الفصل السادس

كامو والجزائر

كان كامو دائمًا ما يجمع بين المتناقضات فيما يخصُّ استعمار الجزائر، وقد أثَّر ذلك عليه بدرجة كبيرة. ففي عام ١٩٤٣، كتبَ في مذكراته يقول:

الجزائر. لا أدري إن كان كلامي واضحًا تمامًا. لكني عندما أعودُ إلى الجزائر أشعر بنفس إحساس المرء عندما ينظر إلى وجه طفل. وبالرغم من ذلك، أعلم أنه ليس نقيًّا تمامًا.

في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين دافَع كامو عن تمرير مشروع قانون بلوم-فيوليت، الذي كان من شأنه أن يمنح الجنسية الفرنسية إلى أقلية صغيرة من الرجال العرب (يصل عددهم إلى بضعة آلاف). فشلت كلُّ الجهود لتمرير مشروع القانون في ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أنَّ الحرب العالمية الثانية غيَّرت كلَّ شيء. خلال الاحتلال الألماني، قَبِلَ قادةُ المقاومة الفرنسية مُقترَحًا — وهو «بيان الشعب الجزائري» — من قادة قوميين عرب، حيث كانوا في أمسِّ الحاجة إلى دعم العرب، وكان من بين هؤلاء مصالي الحاج ممثِّلًا لحزب الشعب الجزائري، والشيخ بشير الإبراهيمي ممثِّلًا لعلماء الدين المسلمين، وفرحات عباس ممثِّلًا لمؤيدي الحُكم الذاتي. كان هدفُ «البيان» هو تأسيس دولة جزائرية مستقلة.

ورغم أن حاكِم الجزائر المحتلة قبِل «البيان» عام ١٩٤٣ كأساسٍ لمفاوضاتٍ مستقبلية، فقد تراجعَ لاحقًا عن دعمه. كانت الاستجابة الأولية للبيان قد رفعت آمالَ القوميين الجزائريين. وقد أدَّى هذا التراجع، مصحوبًا بشعور اليأس لدى الشعب الجزائري — الذي يعاني بشدة من القيود الغذائية في زمن الحرب — إلى وضع متأزم.

في بدايات عام ١٩٤٤، عرضَ شارل ديجول، الذي كان يشغل حينها منصبَ رئيس الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الفرنسية — حكومة فرنسا الانتقالية — أن يمرِّر مشروع قانون بلوم-فيوليت ليصبح قانونًا. ولكن، رفضَ القادةُ الجزائريون القوميون ذلك لاستشعارهم الضعفَ. واستمرت السلطاتُ الفرنسية في التقلب في مواقفها: وفي السابع من مارس عام ١٩٤٤، ألغى ديجول قانون السكان الأصليين على نحو انفرادي (وإن كانت حقوق المساواة في التصويت لم تكن قد أُتيحت بعد)، لكن في الخامس والعشرين من أبريل عام ١٩٤٥، أُبعدَ مصالي الحاج، القائد القومي الجزائري الأقوى شخصية والأكثر راديكالية وجرأة، إلى برازفيل في الكونغو. كانت هذه هي خلفية الشغب الذي اندلعَ في يوم النصر في أوروبا، والذي انتهى بمذابح سطيف وقالمة. المواطنون الجزائريون الذين عانوا من تقييدات الحرب أكثر من الفرنسيين في فرنسا، والقيادة القومية التي اعتقدت أن الاستقلال أصبح وشيكًا وفي المتناول، والشعب الذي ساهم بالآلاف من شبابه في أول الانتصارات الفرنسية على الجبهة الإيطالية — كلُّ هؤلاء أصبحوا الآن غير قادرين على رفع أعلامهم للاحتفال بيوم النصر. كان ردُّ فعل الفرنسيين والأقدام السوداء هو مذبحة حقيقية استمرت لأسابيع؛ ذُبِح فيها آلاف الجزائريين. أخَّرت المذابحُ حركة الاستقلال الجزائرية لعشر سنوات، لكنها كفلت أيضًا أنه لدى بزوغها مرة أخرى سيكون زعماؤها أكثر إصرارًا وتصميمًا من ذي قبل. كان السببُ الرئيسي لهذا القمع الذي استمر شهرًا كاملًا هو دولة فرنسية واهنة، تستميتُ في السيطرة على إمبراطوريتها الاستعمارية بأي وسيلة.

ورغم أن كامو لم يناقش مذابح سطيف وقالمة بالتفصيل قَط، فقد كان متحمسًا بشأن إبطال قانون السكان الأصليين وتمرير قانون بلوم-فيوليت بحُكم الأمر الواقع، رغم أن المذابح الدموية أظهرت أنَّ هذا كان أقل مما ينبغي وجاءَ بعد فوات الأوان. وقد ناضَل كامو بعد الحرب من أجل منح مزيد من الحقوق إلى الجزائريين. فأراد أنْ يُتاح لمزيد من الجزائريين السبيل إلى التعليم، وأن يحصل جميع الخريجين من المدارس الابتدائية على الجنسية الفرنسية، لكنه لم يصل إلى حَدِّ المطالبة بحقوق تصويت للجميع. كان كامو يريد أن يكون راعيًا للسلام والتسوية، واضعًا هدفًا واحدًا نُصْب عينيه: أن تظل الجزائر فرنسية. فناشَدَ السلطات في فرنسا في المقام الأول، وكتبَ في الصحافة أن الجهد المبذول للحفاظ على الجزائر كجزءٍ من فرنسا يتطلب «غزوًا ثانيًا»؛ بعبارة أخرى، يجب استمالة قلوب الجزائريين وعقولهم.

رغم ذلك، تطلَّب الوضعُ تنازلاتٍ أكبر، الحقيقة التي كان كامو واعيًا بها تمامًا. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبح من غير الممكن تجاهل مطالبة الشعب المُستعمَر بحقوقه؛ ظهرت تلك المطالبات على كل المستويات: السياسية، والثقافية، وفي الشوارع. وخلال تلك الفترة، بدأ الواقعُ الاستعماري الذي ظلَّ مكبوحًا لمدة طويلة في الظهور في أدب كامو، حتى انتهى به الأمر في قلب المشهد.

المنفى والملكوت

«المنفى والملكوت» هي آخِر أعمال كامو الأدبية المنشورة في حياته، وهي مجموعة قصص قصيرة معظمها مشبَّع ببيئة شمال أفريقيا. تعكس بعضُ تلك القصص أصداءَ غضب كامو من سارتر وتداعيات خصومتهما. لكن يحضُر في بعضها الآخر وبقوة قلقُه المتصاعد من الحِس القومي في الجزائر، رغم أنه لم يناقش ذلك مباشرةً قَط حتى قصة «الضَّيْف».

القصة القصيرة الأولى، «المرأة الزانية»، هي قصة جانين، زوجة بائع أقمشة من الأقدام السوداء. تسافر جانين وزوجها بالحافلة في الصحراء — ٢٠٠ ميل جنوبيَّ الجزائر — لكي يتمكَّن زوجها من بيع بضائعه إلى السكان المحليين. يروي كامو القصة من وجهة نظرها وانطباعاتها، بينما يتعمَّقان فيما يبدو على نحو متزايد أنه أرضٌ غريبة. في البداية، تصف جانين العربَ بأنهم جماعة غامضة. تشعر بأنهم يتظاهرون بالنوم؛ لا تحبُّ صمتهم وعدم مبالاتهم. على مدار القصة، تشعر أنها في غربة عن العرب وتعلِّق على لغتهم، التي سمعتها طوال حياتها لكنها لم تفهمها. تكره «الغطرسة الحمقاء» في عيون عربي ينظر إليها، ويضيف إليها زوجها «يعتقدون أن بإمكانهم القيام بأي شيءٍ الآن». توضِّح تلك الملاحظات أن إلغاء قانون السكان الأصليين عام ١٩٤٤ كان يشكِّل مصدر فزع للأقدام السوداء. هناك فزع أيضًا من اضطراباتٍ قادمة. طوال الوقت، تشعر الزوجة بأن كلَّ العرب يحيطون بها، كما لو كانوا قوةً جائرة.

في المشهد الأخير، تستيقظ جانين في منتصف الليل، وتتجه إلى الشرفة، تحدِّق في الأفق، فتأسِرها قُوى الطبيعة، في لحظة غبطة جوهرية كاموية، لحظة «مثالية يتوقَّف الزمنُ فيها». في الوقت نفسه، تتوقَّف الأصواتُ الآتية من البلدة العربية. (بعبارات كامو: «كانت العقدة التي عقدتها العادة والملل والسنون تنحلُّ رويدًا رويدًا.») رمزيًّا، يختفي العرب. وفي اتحاد بالغ الحِدَّة مع الطبيعة، تتسامى عن البرد، وثِقَل الآخر، وكآبة الحياة والموت. في النهاية، برجوعها ورؤيتها لزوجها في غرفتهما الصغيرة بالفندق تغلبها دموعُها. لقد عايشت لحظة تطهير.

رجوعًا إلى كامو، تمثِّل تلك اللحظات الرمزية من الاندماج مع الطبيعة رفضًا قويًّا للتاريخ البشري. إن تخيُّله لجزائر غير محدَّدة بزمن وخالية من معظم أهلها هو خيالٌ ناقص يشكِّل المصدر الوحيد للنعيم القوي والحقيقي — أو الغبطة — لشخصية جانين، وبالتأكيد لكامو نفسه.

يمكن القول بأن «الضَّيْف» أقوى قصص المجموعة. البطل اسمه دارو، وهو معلِّم من الأقدام السوداء. يعيشُ في جبال الجزائر في بيته الذي هو أيضًا مدرسة. يستقبل دارو في صباح يوم شتوي بارد بالدوكي الذي يصل على حماره، وبالدوكي شرطيٌّ محلي صارم ذو قلب عطوف — نسخة من خيار الناس من الأقدام السوداء، الذين كثيرًا ما يظهرون في أدب كامو. ويأتي مع بالدوكي عربيٌّ محلي متهَم بقتل قريبه، يسير على قدمَيه ومربوطًا بحبل إلى الحمار. (وكما في رواية «الغريب»، لا يسمِّي كامو العربي أبدًا.) يتولَّى دارو دون سابق إنذار مسئوليةَ تسليم الرجل العربي إلى السلطات، وهو لا يرغب في فعل ذلك. لكن بالدوكي يجعل الأمر مسألةَ ولاءٍ وشرف ليُجبره على ذلك، فيضعه في موقف محرج. شعرَ كامو بالشعور نفسه خلال حرب الاستقلال الجزائرية، عالقًا بين مجموعتَين متناحرتَين دون أي مجال للتعبير عن منظوره الخاص. ولذا، قد يُرى البطل دارو تمثيلًا لكامو.

وعلى الرغم من أن دارو يصدِّق ظاهريًّا ما يقول بالدوكي عن كون الرجل العربي مذنبًا، فإنه لا يريد أن يسلِّم الرجل إلى السلطات. ولا يريد كذلك أن يزعج الرجل العجوز. ولكي يضغط على دارو، يقول بالدوكي إن الحرب على وشْك أن تندلع، وإن العرب قد يثورون، وبعدها «سنكون كلنا متورِّطين». لا يريد دارو أن يكون متورِّطًا، لكن تتداركه الأحداث التاريخية. يتحاور دارو وبالدوكي، وفي النهاية يوافق دارو على مضض أن يوقِّع على مذكرة تثبت أنه قد تسلَّم السجين، لكنه لا يَعِدُ بأن يسلِّمه. يخلق هذا صَدْعًا بين الرجلَين. وبمجرد أن يغادر بالدوكي، يشعر دارو بالذنب؛ لأنه خيَّب أملَ بالدوكي. دارو عالقٌ مثل كامو بين رغبته في تجنُّب الصراع وولائه لمجتمع الأقدام السوداء وقربه منه.

دارو عالقٌ بين ولاءَين متصارعَين؛ فهو حانقٌ على العربي لارتكابه جريمة قتل، ومنزعِجٌ من بالدوكي لأمره بتسليم المقبوض عليه إلى السلطات. ولذا، يصل دارو إلى حل وسط في النهاية. يصل بالعربي إلى منتصف الطريق بين المدينة والسجن، ويخبره أن طريق السجن إلى الشرق، وأن الجنوب طريق البدو الذين سيستقبلونه كواحدٍ منهم. وبعد تردد، يتجه العربي شرقًا، ويرجع دارو إلى بيته.

يصوِّر كامو دارو رجلًا عالقًا بين فَصِيلَين، لكنه رجلٌ طيب يحاول أن يكون عادلًا. من المفترض أن نشعر بالمشاركة الوجدانية معه؛ الأمر الذي لا يهيِّئنا للصدمة في الفقرة الأخيرة. فلدى رجوعه إلى غرفة الصف الدراسي، يجد دارو على السبورة كلمات التهديد التالية: «لقد سلَّمتَ أخانا. وستدفعَ الثمن.» إنه محسنٌ وعادل، لكن يسيء الجميع فهمه، وهو وحيد، ويضغط على نفسه بنفسه، والعرب يتهدَّدونه؛ هكذا رأى كامو نفسه في خِضم الصراع الجزائري نحو الاستقلال.

انقسمَ المعلِّقون في تفسير نهاية القصة: كان التركيزُ إما على شخصية دارو النبيلة بحق (فهو رغم كل شيء، يرفض أن يُسلم العربي إلى السجن)، وإما على غرابة تلك السردية الواقعة في عصر استعماري التي تصوِّر المستوطِن ضحيةً وشخصية عاطفية وحيدة.

هُدْنَة مَدنية

كانت الحربُ في الجزائر — التي بدأت يوم عيد جميع القديسين عام ١٩٥٤ — تؤثر على كامو ليس بوصفه كاتِبًا، ومواطنًا فرنسيًّا، ومُنتميًا إلى الأقدام السوداء وحسب، بل بوصفه شخصية عامة أيضًا. فبعد عامَين من بدء الحرب، سافر كامو إلى الجزائر ليُلقي خطابًا، مناشدة جيَّاشة طلبًا للسلام. وهذا هو ما يُعرَف ﺑ «الدعوة إلى هُدنة المَدنية في الجزائر».

لم يكن كامو أسيرَ وهم إيقاف الحرب؛ إذ كان هدفُه هو التوصل إلى اتفاق بين المجموعتَين المتحاربتَين لوقف قتل الأبرياء. كان المناخُ المحيط بتدخل كامو مناخًا عدائيًّا من جماعات غير متوقَّعة؛ إذ كان عُمْدة الأقدام السوداء في الجزائر قد رفضَ أن يستضيف المؤتمر، وعندما وُجِدَ المكان لاستضافته — بفضل مؤسسات جزائرية مُتهاودة، تولَّت أيضًا تنظيم التأمين — كان بإمكانه سماع صرخاتٍ عدائية من الشارع لحشد من الأقدام السوداء: «الموت لكامو! الموت لمنديس-فرانس (وهو رئيس وزراء فرنسا بين عامَي ١٩٥٤–١٩٥٥، الذي كان مؤيدًا لإنهاء الحروب الاستعمارية)! تحيا الجزائر الفرنسية!» في نهاية المطاف، جرى تقصير وقت المؤتمر خوفًا من اندلاع أعمال عنفٍ من جانب جماعات الأقدام السوداء.

استهلَّ كامو خُطبته بإدانته الفورية للمتظاهرين الراغبين في إسكاته. كانت خطبته إعادة سردٍ يحرِّك المشاعر لدافعه ومحنته: «فعلتُ ما بوسعي طيلة عشرين عامًا للمساعدة في التوفيق بين شعبَينا». كما أنها كانت أيضًا اعترافًا بالفشل: «يمكنكم أن تقاطعوني كثيرًا، بل أن تسخروا مني»، ثم استتبعَ كامو، «لكن الحاجة المُلحَّة في هذه المرحلة هي أن نمنع المعاناة التي لا داعي لها».

حاوَل أن يفصل ما بين قتال الجزائريين من أجل العدالة وبين قتالهم من أجل الاستقلال، الذي وصفه ﺑ «المطامح الأجنبية» التي ستُخرِّب فرنسا بلا شك. فهل كانت تلك إشارةً إلى الاتحاد السوفييتي؟ في سياق الحرب الباردة، كان شبح الاتحاد السوفييتي المسيطِر حُجَّة كلاسيكية صاغَها مؤيدو القوى الاستعمارية للاستمرار في السيطرة على مستعمَراتهم. وقد وقعَ ما يلي محل القلب من حديث كامو: بالنسبة إليه، لا يمكن أن يُسمَح للقومية الجزائرية بالتعبير عن نفسها رسميًّا على حساب فرنسا؛ إذ لم يكن الاستقلال الجزائري مطروحًا. استمِروا في فعل ذلك، وستكون الحرب دائمة؛ هكذا قال كامو لجمهوره الذي يكثُر فيه الجزائريون. كما تضمَّنت رسالته السلمية أيضًا تهديدًا غير مباشر: إذا لم تلجئوا إلى المفاوضات، فسيَستمر القتال إلى ما لا نهاية.

واختتم كامو بمدح أعضاء المجتمع الإسلامي لتنظيمهم المؤتمر، وأخبر مزيجَ الحضور أن الباعث الذي حشدهم جميعًا هو الإنسانية، لا السياسة. يكشف كامو هنا عن سذاجة تكادُ تكون محبَّبة إلى النفس؛ في الواقع، كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي القوة المنظِّمة للمؤتمر. وكان عمار أوزقان — وهو صديقُ كامو وزميله في الحزب الشيوعي في ثلاثينيات القرن العشرين — أحدَ منظِّمي المؤتمر. كما أنه كان عضوًا في جبهة التحرير الوطنية، وهو ما كان يجهله كامو. وكان هدفه هو ضم كامو إليها، وإقناعه بأن الثورة لها مبرراتها.

بعدها بسنواتٍ عديدة سيوضِّح أوزقان قائلًا: «كانت الهُدنة المَدنية وسيلتنا [جبهة التحرير الوطنية] إلى مساعدة الصادقين، أعداء الظلم المعادين للعنف، لتفتيح عيونهم، ولكي يدركوا مع الوقت أن جبهة التحرير كانت على صواب». فهل حازت جبهة التحرير فرصة إقناع كامو؟ هذا الأمر كان مستبعَدًا بشدة، لكن لا شك أن إلقاءَ كامو خطبته الداعية إلى السلام، وهو محاطٌ بمئاتٍ من الأقدام السوداء يهتفون بموته، كان يمثِّل خطوةً في الاتجاه الصحيح بقدرِ ما يعني لجبهة التحرير؛ إذ كان بالنسبة إليهم بمثابة ضربة مفاجئة على مستوى العلاقات العامة.

تُعَدُّ تلك اللحظة علامة على موقف كامو الإشكالي والمُبهَم، النابع من مزيج من رغبته الصادقة في السلام وعجزه عن إدراك مدى الظلم الذي يُعانيه الجزائريون طوال فترة الاحتلال الفرنسي. يتذبذب كامو بين القومية والإنسانية، مُحاوِلًا على نحو يائس أن يشكِّل المزج المستحيل بينهما.

وفي خطاب إلى صديق مُقرَّب له بعد المؤتمر، كتبَ كامو: «رجعتُ من الجزائر مكتئِبًا بشدة. ما يحدُث يُثبِت قناعاتي. الأمرُ كله بالنسبة إليَّ «محنة شخصية».» والمحنة هي مقابل المنحة والغبطة؛ إذ كان هذا بمثابة مأساة وفاجعة شخصية في نظر كامو (شكل ٦-١).
fig6
شكل ٦-١: كامو مكتئِبًا.

على مدار حياته، أخفى كامو أصوله المتواضعة المنتمية إلى الأقدام السوداء بأشكال متعددة؛ بطراز ملابسه منذ كان مُراهِقًا، وبأسلوب وموضوع أعماله الثلاثة الكبرى الأولى (كانت مواضيعها إنسانية)، حتى في تركيزه على إسبانيا، البلد الذي حصلَ علنًا على معظم اهتمامه من المنظور السياسي (وليس الجزائر)، والذي كان بمثابة مكان مثالي يستطيع فيه المزج بين أصوله الإسبانية وقضية تقدُّمية. لكن في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، ومع الخطر المُحدق على وجود الجزائر الفرنسية، لم يكن أمام كامو خيارٌ آخر غير أن يتطرَّق إلى جذوره، وأن ينحاز إلى جانب في الصراع الجاري، كما في روايته المنشورة بعد موته، «الرجل الأول». ولذا قد تكون هذه الرواية هي أفضل تقديم لأعماله؛ لأنها توضِّح ما يقع في صميم رفضه للتاريخ وما يدفعه إلى تبجيل الطبيعة.

ما يتكشف من أدبه، لكنه كان حتى تلك اللحظة مستترًا أو خفيًّا على الدوام، هو الدفاع العاطفي الصريح عن المستوطنين الفرنسيين، وعن الجزائر الفرنسية؛ إذ إنه بمثابة مجاهرة وانكشاف، كقناعٍ يسقط: لا شيءَ أكثر أهمية إلى كامو من وجود فرنسا في الجزائر. تلك هي قصةُ النشأة الخفية لأعماله والتزاماته ونظرته إلى العالَم، بل حتى حبه للطبيعة. وكتابه الأخير بعنوان «الرجل الأول» هو التِماسٌ صادق من رجل يشعر أنه لا يملك شيئًا ليخسره، لا شيءَ ليُخفيه بعد الآن. إنه مِفتاحُ جميع أعماله.

تقع معظم أحداث روايته غير المُكتمِلة في الحرب. ثَمة إحساسٌ واضح أن الجزائريين سيستردون أرضهم، وفي بؤرة أحداث القصة تغلب مشاعر القلق والخوف والغضب من جانب المستوطنين. يحاول كامو أن يبرِّر الوجودَ الفرنسي بالجزائر: يتعامل مع الوضع الاستعماري من موضع غير مسبوق، من موضع ضعف. الحربُ هي أسوأ مخاوف كامو التي تتحقق. تُعَدُّ الرواية نفسها سيرة ذاتية إلى حَد كبير، إنها قصةُ رجل من الأقدام السوداء يُدعَى جاك كورمري، الذي يعيش الآن في فرنسا. (أحيانًا كان كامو يُسميه ألبير في مسوَّدة الرواية، وكورمري هو اسم عائلة جدته لأبيه.) ويتناوب سرد جاك بصيغة المتكلم مع حواراتٍ تدور بين المستوطنين وذكريات طفولة جاك. وعندما يعود جاك — الذي يعيش في باريس — إلى وطنه، يواجه غضبَ المستوطنين وخوفهم وامتعاضهم من صعود القومية العربية. تقدِّم الرواية حوارات طويلة بين مستوطن متضرِّر وآخر مُعادٍ للعرب أقل تعنتًا، إلى جانب الراوي الذي يحاول أن يجعلنا نفهم سببَ غضب المستوطنين.

يقع أحد الحوارات عندما يتذكَّر ليفسك — وهو صديقُ والِد جاك — خدمتهما في الجيش الفرنسي عام ١٩٠٥ لمحاربة المغاربة. إذ يقول والِد جاك عن المناضلين المغاربة لدى اكتشافه لجثة جندي فرنسي مشوَّهة جرى وصفها بإسهاب:

«يمنع المرءُ نفسه. ذاك هو ما يفعله المرء، بخلاف ذلك …» ثم هدأ … ثم صاحَ فجأةً: «جنسٌ قذر، يا له من جنس، جميعهم، كلهم …»

تتماشى تلك الفقرة مع كثيرٍ غيرِها في الرواية، حيث ينفي معظم الحوار آدمية العرب. أفعال العرب ضد الغزاة الفرنسيين مذكورة بالتفصيل، بينما يُكتفَى بالتلميح وحسب إلى جرائم الأوروبيين. نهاية هذه الفقرة رمزية أيضًا؛ لأنها تنتهي بحُكم قاطع على سلالة بأكملها صادر عن شخصية الأب، الذي تُضفَى عليه صفة المثالية على مدار الرواية. وتُقدَّم صرخته العنصرية للقارئ باعتبارها ردة الفعل «المفهومة» للضحية. يضمِّن كامو أيضًا محاولات لتفسير ما يُطلِق عليه السارِد رهابَ المستوطنين من الغرباء:

«البطالة … كانت أكثر ما يُخشى [من جانب الأقدام السوداء] من الشرور. أوضحَ هذا أن العُمَّال — الذين يكونون دائمًا أكثر الرجال تسامحًا في الحياة اليومية — كانوا دائمًا يرهبون الغرباءَ في مسائل العمل، ويتهمون الإيطاليين والإسبان واليهود على التوالي، وكذلك العالم كله في نهاية الأمر، بأنهم يسرقون منهم عملهم — وهذا بلا شك موقفٌ محيِّر للمثقَّفين الذين ينظِّرون على طبقة العُمَّال، لكنه مع ذلك موقفٌ إنساني ومبرَّر تمامًا.»

لا يعترض كامو على عنصرية الأقدام السوداء في الجزائر الفرنسية، لكنه عوضًا عن ذلك يبرِّرها. ويستخدم مشاغل الطبقات الاجتماعية ومخاوفها (كالبطالة) كتفسير لرد الفعل الذي ينمُّ عن رهاب الغرباء من جانب المستوطنين. ومن خلال الراوي نجد العنصرية هنا جزءًا من الطبيعة البشرية، كردِّ فِعل يمكن فهمُه من شخصيات محبَّبة تمامًا. هنا يستخدم كامو أيضًا أصوله المتواضعة كسلاح، فيستدل أحيانًا أن تلك الأصول تقدِّم له وعيًا وأصالة يفتقر إليهما بعض المُحاوِرين الآخرين من ذوي الخلفيات الأكثر امتيازًا. وهذه إشارة أخرى إلى سارتر.

لربما كان من الغريب أنَّ الخصم الرئيسي لهذا الدفاع عن الجزائر الفرنسية ليس المتمرِّد أو الثائر العربي، بل اليساري الفرنسي المعادي للاستعمار. في فقرة أخرى ذات دلالة، يقتلع مستوطنٌ، لديه بستان عنبٍ، الكرومَ من أرضه ليضمن ألَّا يتمكَّن العربُ من الانتفاع بها بمجرد أن يستردوا أرضهم. وعندما يسأله كورمري عما يفعل، يجيب المستوطن بما يفترض أن يكون سخرية لاذعة: «أيها الشاب، بما أن ما قمنا به جريمة، فيجب أن نمحوها.»

يصوِّر كامو صاحبَ الأرض كشخصية مأساوية: رجلٌ مذهل يعمل بجد، عجوز من الأقدام السوداء، واحد من الذين «يُهانون في باريس». لكن تدمير بساتين العنب هذا يعود بالذاكرة إلى أكثر الساعات إظلامًا في تاريخ غزو فرنسا للجزائر، في عام ١٨٤٠ عندما وافقَ صديقا ألكسي دي توكفيل، وهما الجنرال دي لاموريسيير والحاكم العام المستقبلي للجزائر بيجو، على الإتلاف المنظَّم للمحاصيل باعتباره سياسةً «لمنع العرب من التمتُّع بثمار حقولهم». كان اقتلاعُ أشجار الزيتون وتدميرُ الحقول أو الاستيلاءُ عليها لحظةً محورية في غزو فرنسا للجزائر. وبما أن الفرنسيين مُجبَرون على ترك تلك الأرض المغزوة، فإنهم راحوا يُدمِّرون مرةً أخرى الأراضي المزروعة، لكن هذه المرة يصوِّرهم كامو على أنهم ضحايا للظلم.

تُصبح هذه الرواية الأخيرة وغير المُكتمِلة، «الرجل الأول»، مِنبرًا للتعبير عن امتعاض المستوطنين البِيض. والامتعاضُ من العاصمة الإمبراطورية خاصةً (السلطة المركزية الباريسية، ومن فرنسا عامةً) حاضرٌ دائمًا، على سبيل المثال، في هذا الحوار بين الشخصية الرئيسية — الأنا الأخرى لدى كامو، متمثِّلةً في كورمري — ومزارع من الأقدام السوداء الذي يخبره: «أرسلتُ عائلتي إلى الجزائر العاصمة [لأجل سلامتهم] وسأموتُ هنا. إنهم في باريس لا يفهمون هذا.» يبغض المزارعُ العاصمة الإمبراطورية لدرجة أنه يُعبِّر عن احترامٍ أكبر للعرب الذين يُعارِضون حُكمَه بعنف. ويُوصي مالِك المزرعة مزارِعيه العرب بالانضمام إلى المقاومة الجزائرية لأنه «لا يوجد رجالٌ في فرنسا»؛ أي إن الأقدام السوداء سيُهزَمون بسبب ضعف الحاضرة فرنسا. هذا هو مصدر يأس المستوطن الأبيض: يشعر بتخلي باريس عنه، ونتيجةً لذلك يستسلم لصعود المقاومة الجزائرية.

من الأفكار الأخرى المهيمِنة والمتكرِّرة في هذا العمل التصويرُ المثالي لفترة زمنية سبقت الوجود البشري. ذلك أنَّ كامو يرى نفسه — من خلال كورمري — ممزَّقًا بين عالمَين يفصلهما البحر المتوسط؛ هما أوروبا والجزائر:

يرسم البحرُ المتوسط حدودَ عالمَين بالنسبة إليَّ، أحدهما فيه الذكرياتُ والأسماء محفوظة في مساحاتٍ محددة، والثاني تمحو فيه الرياحُ والرمال آثارَ الإنسان على امتداد مساحاتٍ شاسعة.

أي إن الجزائر هي المكان بلا ذكرياتٍ، بلا آثار للإنسان. هنا يساوي كامو مرة أخرى بين فكرة إخفاء الهوية والجزائر (ومن ثَمَّ مع الجزائريين)، لكنه أيضًا بمقياس أخلاقي يساويها مع مكانٍ لا أهمية للتاريخ البشري فيه، الأمر الذي يسمح ليس فقط بمحو ماضي السكان الأصليين، بل الماضي الاستعماري القريب أيضًا.

عنوانُ الرواية هو أيضًا احتكامٌ إلى ماضٍ من نوع مختلف. فالتضميناتُ من الكتاب المقدَّس واضحة، ومن المثير للاهتمام أن كامو فكَّر أن يُسمي الشخصية الأولى آدم. هذا جزءٌ من خيال الأقدام السوداء أو المستعمر الذي لا يجري التعبير عنه، لكنه موجودٌ وحاضر؛ فكرة أن أحدًا من قبله لم يكن موجودًا على تلك الأرض — في تشابهٍ كبيرٍ مع آدم وحواء. تلك رؤيةٌ للعالَم تضع المستوطنين الأوروبيين والأسطورة الأوروبية تباعًا في قلب الأشياء كلِّها. على سبيل المثال، يصف كامو الشخصية الرئيسية بأنها مولودةٌ «على أرضٍ بلا أجدادٍ ولا ذكرياتٍ … حيث لا يجد العجزة أيَّ راحة من الكآبة، التي يتلقَّونها في البلاد المتحضِّرة …»

بطريقة كاموية مَحضة، يدرك كورمري كُنْهَ نفسه كجزءٍ من الطبيعة في تيار وعي طويل، والذي تقرَّر أن يكون نهاية الرواية:

مثل موجة وحيدة تتحرك دائمًا وقدرُها أن تتحطَّم مرة واحدة وللأبد، مثل وَلعٍ خالص بالحياة في مواجهة الموت التام، شعرَ [هو] بهروب الحياة والشباب والكائنات منه دون أن يسعه فعل أي شيء تجاهها، وبأنه مهجور وحيدًا إلا من صحبة ذلك الأمل الأعمى أن تلك القوة الغامضة، التي سَمَتْ به لسنين طويلة فوق الأيام، وعضَّدته على نحوٍ يفُوق الوصف، على قدر أحْلَك الظروف، أن تلك القوة ستكون في عَوْنه ومَدَدِه، وسيكون منبعَ ذلك السخاء الدءوب نفسه الذي منحته منه أسبابًا لعيش الحياة، وبعض الأسباب للتقدُّم بالعمر والموت متمرِّدًا.

تلك «القوة الغامضة» هي فِكْرُ كامو بكل قدراته ومحدودياته؛ تلك القوة هي رفضٌ للذكاء، وفي الوقت نفسه عودةٌ إلى الطبيعة: إنه جزءٌ من الكُلِّ الأكبر، موجةٌ في البحر. هذا الاتحاد مع الطبيعة ساعَد كامو من قبلُ في التسامي عن الوقائع الاستعمارية والهرب منها. لم يعد هذا ممكنًا؛ نحن متروكون مع توسُّل كامو المؤثِّر والعاطفي أن تأتي تلك القوة وتُنقذه، حتى في الهزيمة. إنَّ إدراك كامو أنَّ حُلم العودة إلى «الأيام الخوالي الطيبة» هو وهمٌ خدَّاع؛ لقد تهدَّم خيالُه الاستعماري الذي يرى الفرنسيين «سكانًا أصليين للجزائر». إنَّ فزع كامو ها هنا طاغٍ.

كما تحطَّم أيضًا حُلمه بعالَمٍ تحكُمه الطبيعة بدلًا من المجتمع في أول روايةٍ منشورةٍ له. بالعودة إلى رواية «الغريب»، يمكننا أن نرى أنَّ العربي لقي حتفه ليس فقط لأنه شغل منطقة ميرسو المميزة للتواصل مع البحر والشمس، لكن أيضًا لأنه أعلن حتمية ثورة «الآخر» العربي. تعكس رواية «الرجل الأول» رغبةً مضطرِبةً في إنكار هذا الواقع الجديد (اندلاع حرب استقلال الجزائر) (انظر شكل ٦-٢)، وكذا الحداد المديد على النظام الاستعماري القديم.
fig7
شكل ٦-٢: احتفالات النصر في الجزائر العاصمة في نهاية حرب الاستقلال الجزائرية.

على مدار عمله الأخير، كان كامو ممزَّقًا بين ميوله الإصلاحية والواعية اجتماعيًّا ورغبته المتناقضة في أن تبقى الجزائر مقيَّدة بفرنسا للأبد. ومن ثمَّ، يحاول النص أن يُضفي الشرعية على احتلال فرنسا للجزائر بطرقٍ هي الأكثر إثارة للاهتمام. فعوضًا عن محاولة نقاش مهمة نشر الحضارة الفرنسية (وهي حجة شهيرة استخدمتها فرنسا لقرون)، أو الحاجة إلى الاستعمار للحفاظ على وضع فرنسا كقوة عظمى (منظور سياسي واقعي أوضح استخدَمَه كامو أحيانًا)، يصف كامو مستوطني الأقدام السوداء بالثوريين. وأصبحت هذه الحجة الجديدة، التي طوَّرها في رواية «الرجل الأول»، هي المحاولة الأخيرة من جانبه لحل هذا التناقض.

يكتب كامو أن المستوطنين الأوائل للجزائر كانوا جزءًا من الثورة الفرنسية عام ١٨٤٨، خاصةً أنه يُقرُّ أنهم كانوا ضحايا للقمع المُعادي للثورة الذي وقع في يونيو من السنة نفسها، ونتيجةً لذلك رحلوا إلى الجزائر. رغم ذلك، يعترض مؤرِّخون على فكرة أنه كانت هناك طبقة عاملة فرنسية ثورية في الجزائر. فطبقًا للخبير الرائد في هذا الصدد، وهو المؤرِّخ شارل-أندريه جوليان (١٨٩١–١٩٩١)، أصبح العُمَّال الفرنسيون أنفسهم الذين تركوا فرنسا متجهين نحو الجزائر بعد قمع يونيو ١٨٤٨؛ قامعين: «العُمَّال والحِرفيون الذين نجوا من أيام يونيو لعام ١٨٤٨ … كانوا هم الأشد قسوةً مع العرب.»

حاول كامو استدعاءَ النضال الثوري عام ١٨٤٨ ليُشرعِنَ وجود المستوطنين الفرنسيين في الجزائر. وتلك الفكرة غريبةٌ على كامو، الذي يرفض عادةً اعتبار التاريخ البشري إطارًا مرجعيًّا. رغم ذلك، كان كامو مستعدًّا إلى أن يبطل كلَّ شيء في سبيل قضية الأقدام السوداء، حتى معتقداته الخاصة ومبادئه اللاتاريخية.

رواية «الرجل الأول» هي قصيدةٌ معبِّرة ودفاعٌ عن الأقدام السوداء. إنها عملٌ مأساوي، حيث يواجه كامو لأول مرة تناقُضَه ويحسم اختياره لصالح الجزائر الفرنسية، كما كتبَ في يومياته في مايو لعام ١٩٥٨:

مهمتي هي أن أكتبَ كتبي، وأن أقاتلَ عندما تكون حرية عائلتي وشعبي في خطر. ولا شيءَ بخلاف ذلك.

كان التعبيرُ الرمزي أيضًا لاختيار كامو لجذوره على حساب العدالة «صرخة من القلب»، صرخَ بها خلال مؤتمر صحفي في ستوكهولم بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للآداب. وعندما هاجَمه مناضلٌ من جبهة التحرير الوطني لتبنِّيه قضية الأوروبيين الشرقيين لا الجزائريين، كان ردُّه: «أنا أُومِن بالعدالة، لكني سأدافع عن أمي قبل العدالة.» كان ردًّا غريبًا؛ لأنه يعترف ضمنيًّا أن النظام الاستعماري الفرنسي لم يكن عادلًا. بعبارة أخرى، كان ردُّ كامو دفاعًا عن أمه، لكنه اعترافٌ أيضًا أن قضية جبهة التحرير عادلة. كان كامو منكسِرًا على المستوى الشخصي بسبب الأحداث في الجزائر، كما كتبَ في مذكراته: «… الجزائرُ تتملكُني. لكن فاتَ الأوان، فاتَ تمامًا … فُقدَت أرضي، ولن تكون لي قيمة.»

لم يكن كامو قادرًا على تصوُّر استقلال الجزائر، ولا أن يتصوَّر نفسه منفصِلًا عن الجزائر الفرنسية. كان هذا الأمر «خَطَّه الأحمر في الرمال»: الحدُّ الذي ينبغي ألَّا يُتخطَّى، الحَدُّ المحظور المطلق. كانت الجزائر جوهرة الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية، كانت شديدة الأهمية إلى حَدِّ أن السلطات الفرنسية اعتبرتها جزءًا من فرنسا. لم يكن الغزو مجرد غزو عسكري، بل إداري أيضًا. كان كامو جزءًا لا يتجزأ من الجزائر المستعمرة، وينتمي إليها، ولم يكن في استطاعته العيشُ دونها. لكن المعضلة في رأي كثير من المعلِّقين والقراء أن ما يبقى هو إدراك أن كامو يستخدم الخطاب الإنساني بأسلوب مقنِع في دعمه سيادة فرنسا على الجزائر. هذا التناقضُ مزَّق كامو إربًا في حياته، لكن لا يزال الوهم بأنه تغلَّب عليه باقيًا.

لكن كامو تغلَّب عليه بالفعل عند مستوًى ما. ففي عام ١٩٥٦، حيث أصبح الاستقلال الجزائري وقتها احتمالًا شديد الواقعية، قدَّم كامو مشروعَ تسوية أكثر طموحًا. أرادَ أن يعطي الجزائريين استقلالًا ذاتيًّا شِبه كامل بنظام المجلسَين التشريعيين. سيكون ثَمة برلمانيان، أحدهما للجزائريين والآخر للمستوطنين الفرنسيين، وستكون السلطة مشتركة على نحو متساوٍ إلا في مجالَين اثنَيْن، هما العسكري والاقتصادي، اللذان سيظلان في نطاق اختصاصات الفرنسيين. ستكون النتيجة تفويضًا بإدارة يومية للجزائريين. ورغم أن كامو أساء تقدير توازُن القوى بين الجانبَين الجزائري والفرنسي، فقد كان ما قدَّمه للجزائر هو تسوية تُشبه في جوانب عديدة الوضعَ الحالي للعديد من المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا، والتي تتشارك رغم سيادتها عُملة تخضع لسيطرة باريس، وتشكِّل موضعَ مصالح اقتصادية فرنسية مهمة بالإضافة إلى قواعد عسكرية فرنسية. هذا التشابه بين مشروع كامو للجزائر وما ظهرَ اليوم في معظم الدول الأفريقية المتحدِّثة بالفرنسية، يفسِّر جزئيًّا لماذا أصبح كامو نفسُه مصدرَ الشرعية الثقافية لواقع الاستعمار الجديد في الوقت الحالي، ولماذا تعلن العديدُ من الشخصيات السياسية والثقافية الغربية حاليًّا وتزعم أنه واحدٌ منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤