الفصل الرابع

معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا

لا ريب بأن القاريء الكريم يشوقه الاطلاع على معيشة هذا الرجل الفاضل في داره، وقد يتبادر لذهنه نظرًا لشهرة الكونت ورفعة شأنه، ووفرة ثروته، وعلو حسبه ونسبه، أنه يسكن قصرًا فاخرًا محكم البناء والاتقان مزدانًا بأقصى درجات البهرجة والزينة، ولديه عدد وافر من الجواري والخدم، ولا بد تأخذه الدهشة عندما نصفه له بما يأتي:

إن بيت الكونت تولستوي واقع في ظاهر قرية ياسنايا بوليانا تحيط به غابة كثيفة في دورين، جدرانه مغشاة بالجير الأبيض في غاية البساطة، وليس له شرفات ولا أروقة، ولا شيء من الزخرفة تدل على أنه بيت الكونت، وهو يعيش فيه مع زوجته وأولاده عيشة بسيطة خالية من كل تكلف، لا تفرق شيئًا عن معيشة الفلاحين، وليس ذلك فقط؛ بل إنه يرتدي ملابس نظيرهم؛ أعني سراويل واسعة وفوقها قميص واسع أيضًا يتمنطق عليه بمنطقة من الجلد الروسي، فإذا أصبح يتناول الشاي، ثم يذهب إلى الغيط يحرث الأرض، ويغرس الأشجار، ويبذر الحبوب، وإذا عاد مساء من الحقل يجلس مع زوجته وأولاده حول الخوان لتناول طعام المساء.

أما أثاث بيته، فهو عبارة عن مقاعد خشبية وعدة كراسي، وقد علق على بعض جدران المنزل صورة شكسبير ودكنس وبعض صور أسلافه، وقد طال شعر الكونت ففرقه كالنساء فوق جبينه كما ترى من رسمه.

ولا يكتفي الكونت بزراعة أرضه، بل يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرًا من المساعدة المالية، وقد قال عن ذلك: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجدَّ والكدَّ، والابتعاد عن الكسل الذميم، وتكون له خير أنموذج حسن فيضطر أن يقتدي بك، ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة، وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه يدب فيه روح الكسل، ويميت منه عاطفة الشهامة، فيجنح إلى التواني وقلة الشغل فتسوء حالته تدريجًا، ويصبح عضوًا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب … إلخ.

ثم إن للفيلسوف في بيته القروي مكتبة، وهي عبارة عن مقصورة ضيقة تحتوي على كرسي من الخشب، وطاولة مغطاة بغطاء من الجوخ الأخضر القديم، وحول جدران الغرفة رفوف خشبية مرصوصة عليها كتبه الكثيرة، وفي إحدى زوايا الغرفة معلقة صورة رجل روسي من القائمين على الحكومة، وكثيرون من شبان روسيا المتخرجين في كلياتها يقصدون الكونت في قريته، ويتتلمذون له، ويحذون حذوه في أمر مساعدة الفلاحين، والاشتراك بالعمل مع الجميع.

الكونت في داره بمدينة موسكو

لقد ذكرنا حالة معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا حيث يقضي فصل الصيف فيها، وأما في الشتاء فيقيم في مدينة موسكو فينقطع عن الأعمال الجسدية المتعبة، ويتفرغ للأعمال العقلية النافعة؛ فيؤلف الكتب المفيدة، ويطالع أشهر المؤلفات العلمية والفلسفية، ولا يقابل أحدًا من رجال الروس إلا القليل الذين له علاقة معهم، أما الأجانب فيأذن لكل واحد منهم بمقابلته في أي وقت أرادوا. وبيته واقع في ظاهر المدينة في شارع «حقل البنات» تدل ظواهره على أنه من البيوت القديمة، وهو مؤلف من دورين، وخصص الكونت لنفسه غرفة في الدور الثاني مفروشة فرشًا بسيطًا، وفيها مكتبة ومقعد وعدة كراسي وطاولة، وأما الدور الأول حيث تقيم زوجته وأولاده فهو مفروش بالرياش الفاخرة فتزدحم فيه أقدام الزوار حيث يلعبون الألعاب المختلفة؛ لأن عيلته تسير في معيشتها في موسكو كأهل هذا العصر في اللعب، وكثرة الزيارات، والكونت لا يشاركها في ذلك أيضًا؛ بل يكون دائمًا منزويًا متفرغًا للعلم والعمل، وهيئته تدل على الرزانة وكبر العقل، وهو ينهض من النوم الساعة الخامسة صباحًا فيشتغل بالتأليف والتحرير، وعلى الغالب يقابل زواره عند المساء، وهو لطيف المعشر أنيس المحضر، يلاطف زائريه ويهش في وجههم من أية طبقة كانوا، وإذا حدَّث أحدهم أطال الكلام معه، وهو قوي الحجة، شديد العارضة، قوي البرهان، يقنع خصمه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة السديدة فيجعله مقتنعًا ممتنًا منه، ويشاركه أولاده في تبييض الكتب وتصليح مسوداتها.

وإتمامًا للفائدة ننقل عن مجلة المقتطف١ الغراء ما دار من الحديث بين الفيلسوف والكاتب الإنكليزي المستر لونج إبان زيارته له، حيث قال: لما زرت الفيلسوف المرة الثانية رأيته قد أتم كتابة كتاب إلى البعض من أعضاء مجلس النواب الأسوجي، وكانوا قد كتبوا يسألونه عن رأيه في دعوة القيصر إلى عقد مؤتمر السلم؛ فأجابهم أن ما عرضه القيصر باطل لا يمكن العمل به؛ لأن الحكومات الحاضرة لا تستطيع أن تبطل الحروب ولا أن تخفف ويلاتها، ثم قرأ لي جوابه، وكان كلما قرأ فصلًا منه يقف ويقول لي: أفهمت مرادي؟ حتى أتى على آخره، فقال: هذا ما أرتئيه في مؤتمر القيصر، فإنه كله سخافة ورياء لا غير، ولا تستطيع الحكومات الحاضرة أن تبطل الحروب ولا تريد إبطالها؛ لأن الحروب ليست عرضًا طارئًا عليها؛ بل هي جزء جوهري من قوامها لازم لوجودها. فإذا قلت إن هذا المؤتمر رياء برياء لا أعني أن الحكومات التي أشارت به واشتركت فيه قصدت أن ترائي قصدًا، ولو كان عملها رياء.

إذا قلت إنك عازم على تغيير شيء لا يغيَّر ما لم تغيِّر طبعك وأنت غير عازم أن تغيِّر طبعك فأنت مراءٍ. فاقتراح القيصر رياء، وقبول حكومات أوروبا به رياء، وما منهم من يعتقد نجاحه، وكأن الحكومات تريد أن تخفي أعراض دائها لكي تحول أذهان شعوبها عن العلاج الشافي، لكنها لا تفلح في ذلك، ولا يستطيع هذا المؤتمر أن يقلل الحروب، ولا أن يقلل مضارها. إذا تسلح رجلان وكان كل منهما يعتقد أن مصلحة الآخر ضد مصلحته، فلا يأتمن أحدهما الآخر، ولا يركن إليه، ولا يصدق كلامه إذا عاهده على السلم؛ لأنه لو صدق كل منهما الآخر لما بقي داعٍ للسلاح، وإذا استطاعت الممالك أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها مليون جندي تستطيع أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها ألف جندي؛ لأن القلة لا تمنع الحروب إذا كانت الكثرة لا تمنعها.

ولما حوصرت سفاستوبل رأى البرنس أورسوف أن أحد الحصون أُخذ واستُرد مرارًا، فقال للقائد العام: دعنا نطلب من الأعداء أن يعينوا رجلًا منهم يلاعب رجلًا منا بالشطرنج فمن غلب كان الحصن له، ولا شبهة في أن القائد ضحك من هذا الاقتراح؛ لأنه يعلم أن الفريق الذي يخسر الحصن بالشطرنج لا يكف عن استرجاعه بالسلاح إذا استطاع، والناس يفصلون خصوماتهم بقتل بعضهم بعضًا لا بلعب الشطرنج؛ لأن الغالب هو الذي يثخن في خصومه ويضطرهم إلى الكف عن مقاومته، والمغلوب يتربص بغالبه الفرص حتى إذا استقوى واستضعف خصمه عاد إلى الأخذ بالثأر، وقد يضع المؤتمر قواعد وقوانين لمنع الحروب، ولكن هذه القواعد والقوانين لا تمنع دولة من أن تدعي أن خصمها هو الذي نكث العهود أولًا. وقلت له: إن الحكومات لا تمنع الحروب، ولكنها تقلل مضارها. فقال: هذا وهم ورياء من الذين يدعونه، ومصلحتهم قائمة بإبقاء الحروب، وقد قلت إنه رياء؛ لأن الغرض منه إقناع الناس بأن مضار الحرب يمكن أن تقل كثيرًا، فإنك ترى الحكومات تمنع استعمال الرصاص المنفجر؛ لأنه يجرح ولا يقتل حالًا، ولكنها لا تمنع استعمال الرصاص العادي مع أنه كثيرًا ما يجرح ويؤلم، والسبب الحقيقي لمنع الرصاص المنفجر أنه لا يقتل حالًا فلا يفي بغرضهم وهو التنكيل بعدوهم حتى يضطر إلى التسليم والخضوع، ولذلك لا أريد أن ينجح هذا المؤتمر، ولا أنا معتقد بنجاحه، وإن نجح فيكون منه ضرر؛ لأنه يحول أفكار الناس عن الحل الحقيقي الذي يمكن العمل به في كل مكان، وهو أن يخضع كل إنسان لضميره، والضمير يقول له: إنَّ قتل الناس غير جائز، فإذا اقتنع كل إنسان بذلك بطلت الحروب من نفسها، وعجزت الحكومات عن إثارتها. فقلت له: هب أن أمة من الأمم اقتنعت بصحة رأيك وعملت به، فلا ينتظر أن أمم العالم كلها ترى رأيها حينئذ وتفعل مثلها، وهب أن أمة من هذه الأمم اعتدت على الأمة الأولى وحملت عليها، أفلا تضطر الأمة الأولى إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها.

فقال: لا؛ لأنه يجب عليها أن لا تقتل غيرها، والواجب واجب كيفما كانت الحال.

وهاك فقرات من كتاب كتبه لجلالة القيصر يعترض فيه على نظام الحكومة الحاضرة، ويطلب مطالب كثيرة للإصلاح:
إليكم نرفع خطابنا يا ولاة الأمور من القيصر، وأعضاء مجلس الحكومة الأعلى، والنظَّار إلى أقارب القيصر أعمامه وإخوته وكل الذين يستطيعون أن يكلموه. إليكم نرفع خطابنا لا كأعداء بل كإخوان مرتبطين معنا ارتباطًا متينًا «أردتم ذلك أو لم تريدوه»، حتى إذا حلَّت بنا البلايا أصابكم شيء منها، ليس اللوم على الذين يثورون؛ بل اللوم كله عليكم لأنكم لا تفتشون إلا عن راحتكم ورفاهيتكم، وقد كان الواجب عليكم أن تفتشوا عن سبب الثورة والشكوى وتزيلوه، والناس مسالمون بالطبع لا يطلبون الخصام والعداء، بل يفضلون الوفاق والمسالمة، فإن كانوا قد ثاروا عليكم الآن، وطلبوا الإيقاع بكم، فلا يكون ذلك إلا لأنهم وجدوكم مانعًا يمنع عنهم وعن الملايين من إخوانهم أعظم نفع يطلبه الإنسان في هذه الدنيا وهو الحرية والعلم، وغاية ما يطلب منكم لكي لا يبقى سبيل لثورة العامة عليكم، وهو نافع لكم أيضًا لأجل راحتكم وسلامتكم، هذه الأمور الطفيفة، وهي:
  • أولًا: المساواة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من أهل الطبقات العليا «في أمور ذكرها بالتفصيل؛ مثل إلغاء القوانين التي تربط العمال بأصحاب الأعمال، وإعفاء الفلاحين من الأموال الأميرية التي تأخرت على غيرهم، ومن أخذ الجواز إذا أرادوا الانتقال من مكان إلى آخر، ومن تقديم الخيل والعلائف لرجال الحكومة، ولا سيما رجال البوليس، ومن العقاب بالضرب».
  • ثانيًا: إلغاء الحكومة العرفية التي تلجئون إليها آونة بعد أخرى، فتسلطون على الرعية أناسًا ظالمين فاسقين سخاف العقول.
  • ثالثًا: إزالة كل الموانع التي تمنع تعليم أولاد العامة؛ لكي يتحرر جمهور الروسيين من ربقة الجهل، والجهل أكبر معين للحكومة على الاستبداد بهم.
  • رابعًا: وأخيرًا إطلاق الحرية الدينية … إلخ.

والكتاب طويل، وعلى كل لمحة من هذه اللمحات شرح مسهب فاجتزأنا بما تقدم.

هوامش

(١) المقتطف من أقدم المجلات العلمية في الشرق، وأكبرها حجمًا، وأكثرها فائدة، تصدر في كل شهر مرة بحجم كتاب مملوء من الفوائد العلمية والتاريخية والطبية والاكتشافات الحديثة المفيدة، وقيمة اشتراكها ليرة إنكليزية في السنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤