ذو اللحية الحمراء

كان «تختخ» ينظر إلى شخص يقف على رصيف المحطة، يتحدَّثُ مع آخَر يقف في إحدى نوافذ عربة القطار … ولم يكن الرجل الواقف على الرصيف إلا الشخص الذي التقى به «تختخ» في بوفيه المحطة … أكثر من هذا أنه كان يحمل حقيبة سوداء مثل الحقيبة التي أخذها «تختخ» من الأمانات وكان بها الفيلم … الحقيبة التي سُرقت من غرفة «عاطف» دون أن يعرفوا كيف!

التفَّ الأصدقاء حول «تختخ» الذي حاول الجري والقفز من القطار … ولكن الوقت كان قد فات … فقد زاد القطار من سرعته وأصبح النزول منه انتحارًا لا شكَّ فيه.

قالت «لوزة»: ماذا حدث يا «تختخ»؟ إنك شديد العصبية.

تختخ: لقد رأيتُ الرجل الذي أعطاني إيصال الحقيبة على رصيف المحطة الآن، وبيده حقيبة سوداء مثل حقيبة الفيلم … وكان يتحدث مع شخص!

لوزة: مع أي شخص؟

تختخ: كان يتحدث مع شخص في هذه العربة … في نهايتها … لعله أحد الرجلَينِ اللذين سمعتُهما أمس يتحدثانِ عن «بوسن» … ولكني لم أتبيَّنْ ملامحهما جيدًا، فقد كانت أضواء القطار مطفأة.

عاطف: هل في إمكانك أن تتعرف عليهما؟

تختخ: سأحاول.

قام «تختخ» وانطلق في ممَّر العربة ينظر هنا وهناك خلسة دون أن يُفْصح عن غرضه … ودقَّ قلبه سريعًا عندما شاهد رجلًا يُخفي وجهه خلف جريدةٍ انهمكَ في قراءتها … كان قريبًا من النافذة التي دار منها الحديث … وتظاهر «تختخ» بأن شيئًا وقع منه … وانحنى على الأرض يبحث عنه … واستطاع أن يرى الرجل … وعرفه على الفور … إنه صاحب جواز السفر … وأدرك أنهم في الطريق الصحيح. أكمل طريقه إلى نهاية العربة … ثم عاد ليجلس بين الأصدقاء وليخبرهم بما حدثَ أمس.

ظهر الحماس على وجوه الأصدقاء … وقالت «لوزة»: لو كان معنا «زنجر» الآن، لكنا قد احتفظنا بشيءٍ.

نوسة: ماذا تقصدين؟

لوزة: كان سيحتفظ برائحة الرجل؟

ابتسم «تختخ» وقال: إننا سوف نحتفظ بالرجل نفسه، سنقوم بمراقبته حتى أسوان.

صمت الأصدقاء … وبدأَتْ صور الجبال والحقول تأخذ انتباههم … كانت الجبال المرتفعة وقد شقها طريق القطار تجعل داخل العربات مظلمًا قليلًا، ثم تعود العربات إلى الضوء عندما ينتهي أحد الجبال.

نظر «محب» في ساعة يده وقال: إننا نقترب من «أسوان» … بقيت ثلاث ساعات!

جلس الأصدقاء يرسمون خطة التحرُّك داخل أسوان.

قال «تختخ»: إن أهم شيء أن يظل الرجل تحت أعيننا … وعندما نتأكد من المكان الذي سوف ينزل فيه … علينا أن نذهب للحاج «مسعود عبد الرحيم» صديق والدي، فسوف يفيدنا كثيرًا … وحتى نطمئن على مكاننا.

بدأت آثار أسوان في الظهور مع انتشار الغروب الذي كان يجعل للأشياء معنى مختلفًا … وعندما توقف القطار في محطة أسوان، كان كثيرون يملئون الأرصفة.

ظل «تختخ» يراقب الرجل ذا اللحية الحمراء … لكن فجأةً اختفى في الزحام … أسرع بين السياح يبحث عن الرجل … لكن صوت الميكروفون شدَّ سمعه … لقد كان ينادي اسمه … توقف «تختخ» قليلًا يفكر: هل يعلم أحد في أسوان أنه موجود؟ وهل هو مهم إلى هذه الدرجة؟!

مرةً أخرى … ارتفع صوت الميكروفون يقول: الأستاذ «توفيق خليل توفيق» يتوجه إلى مكتب ناظر المحطة.

نظر الأصدقاء إلى بعضهم وكان «تختخ» قد عاد إليهم.

عاطف: لقد وصلَتْ شهرتك إلى أسوان!

نوسة: أظن أن والدكَ فعل شيئًا.

اتجهوا إلى مكتب ناظر المحطة … وقدَّم «تختخ» نفسه … وما إن نطق باسمه حتى تقدم منه رجل متوسط السن … طيب الملامح … ذو لحية بيضاء … تملأ وجهه ابتسامة رقيقة … وقال: أهلًا يا توفيق!

نظر «تختخ» إلى الرجل وهو يقدم يده مُحيِّيًا، وأدرك أنه الحاج «مسعود» صديق والده … قال «تختخ» مبتسمًا: أهلًا يا عم الحاج «مسعود».

قدَّم «تختخ» بقية الأصدقاء للحاج «مسعود» الذي رَحَّب بهم كثيرًا.

ابتسم الحاج وقال: لقد اتصل بي الوالد أمس.

ضحكَتْ «نوسة» وضحك الأصدقاء … فقال «محب»: لقد كنت على صواب.

بسرعةٍ كان الحمَّالون يحملون حقائب الأصدقاء. اقترب «تختخ» من الحاج وقال له: إن لي كلبًا في عربة الحيوانات لا بدَّ أن أصحبه الآن.

وفي لحظات كان «زنجر» يقفز حول الأصدقاء سعيدًا بخروجه من العربة وبانضمامه إليهم.

وفي خارج المحطة كانت سيارة في انتظارهم … وعندما كانوا يغادرون باب المحطة … كان «تختخ» ينظر حواليه بحثًا عن الرجل … لكنه لمْ يَرَ أحدًا … غير أن السياح كانوا يركبون عربات الأتوبيس الكبيرة … سأل «تختخ» الحاج «مسعود»: عمي، هل تعرف أين نزل هؤلاء السياح؟

الحاج: في الفنادق الكبرى … ولدينا هنا عدد منها.

تختخ: أقصد هل تعرف في أيها ينزل هذا الفوج بالذات؟

ابتسم الحاج وهو يقول: طبعًا … إنني أعرف كل شيءٍ عن حركة السياحة هنا … لأنني أعمل بها.

نوسة: أين ينزلون إذن يا عمي؟

الحاج: إنهم ينزلون في فندق «نيوكتراكت» … وهو لا يبعد كثيرًا، فكل الفنادق الكبرى تقع كلها تقريبًا في منطقة واحدة.

تختخ: ونحن أين سننزل؟

الحاج: أين؟ في ضيافتي طبعًا … إنني أمتلك بيتًا كبيرًا … وسوف يفرح أولادي كثيرًا بوجودكم.

لم يكن الأصدقاء يريدون أن يبتعدوا عن مكان الرجل الآخَر، فوجودهم في بيت الحاج «مسعود» قد يعطلهم، أو قد يكشف طبيعة الرحلة التي يقومون بها، لكنهم لم يستطيعوا الاعتراض، فركبوا السيارة التي انطلقت بهم إلى البيت. في الطريق كان الحاج «مسعود» يتحدث إليهم ويشرح لهم الأماكن التي يمرون بها … في النهاية … وصلت السيارة إلى خارج المدينة … حيث شاهدوا بيتًا كبيرًا تحوطه حديقة خضراء … قال الحاج: ما رأيكم؟ هذا بيتي.

تقدَّمَتِ السيارة حتى دخلَتِ الحديقة … ووقفَتْ أمام باب البيت مباشرة. كان أولاد الحاج «مسعود» يقفون على الباب في انتظار الأصدقاء، وقدَّمهم الحاج: «فريد»، «مصطفى»، «فاطمة». صمت قليلًا ثم قال مبتسمًا: هؤلاء هم الصغار؛ أمَّا الكبار فكلهم في أعمالهم.

التقى الأصدقاء بأبناء الحاج الذين رحَّبوا بهم كثيرًا، ودخلوا جميعًا البيت، وقال الحاج: الآن، هذا بيتكم وعليكم أن تتصرفوا كما تريدون، أمَّا أنا فسوف أذهب إلى المحل.

انصرف الحاج، وسأل «تختخ»: عزيزي «فريد» … هل عمي الحاج يعمل في فندق «كتراكت»؟

فريد: لا، لقد استقال وفتح عملًا لبيع الحُلِيِّ والآثار في الفندق، كما أن لنا محلًّا آخَر في وسط المدينة.

تختخ: هل نستطيع أن نذهب إلى هناك؟

فريد: طبعًا … غدًا صباحًا سوف نذهب إلى هناك، وسوف أجهِّز لكم برنامجًا حافلًا … كم يومًا ستبقون معنا؟

نظر «تختخ» إلى الأصدقاء ثم قال: لمدة ليسَتْ محددة … فهي مرتبطة بشيء نقوم به … والآن، نريد أن نجلس في الحديقة.

تقدَّم الأصدقاء إلى الحديقة، ومعهم «فريد» و«مصطفى» و«فاطمة».

كانت حرارة الجو قد بدأت تنكسر، وهواء رقيق يصافح وجوه الأصدقاء … غير أنَّ الأصدقاء لم يسهروا كثيرًا … فقد شعروا بالتعب بسبب طول السفر … وبسبب الرغبة في القيام مبكرًا حتى يبدءوا العمل الذي جاءوا من أجله. كانت غرف النوم قد جُهِّزت … ونزل «عاطف» و«محب» و«تختخ» في حجرة … و«لوزة» و«نوسة» في حجرة أخرى … أمَّا «زنجر» فقد نام بجوار سرير «تختخ».

استغرق الأصدقاء في النوم مباشرة … وكان أول مَن استيقظ منهم «تختخ» الذي أيقظَ «عاطف» و«محب»، وعندما كان «تختخ» يقترب من الباب سمع صوت أقدام في البيت … فعرف أن الجميع قد استيقظوا.

تناول الجميع إفطارًا سريعًا، ولم يجدوا الحاج «مسعود».

سأل «تختخ» عنه … فعرف أنه يخرج مبكرًا … فحركة العمل في أسوان تستغل فترة الصباح الباكر في العمل؛ نظرًا لارتفاع الحرارة وسط النهار.

انطلق الأصدقاء إلى فندق «كتراكت» حيث ينزل الوفد السياحي، وحيث يوجد محل الحاج «مسعود». كانت السيارة تنطلق بهم على كورنيش النيل … فقالت «لوزة»: إنَّ النيل في أسوان أوسع كثيرًا من النيل في القاهرة!

فريد: إنَّ الصخور هنا تعطي للنيل صورته الطبيعية، وهذا ما يجعله مُمتِعًا فعلًا … بجوار أن المنظر جديد عليك.

استغرق الأصدقاء في مشاهدة النيل … حتى توقفَتِ السيارة أمام مبنى مرتفع رائع … وقال «مصطفى»: هذا هو الفندق … هيَّا بنا.

نزلوا مُسرعين … وقادهم «فريد» إلى حيث يقع محل والده … كان مُوظَّفو الفندق يُرحِّبون بهم ويُسلِّمون على «فريد» و«مصطفى». وعندما توقفوا أمام المحل ابتسم الحاج «مسعود» وهو يرحب بهم. كانت هناك مجموعة من السائحين يشترون التماثيل ومنتجات خان الخليلي … كانت عينا «تختخ» تجري على وجوه السياح، يبحث بينهم عن الرجل ذي اللحية … وسرعان ما ظهرَتِ اللحية الحمراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤