنْ كان كامو قد تنقَّل بين المنطقتَين خلال الحرب.

لكونه عاطلًا، كان على كامو أن يبحث مرةً أخرى على سبيل إلى كَسْب العيش. وبتزكيةٍ من بيا، ذهبَ للعمل في صحيفة «باري سوار»، وهي صحيفة يومية متواضعة الشأن كان يحتقرها. عاشَ كامو في باريس بغرفة فندق صغيرة وعملَ على كتاباته. وبعد الاحتلال الألماني، انتقلت صحيفة «باري سوار» إلى المنطقة الحُرَّة في ليون. حينها طلبَ كامو من خطيبته فرانسين فور — التي كانت قد أنهت دراستها، وأصبحت الآن معلِّمة رياضياتٍ بديلة — أن تلحقَ به من الجزائر، فتزوَّجا في ليون في شهر ديسمبر. كان زفافًا بسيطًا؛ كان بيا وعُمَّال الجريدة هم الشهود والحضور الوحيدين. لسوء الحظ، لم يكن هناك شيءٌ مضمون خلال الاحتلال. فقد أدى تحديد حصص الورق إلى تخفيضاتٍ ضخمة، وسُرِّحَ كامو. ومن دون أن تكون هناك أيُّ فرص عمل تلوح في الأفق، عادَ هو وفرانسين على مضضٍ إلى الجزائر إلى بيت عائلة زوجته في وهران؛ إذ لم يكن لهما مكان آخر يذهبان إليه.

المقاومة ورسائل إلى صديق ألماني

بعد المعاناة لعام ونصف العام في وهران — مدينة كرهها كامو — ولعجزه عن إيجاد وظيفة ثابتة، ولتدهور صحته على نحو خطير، قرَّر كامو في النهاية الاستجابة لتوصية الطبيب بالعودة إلى فرنسا وقضاء بعض الوقت في أجواءِ الجبال ليتعافى. بحلول أغسطس ١٩٤٢، كان في قريةٍ صغيرةٍ بقرب سان إيتان تُدعَى لي بانلير. خطَّط كامو للرجوع إلى زوجته في الجزائر بعد قضاء شهورٍ قليلةٍ في الجبال. رغم ذلك، وبعدما أرسَت الولاياتُ المتحدة سُفنَها في شمال أفريقيا في نوفمبر ١٩٤٢، احتلَّ الجيشُ الألماني المنطقة الحرة الفرنسية، وأصبحت فرنسا دولة حبيسة. فانقطعت خطوطُ الاتصال بين فرنسا والجزائر. افترقَ ألبير وفرانسين عنوةً إلى أن عادت إلى باريس في سبتمبر ١٩٤٤. قضى كامو صيف ١٩٤٣ في لي بانلير. كان ضَجِرًا، ولم يحب صحبة القرويين، واشتاقَ إلى الجزائر. اشتاقَ أيضًا إلى فرانسين، لكن ليس فرانسين وحدها: طلبَ من صديقة قديمة، بلانش بالان، أن تأتي وتزوره. قضَى كامو معظم وقته يعمل على روايته الثانية «الطاعون»، وبين زياراته لليون، وسان إيتان، وبتردد أقل على باريس. وعلى الرغم من أنه عَلِمَ في صيف ١٩٤٣ أن باسكال بيا والشاعر الشهير فرانسيس بونج (الذي كان يراسله كامو) كانا منخرِطَين في أنشطة المقاومة — التي احتوت بشكلٍ رئيسي على نشر صحفٍ سِريةٍ صغيرةٍ تُشهر بالاحتلال — فلم ينضم كامو إليهما. سينضمُّ إلى المقاومة في ديسمبر ١٩٤٣ أو يناير ١٩٤٤، قبل حوالَي ٨ أشهر من تحرير باريس في أغسطس ١٩٤٤. انضمَّ إلى مجموعةٍ تضم بيا وبونج، وكانت تنشر واحدة من أولى صحف المقاومة السرية وأهمها، «كومبات». (انظر شكل ٢-١).
fig3
شكل ٢-١: في مكاتب التحرير بجريدة المقاومة الفرنسية «كومبات»، عام ١٩٤٤: (من اليسار إلى اليمين) بيتي بريتون (مرتديًا الزيَّ الرسمي)، فيكتور بيروني، ألبير كامو، ألبير أوليفيير (مدخِّنًا)، جان بلوخ-ميشال (قصير، يظهر بشكل جانبي)، جان شيفو (يحتسي شرابًا، يظهر بشكل جانبي)، روجيه جرينييه (يظهر وجهُه، يرتدي نظارة)، باسكال بيا، هنري كاليه، فرانسوا برويل، سيرج كارسكي؛ في مقدمة الصورة: مارسيل رابينا وشارولت رو.

كانت «كومبات» تخضع في الأصل لإشراف المقاوِمين الذين ظنوا أن المارشال بيتان كان عميلًا مزدوجًا مع ألمانيا، وأنه كان في صفهم. ساهمَ بيا بخِبرته كمحرِّر وناشر صحفي، وكتبَ كامو المقالات والافتتاحيات، التي كان معظمُها بعد التحرير. كان أول قرار اتخذه للمقاومة هو كتابة أربع «رسائل إلى صديقٍ ألماني»، نُشِرَت منها اثنتان فقط ما بين يناير وأغسطس لعام ١٩٤٤ في المنشورات السرية. كانت تلك المقالات القصيرة مهمة؛ لأنها تصف دور المقاومة كما يراها كامو والأسباب العقلانية التي جعلته ينضم إليها.

تخيَّل صديقَين في غرفة؛ أحدهما فرنسي والآخر ألماني، يحتكر الرجلُ الفرنسي الحديثَ كله — هذا هو المشهد في «رسائل إلى صديق ألماني». إنها ليسَت برسائل في واقع الأمر، بل حديث منفرد أمام صديقٍ ألماني خيالي يمثِّل الجمهور الذي نادرًا ما يتحدث، وعندما يتحدث يكون ذلك على لسان كامو (الأسلوب الذي استخدمه كامو بعدها بأعوام كثيرة في روايته «السَّقْطة»).

بيَّن كامو في الرسالة الأولى «أسبابَ التأخُّر»، التي كان يعني به تأخُّر رد الفعل الفرنسي تجاه الاحتلال الألماني بوجه عام. ورأى كامو أن السببَ وراء هذا التأخُّر يُعزى إلى محاولة البحث عن أسبابٍ عقلانية. فقدَّم صورة الوطنية المستنيرة التي كانت بحاجة إلى أسبابٍ لخوض غمار الحرب تتعدَّى الوطنية. كان الفرنسيون ينظرون إلى البطولة بعين الرِّيبة، حيث يخبر كامو صديقَه الألماني: «كنا لا نزال نتعلَّم كيف نتغلب على شكوكنا في البطولة. أعلمُ أنك تظن أننا دُخلاء على البطولة. لكنك مخطئ.» استغرقت فرنسا بعضَ الوقت للتغلب على شكوكها بشأن البطولة، وكان ذلك سببَ هزيمة فرنسا، وسببَ أنَّ قلةً قليلةً فقط هم مَن قاوموا على الفور عقب الهزيمة. لكنه كان يبيِّن أيضًا سبيله إلى الانضمام إلى المقاومة ويُبرِّر سلميته السابقة.

في الرسالة الثانية، يفسِّر مجددًا هزيمةَ فرنسا وتأخُّر زيادة عدد المشاركين في المقاومة: «استغرقنا وقتًا لنجد ما نتذرَّع به». أرَّخ كامو لهذا التأخُّر منذ بداية الحرب؛ فقد استغرقَ الأمر ثلاثَ سنواتٍ لدمج القومية مع السعي إلى المساواة والعدل. وأصبحت وجهة النظر تلك — التي ترى أن المقاومة كان يتحتَّم عليها أن يكون لها مكوِّنٌ اجتماعي — موضوعًا ثابتًا في نقاشات الحركة وممثِّليها بعد الحرب. أرادت المقاومة بعد الحرب أن تُعلِن حقبةً جديدة في السياسة الفرنسية، وأن تكون صحيفة «كومبات» في طليعة هذا النضال.

في الرسالة الثالثة، انطلقَ كامو في دفاعٍ عن أوروبا، وكتبَ أن كُنْه كلمة «أوروبا» تلطَّخ بارتباطه بالنازية. ادَّعى كامو أن ألمانيا بدأت ترى أوروبا أرضًا تصلح للغزو «بدءًا من اليوم الذي خسرت فيه أفريقيا» (متحدِّثًا إلى صديقه الألماني المتخيَّل). بطرق عدة، تعاملت ألمانيا النازية مع فرنسا كمستعمَرة خلال احتلالها. في ذلك الوقت، كان كامو والشعب الفرنسي الواقعَان تحت الحُكم الألماني أقربَ بالفعل إلى الظروف المعيشية العادية للجزائريين تحت الحكم الفرنسي. واستمرارًا في ربط الوضع الاستعماري بالقوة والهيبة، كتبَ كامو يقول إن تفوق فرنسا على ألمانيا سببه أن الأولى كانت قوةً استعمارية. لقد آمنَ كامو بوضوح تام أن مفتاح فرنسا لاستعادة هيبتها وقوتها يكمن في مستعمَراتها.

كانت الرسالة الرابعة ذات طابع شخصي أوضح. ذلك حيث أعلن فيها كامو أنه يشارك صديقه الألماني القيم نفسها، وتحديدًا أنَّ العالم بلا معنًى، وفي ذلك إشارة إلى العَبثية والعَدمية. من هذا المنطلق، الذي يستوي فيه الخير والشر، اختار الألمانُ خوضَ الحرب والغزو في حين عارضَ كامو «ميل فرنسا الشديد نحو العدالة». كان كامو غاضبًا من ألمانيا «لإجبارها فرنسا على دخول التاريخ».

(في مقالاته لصحيفة «كومبات»، استوعبَ كامو التاريخ وضرورة أن نكون جزءًا منه؛ على الأرجح أن كامو فهمَ في أواخر عام ١٩٤٣ أن عدم انضمامه إلى المقاومة — التي انضمَّ إليها أصدقاؤه بالفعل — من شأنه أن يدمِّر مسيرته الأدبية. وبحلول الوقت الذي تحرَّرت فيه باريس، أصبحَ كامو واحدًا من أهم الأبواق التي تعبِّر عن صوت الشعب. أصبحَ كامو يعيش في باريس بشكل دائم. انضمَّت إليه زوجته فرانسين من الجزائر العاصمة، وأنجبت بعدها طفليهما التوءم، كاثرين وجين، في الخامس من سبتمبر لعام ١٩٤٥.)

كامو، مُحرِّر المقاومة

بين شهرَي مارس ويوليو لعام ١٩٤٤، كتبَ كامو مجموعةً من ستة مقالاتٍ صغيرة، لكنه لم يُوقِّعها لأسبابٍ واضحة (وإن اختلفت الآراءُ بين الباحثين فيما يتعلق بعدد ما كتبه كامو منها) للنسخة السرية من جريدة «كومبات». كانت مقالات دعائية، تستنكر عنفَ الفيرماخت واستخدامَ الجيستابو للتعذيب، وتهاجِم بيتان، ورئيس وزرائه بيير لافال، والميلشيات الفرنسية الموالية لألمانيا. كان المغزى العام من تلك المقالات هو الدعوة إلى الوحدة وتهديد المتواطئين مع الألمان بالمحاكمة والمعاقبة فور انتهاء الحرب.

بعد تحرير باريس مباشرةً في أغسطس ١٩٤٤، كانت لسلسلة المقالات التالية لكامو نبرة مشابهة، وإنْ كانت أكثر شمولًا وأقل وَلعًا بالقتال. أرادَ كامو أن تنضمَّ جميعُ فئات المعارضة بعضها لبعض كتعبير عن الوحدة الوطنية. كانت تلك الغاية والنبرة المنفتحة والإيجابية بوجه عام ذاتَ أهمية محورية في دولة مزَّقتها الحربُ، ولم تقاوم بالغالبية العظمى من شعبها المحتلين النازيين. كان لا بد أن تختلف أفعال المواطنين الفرنسيين العاديين المنشغلين بكَسْب العيش عن تلك الخاصة بالنخبة، التي ساندت بيتان — في معظمها تقريبًا — بتلهفٍ بمجرد أن وصل للسلطة. في الواقع، كان ٩٠ بالمائة تقريبًا من أعضاء البرلمان يساندون بيتان.

ولإنقاذ ماضي فرنسا والحفاظ على مستقبلها، كان لا بد من أن تُروى القصة الخيالية عن فرنسا التي تتألف في معظمها من المقاومين. لعِبَ المثقفون دورًا محوريًّا في هذا المشروع كرُواة لهذه القصة، بوصفهم منتفِعين منها، وبوصفهم أيضًا ضحايا لها في بعض الأحيان. كان هناك إجماع غير مُعلَن نحو اتباع الجنرال ديجول من جانب اليسار غير الشيوعي — ومن كل الدوائر الأدبية تقريبًا — على منح لقب «مقاوم» تقريبًا لأي شخص لم يتواطأ مع الألمان صراحة. تجسَّد هذا الإجماعُ في إضفاء الطابع المثالي على الماضي القريب، والذي تردَّد صداه في الخطاب البلاغي الذي اتسمت به مقالات كامو في جريدة «كومبات».

أصبحَ كامو متحدِّثًا رسميًّا عن المعارضة بطريقة ما؛ إذ كان يتحدث على لسانها في افتتاحيات صحيفة «كومبات» بعد التحرير. نبرة الافتتاحيات الأولى كانت نبرة حكم أخلاقي على ذلك الزمان، يُدلي بتصريحاتٍ عظيمة عن فرنسا وعن مسيرتها في الماضي والحاضر والمستقبل. كان على كامو أن يصارع لأجل هذا اللقب: انخرط في جدال مع الروائي الشهير مورياك عما إذا كان من الواجب معاقبة المتواطئين مع الألمان بشدة. فقال فيما عُرِفَ عنه، عن أعداء المقاومة، إن الأمر كان يقتضي وجود المزيد من الشخصيات أمثال سان جاست؛ وهو بطلٌ تاريخي من الثورة الفرنسية كان داعمًا مع حليفه روبسباير لتطبيق عقوبة الإعدام على أعداء الثورة. رغم ذلك، غيَّر كامو رأيه بعدها بشهور قليلة فقط؛ بعدما رأى ما كان يعتقد أنه تطرف في التطهير، واتجه إلى معارضة عقوبة الإعدام والاتفاق مع مورياك.

كان لدى كامو مخاوف أخرى؛ كان رافضًا للعودة إلى جمهورية ثالثة يُهيمن عليها المالُ. كتبَ كامو أن الألمان أجبروا الفرنسيين إما على القتل وإما على العيش راكعين، واختتم بقوله إن الفرنسيين ليسوا عِرقًا يعيش راكعًا. ووصلَ المقال إلى ذروته على نحو بطولي: «في ٢١ أغسطس ١٩٤٤، في شوارع باريس، بدأ نضالٌ سينتهي بالنسبة إلينا جميعًا وبالنسبة إلى فرنسا بالحرية أو الموت.»

هنا أيضًا، ساهم كامو في الأسطورة التي شارك شارل ديجول بقدر كبير في نسج خيوطها — أسطورة أن فرنسا كانت قوة كبرى في القتال ضد ألمانيا النازية. كان الهدف من تحرير باريس أن يكون استعراضًا للقوة لرفع الروح المعنوية لدى الباريسيين. وفي واقع الأمر، طلب ديجول من الأمريكيين إذا ما كان بإمكان كتائب الجنرال لوكلير المدرَّعة أن تحرِّر باريس، فكان هذا موضوع مفاوضات مكثَّفة إلى حدٍّ ما. وعلى الرغم من أن دبَّابات لوكلير دخلت باريس أولًا، فإن رسو الإنجليز في نورماندي — والذي صار ممكنًا بسبب ضغط الاتحاد السوفييتي الهائل على الفيرماخت على الجبهة الشرقية — هو الذي أدى إلى تحرير باريس. لكن عندما دخل ديجول مدينة النور، ألقى خطبة شهيرة أعلنَ فيها أن باريس حرَّرت نفسها؛ ومن ثَم فكرة أن فرنسا ستحرِّر نفسها أيضًا.

كان هذا الخطاب جزءًا مما رأى ديجول أنه صناعة حاسمة لأسطورةٍ هدفها حماية وَحدة فرنسا، وإعادة غرس قليل من الكِبْر في شعبٍ واهن العزيمة تمامًا. استُعيدَ «مجد» فرنسا أيضًا — والثقة في زعامتها — من خلال إعادة تأطير أفعال مثقَّفيها. كان المقصود أولًا ألا توجد حلولٌ وسطى؛ أن تكون إما مقاومًا وإما متواطئًا، وإن كان الواقع شديدَ التعقيد والغموض.

وقد لعِبَ كامو نفسُه دورًا وجيهًا في صناعة تلك الأسطورة، لا سيَّما بعد تحرير باريس مباشرةً، في أول مقالاته المنشورة التي كان لها عناوين مثل: «دماء الحرية»، و«ليل الحقيقة»، و«زمن الاحتقار». في تلك المقالات الافتتاحية، برَّر عنفَ التحرير، بل مجَّده. لاءمت تلك اللغة الاحتفالات التي أُقيمت في كل أنحاء فرنسا في يوم النصر (عيد النصر في أوروبا). كان ذلك هو التطهير الأخير قبل بزوغ فجر حِقبة سلام جديدة. لكن لم يكن الأمر على هذا النحو في الجزائر.

استغلَّ بعضُ الجزائريين فرصة يوم النصر والاحتفالات لنشر العَلم الجزائري والتلويح به — فقد كان كثيرٌ منهم، في نهاية المطاف، من الجنود السابقين الذين شاركوا في الصفوف الأمامية في أول انتصار حقيقي لبقايا الجيش الفرنسي على الجبهة الإيطالية. ردَّت الشرطةُ الفرنسية على تلك المظاهرات بإطلاق النار على المتظاهرين. أدَّى هذا الرد إلى تصاعد أعمال العنف، التي قُتِل فيها حوالي ١٠٠ من الشرطة الفرنسية والأقدام السوداء.

أدى رد فِعل الفرنسيين والأقدام السوداء إلى أحد فصول التاريخ الفرنسي الأكثر ظلامًا والأقل طَرحًا للحديث عنه. راحت الشرطة والقوات المسلحة الفرنسية إلى جانب ميلشيات الأقدام السوداء تذبِّح آلاف الجزائريين لأسابيع بلا انقطاع، خاصةً في سطيف وقالمة. كما قصفت القوات الجوية الفرنسية قُرًى بأكملها، حتى سوَّتها بالأرض. وفي باريس، تجاهلت الصحافة المتمدِّنة بأغلبيتها العظمى المذابح. لكن ألبير كامو لم يتجاهلها.

تحرَّرت معظم أجزاء فرنسا بالفعل بنهاية عام ١٩٤٤؛ ومن ثمَّ أصبح في إمكان كامو السفر بحرية. كان لتوِّه عائدًا من رحلة طويلة في الجزائر، أعدَّ خلالها مقالاتٍ يصف فيها محنة العرب للقُراء الفرنسيين، وراح يُبين لهم أن على الفرنسيين غزو الجزائر «مرة أخرى»، وكان يعني بذلك أن على فرنسا أن تحوز قلوب العرب والبربر وعقولهم. على ضوءِ تلك الغاية، أطاحت المذابحُ في سطيف وقالمة بكل ما كان يرجو كامو أن يراه، وكانت مقالاته وقتها على وَشْك أن تُنشر. وبما أنه لم يستطِع التظاهر بأن المذابح لم تقع، فقد قلَّل من فظاعتها. ومن الضروري أن نلاحظ أن الجزائريين من منظور كامو هم مَن ارتكبوا المذابح؛ حيث وصفَ القتل المنظَّم لآلاف الجزائريين على يد قوات الاحتلال بمصطلح أكثر حيادية، وهو «القَمْع». فكتبَ:

أثارت المذابح في سطيف وقالمة السخط وإحساسًا عميقًا بالامتعاض عند فرنسيِّي الجزائر. وأدى القمع الذي تلاها إلى إحساس بالخوف والعداوة عند جموع العرب.

اختيار الكلمات هنا مثير للاهتمام. وصفَ كامو مشاعر الأقدام السوداء باعتبارهم ضحايا بكلمات «السخط» و«الامتعاض»، أما بالنسبة إلى «جموع العرب» فإن مشاعرهم كانت ذات طبيعة غريزية «الخوف» و«العداوة». حتى في وصفه للمذابح في سطيف وقالمة، لم يكن بمقدور كامو إلا أن يخذل مَنْ هم يستحقون تعاطفه.

ومن ثمَّ، لم يشغل القتل الجماعي للجزائريين على يد السلطات الفرنسية والأقدام السوداء إلا بعض السطور المغلوطة في مقال كامو. لعل كامو كان يعي أن انتشار المعرفة بتلك الجرائم التي ترعاها الدولة سيقوِّض من مصداقية صورة فرنسا كإمبراطورية مستنيرة ومُحبة للخير. لا شك أن مذابح سطيف وقالمة تُعدُّ إلى يومنا هذا مسألةً محظورةً في التاريخ الفرنسي؛ إذ نادرًا ما تجري مناقشتها، وهي غائبة إلى حد كبير في كتب التاريخ. رغم ذلك، كانت تلك المذابح بدايةَ نهاية الاحتلال الفرنسي للجزائر. فبعد أقل من عشر سنوات، بدأت حرب الاستقلال الجزائرية.

هيروشيما

بعد ٣ أشهر من يوم النصر وبداية المذابح الجزائرية، أسقطت طائرات الولايات المتحدة قنبلةً نووية على هيروشيما، فقتلت ٨٠ ألف شخص على الفور. كان ثَمة سيلٌ من التهاني والتعليقات الإيجابية في الصحافة الفرنسية. وكان كامو وحده وسط نُظرائه في الصحافة والعالم الأدبي الفرنسي صريحًا في إدانته: «وصلت الحضارة الصناعية للتو إلى أقصى مراحل وحشيتها». وذهبَ كامو إلى إدانة العِلم أيضًا:

في عالمٍ عاجز عن أن يضع أيَّ قيود، متروك لمآسي العنف، غير مكترثٍ للعدالة ولسعادة الإنسان البسيطة، في هذا العالم سيُكرِّس العلم نفسه للقتل المنظَّم، ولن يكون أحد متفاجئًا، إلا من عتوٍّ مثالي.

تفشَّت حالةٌ عامَّة من خيبة الأمل في دوائر المثقَّفين بعد الحرب العالمية الثانية. عُرِف عن الفيلسوف والمفكِّر الألماني الشهير تيودور أدورنو تصريحه أنه بعد أوشفيتس سيكون من المستحيل كتابة الشعر. وطرحَ كامو سؤالًا: «كيف يمكن للمرء ألَّا يرفض العلم بعد هيروشيما؟» في الواقع، استياءُ كامو من العلم كان سابقًا على الحرب. كان رفضُ كامو لأي سيناريو يفسِّر كل شيء — سواء كانت الشيوعية، أو الدين، أو العلم، أو حتى التاريخ البشري ببساطة — يقع في قلب نظريته بشأن العبث، والتي اكتسبها وطوَّرها خلال السنوات التي قضاها صحفيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤