فرحة لم تتم

كانت سلمى قد كتبت خطابها الأخير إلى سليم وبعثت به إليه، بعد أن أقنعتها سعيدة العجوز الماكرة بسوء نية سليم، وبأنه ذهب إلى الإسكندرية عقب إرساله خطابه الأخير إليها بوساطتها، لكي يعقد قرانه بفتاة هناك.

وكان داود هو الذي أخبر سعيدة بذهاب سليم إلى الإسكندرية؛ إذ علم بذلك من خطاب تلقاه من سيدتها وردة.

وقد شعرت سلمى منذ تلك اللحظة بأنها فقدت كل أمل في علاقتها بسليم؛ لأنها كانت شديدة الثقة بإخلاص سعيدة لها وتفانيها في خدمتها، فازداد حزنها وضعفها، وكثيرًا ما كانت نفسها تحدثها بالانتقام من سليم على تغريره بها ثم رميه إياها بالخيانة والغدر والخداع في حين أنه أولى بأن تلصق به هذه الصفات.

وحدث أن تفقدت خطابه الأخير ذات يوم لتعيد قراءته وتتأمل تلك الورقة التي زعم أنها كتبتها بخطها إلى شخص آخر تعترف له فيها بأنها تحبه، ولكنها لم تجد تلك الورقة رغم طول بحثها عنها. وذلك لأن أدما كانت قد عثرت بها ملقاة بجانب سرير سلمى وهي تَعودُها، وعرفت أنها الورقة التي كتبتها إلى حبيب، فاحتفظت بها معتقدة أن حبيبًا هو الذي جاء بها إلى سلمى؛ لكي يسخرا منها ويضحكا من سذاجتها وتصديقها أن حبيبًا يحبها.

وشغلت سلمى بمرضها وحزنها عن مواصلة البحث عن تلك الورقة. أما أدما فإنها لم تُطِق صبرًا على البقاء في منزل سلمى بعد ما تبين لها من تآمرها عليها مع حبيب، فسارعت إلى منزلها حيث خلت إلى نفسها في غرفتها وأخذت تعض على نواجذها غيظًا وندمًا. ثم لحق بها أبوها وأمها إلى المنزل، فلما شعرت بقدومهما أخفت الورقة، ثم غسلت وجهها حتى لا تبدو آثار الدموع في عينيها، وتظاهرت بانحراف صحتها ولزمت الفراش، وقد نال اليأس منها كل منال.

وعلى الرغم من أنها كانت تود لقاء حبيب لتوبخه أو تعاتبه على سخريته منها، كان قلبها يخفق بشدة ولا تتمالك نفسها من البكاء كلما صوَّر لها اليأس والحزن وسوء ظنها به أنه لن يستنكف أن يخاطبها بما يشينها ويحقرها ويحط من كرامتها. فبقيت كذلك حتى ظهر اليوم التالي، دون أن تتناول أي طعام، أو يراود الكرى جفنيها، ولم تكن تنقطع عن البكاء إلا عند وجود والديها أو أحدهما في الغرفة. وهما لا يعلمان من أمرها إلا أنها متوعكة الصحة منحرفة المزاج.

وفيما هي مستلقية على سريرها، ووالدتها مشغولة ببعض أعمال المنزل، وأبوها خارج المنزل، تذكرت تلك الورقة التي كانت سبب بلائها وشقائها، فأخرجتها من مخبئها، وأخذت تتأملها وتعيد تلاوتها، وصور لقائها بحبيب في رحلة الأهرام تتتابع على لوحة مخيلتها، ثم تعقبها صورته مع سلمى وهما يتأملان خطابها إليه ويضحكان ساخرين. وهنا لم تتمالك نفسها فانفجرت باكية وعلا شهيقها حتى خشيت أن تسمعه والدتها، لكنها مع ذلك استمرت فيه لعله يخفف بعض ما تعانيه.

•••

سمعت أدما بعد قليل طرقًا على الباب الخارجي للمنزل، فعادت إلى ذهنها صورة حبيب حين كان يأتي للزيارة، فأخذتها الرجفة واشتد خفقان قلبها. ثم سمعت الباب يفتح وصوت والدتها ينطلق بعبارات التحية والترحيب. وما لبثت قليلًا حتى دخلت عليها أمها ومعها والدة حبيب وشقيقته، فلم تتمالك عواطفها عند رؤيتهما وأخذت في البكاء والنحيب، فهمَّت بها شفيقة وراحت تحتضنها وتقبِّلها قائلة: «ما هذا يا عزيزتي، أتبكين هكذا كالأطفال لشعورك بصداع أو برد خفيف؟ لا لا، إن عزيزتي أدما أشجع من هذا كثيرًا، فهيا دعي عنك هذه الأوهام، واجلسي لنتمتع بحديثك اللطيف كالمعتاد!»

وقبَّلتها والدة حبيب بدورها وأخذت تواسيها وتشجعها بمثل تلك العبارات. فلم يسعها إلا أن تمسح دموعها وتجلس في فراشها متجلدة لتجاذبهما الحديث. ثم قالت لشفيقة شقيقة حبيب وهي تتكلف الابتسام: «ترى ماذا جرى حتى خطرنا ببالك وجئت لزيارتنا بعد ذاك الغياب الطويل؟»

فردَّت عليها شفيقة وعلى فمها ابتسامة تنمُّ عن طيبة قلبها وبساطتها وقالت: «إننا لا غنى لنا عن زيارتكم، ولكنا منذ افترقنا بعد رحلة الأهرام اللطيفة كنا في شغل شاغل خطير، وقد انتهى بخير والحمد لله.»

فلما سمعت أدما ذكر رحلة الأهرام هاجت أشجانها وكادت تعاود البكاء، لكنها جاهدت لتغالب دموعها وتكبت عواطفها وقالت: «ماذا كان ذلك الشغل الشاغل، خيرًا إن شاء الله؟»

قالت: «إن الخواجة سليم أصابته حمى على أثر تلك الرحلة، ونظرًا إلى أنه يقيم وحده بالقاهرة؛ لأن أسرته في الإسكندرية كما تعلمين، نقله أخي حبيب إلى منزلنا بحلوان لنقوم بتمريضه وخدمته حتى يشفى. ثم حدث في اليوم التالي أن سافر حبيب إلى الإسكندرية دون أن يخبره بذلك لكي يجيء من هناك بوالدته لتراه. فلما كان عصر ذلك اليوم، غادر سليم المنزل على أن يتمشى قليلًا في حديقة حلوان العامة لكنه لم يعد إلى المنزل ولم يخبرنا بالمكان الذي قصد إليه. فلما عاد حبيب ووالدة سليم في صباح اليوم التالي، سقط في أيدينا جميعًا، وحسبت والدة سليم أنه مات أو انتحر يأسًا من الشفاء، فانقلب جو المنزل إلى مثل جو المآتم. وزاد الطين بلة أن حبيبًا مضى إلى القاهرة مرتين للبحث عنه ولكنه لم يقف على أي أثر له. وهكذا أمضى حبيب يومين متتاليين وهو يعاني متاعب السفر والبحث هنا وهناك، وضاعت كل محاولاتنا لتهدئة روع والدة سليم. فلبثنا في ذلك الشغل الشاغل الخطير حتى صباح أمس إذ تلقى حبيب من سليم خطابًا من الإسكندرية أخبره فيه بسفره إليها اتفاقًا وبعلمه من شقيقه هناك بأنه كان هناك في اليوم السابق وعاد ومعه والدته، ثم طلب إليه أن يعيدها إلى الإسكندرية ففعل. وما كدنا نشعر ببعض الراحة من كل ذلك العناء حتى جئنا لزيارتكم، فهل هناك بعد ذلك أي تقصير من جانبنا لا سمح الله؟»

فَسُرِّي عن أدما قليلًا لوقوفها على سر تردد حبيب إلى منزل سلمى وسفره إلى الإسكندرية وانصرافه عنها. لكنها بقيت في حيرة من أمر وجود خطابها الخاص إليه في غرفة سلمى. وأحبت أن تعلم لماذا لم يأتِ مع والدته وشقيقته ما دام قد اطمأن على صحة صديقه سليم وأعاد والدته إلى الإسكندرية، لكن الحياء أمسكها عن السؤال عنه. فاكتفت بأن تنهَّدت وقالت: «لقد أسفت جدًّا لمرض الخواجة سليم، فالحق أنه من خير الشبان المهذبين الأوفياء، لكن هل مرضه كان لعلمه بمرض سلمى؟ أم أنها هي التي مرضت لعلمها بمرضه؟»

فلم تفطن شفيقة لنكتة أدما، وقالت في دهشة: «كيف يكون هذا؟ أيمرض أحد لعلمه بمرض آخر؟ أم أنت تقصدين انتقال العدوى؟»

فابتسمت أدما وقالت: «ألا تعلمين أنهما خطيبان، وبينهما محبة متبادلة؟»

فقالت: «أعلم هذا، ولكن مرضهما لم يكن بسبب العدوى لأنهما لم يتقابلا منذ رحلة الأهرام.» ثم غيرت مجرى الحديث فجأة وقالت لأدما: «ما بالك لا تسألين عن حبيب وعدم مجيئه معنا؟»

فبغتت أدما، وخفق قلبها واحمر وجهها، ثم تجلَّدت إذ فطنت إلى أن شفيقة خالية الذهن لا تعلم شيئًا عن علاقتها بشقيقها، وردَّت عليها بقولها: «لم أسأل عنه لأنه لا بد أن يكون مشغولًا بما لديه من أعمال.»

وكانت والدتاهما تسمعان تحاورهما ولا تفقهان أكثره لانهماكهما في حديث آخر. فاقتربت شفيقة من أدما وهمست في أذنها قائلة وهي تبتسم: «إنه اليوم خالٍ من العمل وقد تركناه في المنزل وحده.»

فلم تفهم أدما من هذه العبارة إلا إصرار حبيب على هجرها والاستهانة بها، وعاودها حنقها عليه فقالت وهي تجاهد لإخفاء شعورها: «وهل من الضروري أن يتوجه معكما حيث تتوجهان؟»

فقالت شفيقة: «كلا، ولكنه لم يتخلف عن المجيء معنا إلا لأمر مهم!»

فأجفلت أدما، ولم تعد تستطيع كتمان ما بها، فأشاحت بوجهها وقالت: «هو حرٌّ على كل حال، وليس هناك ما يقتضي الاعتذار من تخلفه.»

فضحكت شفيقة وقالت: «الواقع أنه لم يتخلف إلا بسبب ما جئنا لزيارتكم اليوم خصيصى لأجله.» ثم عادت إلى الضحك.

فازدادت أدما حيرة وارتباكًا، ثم قالت متضجرة: «ما لك تتكلمين بالألغاز يا عزيزتي، وما الذي يُضحكك هكذا على غير عادتك؟»

فأغرقت شفيقة في الضحك، ثم التفتت إلى والدتها ووالدة أدما، فإذا بهما قد غادرتا الغرفة، فقالت: «ألم أقل لك؟ إنهما الآن ولا شك تتكلمان في الشأن المهم الذي جئنا للكلام فيه.»

فقالت أدما وقد نفد صبرها: «أهناك سرٌّ لا يجوز لي أن أطلع عليه، أم ماذا هناك؟» واغرورقت عيناها بالدموع.

فقالت شفيقة: «ليس في المسألة إلا ما يسرُّك ويسرُّنا جميعًا، ولا أستطيع أن أصرِّح لك الآن بأكثر من هذا، على أنك بذكائك المعهود تستطيعين أن تدركي كل ما هناك.»

قالت: «صدقيني يا عزيزتي إني لم أفهم أي شيء.»

فبدت الدهشة في وجه شفيقة، وتلفتت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يسمع أحد كلامها، ثم همست قائلة: «لقد جاءت والدتي لتخطبك لحبيب، فهل فهمت؟»

فلما سمعت أدما ذلك، غلب عليها الحياء وخفق قلبها سرورًا، لكنها لم تصدق النبأ، أو رأت التظاهر بأنها لا تصدقه، فقالت: «دعينا بالله من مثل هذا المزاح، فليس هذا وقته، ولا هو مما يليق بنا.»

فقالت شفيقة جادة: «وهل عهدتني أمزح بمثل ذلك؟ إني ما قلت لك إلا الحقيقة. ولولا ما تعلمين من محبتي لك ما صرَّحت لك بشيء قبل أن تتم المحادثة في هذا الشأن بين والدتي ووالدتك.»

فتحققت أدما أن الأمر جِد ولا هزل، وكادت الدنيا لا تسعها لفرط سرورها، لكنها آثرت التجاهل وقالت: «اسمحي لي أن أصرح لك بأني غير مستعدة لتصديق ذلك. وعلى كل حال يحسن أن ندع هذا الحديث الآن.» ثم مدت يدها وأخذت تفحص نسيج الثوب الذي ترتديه شفيقة وقالت: «إنه نسيج بديع ولا شك من أين اشتريته؟»

فهمَّت بها شفيقة وقبَّلتها ثم قالت وهي تنظر في عينيها: «إنك لا تتصورين كم أنا سعيدة بخطبتك لحبيب، فأنا أحب كليكما كلَّ الحب، وهذا ما كنت أتمناه مخلصة لكلٍّ منكما منذ عهد بعيد.»

فلم تتمالك أدما نفسها من البكاء فرحًا بهذه البشرى المفاجئة، وهمَّت بشفيقة فقبَّلتها بدورها وهي تقول: «إن إخلاصك مما لا شك فيه.»

وبعد قليل عادت والدتاهما إلى الغرفة ووجهاهما يتألقان بِشرًا وسعادة، وجلسن يتحدثن في مختلف الشئون العادية، ثم نهضت والدة حبيب وشقيقته فقبَّلتا أدما، وودعتاها وأمها وانصرفتا مشيعتين بعبارات المودة والاحترام.

•••

كان حبيب بعد أن ارتاح باله واطمأن على صديقه سليم، قد عاد إلى الحديث عن أدما مع والدته، ثم اتفقا على أن تمضي هي وشقيقته لمحادثة والدتها في أمر خطبتها له، فإذا وجدتا منها قبولًا، ذهب هو لمقابلة أبيها وخطبها منه وأعلنا الخطبة رسميًّا.

فلما عادت والدته وشقيقته من مهمتهما، وجدتاه في انتظارهما بالمنزل نافد الصبر وعلى وجهه آثار القلق والانقباض، فبشَّرته والدته بأن والدة أدما رحَّبت بخِطبتها له مؤكدة أنها سعيدة بذلك لما عهدته فيه من الأدب والكمال والنشاط في عمله. كما أكدت أن الخواجة سعيد والد أدما لن يكون أقل منها ترحيبًا وسرورًا بهذه الخِطبة.

فأشرق وجه حبيب ابتهاجًا، ولكنه قلق لما سمعه من أن أدما منحرفة الصحة وكانت معتكفة في فراشها حين زارتها والدته وشقيقته، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أكدتا له أنها بخير، ولا تلبث قليلًا حتى تسترد عافيتها كاملة. ثم استشار والدته في أن يمر بمنزل أدما في اليوم التالي بعد خروجه من الديوان لعيادتها، فقالت له: «إن العادة جرت بأن يمسك الشاب عن زيارة الفتاة التي شرع في خطبتها حتى يتم عقد الخطبة رسميًّا.» فتكدَّر لذلك رغم أن والدته أكدت له أن حرمانه من رؤية أدما لن يستمر أكثر من أيام معدودة ريثما يتم شفاؤها ثم مقابلته لأبيها والاتفاق معه على خطبتها.

وفي اليوم التالي ذهب إلى مقر عمله في القاهرة كعادته، وفيما هو يفكر في أدما ومرضها وعدم استطاعته زيارتها إلا بعد أيام، جاءه خطاب سليم من الإسكندرية يقول فيه:

أخي الحبيب وصديقى الحميم حبيب

عندي لك حديث طويل أرجئه إلى أن نجتمع قريبًا بمشيئة الله، وإنما كتبت إليك هذا الخطاب لكي تبادر بمقابلة سلمى وتبلغها فيما بينك وبينها أني شفيت من مرضي، وكل ما أتمناه أن تكون هي في خير وعافية، وأن تصفح عن ذنوبي الكثيرة لديها صفح الكرام.

هذا وإني لكبير الأمل في أن تبذل أقصى جهدك في إقناعها بزوال ما اعترض سبيل خطبتنا من عقبات، وأن تواصل تعزيتها والترفيه عنها حتى أعود إلى القاهرة وألتقي بكما بعد أيام، وحينئذٍ أُسمعكما معًا ذلك الحديث الطويل الذي أشرت إليه في أول هذا الخطاب. وهو حديث طريف ينطوي على قصة ليس هناك ما هو أعجب منها، حتى أنها لتفوق كل ما تخيله كتَّاب الروايات.

ولكم جميعًا أزكى تحياتي وأشواقي. ودمت لصديقك.

المخلص: سليم

فلما أتم تلاوة خطاب سليم عجب لما تضمنه من الإشارة إلى ذلك الحديث الغريب، وأخذ يفكر فيما عساه أن يكون، فرجَّح أنه يتعلَّق بما كان من معارضة والدة سليم في خطبته لسلمى. وسُرَّ لنجاح مساعيه لديها في هذا السبيل، كما سُرَّ لقرب عودة صديقه سليم.

وما عاد إلى منزله في حلوان بعد انتهائه من عمله حتى خلا إلى والدته وأخبرها بالمهمة التي كلفه سليم أن يقوم بها وقال لها: «إنني أخشى ألا تتاح لي فرصة أخلو فيها إلى سلمى لأبلغها رسالة سليم؛ ولهذا أرجو أن تعاونيني على إنجاز هذه المهمة، فما قولك؟»

قالت: «هذا أمر سهل، وغدًا أمضي أنا وشقيقتك معك إلى القاهرة لزيارة أسرة سلمى، ثم نبذل جهدنا أنا وشقيقتك في أن نشغل والديها بالحديث لنتيح لك فرصة تبليغها رسالة سليم دون أن يشعر أحد.»

فاستحسن رأي والدته وشكرها على عنايته بحل تلك المشكلة.

•••

كان اليوم التالي يوم جمعة ولا عمل لحبيب بالديوان، فاصطحب والدته وشفيقة إلى المحطة في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم، وما وصل بهم القطار إلى القاهرة حتى توجهوا من فورهم إلى منزل سلمى، ففتحت لهم والدتها الباب ورحَّبت بهم وأدخلتهم غرفة الجلوس فسألتها والدة حبيب عن صحة سلمى فقالت: «إنها ما زلت ملازمة فراشها وصحتها تزداد سوءًا رغم تناولها الدواء بانتظام، وأملنا في الله كبير، وهو القادر على أن يشفيها.»

وبعد قليل، وقفت شفيقة وقالت لها: «هل أستطيع الدخول على صديقتي سلمى في غرفتها الآن.» قالت: «نعم.»

وقبل أن تغادر شفيقة غرفة الاستقبال، استوقفها حبيب، ثم التفت إلى والدة سلمى وقال: «هل أستطيع أن أصحب شفيقة لرؤية سلمى والاطمئنان عليها؟»

فقالت: «ولم لا يا بني؟ إنها ستسر برؤيتكما ولا شك.»

فنهض ومضى مع شقيقته ودخلا غرفة سلمى، فإذا هي ممددة في سريرها وقد هزل جسمها وامتقع لونها وغارت عيناها، وما كادت تراهما حتى انفجرت باكية لفرط تأثرها وتذكرها ما كان من أمر سليم معها. فهمَّت بها شفيقة وقبَّلتها وأخذت في تسليتها والترفيه عنها محاولة بث الأمل في الشفاء التام العاجل في نفسها، فازدادت سلمى بكاءً وقالت: «إن ضعفي يشتد يومًا بعد يوم، وأحسب أني لن أغادر هذا الفراش إلا بعد أن أغادر الدنيا كلها.»

فلم تتمالك شفيقة من البكاء، وكاد حبيب يبكي معهما لولا أن تذكر المهمة التي جاء لأجلها، وأن في إبلاغ سلمى رسالة سليم ما قد يخفف من ضعفها وحزنها، فتجلَّد ولبث ينتظر أن تسنح له فرصة لأداء تلك المهمة. ثم سمعت شفيقة والدتها تناديها فنهضت ومضت إليها وهي في غرفة الاستقبال مع والدة سلمى لترى ما تريد، فقالت لها والدتها: «إن خالتك — أي والدة سلمى — متعبة ولا شك لكثرة ما لديها من الأعمال المنزلية، ولكنها أصرَّت على أن نشرب القهوة عندها، فاشترطت عليها أن تصنعي القهوة أنت. فهيا يا بُنيتي إلى المطبخ واصنعي لنا القهوة المطلوبة.» فأشارت شفيقة برأسها موافقة، وانصرفت للقيام بهذه المهمة.

وفيما هي في المطبخ لاح لها أن تتسلل إلى البيت المجاور الملاصق لبيت أدما لتناديها وتأتي بها لتفاجئها بمقابلة حبيب، وسرعان ما نفذت هذه الفكرة.

•••

عادت شفيقة إلى منزل سلمى ومعها أدما، ثم دخلت بها فورًا غرفة سلمى وهي تضحك مقدمًا مما تصورته من موقف شقيقها وخطيبته خلال لقائهما المفاجئ الذي دبرته. وكان حبيب قد أخرج خطاب سليم إليه وتلاه على سلمى فلم تتمالك عواطفها وانفجرت باكية، وتأثر هو ببكائها فبكى بدوره وأخذ يهمس في أذنها بعبارات التعزية والتشجيع. فما وقعت عليهما عينا أدما وهما في هذه الحال حتى بغتت، وخيِّل لها أن حبيبًا ما زال عالقًا بسلمى كما رجَّحت ذلك من قبل، وأن سعي والدته في خطبتها له لم يكن بإرادته وعلمه، فأخذها الغضب، ووقفت ترتجف من الغيظ، ثم حاولت التجلُّد وحيَّت سلمى مستفسرة عن صحتها، وهنا نهض حبيب واقترب منها بعد أن أفاق من ذهول المفاجأة، ومد يده لتحيتها فترددت في مد يدها إليه، ثم صافحته في برود من غير أن تنظر إليه أو ترد عليه كلامه. وما لبثت أن غادرت الغرفة مسرعة نافرة، فانطلقت شفيقة في أثرها وهي تضحك، وذهنها خالٍ من حقيقة ما يعتلج في قلب أدما، فلما رأتها تغادر المنزل فورًا عائدة إلى منزلها، أخذت تناديها مستوقفة إياها، ولكن أدما لم ترد عليها ومضت في سبيلها لا تلوي على شيء وقد أخذت الغيرة منها كل مأخذ.

fig4
«فلما وجدتْه جالسًا بجانب سرير سلمى أخذها الغضب، ووقفت ترتجف من الغيظ.»

فعادت شفيقة إلى غرفة سلمى مندهشة من تصرف أدما، فأخذ حبيب يعنِّفها ويتهمها بالغباء والجهل وانعدام الذوق لإدخالها أدما بغير استئذان، ولما علم منها أن أدما انصرفت غاضبة، وعادت إلى منزلها فورًا، اشتد غضبه وسألها عما جعل أدما تنصرف هكذا، فقالت: «لعلها غضبت من برود استقبالك لها.»

فلم يملك نفسه وصاح بها قائلًا: «اغربي من وجهي عليك اللعنة، ألم أقل لك إنك بلهاء لا تفهمين شيئًا ولا تحسنين صنعًا قط؟!»

فخرجت دامعة العينين، وقلبها يكاد ينفطر غمًّا وحسرة. ثم لاح لها أن تلحق بأدما في منزلها لتقف على سر غضبها، فما كادت تصل إلى المنزل حتى وجدتها قد خلت إلى نفسها في غرفتها وراحت تبكي بصوت مرتفع، وأمها في شغل عنها ببعض أعمال المنزل، فدخلت عليها وقالت لها: «شكرًا لك يا أدما، أعلمت أن حبيبًا وبَّخني وأهانني لأنك دخلت عليه دون استئذان؟»

فردت عليها غاضبة وقالت: «وهل هذا ذنبي؟ إنما الذنب عليك أنت التي أدخلتني عليهما وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان.»

فغضبت شفيقة بدورها لهذا الاتهام الذي لم تكن تتوقعه وقالت: «أية خلوة تعنين؟ وأي بكاء؟ أتغارين على حبيب إلى هذا الحد؟ أين عقلك يا عزيزتي؟»

فصاحت أدما قائلة بلهجة التهكم والاستخفاف: «إنني مجنونة لا عقل لي يا سيدتي، ولهذا لا أراني أصلح لمعاشرة أمثالكم من العقلاء!»

فوجمت شفيقة، وكفَّت عما كانت فيه من البكاء منذ طردها شقيقها من غرفة سلمى، وأخذت تجاهد نفسها لتنسى ما شعرت به من الإهانة. لكنها ما لبثت أن سمعت أدما تستأنف كلامها قائلة: «أكان من العقل يا سيدتي أن أفاجئ الشاب الذي خطبني يتناجى مع فتاة أخرى في غرفة مغلقة ليس فيها معهما أحد، وهما يبكيان ويتشاكيان، ثم إذا وجدته قد أذهلته المفاجأة وارتبك ولم يدرِ كيف يخفي الورقة التي كان يتلوها على فتاته المفضلة، تقدمت فركعت بين يديه، وقبلت قدميه متذللة مستعطفة كي يغفر لي ما ارتكبته من جرم فظيع بتعكير صفو تلك الخلوة الجميلة؟ لا، لا يا سيدتي إنني لا أقبل أبدًا مثل هذا الوضع، ولا يمكن أن أضحي بكرامتي وأرضى لنفسي مثل هذا الخطيب ولو كان أجمل من يوسف وأغنى من قارون.»

وهنا لم تعد شفيقة تملك أعصابها فقابلت ثورة أدما بمثلها وصاحت بها قائلة: «كفاك سخرية وتهكمًا يا سيدتي، إننا ما زلنا على البر، ولم تعقد خطبتك لأخي بعد، وما دمت لا ترينه أهلًا لك فأنت حرة، ولك أن تختاري من هو كفؤ لك وأجدر منه بحبك واحترامك.»

وكانت والدة أدما قد سمعت صراخهما فأقبلت لترى ما هناك وقالت لهما: «ما هذا؟ ماذا جرى؟»

فقالت أدما: «اتركيني يا أماه، إني لا أريد ذلك الرجل أبدًا والموت خير لي من …»

فقاطعتها شفيقة قائلة: «وهو أيضًا لا يريدك فاطمئني.» ثم غادرت المنزل غاضبة باكية، وما كادت تصل إلى العطفة المؤدية إلى منزل سلمى حتى لقيت والدتها وشقيقها خارجين منها، فروت لهما الحكاية من أولها إلى آخرها وهي تبكي وتنتحب. فثارت ثائرة حبيب لاستهانة أدما به ومصارحتها شقيقته بأنها تؤثر الموت على معاشرته، وتتهمه بأنه كان في خلوة مريبة مع سلمى، فقال لشقيقته: «كفى بكاءً يا شفيقة، إنني ما رغبت في خطبة هذه الفتاة إلا مندفعًا بإعجابك بأخلاقها وأدبها. وما دامت هذه حالها فلا رغبة لي فيها.»

ثم التفت إلى والدته وقال لها: «هل سمعت؟ وهل أدركت الآن لماذا كنت راغبًا عن الزواج كل ذلك الوقت.»

فقالت: «على رِسلك يا بني، إن الفتيات كثيرات، ولك عليَّ ألا تمضي أيام حتى أخطب لك من هي أجمل وأغنى وأجدر بك.»

•••

مضت فترة غير قصيرة ساد فيها السكوت، ثم التفتت والدة حبيب إليه فجأة وقالت له: «يخيل إليَّ أن هناك سوء تفاهم لم نقف بعد على تفصيله وأسبابه، فأنت تعرف كما أعرف أن العلاقة بين شفيقة وأدما كانت على أتم ما يكون من الصفاء وتبادل المودة والتقدير، ولم يحدث بينهما قبل ذلك أي شيء يبرر ما حدث. هذا إلى أنه حدث في منزل أدما، وكانت شفيقة بمثابة ضيفة عليها هناك، ولم تجرِ العادة بأن يهين أحد ضيوفه. وعلى كل حال لا بد من وقوفنا بعد قليل على أسباب ما حدث.»

فسكت حبيب ولم يُجب، لاشتغاله بالتفكير في ذلك الأمر العجيب، أما شقيقته شفيقة فنظرت إلى والدتها معاتبة ثم قالت والدموع تكاد تخنقها: «ما هذا الذي تقولين يا أماه؟ ألا تكفي الأسباب التي أبدتها دليلًا على أنها لا يمكن أن تصلح زوجة لحبيب؟ أم تريدين بعد هذا كله أن نتذلل لها ونترامى على أقدامها لعلها تتنازل وتتفضل بقبول خطبة حبيب والتغاضي عن الاتهامات التي ألصقتها به، كأنما الدنيا كلها ليس فيها من ترضى الزواج به غيرها؟!»

فأخذت والدتها في تهدئة خاطرها، والنصح لها بالصبر حتى تتكشف الحقيقة بعد قليل.

وما زالوا في مثل هذا الحديث حتى وصلوا إلى المحطة واستقلوا القطار عائدين إلى منزلهم في حلوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤