المراثي

إلى روح فقيد الشباب اللبناني المأسوف عليه طانيوس حسن نادر الشرتوني

بقلم الأستاذ وديع أفندي عقل صاحب جريدة الراصد في بيروت١
لولا صباك لما حزنت على صِبَا
يذوي ولا أَرْسَلْتُ دمعي صيِّبَا
إن المنية أَذْبَلَتْ بك خَيْرَ مَنْ
ربَّاه لبنانُ العزيز وأنجبَا
ما كنتَ إلا نفحةً من أَرْزِهِ
حَمَلَتْ إلى المكسيك عَرْفًا طيِّبَا
وشرارةً من ناره طارت إلى
فَلَكٍ بعيدٍ فاستقرَّتْ كوكَبَا
ورسالةً من روضه وغديره
نَضَحَتْ عليها الطيبَ أزهارُ الرُّبَا
تُلِيَتْ على أبنائه فرأوا بها
سِفْر النبوغ مُحَبَّرًا بِيَدِ الصِّبَا
طَرِبُوا افتخارًا للشباب يزينه
من حكمةٍ ما قَدْ يفوت الأشيبَا
فأقَمْتَ والتوفيق صِنْوُك عاملًا
عَمَلَ الذي خبُرَ الحياة وجرَّبَا
قد عِشْتَ كالحَمَل الوديع ولم تَكُنْ
إلا على بغي النوائب سلهبا
ما كان حَظُّكَ عاثرًا إلا بعمْـ
ـرك إذ قُضِبْتَ ولم يَحِنْ أن تُقْضَبَا
وذَهَبْتَ عن دنياك وهْي تشدُّ ذَيْـ
ـلَ الثوب منك تريد ألا تذهبَا
عاصَيْتَهَا وعَفَفْتَ عن لذاتها
ومضَيْتَ تطلب في سواها مَطْلَبَا
وتركْتَ خلفك مهجةً أخويةً
في دار غُرْبَتِها تذوب تلهُّبَا
ما راع رَيْبُ الدهر في الدنيا أخًا
كأخيك يوم دهى ولا أبكى أَبَا
هذا عليه ضاقَ لبنان وذا
كَ غدايري المكسيك سجنًا مُرْعِبَا
فتلاقَيَا يتسابقان الصَّابَ في
لبنان بَعْدَكَ لا سواه مشَرَّبَا
لا روضُ شرتونَ يطيب أريجُهُ
لهما ولا بيروتُ تحلو مَلْعَبَا
واللهِ لولا الحِلْم لم يمسكهما
لتَخَيَّرا اليأس المفرق مَرْكَبَا
حَيَّتْكَ يا أنطون أَطْهَر نفحةٍ
أرزية يَسْرِي بها نفس الصبا
نَمْ واسترِحْ في دار غربتك التي
لم تَرْضَ فيها العيشَ إلا مُتْعَبَا
يا صارمًا مستوحشًا في غِمْدِهِ
صبرًا فسوف تَعِيف ذاك المختَبَا
ستصيح أُمُّك يوم تنزل لَحْدَهَا
أهلًا وسهلًا بالحبيب ومَرْحَبَا

إلى فقيد الشباب طانيوس حسن الشرتوني

بقلم الأستاذ حليم أفندي دموس
هذا الوجود شَرَابُهُ كسَرَابِهِ
عند الحكيم وعَذْبُه كعذابِهِ
وبنو الحياة إلى الممات فموكب
طَيُّ الضريح وموكب في بابِهِ
سبحانك اللهم حُكْمُك عادلٌ
لكنَّ عقلي حارَ في أسبابِهِ
تُبقي على الشيخ الضعيف وينطوي
عُمْر الفتى والعزْمُ ملءُ إهابِهِ
ولقد شَجَتْ نفسي وأَذْكَتْ خاطري
زفراتُ توفيق الأديب النابِهِ
أودى الردى بشقيقه ونَبَا بِهِ
وطنٌ يحنُّ إلى لِقَا أحبابهِ
نَثَرَ الشقيقُ على الشقيقِ دموعَهُ
وبكى على الريان من آدابِهِ
أبدًا يرى رَسْم الحبيب أمامَهُ
والحزن ملء سكوته وجوابِهِ
يُملي على الصفحات ذِكْرى حُبِّهِ
ويخطُّ بالعبرات أَصْدَقَ ما بِهِ
ومداد مِرْقَمه ومَدْمَع جفْنِهِ
يتناثران على سطور كتابِهِ
رِفْقًا بنفسك فالحياة قصيرةٌ
كالنجم بين طُلُوعِهِ وغيابِهِ
واعْلَمْ بأنك لَسْتَ أَوَّلَ خائضٍ
بَحْرَ الأسى متخبِّطًا بعبابهِ
فالنسر يوقعه الردى من جَوِّهِ
والليث يصرعه الردى في غابِهِ

زفرة على المرحوم طانيوس حسن الشرتوني

بقلم الأستاذ يوسف صالح الحلو صاحب جريدة الخواطر المكسيكية
ذهب الردى بفتى الشباب الناضرِ
فغشى ضبابُ الحزن أُفْقَ خواطرِي
وطَلَبْتُ قافيةَ الرثاء فأَعْوَلَتْ
ثكْلَى وفاضت بالدموع محاجرِي
فنثَرْتُها من فَوْقِ رَمْسِك زهرةً
مِنْ دَوْح عاطفتي ورَوْض شواعري
مَنْ ذا أحقُّ بها وأنت أخو الوَفَا
وابنُ المروءة والذكاء النادرِ
أمجاهدًا ود الحياة قصيرة
لكنها مملوءةٌ بمآثرِ

وبعد أن وصف خلال الفقيد أَجْمَلَهَا قائلًا:

شِيَم لها لُطْف الشمول وعزمة
تمضي إذا انْصَرَفَتْ مضاء الباترِ
أدركْتَ شأوًا في حياتك يافعًا
ومشيتَ رغم الدهر مِشْيَةَ ظافرِ
بَسَمَتْ لك الأيام وهْيَ عوابِسٌ
فأغاظَهُ منك اختيالُ القاهرِ
فانْسَلَّ ينْفُذُ في فؤادك سَهْمُهُ
يا وَيْحَ دهرك من حَسُودٍ غادرِ

إلى أن قال مشيرًا إلى شقيق الفقيد:

خَلَّفْتَهُ وهْوَ الرشيد مضعضعًا
ببلابل الشكوى وذهن الحائرِ
يطوي الحياة على قتاد مَضَاجِعٍ
تسقيه بَهْجَتُهَا كئوسَ مرائرِ
ماذا يجيب غدًا إذا شيخ الحمى
ناداه: يا توفيقُ، أين مُسامري؟
بل أين شطر القلب أين حبيبه
أين الذي رَصَدَتْ سناه نواظري؟
أَرْجِعْ إلى المكسيك كُلَّ كنوزها
وارْدُدْ إليَّ فتاي دون جواهرِ

ثم قال في الختام:

بَعْضُ المصائب في الأنام وَجَدْتُهَا
فوقَ العزاء وفوق صَبْرِ الصابرِ
فإذا انْصَرَفْتُ إلى الدعاء فإنني
لله ألجأ وهْو أكْرَمُ غافرِ
يسقي ضَرِيحَكَ ديمةً من رحمةٍ
ممزوجةٍ بمدامعٍ من شاعرِ

عواطف ودموع في رثاء المرحوم طانيوس حسن نادر الشرتوني

بقلم الأستاذ محبوب الخوري نادر الشرتوني صاحب جريدة الرفيق في عاصمة المكسيك
على بَدْرِ الشبيبة يومَ غابَا
سلامٌ لو يَرُدُّ لنا جوابَا
وقلبٌ لم يذُب يومًا لرُزءٍ
تَفَطَّرَ يَوْمَ مَصْرَعِه وذابَا
نُصَابُ كما يُصَابُ الناسُ لَكِنْ
تَرَانَا اليومَ أَعْظَمَهُم مُصَابَا
لقد نَزَعَتْ يدُ الأرزاء مِنَّا
حُشَاشَتَنَا لتُودِعَهَا الترابَا
أَجَلْ فَقَدَ الشبابُ الغضُّ بدرًا
يَزِينُ بنور معناه الشبابَا
تَجَرَّدَ يملأُ الأيامَ عزمًا
ويدأب في دقائقها طِلابَا
فعافَ الطيش وانْتَبَذَ الملاهي
وخَلَّى القشر واتخَذَ اللُّبابَا
وصان شبابه من كل عيبٍ
فكان من الجريمة أن يُعابا
وكان الحِلْم فيه حِلْم كهلٍ
إذا ما خاض مسألةً أصابَا
أباه الشيخ من بعد المرامي
أشاطرك المضاضة والعذابَا
تطل على المشارف يوم تدري
تَخَالُ رواية الناعي كِذَابَا
تُحَمْلِق والبواخر مقبلاتٌ
وتسأل حين لا تَجِدُ الجوابَا
فترجع موقنًا والظَّهْر حانٍ
ودَمْعُ العين يطَّرد انسكابَا
فلو أني استطعتُ بسطْتُ كفي
وأقفلت البواخر والعُبابَا
أَجَلْ يا عمِّ خَطْبُكَ مستطيرٌ
فصبرًا في حياتك واحتسابَا
إذا ذَكَرُوا فتاك وكان شبلًا
فعلِّ الرأسَ والْتحِفِ العجابَا
أخاه وأنت من عهد التَّصابي
أخي حبًّا وعطفًا واصطحابَا
لَخَطْبُكَ بالشقيق الفَذِّ خطبي
وخَطْبُ الأقربين غداة نابَا
بَكَتْ عيني بأدمُعها لوَ انِّي
قَدَرْتُ جَعَلْتُ أَدْمُعَهَا السحابَا
عزاءَك فالحياة وإن تمادَتْ
هي الأحلام مسرعةً ذِهَابَا
ولو أنَّ المنية ذات عقلٍ
رشقْنَا الذم أو سُقْنَا العتابَا
ألا سرُّ الحياة — وإن لَجَجْنَا
عليه — لا نَشُقُّ له حجابَا
رأيت المرء يقتحم الأحاجي
يعالِجُ من مغالقها الصعابَا
فليس يخيب إن يَكْفُرْ بأمرٍ
وإن يَكْفُرْ بلُغْز الغيب خَابَا
إذَا جَعَلوا مِن الإنكار بَابًا
لِمُعْتَسِف جَعَلْتُ الله بَابَا
فلست من الألى انتقضوا عليه
وقالوا لا خلودَ ولا ثوابَا
وداعًا أيها القمر المسجَّى
خَبَوْتَ وكنت أثْقَبَهُمْ شهابَا
فلو دَرَسُوا حياتك وهْي صُغرى
أصاغوا مِنْ محاسنها كِتَابَا

دمعة حرى

على شاعر العرب في المكسيك المأسوف عليه، الأستاذ محبوب الخوري الشرتوني صاحب جريدة الرفيق، الذي انتقل إلى رحمة الله في مكسيكو نهار السبت الواقع في ٢٧ حزيران سنة ١٩٣١.

يا أخي محبوب.

يا أستاذي في الحداثة، ويا صديقي في الشباب، ورفيقي في ديار الغربة.

يا أعز الأقرباء، وأنبغ الأنسباء.

figure
رسم المرحوم محبوب الخوري نادر الشرتوني.

يا محبوبُ، لم تَنْشُف بَعْدُ دمعتي على أخي طانيوس حتى فَجَعَنِي الموت بك، ولم تلتئم بعْدُ جراحاتُ نفسي الدامية حتى نُكِثَتْ ثانيةً بسهام خَطبك.

يا محبوب، يا شاعر الإلهام والعواطف.

لقد اخْتَرَمَتْكَ المنون، ولم تَعْطِف على شبابك، مع أنك كنت مشهورًا بجميل عطفك وحنانك، ولم ترحم أيضًا عقيلتك الثكلى، ولا طفلتيك الصغيرتين اللتين تيتَّمَتَا قبل أن تُرَسَّخ مَلَامِحُك الجميلة في ذِهْنَيْهما، مع أنك كُنْتَ في حياتك ترحم المظلومين، وتنصر البائسين.

يا محبوب، يَحَارُ عقلي كُلَّما تأملت في هذه الحياة، وفي الطبيعة.

تراني أتساءل: لماذا يحيا الباغي طويلًا، ويعيش الطاهر قليلًا؟! لماذا تمنح الطبيعة القوة للمستبدين، والسلطة للظالمين؟! لماذا؟! لماذا؟!

ولكن لسوء الحظ لا أدري لماذا؟ ولا أَحَدَ يدري حتى الآن سِرَّ هذه الحياة، ولا كُنْهَ هذه الطبيعة.

يا محبوب، يا رافع لواء الأدب العربي في المكسيك، أنا — ما عِشْتُ — لا أنسى بديع منظومك ومنثورك، ولا أنسى أبدًا تلك الوقفات الخالدة، التي كُنْتَ تقفها على منبر الخطابة في مكسيكو.

إن معظم أبناء سوريا ولبنان في تلك الجمهورية النائية يردِّدُون بإعجاب أشعارك الخالدة، ويتغنَّوْن بها في منتدياتهم ومجتمعاتهم، ويفاخرون بأدبك الجم، كم يتفاخرون بشمائلك الغراء، ومبادئك القويمة!

يا محبوب، لم تكن فقط بدرًا لامعًا في أفق الأدب والشعر، بل كنت هكذا أيضًا لامعًا في حياتك العائلية، وفي صفاتك النبيلة؛ لأنك كنت زوجًا أمينًا، وأبًا حنونًا، وشهمًا أبيًّا، وصديقًا وفيًّا.

يا محبوب، يا صاحب الرفيق، على مَنْ تَرَكْتَ رفيقك؟ هذا الذي كان يَحْصُد من حَقْل ذهنك ويرتوي من ماء يراعك، ثم يُغَذِّي الناس من نِتَاجِ أدبك، ويسقيهم من كَوْثَر نبوغك.

والآن بعد أن يَبِسَ حَقْلُك، وجَفَّ مَعِينُك، فمن أين يَجْمَع الرفيق غذاءً وماءً ليطعم الجياع، ويسقي العطاش على مائدة الأدب والمعارف؟

وأنت وحدك كُنْتَ مَعِينَه وغذاءه وروحه، وهل يحيا الرفيق بعدك بلا معينٍ، ولا غذاءٍ ولا روحٍ؟ لا.

فكما كان الرفيق بالأمس حيًّا بك، أصبح اليوم مائتًا بموتك.

رحمك الله يا محبوب، ورحم رفيقك، الذي كان نجمًا ساطعًا في عالم الصحف والأدب.

فما كان الرفيق إلا أنت، وما كُنْتَ أنت إلا رفيقك.

يا محبوب، ليست شرتون وحدها اليوم ترثيك وتبكيك، بل يرثيك ويبكيك كل ناطقٍ بالضاد، قرأ نفثاتك الرائعة، وخَبَرَ أدبك الجم.

إن أُدَبَاء لبنان كلهم صُعِقُوا لفقدك، وأكبروا خسارة الصحافة والأدب بك، وأمَّا أنا فلا تَسَلْ عن شدة حزني عليك، فهو يوازي حُزْنِي على أخي الراقد بجوارك في لحده.

فسلامٌ على ضريحَيْكُما، وعلى المكسيك التي تحضن ثراكما، ورحمات الله وبركاته عليكما.

توفيق حسن نادر الشرتوني
في ٣٠ حزيران سنة ١٩٣١
١  أشكر من صميم الفؤاد جميع الأنسباء والأصدقاء والأدباء وأرباب الصحف الذين شاركوني بمُصابي الأليم بفقد المرحوم أخي، وأعتذر إليهم لعدم نشري كلَّ المراثي التي وصلتني في هذا الكتاب لضيق نطاقه، وإني أسال الله ألا يُفْجِعَهُم بعزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤