الفصل الخامس

كامو وسارتر – الشِّقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان

عندما نُشِرَ كلٌّ من رواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» لكامو عام ١٩٤٢، كان جان بول سارتر مؤلِّفًا راسخًا ومعروفًا بالفعل. لكن كامو وسارتر لم يلتقيا بَعدُ. يُعزى جزءٌ من شهرة سارتر إلى نشر روايته الأولى «الغثيان» عام ١٩٣٨، التي يواجه فيها مُعلِّمٌ في مدينة ريفية لحظاتٍ عميقة من الشك الوجودي بينما يحدِّق في جذور شجرة. انتشرت الرواية انتشار النار في الهشيم في المجتمع الأدبي الباريسي. وتتشابه رواية «الغريب» مع رواية «الغثيان» في كثير من الجوانب، فهما تحكيان قصة رجل ساخط ومنعزل يشكُّ في كل شيء حوله: المجتمع ومعنى الحياة. ومع ذلك، فإنهما روايتان مختلفتان أيضًا: في رواية «الغثيان» تثير الطبيعةُ القلقَ الوجودي، لكن الفن — في شكل موسيقى الجاز — يداويه (أو يعطي أملًا)، بينما في «الغريب» تهدِّئ الطبيعة من قلق ميرسو الوجودي، ويغيب الفن.

في عامَي ١٩٣٨ و١٩٣٩ استعرضَ كامو رواية «الغثيان» ومجموعةَ القصص القصيرة بعنوان (الجدار) التي تبعتها. وكان النقد مزيجًا من المديح الواجب والانتقاص الحاذق. كتبَ كامو أنه أحبَّ نصف الرواية، لكن لم يحب الجزء الذي اعتبر أنه محاضراتٌ حول الفلسفة. فامتدحَ النواحي الإبداعية في الرواية لكنه لم يُعجَب بالتأملات الفلسفية؛ المزج بين الاثنَين جعل من المستحيل في رأي كامو النظر إلى «الغثيان» على أنها رواية أو عمل فني من أي نوع. فوق ذلك، رأى كامو إيمان سارتر بقدرة الفن على توفير أمل في إيجاد معنًى للحياة أمرًا يكاد يكون مثيرًا للضحك. من وجهة نظر كامو، لا شيءَ يمكنه أن يتسامى على عَبثية الحياة. وقد انتهت الفقرة الأخيرة في نقده الأول بنبرة عالية التناقض إلى حَدٍّ ما. حيث يمدح كامو «موهبة سارتر اللامحدودة»، مُعلِنًا أنه ينتظر بشغفٍ الأعمال القادمة، ومضيفًا — بسخرية — دروسَ سارتر أيضًا. من الواضح أن كامو كان يتسخَّط من شخصية البروفيسور الكامنة في سارتر.

عندما كتبَ سارتر مقالًا نقديًّا عن رواية «الغريب» بعدها بأربع سنوات، كان ذلك من موضع قوة؛ إذ كان سارتر مؤلِّفًا متمكِّنًا. كان وضعُ سارتر أيضًا نابعًا من عمله الأكاديمي المرموق بعنوان «رحلات»: كان سارتر عضوًا في «المدرسة العليا للأساتذة» النخبوية إلى جانب رفيقة عمره سيمون دي بوفوار. وهذا على النقيض من كامو. من المفهوم أن سخط كامو تجاه النظام التعليمي الفرنسي كان سيُلقي بظلاله على سارتر، أحد ألمع نجوم هذا النظام.

ولذا، فمن دواعي المفارقة أن سارتر عندما كتبَ مقاله النقدي عن «الغريب» و«أسطورة سيزيف» لكامو في فبراير ١٩٤٣، كان نقده يبدو إلى حَدٍّ كبير تقريرًا مُفصَّلًا أو دَرسًا، حتى من العنوان «تفسير لرواية الغريب» نفسه. كان سارتر أشدَّ قسوة مع كامو فيما يتعلق بالفلسفة بالطبع. ففي صفحتَين من مقاله النقدي، أسدى سارتر نصائح إلى كامو فيما يتعلق بكتابته في «أسطورة سيزيف» كما لو كان تلميذًا، بل تلميذًا غير كفء في ذلك الصدد: «يريد كامو أن ينال الرضا باقتباسه نصوصًا من ياسبرس، وهايدجر، وكيركجارد، والتي يبدو على الدوام أنه لا يفهمها.» (ردَّدت دي بوفوار هذا النقد لاحقًا، حيث كتبت في مذكراتها أن كامو «كان يطالع الكتب، لكنه لم يكن يفهمها».) استمر سارتر على هذا المنوال بقوله إن كامو «يثرثر» في «أسطورة سيزيف» رغم زعمه ﺑ «حبه للصمت». ولم يعتبر كامو «الغثيان» رواية أصيلة بحق، وفي المقابل كان سارتر متشكِّكًا في إذا ما كانت رواية «الغريب» تستأهل هذا الوصف. واختتم سارتر بأن كامو لم ينجح في تحقيق مُبتغاه.

كُتِبَت هذه التقييمات عن كامو من قِبل ناقدٍ كان يفوقه في ذلك الوقت في معرفته الفلسفية ومكانته الأدبية. فكيف استجابَ كامو لذلك؟ شكا إلى معلِّمه جين جرينييه «النبرة اللاذعة» للنقد، لكنه أيضًا أقرَّ بنزاهةٍ بمقدرة سارتر الثقافية: «في كثير من المناسبات تساعدني على فهم ما كنت أحاول أن أقوم به». كانت الكلمات القليلة الأخيرة تلك شهادة تامة؛ إذ يعترف كامو بالفعل أن في مقدور سارتر فهْم أعماله أفضل مما يفهمها هو.

fig5
شكل ٥-١: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار.
عندما التَقى الكاتِبان لأول مرة، في باريس المحتلة بعد شهور قليلة من نقد سارتر، سرعان ما أصبحا صديقَين، كانا عادةً ما يلتقيان في المقاهي (انظر شكل ٥-١) — أحد الأماكن القليلة التي كان بها تدفئة خلال الاحتلال النازي — فيتحدثان، ويشربان، ويمازحان بعضهما بعضًا. أُعجِبَ سارتر بكامو خصوصًا لِما وصفته بوفوار في مذكراتها ﺑ أساليبه « المشاكِسة» — على عكس نثره المتأنِّي. لم يكن كامو مُتكلِّفًا كصديقَيه الباريسيَّين الجديدين؛ على سبيل المثال، عندما يكونون في الشارع أو المقهى، ويرى امرأة يعتقد أنها جذَّابة، يقطع كامو الحديث على الفور، فيتوقف عن الحديث أو الإصغاء ويحدِّق بزهو في موضع اهتمامه. بعد ذلك بعقد من الزمن، سيعلن كلامنس، وهو الشخصية الرئيسية في رواية «السَّقْطَة»، أنه يفضِّل أن يحادث امرأةً جذَّابة على الحديث مع أينشتاين. أرادَ كامو أن يُرى مثلَ شخصية دُون خُوان الأسطورية، وبالفعل كان يتصرف مثله؛ إذ كانت له علاقاتٌ غرامية كثيرة طوال حياته، وعادةً ما كانت مُتداخلة.

وهكذا في أيام الصداقة الأولى تلك، كان كامو شخصًا يستمتع سارتر بصحبته؛ كانا غالبًا ما يتواصلان معًا اجتماعيًّا، ولم يكن ثَمة محادثات طويلة عن أعمالهما. وفي عام ١٩٤٣، كان العديد من الكُتَّاب المشهورين الذين ينشرون أعمالهم عند الناشِر الفرنسي جاليمار والفنانين البارزين يذهبون معًا إلى الحفلات، التي كان أشهرها في بيت بيكاسو، حيث شاركوا جميعًا في مسرحيته.

قُبَيل انتهاء الاحتلال، طلبَ كامو من سارتر أن ينضمَّ إليه في جريدة «كومبات» مُراسِلًا صحفيًّا. وبعد انضمامه إلى فريق العمل، كتبَ سارتر العديد من المقالات عن المناوشات والعوائق التي حدثت خلال تحرير باريس، كما سافر إلى نيويورك ضمن دعوة للصحفيين الفرنسيين كانت ترعاها الولايات المتحدة لتقوية العلاقات بين الدولتَين المتحالفتَين. في تلك الفترة، كان سارتر قد ألقى محاضرته البالغة الشهرة عن الوجودية، وقد نُشِرَت تلك المحاضرة بعد هذا بعام واحد. كانت الوجودية رائجة للغاية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن سارتر ودي بوفوار في طليعة تلك الظاهرة الفلسفية.

كان ثَمة شيءٌ واحد واضح: لم يُرد كامو أن يظن الناس أنه كان أحدَ تلاميذ سارتر، فبذلَ قصارى جهده لتوضيح أنه لم يكن وجوديًّا. رغم ذلك، قلةٌ فقط من الناس هم مَنْ فرَّقوا بين عبث كامو ووجودية سارتر؛ إذ كان كامو عادةً (وما زال) يُوصَف بأنه وجودي، وكان هذا الوصفُ يزعجه إلى حَدِّ أنه كثيرًا ما أعملَ قلمه على الورق ليعبِّر عن رفضه لهذا الانتساب، أحيانًا بهزلٍ ومرحٍ لكن بحزمٍ وقوةٍ أيضًا بين الحين والآخر.

عندما كتبَ ناقدٌ يحظى باهتمام كبير أنَّ «مسرحية «كاليجولا» كلها كانت تصويرًا خالصًا لمبادئ السيد سارتر الوجودية»، ردَّ كامو يقول: «بدأتُ أشعر بقليل (والقليل فقط) من الانزعاج من الخلط المستمر الذي يربطني بالوجودية»، كان هذا تعبيرًا متحفِّظًا. فقد احتوى رده على ثلاث نقاط تفصيلية أوضحَ فيها أنَّ: (١) مسرحية «كاليجولا» كُتِبَت عام ١٩٣٨، قبل بزوغ نجم وجودية سارتر، (٢) وأن «أسطورة سيزيف» كُتِبَت لمناهضة الوجودية، (٣) وأنه في نهاية المطاف لم يكن يثق في العقل بالقدر الذي يكفي لأن ينتمي إلى نظامٍ فكري. وبالرغم من هذا التوضيح، بقيَ الخلطُ والالتباس، وظلَّت الأسئلة تتوالى.

خلال رحلته إلى نيويورك في يونيو لعام ١٩٤٦، أجابَ كامو عن الأسئلة نفسها التي طرحَها عليه صحفيٌّ أمريكي بطريقة مازحة، لكنها لا تخلو من السخرية:

لا، أنا لست وجوديًّا. دائمًا ما نتفاجأ أنا وسارتر عندما نجد أسماءنا مجتمعة. ونفكِّر مليًّا في نشر إعلان مُفادُه أن الموقِّعَين أدناه يؤكِّدان ويُقرِّان بأنه لا يوجد شيءٌ مشترك بينهما …

كان الفرقُ بين الوجودية وعَبث كامو واضحًا من البداية؛ فالوجودية ترتكز حول الإنسان، وتهتم بالمسئولية الشخصية في عالمٍ جَمْعي، بينما العبث انفصالٌ عن الشئون البشرية، ورفضٌ ظاهري لكل النُّظم.

نقطةُ الخلاف هذه بالتحديد بين العبث والوجودية هي ما أدَّى إلى أول جدالٍ حقيقي بين الكاتبَيْن. حدثَ هذا في الأيام الأولى للحرب الباردة التي مثَّلت فيها الولاياتُ المتحدة والاتحاد السوفييتي طرفَي الصراع الرئيسيين، وكان من المستحيل تقريبًا عدمُ الانحياز إلى أحد الجانبَين. كان كامو بطبيعته تقريبًا مناهِضًا للشيوعية. وحتى عندما كان في الحزب الشيوعي فيما مضى، كان من الواضح من مزاحه مع معلِّمه أنه لم يكن شيوعيًّا. (تذكَّرْ أن سبب انضمام كامو إلى الحزب لم يكن لتمسُّكه بالمذهب الشيوعي، بل بالأحرى لمحاولة منع مُقاوِمي الوجود الفرنسي في الجزائر من العرب من إنشاء حزبهم.)

في إحدى أمسيات عام ١٩٤٦، في حفلٍ أقامه الكاتبُ والموسيقيُّ والمطربُ بوريس فيان، دارَ جدالٌ كبير بين كامو وبين موريس ميرلو-بونتي، أحد الفلاسفة المقرَّبين من سارتر، والذي كان قد كتبَ لتوِّه مقالًا أعلنَ فيه أنَّ على المرء أن ينحاز إلى أحد الأطراف في الصراعات الضخمة الدائرة في عصره، وأنه لم يكن هناك خيارٌ آخر. ورَفْض القيام بذلك يعني الانحياز إلى جانب القامع؛ إذ ينبغي للمرء أن ينخرط في شئون البشر. كان هذا درسًا من دروس المقاومة؛ لأنه ينطبق على الحرب الباردة، وحضَّ ميرلو-بونتي على الانحياز إلى جانب الاتحاد السوفييتي. أثارَ ذلك حفيظةَ كامو، الذي وازَن بين كفتَي هذا الموقف بالدعم غير المشروط لستالين (وعلى مستوًى آخر، بالالتزام بقضيةٍ ما، أي قضية)؛ تجادَل كامو مع ميرلو-بونتي جدالًا عنيفًا، ثم اندفعَ غاضبًا إلى خارج الشقة. حاول سارتر وصديقٌ آخر له دون جدوى أن يُعيداه لينضمَّ إلى الحفل مجددًا، لكن كامو رفض.

كان موقفُ ميرلو-بونتي بغيضًا بالنسبة إلى كامو، الذي كَرِه فكرة أنَّ عليه أن يؤيد جانبًا، مجبَرًا على ذلك بالأحداث التاريخية. كان كامو غاضبًا من الألمان «لإجباره على دخول التاريخ»، وكان يفضِّل أن يتنقل من قضية إلى أخرى، دون أي التزام دائم. ورغم أنه دافع عن مبادئ وأفكار عظيمة، فإنه لم يتقيَّد علانيةً قَط بإحدى القضايا أو الأيديولوجيات — وخاصةً الشيوعية؛ لأنها كانت مرتبطة تاريخيًّا بالصراع ضد الاستعمار. كما أن العلاقة بين الشيوعية ومناهضة الاستعمار أصبحت أكثر رواجًا وتفشِّيًا بعد الحرب العالمية الثانية.

كانت مسألة الاستعمار مسألة معقَّدة بالنسبة إلى كامو: لا يمكن اختصارها في مجرد القبول بها أو استهجانها. وبينما كان كامو يعي المظالم الواقعة على العرب ويدينها، كانت الجزائر الفرنسية هي مسقط رأسه، وموطن عائلته كلها وكثير من أصدقائه، وكان مخلصًا لها.

بعد هذه الفجوة، لم يتحدَّث كامو وسارتر إلا في السنة التي تلت ذلك، وكان لقاؤهما مصادفة. كانا يتعاملان بلطف عندما يلتقي أحدهما بالآخر في مناسباتٍ اجتماعية، إلا أن كامو كان يصرِّح بأن إعجابه بسارتر يقلُّ بمجرد أن يبتعد عنه.

بعد هذا الخصام بقليل، نشرَ سارتر مقالًا افتتاحيًّا غير موقَّع في مجلة «لي تمب مودرن» بعنوان «الجلَّادون والضحايا كلاهما». (أنشأ سارتر مجلة «لي تمب مودرن» في أكتوبر ١٩٤٥ بعد أن أُغلِقت مجلة «نوفل ريفو فرانسيز» بسبب تعاونها مع السلطات الألمانية خلال الاحتلال). كان هذا المقال الافتتاحي أولَ رد فعل علني لسارتر على الحرب الاستعمارية الفرنسية في الهند الصينية، ومثَّل نقدًا مباشرًا لمقالات كامو الرافضة للعنف «لا ضحايا ولا جلادون». فيها، قطعَ سارتر علاقته بكل الأحزاب البرلمانية، وأدانَ الحرب، وطالَبَ بانسحاب القوات الفرنسية من الهند الصينية. برَّر مقال سارتر الافتتاحي العنفَ الثوري، وشبَّه وجودَ فرنسا في الهند الصينية بالاحتلال الألماني؛ الأمر الذي أثار سخط العديد من المعلِّقين، وبالتأكيد حنق كامو. بعدها بسبع سنوات، أي عام ١٩٥٤، في يوم الهزيمة الكارثية للعسكرية الفرنسية في الهند الصينية، التي انتهت بانسحاب فرنسا من المنطقة، كتبَ كامو في مذكراته:

٨ مايو ١٩٥٤. سقوط ديان بيان فو. كما في عام ١٩٤٠، إحساسٌ مختلطٌ من الخزي والغضب. في ليلة المذبحة، كانت النتيجة واضحة. وضعَ ساسةُ الجناح اليميني أرواحًا مسكينة في وضع لا يُحتمَل، وفي الوقت نفسه راحَ رجال اليسار يُطلِقون النار عليهم من الخلف.

جاءت مقارنة شعب الهند الصينية بالألمان على النقيض تمامًا من موقف سارتر. أصبحَ من الواضح أنَّ سارتر وكامو كانا في معسكرَين متعارضَين فيما يخصُّ مسألة الاستعمار.

نشبَ بين الرجلَين خلافٌ آخر فيما يخصُّ مسألة العنف السياسي. في عام ١٩٤٦ كان كامو قد نشر مقالًا قصيرًا — بعنوان (القتلة الحسَّاسون) — يتناول فيه الإرهابيين الروسيين الذين حاولوا قتلَ أعضاءٍ من عائلة القيصر في فتراتٍ زمنية مختلفة من أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين. كانت معضلاتُ وأفعالُ تلك المجموعات الإرهابية بالغةَ الأهمية لكامو. هل كان من الصواب قتل أعضاءٍ من عائلة القيصر؟ ماذا عن أطفالهم؟ هل كان القتل مبرَّرًا بأي شكل؟ ستكون تلك الأسئلة في صميم مسرحية كامو بعنوان «القَتَلة المنصِفون».

بالنسبة إلى سارتر كانت تلك المسائل رجعية وساذجة، أو مصدر إلهاء في أحسن الأحوال. وقد عبَّرَ سارتر ببراعة في مسرحيته «الأيدي القذرة» عن رأيه في اهتمام كامو بالإرهابيين الروسيين. حيث يناقش اثنان من قادة الأحزاب، هما لويس وهوجو، الإجراءات السياسية:

هوجو : في روسيا في نهاية القرن الماضي، كان هناك فِتية يضعون القنابل في جيوبهم، ويعترضون طريقَ الدوق الأكبر. انفجرت القنبلة، ومات الدوق الأكبر وذاك الرفيق أيضًا. ويمكنني أنا القيام بذلك.
لوي : لقد كانوا من دعاة الفوضى. أنت تحلم بذلك لأنك مثلهم؛ مثقَّف يدعو إلى الفوضى. أنت متخلِّف عن العصر بخمسين سنة. لقد انقضى عهد الإرهاب.
هوجو : إذَن فأنا غير كفء.
لوي : على هذا الصعيد، نعم.

سخِر سارتر باهتمام كامو، وحقَّر من شأن هوجو، الشخصية التي تعبِّر عن آرائه. لكن هذا الانتقاد الأدبي كان ضمنيًّا، يكاد يكون على الهامش.

رغم ذلك، أدَّى نشرُ كامو لمقاله «الإنسان المتمرِّد» إلى مواجهة شاملة لا مناصَ منها. ففي مقاله الطويل هذا، شبَّه كامو الشيوعية بالنازية، وأكَّد على أنها أدت دون استثناء إلى الاضطهاد والقتل الجماعي أنفسهما. وفي سياق الحرب الباردة، كان ذلك بمثابة وضع حدِّ فاصل. وبمعايير ذلك الزمان، كان هذا يعني الوقوفَ في صف الولايات المتحدة.

تتسم نظرة سارتر إلى الأمور بأنها أكثر عَملية. ورغم أنه أدانَ الأيديولوجية الستالينية — والاتحاد السوفييتي لاحقًا (بسبب غزوه للمجر عام ١٩٥٦) — فقد أيَّد الحزبَ الشيوعي خلال الفترة الأخيرة من حرب الجزائر. كما كان من أوائل الداعمين والمتحمِّسين للثورة الكوبية، وإنْ كان قد تراجعَ عن دعمه عندما سجنت الحكومةُ الكوبية الشاعِر المنشَق هربرتو باديلا. كان سارتر مصدومًا عندما صدر كتابُ «الإنسان المتمرِّد» عام ١٩٥٢، ولم يُرد أن ينقد كتابَ كامو بسبب صداقتهما، رغم ما كان عليه من عِلَّات. عِوضًا عن ذلك، تولَّى مسألة النقد فرانسيس جانسون، الفيلسوف الفرنسي المقرَّب من سارتر (الذي سيصبح لاحقًا داعمًا نشطًا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية المؤيدة للاستقلال). ولم يكن لفرانسيس جانسون أيُّ وجه تقارب مع كامو، كما كان من الناقدين له في الماضي.

جاءَ النقدُ لاذعًا؛ إذ أبرز جانسون في البداية أنَّ الكتابَ لقيَ استحسانًا من أصحاب اليسار وأصحاب اليمين، وتساءلَ مجازًا عما إذا كان ذلك بسبب أن أفكاره طيِّعة، أو «قادرة على التطبُّع بأشكال متباينة». كما لامَ جانسون على كامو «إنسانيته المُبهَمة» وانتهى بالإشارة إلى أن كامو ركَّز في كتابه على نحو شبه كامل على ضحايا الستالينية. فماذا عن ضحايا الأنظمة الغربية، ماذا عن المسُتعمَرين الذين هم أيضًا من عُمَّال أوروبا، وماذا عن «عامِل المناجم، والموظف الحكومي الذي يعاقَب لدخوله في إضراب …»، والفيتناميين «الذين تجري تصفيتهم» بالنابالم، والتونسيين «المجموعين» في الفيلق الأجنبي؟ كانت هذه خاتمة دفعَت كامو إلى موضوع لم يُرد التطرق إليه.

استشاطَ كامو غضبًا. فكتبَ ردًّا في «لي تمب مودرن»، لكن ليس على جانسون، بل اختار عوضًا عن ذلك أن يُخاطب سارتر بوصفه الناشِر، ملمِّحًا بذلك إلى أن سارتر هو كاتِبُ النقد، أو أنه على الأقل يتحمَّل مسئولية سماحه بنشره. في رده، رفضَ كامو أن يناقش نقاط جانسون مباشرةً، وضاعَف نقده للستالينية، وتساءلَ لمَ لا يدين جانسون/سارتر «معسكرات اعتقال» ستالين، مُتحديًا إياهما أن يفعلا ذلك. وكتبَ أن من المستحيل الاستمرار في النقاش ما لم يُلبُّوا طلبه في الإدانة القاطعة. كما أدانَ كامو نبرة نقد جانسون، وشكا لاحقًا في يومياته: «مناظرة مع لي تمب مودرن. … باريس غابة، وحيواناتها المتوحشة بائسة.» وتبرَّم بطرقٍ شتَّى من «الإهانة»، والتشهير بأخيهم. وفي نهاية المطاف، زاغَ ردُّه عن مسألة الاستعمار التي طرحها جانسون، وشكَّل هجومًا معاكسًا بالنسبة إلى مسألة الاتحاد السوفييتي.

كان سارتر قاسيًا في ردِّه؛ إذ أسهبَ في ذكر النقائص القديمة الخاصة بنقده الأول لرواية «الغريب» التي كتبَها قبل ذلك بعشر سنوات. وبحيوية شديدة، كتبَ يتساءل إن لم يكن كتاب «الإنسان المتمرِّد» دليلًا كافيًا على عدم جدارة كامو كفيلسوف، وعابَ عليه «كُرهه الجهود الفكرية» ودأبه على عدم قراءة المصادر الرئيسية. كما ذكَّر سارتر كامو كيف أنه انتقد الستالينية، واستشهدَ بمقالاتٍ افتتاحية من مجلة «لي تمب مودرن» تدين الاتحاد السوفييتي دليلًا على ذلك. وأبرز سارتر أيضًا استخدام وسائل الإعلام الرئيسية والسائدة الإدانات ضد الاتحاد السوفييتي كوسيلة لتقليل محنة المستعمَرين، مكرِّرًا ما خلصَ إليه جانسون ومُسهِبًا فيه. وصرَّحَ سارتر أن بإمكانه انتقاد الغرب والشرق كليهما، وسألَ كامو مجازًا، لمَ لا يمكنك أنت ذلك؟ ولفتَ سارتر بعد ذلك الانتباه إلى موقف كامو الغامض في مسألة الهند الصينية، واختتم بأنْ نشرَ رد كامو النهائي، وأعلنَ في الوقت نفسه أن الأخذ والرد قد انتهى من جانبه.

كان هذا الصدعُ الثاني نهايةَ صداقتهما الغريبة. إذ لن يتحادثا بعدها أبدًا. ولكنهما ظلَّا يتواصلان تواصلًا غير مباشر عبر أعمالهما، وذلك طوال حياتهما. وبعد أزمتهما العلنية، أصبحَ الانتقادُ الموجَّه إلى المثقَّف اليساري البرجوازي أحدَ أركان أعمال كامو المكتوبة، بالإضافة إلى الهجوم على سارتر والوجودية في يومياته.

نتيجةً لتلك المخاطبات العلنية بخصوص كتاب «الإنسان المتمرِّد»، كان سارتر يُعد هو المنتصر، وذلك على نطاق واسع؛ إذ تفوَّقَ كتابةً ودهاءً على كامو الذي تُرِك معزولًا. حتى إن كامو فكَّر مليًّا — على طريقة الأقدام البيضاء الذكورية — أن يُوسِع سارتر ضربًا، لكنه تخلَّى عن فعل ذلك؛ لأن سارتر كان شديدَ النحافة. وتجنَّبَ كامو الحيَّ اللاتيني والمقاهي التي يجتمع فيها سارتر ودي بوفوار مع الأصدقاء، بل إنه عزلَ نفسه عن المجتمع بصفة عامة. وعلى الرغم من أنه توقَّف أيضًا عن الاشتراك في الجدال علنًا، فقد تطرَّق إلى جميع الانتقادات في ردٍّ مستفيضٍ بعنوان «دفاع عن الإنسان المتمرِّد»، الذي لم يُنشَر خلال حياته.

السَّقْطة

رواية «السَّقْطة» هي العمل الذي شكَّلَ أكبر مساحةٍ لخلاف كامو، ليس فقط مع سارتر، بل مع معاصريه أيضًا. قصة شخص وحيد يُدعَى كليمنس، وهو مُحامٍ سابق عاشَ في فرنسا، لكنه الآن في منفًى فَرضَه على نفسه طواعيةً في أمستردام. في حانة متهالكة، تُدعَى مكسيكو سيتي، يتحدَّث بلا انقطاع إلى رجل فرنسي آخر، يظل هذا الآخر مجهولًا حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، حتى يكتشف أنه مُحامٍ هو الآخر. وإليك كيف التقيا:

هل لي، يا سيدي، أن أعرضَ عليك العونَ دون أن يزعجك هذا؟ أخشى أنكَ قد لا تستطيع أن تعبِّر عما تريد للفَظِّ الذي يشرف على هذا المكان. الواقعُ أنه لا يتحدَّث غير الهولندية. وإذا لم تخوِّلني بعرض مسألتك، فإنه لن يعرف أنك تريد شرابَ الجِن. والآن، يسعني أن أرجو أن يكون قد فهمني؛ فهِزَّة رأسه لا بد أنها تعني أنه أذعَنَ لطلبي.

يلتقي الرجلان خمسَ مراتٍ، وفي كل لقاءٍ يسترسل كليمنس في الحديث (وكليمنس هو مزيجٌ من اسم كامو، والكلمة الفرنسية «كليمنسي» بمعنى الرحمة)؛ فيستطرد، ويمزح، ويتندَّر، ويستغرق في التفكير، ويُدلي بإفاداتٍ عامة عن فرنسا، وعن العالم، وعن النساء، والسياسة، والدين …

يُطلِق كليمنس على نفسه لقبَ «قاضٍ تائب» متخصِّص في القضايا النبيلة. والقضاة التائبون (كما يجري تعريفهم في الرواية) يشعرون بالذنب بسبب خلفيَّتهم الاجتماعية وما يتمتعون به من امتياز؛ ولذا يتبنَّوْن قضايا المحرومين من حقوقهم كأحد أشكال التوبة، لكنهم ينهمكون في دورهم إلى حَدِّ أنهم يُصدرون الأحكام على الآخرين. (كتبَ كامو في يومياته ذات مرة أن القضاة التائبين وجوديون.)

يصف كليمنس نفسه بأنه مدافعٌ عن الأرملة وابنها اليتيم، ويبين أن ممارسته القانونية تتمحور حول مساعدة المظلومين والمساكين والمجني عليهم. مع ذلك، وباعتراف كليمنس نفسه، فإنَّ شفقته تلك أنانية. فيعترف أنه يُهرَع إلى مساعدة رجلٍ أعمى لمجرد أن يحسَّ بالرضا النابع عن مساعدته. مساعدة الآخرين في رأي كليمنس هي أحد مظاهر نرجسيته، وليست نابعة من كَرم حقيقي وأصيل. وخلف هذا الإيثار يكمن زهوٌ وتفاخر: على سبيل المثال، يرفض كليمنس أعلى الأوسمة الفرنسية؛ لأن في رفضه إشباعًا أكبر من قَبوله للميدالية.

في كل صفحةٍ من صفحات «السَّقْطة» نجد كليمنس يتأمَّل العديدَ من الموضوعات. بل إن ثَمة انتقادًا لفرنسا، حيث يقول إنَّ البذاءة تُعَد من التسلية على الصعيد الوطني. وفي خِضم هذا القَدْر من «الحكايات والتعليقات الخيالية»، يبرز أحد الأحداث. فبينما يتجوَّل كليمنس في باريس في إحدى الليالي، يسمع صرخةَ امرأةٍ ألقت بنفسها في نهر السين. تلك هي «السَّقْطة». لكن على الرغم من شخصيته العامة وطريقة تفكيره الإنسانية المزعومة، يبتعد كليمنس عن المكان دون أن يساعد المرأة. يفترض أن المرأة ماتت. وبعد سنتَين أو ثلاث، وبينما هو في رحلةٍ بحرية، يرى كليمنس بقعةً سوداء في المحيط، ويتذكَّر المرأة مباشرةً؛ ويعي أن عليه أن يواجه ذنبه ويُسقِط تظاهره بأنه ذو نزعة إنسانية؛ يجب عليه أن يكون نفسه. (ربطَ بعضُ المعلِّقين ذلك بتناقضات كامو فيما يخصُّ الجزائر، حيث عُرِف عنه توقُّفه عن نشر كتاباته عنها بعد عام ١٩٥٤؛ فعوضًا عن أن يواجه كامو مشكلةً مستعصية، يبتعد عنها رمزيًّا.)

لكن المشهد الذي يتجاهل كليمنس فيه امرأةً تلقي بنفسها في النهر يمكن أن يُفسَّر أيضًا كهجومٍ على سارتر، الذي كان في منظور كامو يتحدَّث عن مساعدة الآخرين لكن لم يساعدهم على نحوٍ محسوس. في الواقع، وطبقًا لبعض النقَّاد، قد يتطابق الاقتباسُ الآتي مع مفهوم كامو عن الشيوعية باعتبارها عقيدةً عالميةً في كتابه «الإنسان المتمرِّد»: «عندما أستطيع، أُلقي بالمواعظ في كنيستي في حانة مكسيكو سيتي، فأدعو الصالحين من الناس إلى الإذعان للسلطة والتماس راحة العبودية في خضوع، حتى ولو تعيَّن عليَّ أن أقدِّمها إليهم باعتبارها الحرية الحقيقية.» ويستطرد كليمنس: «لقد علمتُ على الأقل أنني كنت أقف في جانب المذنبين والمتهمين، فقط إلى الحَدِّ الذي لن تتسبَّب فيه آثامُهم لي بأي أذًى. كانت ذنوبهم تجعلني بليغًا؛ لأنني لم أكن ضحيتهم.»

ويُنهي كليمنس خطابه الطويل بالأسباب التي لأجلها قرَّر أن يُنهي عمله كقاضٍ تائب: «وحين كنت أتلقى تهديدًا بدوري، فإنني لم أكن لأصبح قاضيًا وحسب، وإنما الأسوأ من ذلك، كنت أصبح سيدًا غضوبًا يريد — بما هو خارج نطاق القانون — أن يصرع المسيء أرضًا ويجعله راكعًا على ركبتَيه. وبعد ذلك، يا ابن بلدي العزيز، من الصعب الاستمرار في الإيمان جديًّا بتكريس المرء نفسه للعدالة، وبأنه المحامي الذي قُدِّر له أن يدافع عن الأرملة واليتيم.» تلك العبارة الأخيرة كانت رمزًا لنقد كامو للشيوعية؛ إذ حوَّلت البواعث الإنسانية إلى أيديولوجيا تعتزم تغيير العالَم.

رغم هذا، سيكون من الخطأ قراءة «السَّقْطة» باعتبارها مقصورةً على الهجوم على سارتر؛ لأن كثيرًا من جوانب كليمنس أقربُ إلى كامو نفسه. فهي تمثِّل صورةً ذاتية بأكثر من طريقة. وقد أفضى كامو بعد أن أنهى مسوَّدة الرواية إلى صديقه والناقد روجيه كيوه بأنه قَلِق من رد فعل زوجته الثانية فرانسين عند قراءتها المسوَّدة.

مشهدُ السَّقْطَة قريبُ الشبه من محاولة انتحار فرانسين؛ فطبقًا لكيوه، حاولت فرانسين ذات مرة أن تقتل نفسها بالقفز من النافذة. وقد قص كامو تلك الحادثة في رسالةٍ لعشيقته الممثلة الفرنسية الشهيرة ماريا كاساريس. والعديد من تَجارِب كامو مع النساء وأفكاره عنهن التي عبَّر عنها في يومياته لها صدًى عند كليمنس في رواية «السَّقْطَة». حيث يرى كليمنس نفسه أسير الرغبة — ذلك أنه يمل النساء في غير ممارسة الجنس.

تعكس الفقراتُ الغفيرة الخاصة بالنساء في رواية «السَّقْطَة» إجلال كامو لدون خوان في «أسطورة سيزيف» باعتباره النموذج الأمثل للرجل العبثي الذي يعايش «الغِبْطَة» الحقيقية بانتقاله من انتصار إلى آخر. في «السَّقْطَة»، يتفاخر كليمنس بأنه يستخدم مختلف الحيل ليحصل على مُبتغاه من النساء، ويُقر ﺑ «ألا تحصل على رغبتك لهو «أصعبُ شيءٍ في العالم»». في يومياته يعتبر كامو أن انجذابه إلى النساء علة به، «عبودية». وبالنسبة إلى كليمنس، ثَمة رغبة في التحكم في النساء، حتى وإن توقَّف عن مُواعَدتهن. يتحدَّث كليمنس عن أنه يطلب من النساء اللاتي لم يَعُد يريدهن أن يُقسِمن بالإخلاص له. ويكتب كامو إلى كاساريس يخبرها أنه عندما يكون كلٌّ منهما بعيدًا عن الآخر، فإنه يريدها أن تلزم غرفتها ولا تبرحها. من الواضح أن هناك علاقة بين آراء كامو وكليمنس حول النساء.

كانت فرانسين ذات ميول انتحارية — نظرًا لعلاقاته الغرامية على أقل تقدير — ويروي كيوه أنها سألته: «أنت دائمًا ما تندِّد بمَواطن ضعف الآخرين، ماذا عن مواطن ضعفك أنت؟»

وبخلاف زوجته، فإنَّ آراء كامو عن النساء وعن النسوية (التي كان يحتقرها) قادته إلى صدام مع أقرب شخص إلى سارتر: سيمون دي بوفوار، مؤلِّفة العديد من الروايات والمقالات. كتَبَت دي بوفوار واحدة من الأعمال المؤسِّسة للنسوية: كتاب «الجنس الآخر». لدى صدور الكتاب، عبَّر كامو عن نفوره منه، وقال إنه يهين الرجلَ الفرنسي. وكانت دي بوفوار في ردها قاسيةً كسارتر؛ إذ قالت عن كامو «كان لا يقبل اختلاف الرأي؛ وإن رأى شيئًا منه يلوح في الأفق، فإنه يسلم نفسه لنوبات الغضب التي تلوح مثل ملاذٍ له»، وذلك إلى جانب تحيُّزه الجنسي ضد المرأة كردِّ فِعل على الكتاب. واستطردت: «لديه صورة عن نفسه لا يُزعزعها عملٌ أو حتى وحي». وصفته أيضًا بالكسل: «لأنه يُطالِع الكتب عوضًا عن فهمها». وعلى رأس كل هذا، قدَّمت دي بوفوار في أنجح رواياتها بعنوان «الماندرين»، شخصية إشكالية ومضطرِبة هي هنري بيرون، الذي كان يؤوَّل على نطاق واسع أنه تمثيلٌ لكامو. وقد أغضبه أن روايتها حصلت على جائزة جونكور، وهي الجائزة الأدبية الأرفع في فرنسا.

استمر التوترُ بين كامو وسارتر — وأيضًا دي بوفوار — إلى ما بعد الموت. ففي رواية كامو التي نُشِرَت بعد موته بعنوان «الرجل الأول»، كان ثَمة فقراتٌ متكررة تصوِّر المثقفين الباريسيين على أنهم جاهلون بحياة طبقة الأقدام السوداء العاملة التي ينتقدونها. وفي تلك الرواية التي تُعَد سيرة ذاتية إلى حَدٍّ كبير، رأى كامو المثقفين منافقين يطعنون في الظهر، بل ربما حتى خونة؛ فمن الواضح أنه كان يحتقرهم. ومن الواضح أيضًا أن سارتر كان من المقصودين بين آخرين. وبعد سنين قليلة من موت كامو، أدلى سارتر بحديث عن المثقفين في مؤتمر باليابان. وفي التفريق بين المثقف الأصيل والزائف، كتبَ سارتر يقول:

يقول أولئك المثقفون المزيفون، بينما هم متوارون خلف قِيَم كونية غامضة ومتغطرسة: «طرقنا الاستعمارية ليست كما ينبغي لها أن تكون، فهناك أوجه انعدام مساواة هائلة في أراضينا الواقعة فيما وراء البحار. لكني ضد العنف بكل أشكاله، وأيًّا كان منبعه، فلا أريد أن أكون ضحية ولا جلَّادًا؛ ولذا أعارضُ تمرُّدَ الشعوب المحليين ضد المستعمِرين».

أشارَ سارتر بإيجاز وبلاغة إلى أن هذا «الموقف الكَوْني الزائف» يعني بالضبط أن: «أؤيِّد العنفَ الدائم الذي يُوقِعُه المستعمِرُ على المستعمَر (من إساءة الاستغلال والبطالة وسوء التغذية، وهي كلُّها ثابتة في مواضعها بفِعل الإرهاب)». كان هذا هجومًا صريحًا على كامو، وعلى سلسلة مقالاته «لا ضحايا ولا جلَّادون».

كانت معارضة سارتر للاحتلال الفرنسي للجزائر شاملة ولا هوادة فيها؛ فقد أيَّد الفرنسيين الفارِّين من الخدمة العسكرية، وعُرِفَ عنه تمنِّيه هزيمة الجيش الفرنسي. أما كامو فقد قدَّم تسويات؛ إذ اقترحَ في البداية نظامًا يمنح الجزائر سيادةً محدودة، ثم اقترحَ هُدْنَة، ثم ركنَ إلى الصمت. لكن الأهم أن أحدَ الثوابت في حياته العامة كان معارضة استقلال الجزائر. باختصار، كان موضوعُ الاستعمار في قلب النزاع المستمر بين الرجلَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤