نحن وثقافة الغرب١

في العالم اليوم حضارة متفوقة تفوقًا لا شكَّ فيه — هي الحضارة الغربية — بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وفيه أيضًا حضاراتٌ لم تبلغ هذا القدْر من التفوق، ولكنَّ كلًّا منها يعتز بماضٍ مجيد ويفخر بتراثٍ أسهم بنصيب هامٍّ في بلوغ المدنية مستواها الحالي، ولمَّا كانت الحضارة الغربية متفوقةً ولكنها حديثة العهد نسبيًّا، والحضارات الأخرى — مع عدم تفوُّقها الحالي — لها جذور ممتدة إلى أقدم العهود؛ فقد ترتب على ذلك انقسام بين المثقفين من أبناء الحضارات غير الغربية حول الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه ثقافتهم، أهو مسايرة الحضارة الغربية الجديدة؟ أم إحياء الحضارة القومية الأصلية؟

ونظرًا إلى أن الحجج التي يستند إليها كلٌّ من هذين الطرفين قويةٌ مقنعة، فقد كان من الطبيعي أن يحتدم الخلاف بينهما، ويبدو كأنه خلاف يستحيل التوفيقُ بين أطرافه؛ ذلك لأن أنصار التمسُّك بالتراث يستندون في دعوتهم إلى أساسٍ متين، هو ضرورة المحافظة على وحدة الأمة عن طريق التعلُّق بماضيها والاعتزاز به، وهو هدف لا يستطيع أحد أن ينكر أهميتَه، حتى مَنْ كان له رأي مخالف في الوسائل المؤدية إليه، ومن جهةٍ أخرى فإن أنصار مسايرة الحضارة الغربية الحديثة يرتكزون بدورهم على حجَّة لا مفرَّ من الاعتراف بقوَّتها، هي عظمة حضارة الغرب في القرون الأخيرة وتفوُّقها الساحق في جميع المجالات، من علمية وفكرية وفنية واجتماعية، وهم يؤكدون أن من العبث اتخاذَ موقفِ العناد في هذا الصدد؛ إذ إن الحضارة المتقدمة هي التي تسود دائمًا، ومن المحال أن تستطيع أمةٌ أن توصد أبوابها في وجه التفوق الحضاري الذي يأتيها من مصدرٍ خارجي؛ لأن هذا التفوُّق سيفرض نفسه سواء شاءت هذه الأمة أم أبت، وكل ما ستجنيه من العناد هو استمرارها في التخلُّف واستمرار الآخرين في السبق.

•••

ومن المؤكد أن أنصار كلٍّ من هذين الطرفين يعانون — عن وعي أو دون وعي — نوعًا من أزمة الضمير نتيجة لتشبثهم بموقفهم ذي الاتجاه الواحد؛ ذلك لأن مَن يدعو إلى المحافظة على التراث الحضاري القومي يعلم — على الرغم من قوة حجته — أن الحضارة الغربية لا تزال هي التي تقود العالم، ويدرك أن تجاهل هذه الحضارة والاكتفاء بإحياء التراث كفيلٌ بأن يزيد الهوَّة بيننا وبينهم اتساعًا، وهو يلمس حوله في كل يومٍ انتصاراتٍ جديدةً في ميادين العلم، وتجارِب شيقة غير مألوفة في الأدب والفن، فلا بُدَّ أن يؤدي به ذلك آخر الأمر إلى الإحساس بضَعف موقفه، وبأن من الضروري إقامةَ نوع من الاتصال بين بلاده وبين أصحاب الحضارة المتقدمة، حتى يشعر المثقفون بأنهم يسايرون موكب الزمان ولا يتخلفون عن ركبه، ومن جهة أخرى فإن دعاةَ الاقتداء بالحضارة الغربية لا بُدَّ أن يشعروا — عاجلًا أو آجلًا — بأنهم قومٌ مقتلَعون من جذورهم، وبأن روابطهم بماضيهم منعدمة، صحيحٌ أنهم يشايعون حضارةً تتميز بقوة مادية وروحية طاغية، ولكنهم يَحسُّون بأنفسهم دخلاءَ على هذه الحضارة غرباءَ فيها، ويلتمسون لأنفسهم مكانًا فيها فلا يجدونه، وينتهي بهم الأمر إلى إدراك قصور دعوتهم، والشعور بأنهم — بمعنًى معيَّن — قومٌ لا ينتمون إلى الماضي الأصيل ولا إلى الحاضر الدخيل. وبالاختصار فإن أزمة الضمير هذه تواجه أنصار التراث القومي وأنصار الحضارة الغربية معًا، وذلك حين يتشبث كلٌّ منهم بموقفه ويأبى الاعتراف بسلامة موقف الطرف الآخر.

هذه الأزمة — كما قلت — تواجه المثقفين في جميع أرجاء العالم غير الغربي، وضمنه بطبيعة الحال العالمُ العربي ومنطقةُ الشرق الأوسط بوجه عام، ومع ذلك ففي اعتقادي أن لهذه المنطقة الأخيرة على وجه التحديد وضعًا خاصًّا ينبغي أن يخفِّف إلى حدٍّ بعيد من وَقْعِ هذه الأزمة على ضمائر المثقفين فيها، بل ينبغي أن يؤدي آخرَ الأمر إلى إزالة الخلاف بين وجهتَي النظر المتعارضتين؛ فقد كان الاتصال وثيقًا إلى أبعد حد بين حضارات الشرق الأوسط — ومنها الحضارة العربية — وبين الحضارة الغربية على مر العصور، وإذا كان إدراك هذه الرابطة القوية بين الشرق الأوسط وبين جذور الحضارة الغربية حقيقةً لا يَصعُب إثباتُها، فإن الكثيرين يعجزون عن استخلاص النتيجة الضرورية التي تترتب على هذه الحقيقة، وهي أن من الواجب ألا يجد المثقفون في هذه المنطقة من العالم — على وجه التخصيص — حرجًا في مسايرتهم للحضارة الغربية؛ لأن هذه الحضارة ذاتها لم تتحرج في الماضي من استخلاص دعاماتها الأساسية من حضارات الشرق الأوسط، وبعبارة أخرى فإن العلاقة بين منطقة الشرق الأوسط بالذات وبين الغرب أَعْقَدُ من أن تكون مجرد ازدواج حضاري، وإنما هي علاقة تداخل وتشابك وثيق، لا ينبغي معه أن يقوم بين المثقفين مثلُ هذا الخلاف الحاد حول الرجوع إلى التراث أو الاقتداء بالغرب.

وأستطيع أن ألخِّص النمط الذي جرى عليه الاتصال بين الشرق الأوسط بين الغرب — من الوجهة الحضارية — بأنه أخذٌ وعطاءٌ متناوبان ومتكرران، أي إن الشرق الأوسط بدأ بإعطاء الغرب مقوماتٍ أساسيةً لحضارته، ثم أخذ منه عناصرَ دفعت بثقافته إلى الأمام، ثم عاد فأعطاه عناصرَ أخرى، وهكذا على التوالي، وعندما يكون الاتصال بين حضارتين على هذا النمط؛ فمن الصعب أن نتحدث في هذه الحالة عن حضارة غربية خالصة وحضارة شرقية خالصة؛ لأن كلتا الحضارتين تضم في تكوينها الداخلي عناصرَ أساسيةً من الحضارة الأخرى.

  • (١)

    كان أول اتصال سجَّله التاريخ بين حضارة الشرق الأوسط وبين الغرب يمثل مرحلةَ عطاء كبرى من الشرق إلى الغرب، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الشرق الأوسط — كما هو معروف — كان هو المهد الأول للحضارة العالمية الحالية، وقد كان لحركة العطاء هذه مظهرٌ علمي وفلسفي في مطلع العصور القديمة؛ ذلك لأن فلسفة اليونانيين حين أخذت بوادرها في الظهور — في القرن السادس قبل الميلاد — كانت في واقع الأمر نقطةَ نهايةِ تطوُّر فكري وعلمي في الشرق بقدْر ما كانت نقطة بداية تطوُّر عقلي في الغرب، وفي كل يوم يزداد رجحان كِفَّة الرأي القائل بأن الفلسفة اليونانية لم تبدأ تلقائية — كما تصوَّر الكثيرون في القرن الماضي — وإنما كان ظهورها على أرض اليونان نتيجةً لمؤثرات قوية مستمَدة أساسًا من الحضارات القديمة في الشرق الأوسط.

    ومن المؤكد أن الكلام عن «المعجزة اليونانية» ليس إلا اعترافًا بالعجز عن تعليل قيام هذه الظاهرة الفذة في تاريخ الفكر البشري، وهي النمو السريع لمجموعةٍ من المذاهب الفلسفية التي كان لها تأثيرها الدائم في الحياة العقلية للإنسان؛ فالتفكير العلمي يأبى الاعترافَ بمثل هذه الطفرات المفاجئة، ويكشف لنا عن أدلةٍ متزايدة على وجود تطوُّر متدرج من الحكمة الشرقية إلى التفلسف اليوناني، ويكفي لإثبات ذلك أن نقول إن أولى المدارس الفلسفية اليونانية كانت في مدنٍ تنتمي جغرافيًّا إلى الشرق الأوسط، وإن تكن من الوجهة الحضارية مدنًا يونانية، فضلًا عن أن زياراتِ كبار الفلاسفة اليونانيين الأوائل لبلاد الشرق الأوسط وتأثرَهم بعلْمها هي حقائقُ ثابتة تاريخيًّا.

    ولقد كانت شخصية أفلاطون — وهي أضخم الشخصيات في الفلسفة اليونانية — تجمع في ذاتها خلاصةَ هذه المؤثرات الشرقية؛ ذلك لأنه قام برحلات متعدِّدة في الشرق، وخاصة مصر، واقتبس من حكمة الشرق عناصرَ كثيرة، وفضلًا عن ذلك فقد ظهرت المؤثرات الشرقية في فلسفته بوضوح كامل؛ فالديانات والنِّحَل الشرقية القديمة قد تركت آثارها واضحة في فلسفة أفلاطون، ولم تكن العقائد الأورفية والفيثاغورية التي كان لها أقوى الأثر في تفكيره إلا وسيلة لنقل التيارات الدينية في الشرق إلى اليونان، وفي وُسع المرء أن يقول — بعد تحليل دقيق لاتجاه تفكير أفلاطون — إنه كان فيلسوفًا نصفَ شرقي ونصفَ يوناني، وإنه هو ذاته كان أكبر دليل على اتصال حضارات الشرق الأوسط القديمة بالحضارة الغربية ممثَّلة في اليونان، فإذا أدركنا أن التفكير الغربي — منذ أيام اليونان القديمة حتى اليوم — يتضمن عنصرًا أفلاطونيًّا متصلًا يظهر أحيانًا بصورة صريحة ويظهر في كثير من الأحيان بصورة ضمنية، وإذا أدركنا أن ظل أفلاطون ما زال ممتدًّا في طريقة التفلسف الغربية حتى عصرنا الحاضر، وأن حضارة الغرب بأسْرها مبنيةٌ على أسسٍ رئيسية من أهمها الأساس الأفلاطوني؛ إذا أدركنا هذا كلَّه تبيَّن لنا مدى تشابك الصلة بين الحضارات القديمة في الشرق الأوسط وبين الحضارة الغربية في تطوراتها الأولى، واتضح لنا أن عطاء الشرق للغرب — في هذه المرحلة الأولى من تاريخه الثقافي — لم يكن ثانوي الأهمية على الإطلاق كما دأب البعض على تصويره.

    وفي أواخر العصور القديمة اتخذت حركة التأثير الشرقي في الغرب شكلًا آخَر هو الشكل الديني؛ ذلك لأن المسيحية — كما هو معلوم — ديانةٌ شرقية خالصة، شَقَّت طريقها إلى الغرب في الإمبراطورية الرومانية بصعوبة بالغة في بداية الأمر، حتى استتبَّ لها الأمر في النهاية، وأصبحت هي العقيدة الرسمية للعالم الغربي بأسْره، وبعبارة أخرى فإن الحياة الروحية في الحضارة الغربية ترتكز منذ أوائل العصر الوسيط على عقيدةٍ تنتمي إلى صميم الشرق الأوسط، وترتبط ارتباطًا أساسيًّا بالإقليم الذي نشأت فيه، ومن المعروف أن هناك خطًّا متصلًا يربط بين عقائد الشرق الأوسط الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن هذا الخط يبدو أوضحَ ما يكون في نظرِ مَن يتأمل هذه العقائد من منظور عالمي شامل، ويقارنها بعقائد الشرق الأقصى مثلًا، ومعنى ذلك أن الأساس الديني لشعوب الشرق الأوسط وللشعوب الغربية متقاربٌ إلى أقصى حد، ولا جدال في أن هذه العقيدة الشرقية الأصل — أعني المسيحية — لها في حضارة الغرب أهميةٌ أساسية، صحيح أن من الكُتَّاب مَن يرون أن كلَّ ما في الغرب من خصب فكري وعُمْق علمي قد ظهر على الرغم من المسيحية لا بسببها، ولكن هؤلاء الأخيرين أنفسهم يعترفون ضمنًا بأن للمسيحية دورَها الكبير في تشكيل حضارة الغرب، وإن يكن هذا الدور قد اتخذ طابعًا سلبيًّا. وعلى أية حال فسواء نظرنا إلى هذا الدور على أنه سلبي أم إيجابي، فلا جدال في أن المسيحية — من حيث هي عنصر أساسي بُنِيَت عليه الحضارة طوال الألفي عام الأخيرة — دليلٌ حي على أن الرابطة بين حضارات الشرق الأوسط والحضارة الغربية رابطةُ تَداخلٍ وثيق، لا مجرد اتصال سطحي خارجي.

  • (٢)

    أما المرحلة الثانية في علاقة هاتين الحضارتين فمن الطبيعي أن تكون مرحلةَ أخذ، أعني أن الغرب هو الذي قدَّم إلى الشرق في هذه المرحلة عناصرَ أساسية في غذائه الروحي؛ فقد ظهرت في الغرب — كما قلنا من قبل — مذاهبُ فلسفية شامخة، ونظرياتٌ علمية هامة، تمكَّن بها اليونانيون من أن ينقلوا الإنسان نهائيًّا من عهد الأسطورة والخرافة إلى عهد التفكير المنطقي المنظم، وكان من الطبيعي أن تمتد آثار هذه الحركة الفكرية الهائلة إلى الشعوب المجاورة، وبالفعل استجابت الشعوب العربية للمؤثرات اليونانية حالما سنحت لها الفرصة، وكانت حركة الترجمة الهائلة التي نُقلت بها المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية دليلًا آخَر على مدى التقارب الحضاري بين هاتين المنطقتين، والواقع أن هذه الحركة كانت — بالنسبة إلى هذا العصر — تمثِّل ظاهرةً فريدة ليس لها في العالم نظير. ولو سألنا أنفسنا: أي شعوب الأرض تمكَّنت من استيعاب تراث اليونانيين والإفادة منه بعمق ووعي في هذه الفترة البعيدة من العصور الوسطى؛ لكان الجواب: شعوب الشرق الأوسط وحدَها؛ فهذه الشعوب — ولا سيما العرب — هي وحدَها التي تجاوبت مع الثورة الفكرية الضخمة التي بدأها اليونانيون وأدمجت الفلسفات اليونانية في تراثها الحضاري، حتى أثمر هذا كلُّه فلسفةً إسلامية لا تستطيع أن تضع فيها الحد لفاصل بين ما هو إسلامي أو عربي بحت وما هو يوناني.

  • (٣)

    وأعقبت مرحلة الأخذ هذه مباشرة مرحلة عطاء؛ ذلك لأن الفلسفة الإسلامية والعلم العربي — حين بلغا دَور النضج — قد امتد تأثيرهما تدريجيًّا حتى وصل إلى الغرب، فإذا بالغرب يتعرف على فلسفته القديمة مرة أخرى، وبعد مُضِيِّ أكثرَ من ألف عام على اختفاء آخر آثارها من خلال العرب.

    وكانت الترجمات اللاتينية للترجمات العربية هي العامل الرئيسي الذي أدَّى إلى تعريف أوروبا بفلسفة اليونانيين في أواخر العصور الوسطى، وبفضل هذه الترجمات، وكذلك بفضل العلم العربي الأصيل الذي شقَّ له طريقين رئيسيين إلى أوروبا: طريق الحروب الصليبية وطريق الأندلس؛ أُتيح للأوروبيين أخيرًا أن يعملوا على إحياء العلم والفكر في عصر النهضة بعد طول ركودهما في العصر الوسيط، والحق أن المرء حين يمعن الفكر في هذه الظاهرة التي أصبحت مألوفة يمر بها الكثيرون دون أن يجدوا فيها ما يستلفت النظر، يرى فيها ظاهرة فريدة بحق في تاريخ الاتصال الحضاري، فأين نجد مثالًا آخرَ لحضارة تتعرف على نفسها وتهتدي إلى ذاتها وتحيي ماضيها عن طريق حضارة أخرى؟ من الواضح أن الصلة بين الحضارة العربية والحضارة في الغرب في آخرِ العصور الوسطى كانت صلةً فريدة حقًّا؛ إذ إن الغرب لم يستطع أن ينهض من جديد بقواه الذاتية، وإنما احتاج إلى دماء جديدة تبعث فيه الحيوية وتمكِّنه من استرداد نشاطه الذي فقده في ظلام العصور الوسطى الطويل، فاستمدَّها من أقرب الحضارات إليه، وكان في ذلك نوع نادر من الأخوة الحضارية؛ حيث تقوم حضارة باختزان ثروة حضارة أخرى خلال فترة ضَعف هذه الأخيرة واعتلالها، ثم تَردُّها لها في الوقت المناسب — بعد أن تضيف إليها المزيد من عندها — لكي تعود هذه إلى استثمارها والانتفاع بها من جديد، فإذا أدركنا أن هذه الظاهرة التي نسميها بالأخوة الحضارية هي أهم العوامل التي ساعدت على قيام عصر النهضة الأوروبية، وإذا علمنا أن هذا العصر هو الذي بدأ حركة التقدُّم العلمي الهائل الذي تميَّز به الغرب طوال القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخه؛ لاتضح لنا مرة أخرى أن بين الغرب وبين الشرق الأوسط — ولا سيما العربي منه — روابطَ يستحيل معها الكلامُ عن أي تنافر بين حضارتيهما.

  • (٤)

    وَتَلَتْ مرحلةَ العطاء هذه مرحلةُ أخذ، هي الممتدة من عصر النهضة الأوروبية إلى عصرنا الحاضر، في هذه المرحلة أثبت الغرب تفوُّقه بما لا يدع مجالًا للشك، وذلك في الميدان العلمي والفني والاجتماعي في آنٍ واحد، وأُتيح للغرب — بعد أن أحسن الإفادة مما تلقَّاه من العرب — أن يبني عِلمًا شامخًا استطاع بتطبيقاته العلمية أن يغيِّر وجهَ حياةِ الإنسان في العالم بأسْره، وما زالت قدراته هذه في اتساعٍ مستمر، وتلك هي الصفة الرئيسية للمرحلة الحالية من تاريخ العالم؛ فالعلم اليوم — كما يُدْرَس في الشرق والغرب — هو علم غربي إلى حد بعيد، والنظريات الاجتماعية التي تَهُز أركان العالم وتقوِّض نظمه الموروثة وتمتد آثارها إلى أبعد أطراف الأرض هي في الأصل نظريات غربية مرتبطة بفلسفات غربية، وكل اتجاه فني جديد في الغرب — في الأدب أو الموسيقى أو الرسم أو النحت — يغزو العالم كلَّه ويُلهِب خيال المثقفين فيه ويثير مناقشات ومجادلات مستمرة، لا في بلاده الأصيلة وحدَها، بل في بلاد ذات جذور حضارية مختلفة عنها كل الاختلاف.

هذا النمط المتكرر من الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط وبين الغرب — بما فيه من أخذ وعطاء متعاقبَين — يثبت لنا أن للعلاقة بين هذين الإقليمين طابعًا خاصًّا فريدًا يندر أن نجد له نظيرًا في حالات الاتصال الحضاري الأخرى؛ ذلك لأن هناك أدلةً لا شك فيها على أن ما وصل إليه الغرب في مرحلته الراهنة من تقدُّم، إنما كان نتيجةً لتضافر حضارات الشرق الأوسط معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة؛ ففي مراحلَ متعدِّدة كان الشرق يقدِّم إلى الغرب المادةَ الخام لحضارته، فيصوغها هذا في أشكال محددة منظمة: قدم إليه معلوماتٍ عملية تطبيقية مستمدَة من خبرته الحِرَفية والزراعية القديمة، فصاغها الغرب في اليونان على شكل نظريات هندسية ورياضية أيام فيثاغورس وإقليدس، وقدَّم إليه مبادئ روحية في العقيدة المسيحية جعلها الغرب لاهوتًا منظمًا في العصور الوسطى، وحوَّرها تبعًا لمقتضيات حياته الخاصة في حركات الإصلاح الديني في عصر النهضة، وقدَّم إليه ترجمات للفلسفة اليونانية وشروحًا لها، ومناهجَ تجريبية للبحث العلمي الذي ازدهر في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاتخذ الغرب من هذا كله أساسًا لنهضة علمية وفكرية ضخمة تتسع آفاقها حتى اليوم على نحوٍ متزايد.

وعلى ذلك، فإذا كان الغرب في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم متفوقًا على غيره من الحضارات تفوُّقًا لا شك فيه، وإذا كان المثقفون المنتمون إلى حضارات متعدِّدة يجدون حرجًا في الأخذ عن حضارة غريبة تمامًا عنهم كالحضارة الغربية، فينبغي أن يخفَّ هذا الحرج إلى حدٍّ بعيد عند المثقفين المنتمين إلى الحضارة العربية، وحضارة الشرق الأوسط بوجه عام؛ إذ إنهم حين يأخذون اليوم عن العرب فهم إنما يهتدون من جديد إلى كثير من العناصر التي سبق لبلادهم أن قدَّمتها للغرب وإن تكن مصوغةً في شكل جديد، وإذا كان الأمر كذلك، فمن واجبنا أن نتخلى تمامًا عن ذلك الموقف الذي نعتقد فيه بوجود ثنائية حضارية قاطعة، لا يكون لنا فيها مفر من الاختيار بين أحد أمرين لا ثالث لهما، إما التمسُّك بتراثنا القومي، وإما مسايرة الحضارة الغربية؛ ذلك لأن تراثنا متداخل مع تاريخهم، وماضينا قد أثَّر في حاضرهم، والدور الذي قمنا به لكي تبلغ حضارة الغرب مستواها الحالي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولو جاز لنا أن نضع عقولنا أمام هذا الاختيار المزدوج ونرغمها على أن تنحاز إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لجاز للغربي بدوره أن يدعو إلى التخلي عن كلِّ ما يتصل بالمسيحية من قريب أو بعيد؛ لأنها ذات أصل شرقي، ولجاز له أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي؛ لأن القوة الدافعة لها كانت علوم العرب وفلسفاتهم!

•••

إن التضاد الحقيقي — والازدواج الحضاري بمعناه الصحيح — إنما يكون بين الغرب وبين بلاد الشرق الأقصى، ولو اتخذنا اليابان مثالًا لبلدان هذا الإقليم؛ لوجدناها ظلت منعزلة عن كل المؤثرات الغربية انعزالًا شبه تام حتى القرن التاسع عشر، ولم يكن يقوم بينها وبين الغرب أي اتصال حضاري يُذْكَر قبل ذلك العهد، وفجأة ومنذ فترة لا تزيد عن المائة عام إلا قليلًا، تحولت اليابان إلى بلدٍ يقتبس الأساليب الغربية في كثير من مظاهر حياته، حتى أصبح اليوم غارقًا في خضمِّ الحضارة الغربية، تظهر فيه تياراتها الأدبية والفنية الجديدة بعد ظهورها في بلادها الأصلية بقليل، ويحاكي الشباب فيه أبناء الغرب في هواياتهم ومظهرهم وأساليب معيشتهم.

فإذا أدركنا أن التيار المحافظ على التراث القومي في هذا البلد الآسيوي ما زال محتفظًا بقوَّته، وأن التقاليد الحضارية ما زالت لها مكانتها المتأصلة في نفس هذا الشعب؛ لأمكننا أن ندرك مدى حدة الازدواج الحضاري في هذه الحالة، ومدى الأزمة التي يعانيها المثقفون نتيجة لهذا الازدواج.

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأوروبي عندما يبحث عن نمطٍ من الحياة مخالف تمامًا للنمط الذي يعيش عليه، لا يلتمسه في الشرق الأوسط، بل في الشرق الأقصى؛ فهناك يجد ما ينشده من حضارة مختلفة كل الاختلاف عن حضارته الغربية، هناك يجد شعوبًا عاشت آلاف السنين بعقائدَ مختلفةٍ وتقاليدَ خاصةٍ بها، ويجد تراثًا ظل قرونًا طويلة مقفلًا على نفسه في وجه المؤثرات الخارجية ولا سيما الأوروبية، أي إنه بالاختصار يجد نمط الحياة الذي يقف مع النمط الغربي على طرفَي نقيض، أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط فإن الاختلاف مهما بلغ مداه لا يكون كبيرًا إلى هذا الحد، وحتى التراث الروحي الديني لشعوب هذه المنطقة من العالم يشترك في نقاط كثيرة مع نظيره في الغرب؛ فليست بلاد الشرق الأوسط هي تلك التي يَحسُّ فيها الأوروبي بالتضاد الحضاري الحقيقي، لا من حيث مظاهر حياتها الحديثة، ولا من حيث تراثها الحضاري الماضي.

ففي رأيي إذن أن مشكلة التضاد بين التراث القومي والحضارة الغربية الحديثة، لا ينبغي أن تحتل في تفكيرنا المعاصر كلَّ هذه الأهمية؛ لأن هذا التضاد غيرُ قائم أصلًا بالصورة التي يقوم بها بين حضارات كثيرة أخرى، وليس معنى ذلك — بطبيعة الحال — أننا نستطيع أن نهتدي مباشرة — في الحضارة الغربية — إلى عناصرَ شرقية يَسهُل التعرُّف عليها؛ إذ إن هذه العناصر قد مرت بشتَّى أنواع التغيير والتحوير، وإنما الحقيقة التي أود التنبيه إليها هي أن الشرق الأوسط والغرب كان بينهما من الروابط على مر العصور ما يجعل من المستحيل وضع حد فاصل بين النصيب الذي أسهم به كلٌّ منهما في تقدُّم الحضارة البشرية.

والحق أن من الظواهر التي تسترعي الانتباه في بلادنا — وتُعَدُّ دليلًا عمليًّا على هذا الرأي — أن بعض المفكرين الذين هم من أشد الناس تحمسًا للحضارة الغربية، هم في الوقت ذاته من أقدر الناس على تعمُّق روح أمتهم، ومن أحرص الناس على تراثهم القومي، ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى شخصيتَي طه حسين وحسين فوزي في مصر؛ فقد حُورب طه حسين في وقتٍ من الأوقات بحجة أنه يدعو إلى ثقافة مستوردة من الغرب، ويتحمس لها إلى حد التعصب، ومع ذلك فإن كُتَّابًا قلائلَ في البلاد العربية هم الذين بلغوا مستواه في فهم طبيعة الحضارة العربية والقدرة على تحليلها بطريقةٍ عميقة واعية، كذلك فإن حسين فوزي يقف اليوم على رأس الفريق الذي يدافع عن الثقافة الغربية في بلادنا، ولا يخفي في أي مجال إعجابَه بكلِّ ما هو أصيل وعميق في حضارة الغرب، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس تعمقًا في فهم الشخصية المصرية والتعبير عن طبيعتها الباطنة في مختلف العصور التاريخية بوعي كامل، فكيف اجتمعت لهذين المفكرين صفتا الإعجاب المفرط بالغرب، والإخلاص الكامل للثقافة القومية؟ في رأيي أن هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك جذورًا مشتركة بين الحضارتين، ولولا أن الشرق الأوسط والغرب كانا على مر العصور متنافرَين — رغم اختلاف ظروفهما المحلية — في الإسهام بدورهما في بناء الحضارة الإنسانية، وخلال ذلك الشوط الطويل الذي قطعه الإنسان، منذ أن ظهرت لديه أولى بوادر الوعي الحضاري في مصر القديمة وبابل وآشور، حتى انطلقت صواريخه بين الكواكب في الحضارة الغربية المعاصرة، كان الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط والغرب من أهم العوامل التي ساعدت على بلوغ الإنسان في كافة أرجاء العالم ما بلغه اليوم من تقدُّم مادي ومعنوي.

١  الفكر المعاصر، العدد التاسع، نوفمبر ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤