الفصل الرابع

متمرِّد بلا قضية

كتبَ كامو عام ١٩٤٣ في يومياته: «أن تطرح السؤال الخاص بالعالم العبثي هو أن تسأل: «هل سنقبل اليأس بسلبية؟» ولا أعتقد أن ثَمة امرأً صادقًا سيُجيب بالإيجاب.» تلك المقدمة المبكرة تعبِّر بإيجازٍ عن وعيه بأن الأحداث كانت تدفعه إلى التسامي عن عدمية العبث (شكل ٤-١). ففي خِضم الحرب العالمية الثانية، أدركَ كامو أنه لا يستطيع أن يكون غير مكترِث بالاحتلال النازي لفرنسا؛ ولذا كانت عَدمية عَبَثه واهية.
fig4
شكل ٤-١: واحدة من أكثر الصور المعبِّرة عن كامو، التقطها المصوِّر الشهير هنري كارتييه-بريسون عام ١٩٤٧.

كان كامو لا يزال يعارض بحزمٍ النظريات المفسِّرة لكلِّ شيء والتغيير المنظَّم، لكن كان عليه أن يجد طريقه إلى التنظير لقراره بالانضمام إلى المعارضة وسرده، القرار الذي تَعارض مع بعض المبادئ الأساسية للعبث على العديد من المستويات. وقد كشفَ عمله المبكِّر والرامي إلى المقاومة بعنوان «رسائل إلى صديق ألماني» كيف أنه كافحَ من أجل أن يبيِّن التزامه بتلك القضية باعتبار ذلك جزءًا من إرادة العبث. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الشخصيات الرئيسية في أعماله — ميرسو، وكاليجولا — تُبدي لا مبالاة تامة بالأخلاق والآداب، بفكرة الخير والشر. وسيغيِّر كامو موقفه جذريًّا في الثلاثية الثانية من أعماله — «الطاعون»، و«القتلة المنصفون»، و«الإنسان المتمرِّد» — التي كانت جزءًا من دورة أعمال كامو في التمرُّد.

يطوِّر كامو مفهومه عن التمرُّد باعتباره تكيُّفًا مع عَبث الزمان. كما كتبَ لاحقًا في «الإنسان المتمرِّد» أنَّ اتباعَ عَدمية العبث دون تمحيص لا يخلو من المآزق والمخاطر؛ لأنه إذا «لم يكن ثَمة صواب أو خطأ، وخير أو شر، فستكون القاعدة هي أن تكون الأكفأ … الأمر الذي يعني أن تكون الأقوى». باختصار، لا يدين العبث القتل: «إذا كنا نتظاهر بقبول وجهة النظر العَبثية ونعيش بها، فيجب أن نُعدَّ أنفسنا لأن نقتُل.» كان التمرُّد بالنسبة إلى كامو في البداية شبه غريزي، شيءٌ يقوم به المرءُ كردة فِعل تجاه القمع، لكن في لحظة معينة من الزمان، عندما تصل الأمور إلى حد معيَّن يكون فيه التسويغ أو الإذعان أمورًا لم تعد محتملة؛ تلك المرحلة هي التمرُّد. التمرُّد هو الاسم الذي أطلقه على قراره للانضمام إلى المقاومة، والذي حوَّله بعد ذلك إلى نظرية. في سبتمبر ١٩٤٤، كتبَ أن التمرُّد لا الثورة هو ما يستحث المقاومة: «ينبع التمرُّد من القلب». ولذا فالتمرُّد إحساسٌ كالعبث. رغم ذلك، فإنه أيضًا — على غرار العبث — إحساسٌ مؤقَّت وعابر، ولا يسعى إلى إرساء نظام أو قيم راسخة. التمرُّد عاطفة مبنية على نظام أخلاقي بدائي، إحساسٌ سعى كامو إلى إبرازه لأول مرة في روايته «الطاعون».

الطاعون

حبكة «الطاعون» بسيطة نسبيًّا: مدينة في الجزائر المستعمَرة فرنسيًّا يجتاحها الطاعون. يبدو النظام الاستعماري مقبولًا للوهلة الأولى عندما كان الراوي يصف المدينة التي تقع فيها الأحداث: «في الواقع، إن وهران مدينة عادية، وليست أكثر من مقاطعة إدارية فرنسية على الساحل الجزائري.» يبدو هذا الوصف اعتياديًّا، لكن الاستثنائي هنا أن مدينة في شمال أفريقيا تُعتبر عاصمة مقاطعة فرنسية، وأن تلك المدينة تُوصَف بالعادية. بتلك الكلمة، يحدث التسويغ مع التاريخ: ويصبح الاحتلالُ مقبولًا وطبيعيًّا.

تبدأ رواية «الطاعون» باقتباسٍ من دانيال ديفو (وإن كان يختفي عادةً في الترجمات الإنجليزية): «من المعقول أن ترمز إلى أحد أنواع الحبس بنوع آخر، كما نرمز إلى أي شيء موجود فعلًا بشيءٍ لا وجود له.» تُبيِّن تلك العبارة بوضوحٍ الهدف الرمزي للرواية؛ أنها عن الاحتلال الألماني لفرنسا، والطاعون في محل الألمان. لكن، بتلك القصة الرمزية، ينفي كامو فاعلية الإنسان في التاريخ؛ إذ يحلُّ الاحتلال الألماني محل الفيروس. وعلى مدار الرواية لا يوجد أي حديث حول أسباب هذا الطاعون؛ إنه يظهر ويختفي وحسب، دون أي تفسير. إنها رواية شائكة مثل قصة رمزية؛ فالطاعون على الأرجح رمزٌ في الأساس، أداةٌ لتقديم الكائنات البشرية (خاصةً الرجال)، وهي تواجه المصائب، ولرسمِ تصوُّره الجديد عن التمرُّد.

المدينة تحت العَزْل: أولًا تموت الفئران، ثم الناس، ولا يستطيع أحدٌ الدخول أو الخروج. السلطات والأطباء عاجزون ومرتبِكون. يركِّز السرد على أفعال ستة فرنسيين — برنار ريو، والأب بانيلو، ورايمون رامبير، وجان تارو، وجوزيف جران، وكوتار، الذين تتغيَّر حياتهم في مواجهة الجائحة. يعبِّر كلٌّ من هؤلاء الرجال الستة عن توجُّه من اثنَين لا ثالثَ لهما تجاه الاحتلال الألماني: المقاومة، أو التعاون مع المستعمِر. تناضل الشخصيات لفهم المعنى في مواجهة الطاعون: ما هدفه؟ لماذا يوجد؟ هل سيكونون هم الموتى القادمين؟ وما الذي يمكن عمله بشأنه؟ وفي مواجهة تلك البلبلة الشديدة (في نهاية المطاف، تلك مشاكل وجودية، وقد تفشَّت بفِعل الطاعون)، يواجه كلٌّ منهم هذا الصراع بأسلوب مختلف.

إحدى الشخصيات الرئيسية هي ريو، طبيبُ المدينة الذي يقوم على رعاية المرضى المصابين بالطاعون بلا كلل. وقد فُصِل بينه وبين زوجته بسبب العَزْل المفروض بسبب تفشي الطاعون، ويستحضر هذا تجربة كامو، الذي افترقَ عن فرانسين. وما يعمله ريو لا يؤدي إلى النتائج المتوقَّعة على الرغم من أنه لا يفتر؛ إذ يموت بعضُ مرضاه، والبعض الآخر لا يموتون، وذلك دون تفسير. ومع ذلك، يتمسك بفطرة أخلاقية في مواجهة عبثية الحياة. وهو واقعيٌّ ولا ينشغل بدرامية الموقف.

ريو أيضًا شخصيةٌ محورية؛ لأننا نعرف بنهاية الرواية أنه راوي القصة، في تغيُّر مفاجئ للحبكة يصعب تصديقه (كان ريو هو الراوي طوال الوقت، يقرأ مقتبَساتٍ من يوميات تارو). حتى تلك اللحظة كان القارئ موجَّهًا إلى الاعتقاد في أن الراوي راوٍ عليم. وعلى الرغم من أنه تغيُّر غير مُقنِع، فإنه يناسب هدفَ كامو في تحدِّي كل السلطات شبه الإلهية في الرواية. بإخباره القارئ أن الراوي كان ريو، يشير كامو إلى موقفه من الراوي العليم، وهو المعادِل الروائي للإله العليم بكل شيء الذي يستبدله بشخصية بشرية.

عندما سألته إحدى الشخصيات عن إذا ما كان يؤمن بالإله، يرد ريو أنه إذا آمن بإله مطلق القدرة فسيتوقف عن محاولة علاج مرضاه. ومن ثمَّ فهو لا يتحدى وجود الإله، بل بالأحرى قدرته على التدخل في شئون البشر. ما يهمُّ هو العامل البشري. يقول ريو أيضًا إنه لا يستطيع أن يؤمن بإله يسمح بموت الأطفال الأبرياء. يقع هذا الحوار في صميم المغزى الإنساني للرواية.

في رواية «الطاعون»، ريو الذي يستمر في الاعتناء بمرضاه دون أمل في علاجهم يشبه سيزيف: إنها «هزيمة لا تنتهي». يصبح ريو في مواجهة الموت وعبثية الحياة يوميًّا تجسيدًا للإنسان المتمرِّد. إنه يستمر في القتال لأجل إخوانه من البشر بغضِّ النظر عن هول الظروف أو مدى صعوبة نيل فرصة النجاح. ريو مدفوعٌ بإيمان راسخ في الإنسانية، والتي سينظر لها كامو لاحقًا باعتبارها القوة الدافعة لتمرُّده.

رجلٌ آخر من الرجال الستة هو الأب بانيلو، القَسُّ اليسوعي الذي يظهر في بداية الرواية بمعتقداتٍ مطلقة، ويمثِّل الدين المنظم. يخبر أبناءَ أبرشيته أن الطاعون عقابٌ سماوي — «أنتم تستحقونه!» — ويهاجم «العِلم البشري العقيم». في النهاية، يصبح الأب بانيلو من خلال التجارب التي عايشها في الطاعون أقل تشدُّدًا، ويموت في تطور مثير للمفارقة، ألحقه الطاعون عنوة بصفوف البشر البسطاء.

الشخصية الصالحة التي تُشارك كامو العديدَ من الصفات هي رايمون رامبير، صحفيٌّ من فرنسا أتى إلى البلدة المستعمَرة ليتقصَّى ظروف حياة العرب. يحاول رامبير العالِق هناك بسبب العَزْل، يائسًا أن يهرب، على مدار جزءٍ كبير من الرواية. ولانشغاله كثيرًا بالرجوع إلى زوجته والهروب من وهران إلى باريس، يقرِّر في النهاية البقاء والمشاركة في مكافحة الوباء. يمثِّل رايمون أحدث المشاركين في المقاومة. والدافع الأوَّلي لوجوده مهم من حيث إنه يُنسى بسرعة بمجرد ظهور الطاعون.

جان تارو هو تجسيدٌ آخر لشخصية المُقاوِم. يؤسِّس تارو مجموعة من المتطوعين، ويمثِّل تجسيدًا للمقاومة وللتمرُّد. وهو الأكثر أخلاقية بين الرجال الستة، مدفوعًا في ذلك بأخلاق الإنسانوية. وهو كذا مُنكِر لِذاته وشجاع. يموت تارو أيضًا بالطاعون؛ الأمر الذي يعود بنا إلى الإحساس بغياب المعنى والإجحاف اللذين يسودان الرواية. لا يوجد جزاءٌ للأفعال الخيِّرة، سواءٌ كنت متمردًا ملحدًا أو قَسًّا يسوعيًّا، لا توجد سُلطة عُليا رحيمة.

الرجل الخامس هو جوزيف جران، وهو موظفٌ بالبلدية كان يكتب أول عبارةٍ في روايته مرارًا وتكرارًا في محاولة للوصول إلى الكمال الأدبي، ينضمُّ في النهاية إلى المقاومة وينجو من الطاعون، الأمر الذي يسترجع مرةً أخرى وجهة نظر كامو في «أسطورة سيزيف» عن عشوائية الحياة والموت. هنا يلعب الطاعون دور كاليجولا (إذ يعاقب بالموت على نحو تعسُّفي)، لكن لا يتركَّز محور القصة حول مصدر اعتباطية الموت، بل حول كيفية استجابة قلة مختارة من البشر تجاهه.

تُمثِّل كل الشخصيات ردودَ فعل مختلفة خلال فترة الاحتلال. بعد الأبطال (ريو، وتارو، ورايمون، وجران)، ورموز السلطة الدينية (بانيلو)، يتبقى لدينا في النهاية كوتار معبرًا عن المتواطئين. كوتار رجلٌ حاول أن ينتحر وأنقذه جران. يشرع كوتار في التربح من الجائحة (حيث يبيع البضائع في السوق السوداء، ويساعد الناس على الرحيل بطرق غير شرعية). وتُكتَب له النجاة، لكن يُلقى القبضُ عليه في نهاية الرواية. هنا، تنتصر العدالة البشرية في غياب العقاب الإلهي.

وفي المرات القليلة التي يأتي فيها كامو على ذكر الجزائريين في الرواية يكون ذلك لجعلهم جزءًا غير مترابط أو خفيًّا من التدبيج. كذلك لا توجد شخصياتٌ عربية، لا حديثًا ولا وصفًا، على الرغم من أن وهران بها تعدادٌ سكاني كبير من الجزائريين.

في النهاية لا يوجد تفسيرٌ للطاعون، ولا لكيفية ظهوره، أو لماذا توقَّف عن حصد الأرواح. في الواقع، يختفي الطاعون ببساطة وبلا تفسير، متأهِّبًا للعودة في أي وقت، وذلك حسب تحذيرات الراوي المنذِرة بالشَّر. تحتوي رواية «الطاعون» على العديد من المواضيع الموجودة في «أسطورة سيزيف»، إلى جانب الدعوة إلى التصرف بناءً على توجُّه أخلاقي وإنساني. وكما كتبَ كامو في يومياته:

لا يوجد اعتراضٌ آخر على التوجُّه الاستبدادي غير الاعتراضات الدينية أو الأخلاقية. إذا كان العالم بلا معنًى فهم محقُّون. وأنا لا أتقبَّل أنهم محقُّون. ولذا … تُلقى على عاتقنا مسئولية أن نخلق إلهًا. الإله ليس هو الخالق. هذا هو كلُّ تاريخ المسيحية. لأن لدينا طريقة وحيدة لخلق إله، وهي أن نصبح آلهة.

أن نصبح آلهة هو ما يقترحه كامو فيما كتبه في يومياته حينها، وهذا ما يفعله دكتور ريو بطريقتَين: (١) بتصرفه كعنصر فاعِل يتصرَّف برأفة ورحمة في أوقات الأزمات، (٢) وباضطلاعه الرمزي بوظيفة الراوي العليم. تلك الفكرة عن البشر الذين يتصرفون كالآلهة ستظهر مرة أخرى في مجرى كثيرٍ من نقاشات كامو العَلَنية مع المثقفين الشيوعيين الذين ازدرَوه بأن أطلقوا عليه لقبَ قديس علماني. ووسط كلِّ الأسئلة الوجودية عن وجود الإله ومعنى الحياة، ثَمة هاجسٌ ينتاب الرواية بين الحين والآخر. وعلى الرغم من أن ظروف حياة العرب ستكون موضوعَ سلسلة مقالاتٍ يكتبها الصحفي الفرنسي في الرواية رامبير، فإن هذا الاهتمام يختفي في ضوء الحالة الطارئة المنبثِقة: اجتياح الطاعون للبلدة. يبدو أن الرسالة هي أن الأشياء الاعتيادية مثل «الظروف المعيشية عند العرب» يجب أن تكون على الهامش. إن السكوت على تلك المشكلة يعكس السكوت على سبب الطاعون في الرواية.

لا ضحايا ولا جلَّادون: التمرُّد كموقفٍ سياسي

في سلسلة مقالاتٍ شهيرة كُتبَت عام ١٩٤٧، وتحمل في مجموعها عنوانَ «لا ضحايا ولا جلَّادون»، بدأ كامو بالإفصاح عن رؤيته السياسية حول التمرُّد في بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان أحد الأهداف الرئيسية في تلك المقالات هو الشيوعية. والسياقُ الذي تبنَّى فيه كامو موقفه مهم: بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً كان الاتحاد السوفييتي في أوج قوَّته من حيث التأثير والقوة العسكرية الملموسة. وقد كان الحزب الشيوعي الفرنسي قويًّا إلى حدٍّ بالغ، ليس من ناحية عدد أعضاء البرلمان وحسب (حيث كان أكبر حزب سياسي فرنسي)، لكن أيضًا في اتحادهم — الكنفدرالية العُمَّالية العامة — الذي كان الأقوى في فرنسا.

على جبهة أخرى، دعمَ كثيرٌ من المثقفين العِظام الحزبَ الشيوعي، بمَنْ فيهم فنَّانون أمثال بابلو بيكاسو وفرنان ليجيه وكثيرٌ من الكُتَّاب الذين احتشدوا حول السريالي السابق لويس أراجون، وحول دورية الحزب الشيوعي الأدبية المؤثِّرة «لي ليتر فرانسيز». جعل العديد من الشيوعيين — وأولهم لِينين — من تحرُّر المستعمرات السابقة واستقلالها هدفًا محوريًّا للشيوعية حول العالم؛ الأمر الذي كان يعلمه كامو. في الواقع، كانت قيادة العديد من الحركات المؤيِّدة للاستقلال من الشيوعيين، بدءًا من هُو تِشي مِنْه في الهند الصينية المحتلة من قِبل فرنسا، الحقيقة التي كان كامو واعيًا بها أيضًا. كان شغل كامو الشاغل في ذلك الوقت هو أن تحتفظ فرنسا بإمبراطوريتها. على سبيل المثال، في لقاءٍ له مع صحيفة بروتستانتية عام ١٩٤٥، صرَّح كامو:

إذا ما كانت فرنسا لا تزال تلقى معاملة كريمة، فهذا ليس لماضيها المجيد. فالعالم اليوم لا يعبأ بالمواضي المجيدة. لكن ذلك سببه أن فرنسا قوة عربية، وهي الحقيقة التي يتجاهلها ٩٩٪ من الفرنسيين. وإذا كانت فرنسا ليس لديها تصوُّر عن سياسة عربية حقيقية في السنوات القادمة، فلا مستقبلَ لها.

كان التحليل الأكثر انتشارًا للاستعمار في ذلك الوقت يحوي في صميمه دافع الربح الرأسمالي، وكان أفضل معارِض لهذا التحليل هو الشيوعية، الموقف الذي لم يُنظِّر له سوى جان بول سارتر بنفسه في مقدمة إلى مجموعة شعرية لشعراء واقعين تحت وطأة الاستعمار. شجَّع هذا الموقف كامو على التوجُّه المُعادي للشيوعية. كان كامو يتَّبع اليسار، لكنه يسار إصلاحي وأوروبي في المقام الأول. والسماتُ المميِّزة لنسخة كامو الخاصة عن اليسار — عن المركزية الأوروبية ورفض الثورة لميلها إلى الإصلاح — تتشابه مع فكرته عن التمرُّد. يقتصر تمرُّد كامو على أوروبا والأوروبيين، ومؤطَّر بالمسائل الوجودية وليس الوعي الاجتماعي. أعلنَ كامو مواصفات التمرُّد كما يراها في «لا ضحايا ولا جلَّادون» (وطوَّرها إلى حدٍّ أبعد في «الإنسان المتمرِّد»).

في أول مقال في المجموعة بعنوان «قَرْنُ الخوف»، يكتب كامو في هجوم صريح على الشيوعية مُعارضًا اليوتوبيا السياسية والعِلم: «نحن نختنق وسط رجال يعتقدون أنهم محقُّون تمامًا، سواءٌ كان ذلك فيما يخصُّ آلياتهم أو أفكارهم». السؤال بالنسبة إلى كامو هو كيف نتخلص من هذا الخوف. والخطوة الأولى هي نبذ العنف كله والتخلي عنه. ويشترط لمواجهة الخوف أن تنتفي لديك الرغبة في أن تُقتل (أن تصير ضحية)، أو أن تَقتُل في سبيل فكرة (أن تصير جلَّادًا). الخوف بالنسبة إلى كامو هنا هو تطبيق العنف المؤسَّسي في سبيل قضية أسمى. هدفُه هو الشيوعية بوضوح.

يكتب كامو في مقال آخر بعنوان «الاشتراكية بصفتها لغزًا» أنه بين نظام تنتشر فيه الحرية لا العدالة الاجتماعية، ونقيضه الذي تنتشر فيه العدالة الاجتماعية دون الحرية، فإنه سيختار الحرية في النهاية. ينبِّه كامو بشدة إلى أن الحزب الاشتراكي الفرنسي — الذي كان حينها كِيانًا أقليًّا، ولكنه سيصل إلى السلطة في النهاية عام ١٩٨١، بعد موت كامو بوقت طويل — في حاجة إلى أن يختار ما بين الموالاة التامة للماركسية وفكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، وبين التوجُّه الإصلاحي. باختصار، يريد كامو من الحزب الاشتراكي الفرنسي أن يهجر الثورة، وأن يترك الماركسية باعتبارها «فلسفة مطلقة». سببٌ آخر للتخلي عن الثورة هو سبب يتوقَّف على السياق؛ حيث يرى كامو أن الثورة الوحيدة الصالحة والقادرة على الاستمرار هي ثورة عالمية، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى تهديد جسيم بالحرب وعدد كبير من القتلى. وبالنسبة إلى كامو، هذه المجازفة لا تستحق العناء.

وبديل كامو للثورة العالمية هو «الديمقراطية الدولية»، وهي تصوُّر لا يعرِّفه إلا سلبيًّا. والديمقراطية الدولية ليست بالشيوعية، لكنها أيضًا ليست بالأمم المتحدة. وعلى وجه التحديد، يعتبر كامو أن الأمم المتحدة ستصبح ديكتاتورية دولية لأنها محكومة بقُوًى تنفيذية؛ عوضًا عن ذلك، يؤيد برلمانًا عالميًّا يتشكَّل بانتخاباتٍ عالمية. رغم ذلك، يشير إلى أنه ينبغي لمقاومة الديكتاتورية الدولية ألا تستخدم وسائل تُعارِض الهدف المرغوب، وهو الموقف الذي حظر المعارضة المسلحة على نحو فعَّال.

وفي فقرة محورية في مقال «العالَم يتحرك بسرعة»، يتحدَّث كامو عن «صِدام الحضارات» القادم. يزعم كامو أن تفوُّق الحضارة الغربية سيكون في خطر عن قريب «في غضون عشر سنوات أو خمسين سنة». فالوقت من ذهب، ويطالب بافتتاح البرلمان العالمي، الذي وصفه في المقال السابق، في أقرب وقتٍ ممكن «لتكون الحضارة الغربية ونظامها العالمي كونيَّين حقًّا». باختصار، يريد كامو الحفاظ على تفوق الغرب، ويقترح إنشاء برلمان عالمي ليتحقق ذلك. ولا يذكر كامو كيف سيحدث ذلك بالضبط، لكنه بتأييده حلًّا كهذا وبدعمه لهذا الهدف، يرسِّخ لحماية تفوق قوى الغرب في قلب برنامج إجراءاته. وهذا هو أقرب ما يمكنه الوصول إليه لغرض الدفاع علانيةً عن نظام عالمي استعماري.

في نهاية المقال، يؤيِّد كامو «اليوتوبيا الجزئية»، التي ستستلزم على سبيل المثال تأميم الموارد الطبيعية (كاليورانيوم، والبترول، والفحم) لكن لا شيء آخر. باختصار، هدف كامو قريب من مبادئ الديمقراطية الاشتراكية: حل وسط بين تأميم وخصخصة كل شيء. وفي مقاله قبل الأخير، «العَقْد الاجتماعي الجديد»، يريد كامو أن ينشئ نظامًا دوليًّا للعدالة. هذا أيضًا أول مقال يقترح فيه تحريم عقوبة الإعدام. رغم ذلك، لا يؤيِّد كامو التغييرات الأيديولوجية. فهو يطلب من البشر أن يتحلَّوا بشجاعة التخلي عن بعض أحلامهم (أي الشيوعية) والتركيز على الحفاظ على الأرواح (أي السلام). ولتلك المقالات نبرة تقريرية، كما أنها عاطفية تمامًا، وكأن كامو يعلن عن القواعد وليس يقترحها.

لم يكن مقاله الأخير استثناءً بغضِّ النظر عن عنوانه «نحو الحوار». هنا يتَّخذ كامو مرة أخرى موقفًا مُعاديًا ﻟ «المنطق التاريخي»؛ إذ يصف فكرة التقدُّم، فكرة التحرُّر كمنطق، بقوله «صنعنا من العدم» أفكارًا «ستئول بنا عُقدها إلى الاختناق».

ما الذي يَشغل كامو هنا؟ تحتاج النزعة المُعادية للتاريخ والمنتشرة في أعمال كامو تفسيرًا. يأتي ذلك المفهوم عن التاريخ من فهم كامو لهيجل، الذي عُرِفَ عنه إعلانه أنه رأى التاريخ على حصان عندما رأى نابليون قادمًا إلى مدينته — ومن ثَم إسقاط النظام الأرستقراطي. ولذا، أصبح نابليون تجسيدًا للتاريخ التقدُّمي. ورغم أن هذا كان يمثِّل إشكالية بأساليب شتى (بالنظر إلى أفعاله في هايتي وإسبانيا وغيرهما)، فقد كانت تلك هي النظرة الفرنسية لنابليون — محرِّر الشعب، والمُطيح بالأنظمة المستبدة. كانت الفكرة هي أن كل الأنظمة القمعية ستُواجه ﺑ «التقدم» نهايتها العنيفة لا محالة على أيدي شعبها.

كان كامو من أكثر العارفين بأن فرنسا احتلَّت الجزائر، وأن الجزائر كانت مقموعة بالفعل وتتوق إلى التحرُّر. إحدى الطرق للتفكير في عِداء كامو للتاريخ والحكم عليه هي النظر إليه باعتباره خوفًا من سردية تنتهي بتحرير الجزائر. وعي كامو بتلك النظرية القائلة بحتمية التقدُّم — ومن جانب آخر إيمانه بها — جعله غير مرتاح إلى الوضع في الجزائر. كان ذلك مصدر مُناشَدة كامو لقرائه علنيًّا أن يتخلَّوا عن مُثُلهم، عن مثاليتهم حول التحرُّر الكامل، لصالح «تغيير في أسلوب الحياة» أكثر تواضعًا أو «يوتوبيا جزئية». أراد كامو إصلاحاتٍ يسيرة وليس تغييرات جذرية، خاصةً فيما يتعلق بالجزائر. وعلى الرغم من أن هذا الموقف الإصلاحي وجدَ قليلًا من الحلفاء خلال حرب الاستقلال الجزائرية لأن كلا الفريقين لم يفضِّل التسوية، فإنه أدَّى في النهاية إلى شعبية متجدِّدة بعد سقوط سور برلين عام ١٩٨٩ وسقوط الاتحاد السوفييتي، حينها جرى الاحتفاءُ بكامو باعتباره كان محقًّا منذ البداية.

«القتَلة المنصِفون» و«الإنسان المتمرِّد»

مُعارَضة كامو للعنف السياسي، أو كما يقول إدانة «أحقِّية القتل باسم التاريخ»، كانت وسيلة لرفض التغيير الثوري الكاسح ولمعارضته الحركات المناهضة للاستعمار. ولذا، فإنَّ مسألة العنف لسبب وجيه — سواء إذا كان القتل مُبرَّرًا بأي شكل أم لا — تقع في لب ثاني أشهر مسرحيات كامو، وعنوانها «القتَلة المنصِفون»، المنشورة عام ١٩٤٩. وبما أنها تنبني على مذكرات الإرهابي الروسي السابق بوريس سافنكوف الذي حاول قتلَ القيصر عام ١٩٠٥، يقدِّم كامو مُعضِلة العنف السياسي عبر نقاش بين مُناضِلي الخلية الإرهابية الذين يخطِّطون لاغتيال القيصر.

الشخصيات الرئيسية الثلاث في المسرحية هي إيفان كاليايف وستيبان فيدوروف ودورا دوليبوف. في البداية تبدو الشخصيات ذات عقيدة لا تتزعزع في مشروعية أفعالهم. من ناحية، يقدِّم كامو كاليايف بوصفه البطل الحقيقي الذي يعاني من وسواس. في البداية، لم يستطِع أن يلقي بالقنبلة؛ لأن ابنة أخ القيصر وابن أخيه كانا موجودَين. بعد محاولة ثانية، يتمكَّن من قتل الدوق الأكبر وحده. ثم يُلقى القبض عليه، ويرفض عرضَ السلطات بالعفو عنه شريطةَ أن يخون رفاقه. ويجري إعدامه بيد الدولة في المشهد الأخير. كاليايف هو بطل المسرحية؛ لأن أفعاله تتوافق مع الحالات المحددة التي تجعل من العنف أمرًا جائزًا بالنسبة إلى كامو: كان ينوي المخاطرة بحياته. يطرح كامو أن تلك النية هي الضمان على ألا يكون العنف على نطاق واسع، وعلى أنه سيكون محدود المدة؛ ومن ثَم لن يؤدي إلى نظام استبدادي.

يبدو ستيبان على الجانب الآخر مغالًى فيه؛ إذ يؤيِّد قتل الأبرياء بحماس. ويمثِّل ستيبان المقاتلين الشيوعيين الذين يكرههم كامو بشدة؛ فهو يؤيِّد العقاب الجماعي، بل القتل الجماعي. إنه عنيف، ومتعصِّب، ومتلهِّف للقتل. في رأيه أن الغاية تبرِّر الوسيلة. ولكنه رغم ذلك ضعيف؛ حيث يعترف في النهاية أنه كان يحسد كاليايف. وتنقاد دورا بحبها لكاليايف، على الرغم من أنها مناضلة أيضًا. وبمجرد أن يموت، تقرِّر أن تُواصل النضال علَّها تلقاه بالموت.

لم تلقَ المسرحية استقبالًا جيدًا؛ إذ وجد النُّقاد أن من الغريب أن تُدرَج قصة حب في مسرحية سياسية كتلك. لكن على الأرجح كان ذلك أحد أهداف كامو؛ إذ يبدو الحب في نهاية المطاف ساميًا على الالتزامات السياسية، وهو ما يُعلي المشاعر البشرية فوق التاريخ البشري، وفوق الأفعال السياسية.

على الرغم من أن الإرهابيين يبدون متصدعين، يبدو أن كامو يقدِّرهم فقط إن كانوا مستعدين للموت خدمةً لأفكارهم بقدر ما هم مستعدون للقتل خدمةً لها. يقارن كامو بين هذا الموقف وبين موقف الفلاسفة والمفكِّرين عندما كتبَ عن «سلالتَين من الرجال. إحداهما تقتل مرة وتدفع الثمن حياتها. والأخرى تبرِّر آلافَ الجرائم وتقبل كلَّ أشكال التكريم». تعاود مناهضة كامو للفِكر الظهور مرةً أخرى هنا؛ إنه يؤيِّد اتخاذ الإجراءات، خاصة العنيف منها، لكن على المدى القصير فقط: فموت القائم بالعنف هو أفضل ضمان لمحدودية مدى التمرد.

لا يمكن فصل المسرحية عن مقال كامو اللاحق لها عن التمرُّد بعنوان «الإنسان المتمرِّد»؛ لأنه يمثِّل التحول الموضعي لمقالٍ نشره كامو قبل مسرحية «القتلة المنصِفون»، والذي سيعيد إضافته لاحقًا في مسرحية «الإنسان المتمرِّد». هذا المقال الطويل هو استمرار لهجمة كامو المتعددة المحاور على الشيوعية والثورة. إنه يمثِّل للتمرُّد ما تمثِّله «أسطورة سيزيف» للعَبث: مخطط تفصيلي.

يبدأ كامو «الإنسان المتمرِّد» بإعادة النظر في العبث. لقد أُعيدَت صياغته على أنه نقطة بدء للتمرُّد. يعلن كامو أنه لا يعتقد في شيء، وأن كل شيء عبث، لكن اعتقاده هذا في حد ذاته يُعَد تمردًا واحتجاجًا. يُولَد التمرُّد من العبث، من غياب المعنى؛ إنه رد فعل تجاه عبثية الحياة. ويتمثل الخلاف الأكبر مع العبث في أن العبث لا يملك مكونًا أخلاقيًّا (القتل مسموحٌ به)، والتمرُّد رد فعل تجاه ذلك أيضًا. بالنسبة إلى كامو التمرُّد هو نقطة الانفصال، رد فعل وجودي، هو أشبه بقول أحدهم لا يمكنني الاستمرار على هذا النحو! في أحد الأمثلة الأولى يستخدم كامو مكونًا اجتماعيًّا غير مألوف: اللحظة التي يقول فيها العبد «كفى!». رغم ذلك، لا يعالج كامو ما يحدث بعد ذلك: التمرُّد الكامويُّ ينصُّ على عنف محدود ومؤقَّت، وغير منظَّم، يرتبط باللحظة فقط.

بغضِّ النظر عن مثال العبد، النقطة المحورية هي أن التمرُّد مقتصرٌ على أوروبا: «مشكلة التمرُّد لها معنًى في مجتمعنا الغربي فقط»، يضيف كامو أنه «من الصعب على التمرُّد أن يعبِّر عن نفسه في مجتمعاتٍ ذات تفاوتاتٍ بالغة الاتساع». ويكتب كامو أيضًا أن التمرُّد لا يمكن أن يحدث في المجتمعات التي يكون فيها للمقدسات شأنٌ كبير؛ في رأيه، تلك المجتمعات لم تتصالح بعدُ مع العبث. وبالتأكيد تعبيره الذي يفصل بين أوروبا وبقية العالم هو ترديدٌ لأفكاره عن «صِدام الحضارات» القادم الذي يشغله، الذي كتبَ عنه في «لا ضحايا ولا جلَّادون».

المفارقة في «الإنسان المتمرِّد» هو أن كامو في معظم صفحاته الكثيرة يصف ما ليس بالتمرُّد. يحتوي «الإنسان المتمرِّد» على قائمة طويلة من الأمثلة المضادة — عن الأعداء من كل نوع وعلى كل صعيد: السياسي (النازيون والشيوعيون)، والتاريخي (الثورة)، والفلسفي (هيجل). على سبيل المثال، يشتبك كامو مع ماركيز دي ساد (المؤلِّف الفرنسي الشهير الذي أدت قصصه الإباحية وأفعاله الخلاعية إلى ظهور كلمة السادية، واشتُهِرَ عنه أنه سُجن بالباستيل) لأنه كان مُساقًا ﺑ «كراهيته المطلقة» للآخرين. وينتقد كامو الكُتاب الرومانسيين؛ لأن تمرُّدهم محدود وفردي وشديد الارتباط بالأدب. كما يناقش «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، لكنه يراها تقدِّم طريقًا مسدودًا؛ لأن رفض كارامازوف لحقيقة الإله قاده إلى الجنون الذي به «كلُّ شيء مسموح»، في عودة إلى العَدَمية المقترنة بالعبث.

يناقش كامو أيضًا التمرد الإنساني بوصفه تعبيرًا فنيًّا، وهنا يرى التمرد شيئًا وجوديًّا، لا اجتماعيًّا. ومع التقدُّم في الكتاب، تصبح نبرته أقذع. فيصدر كامو مراسيم عن الطبيعة البشرية وعما يجب أن نعتقده وألا نعتقده. إنه يلوِّح مهدِّدًا بغاية إنسانية مُبهَمة في وجه كل مشاريع التحرر الواسعة النطاق. فأي معارضة لوجهة نظر كامو تصبح صوتًا مؤيدًا للقتل الجماعي و«العبودية». كانت عبارته باتَّة ولا تحتمل أيَّ نقاش.

المعضلة هي أن كامو عندما يَقصُر على الأوربيين تلك المسائل المتعلِّقة بالطبيعة البشرية والتمرد — على سبيل المثال — فإنه يجعل نفسه عُرضة للنقد القائل بأنه هو نفسه المخلِّص المنتظَر الذي ينطق بالحقائق، ذلك المخلِّص الذي ينتقده كامو نفسه في كل موضع آخر في المقال.

ينتهي المقال بإشارة مديح ذات نزعة إقليمية غريبة ﻟ «الفِكْر المتوسطي»، الذي يترادف عند كامو مع سماتٍ ثقافية متميِّزة وواضحة، والتي تتضمَّن حساسية فريدة تجاه الطبيعة وعلاقة متميِّزة مع الشمس. بالتأكيد، كان كامو ممتنًّا لأنه وُلِد في تلك المنطقة من العالَم وليس في مدن الطبقة العاملة في فرنسا:

يا له من حظ سعيد أن تُولَد في عالم تلال تيبازة بدلًا من سان إتيان أو روبيه. أعرف حظي وأتعامل معه بامتنان.

تلقَّى هذا المقطع قدرًا وافيًا من النقد. هل يمكن، كما يحاول كامو أن يقول، أن يرتبط فِكْرٌ من نوع خاص ونظرة خاصة للعالم بالجغرافيا وأنماط الطقس؟ في ذلك الوقت، لم يقتنع كثير من النقاد بذلك.

دفعت النبرة المتصلِّبة واستبعاد غير الأوروبيين من التمرد، والمساواة بين النازية والشيوعية، كثيرًا من المثقَّفين من كلِّ الاتجاهات إلى انتقاد الكتاب بقسوة بعد نشره. وعلى الرغم من أن كامو لم يرد ذلك في البداية، إلا أنَّ جان بول سارتر، وهو صديق كامو القديم، صار فيما بعد الناقد الأقوى لكتاب «الإنسان المتمرِّد»، بل والأكثر إقناعًا. كان ذلك بداية أهم شِقاق عَلني بين اثنَين من أشهر مثقَّفي فرنسا في ذلك الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤