الرسالة الخامسة١

يا أخي اذهب إلى أبيك ودعني أذهب إلى أحضان أمي

يا أخي:

هذه هي العبارة الأولى التي كَلَّمْتَنِي بها حينما شعرت بدُنُوِّ الأجل، كأنك تريد أن توصيني بالعود سريعًا إلى أحضان والدنا الشيخ، الذي لم يَعُد له من نصيرٍ غيري في هذه الحياة.

كن على ثقةٍ أني قُمْتُ بوصيتك خيرَ قيامٍ؛ حيث لم أَمْكُث في المكسيك بعد وَفَاتِك سوى برهةٍ وجيزةٍ، صرَّفْتُ في خلالها أشغالي التجارية بسرعة البرق، ولم أَعْبَأ في الخسائر الباهظة التي لَحِقَتْني من جراء ذلك.

عُدْتُ وعيلتي إلى الوطن حالًا، وشاهدت الوالد الحنون مُنْطَرِحًا على فراشه من هَوْل الخطب الذي ألمَّ به.

رأيته مُثْقَلًا بالهموم والهواجس، حاملًا على منكبيه ثلاثة أعباء: عبء فقدك، وعبء الداء، وعبء الشيخوخة.

ومُذ اكتحَلَتْ عينه بعيني بادَرَنِي فورًا بالسؤال عنك، وعن مَرَضِك الأخير، فعرَّفْتُكَ إليه تعريفًا صحيحًا، مُعْرِبًا له كيف عِشْتَ في بلاد المهجر شابًّا كاملًا في خَلْقِك وخُلُقك، وفي صدقك ورجاحة عقلك، وأخبَرْتُه عن شجاعتك النادرة التي أبديتها في إبان مرضك، وعن جرأتك الخالصة التي أظهرتها في استقبال الموت.

فعندئذٍ انتفض من ساعته، وقال: نَعَمْ مات ولدي، ولكنه عاش رجلًا، ومات رجلًا.

ثم التفت إليَّ والدمع ملء وجنتيه، وخاطَبَنِي بصوتٍ أَجَشَّ: أَشْكُر الله على سلامتك، وسلامة عيلتك يا بني، وأكرر الشكر إليه تعالى؛ لأنه ترك لي عينًا أنظر بها.

ثم قَبَّلَني، وقَبَّل عقيلتي، وولدَيَّ بلهفةٍ زائدةٍ.

يا أخي:

كُنْتَ مصيبًا حينما أوصَيْتَني بالعود سريعًا إلى أحضان الوالد الحنون؛ لأن جَمْرَة الحزن التي وَقَعَتْ على قلبه الأبوي من جراء وفاتك لم يُخْمِدْها غير حضوري.

إن ولديَّ: رفيق وسلوى، هما كانا بلسم جراحه، ومورد سلوانه وصبْرِه.

يا أخي:

قلْتَ لي إنك ذاهب إلى أحضان أمك. هل الْتَقَيْتُما في عالم الأبدية، وضمَّتْك الوالدة إلى صدرها فَرِحةً في لقائك، كما كانت تضمك في هذه الحياة؟

هل تصافَحَتْ روحك وروحها؟

هل تَحَدَّثْتُما عنا، وافْتَكَرْتُما بنا، كما نتحدث دائمًا عنكما ونفتكر بكما؟

أو أنك لم تزل جادًّا وراءها، تتفقدها في عالم الأثير، ولم تَصِل حتى الآن إلى مَقَرِّها؟

أو أن الموت فَتَقَ لك عِلْمًا جديدًا مُوحِيًا إليك: أن الأبوة والأمومة تنحصران في الأجساد وَحْدَها، وأما الأرواح فلا أمومة ولا أبوة لها.

فإذا كان الأمر هكذا فلا أمل لكَ بلِقاء أمك؛ لأن جسديكما اللذين كانا يمَثِّلان الأمومة والبنوة قد بليا، وأصبحا أثرًا بعد عَيْن.

يا أخي:

اعذرني لأني لا أكتب عن عالم الموت سوى ما أتخيله وأحلم به، لا ما يقرُّه العلم الذي لم يزل عاجزًا عن معرفة ما وراء القبر.

ولهذا السبب أكرر رجائي إليك، طالبًا منك أن تفتح مَغَالِق الموت، وتجعل منه للناس عِلْمًا صحيحًا.

شُقَّ كَبِدَ الفضاء، واظْهَرْ بروحك حاملًا مشعال الحقيقة الناصعة.

أمَا حان الوقت أن تَسْقُط الكهانة، ويتلاشى الضلال؟

١  بيروت في ٢٠ نيسان سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤