المقدمة

(١) هذه المسرحية

عندما يرِد ذِكر هذه المسرحية التي تُرجمت باسم ترويض الشرسة، ومن قبل ذلك باسم ترويض النمرة عن العنوان الإنجليزي وهو The Taming of a Shrew لا يخطر على بال المستمع أو القارئ العربي إلا أنها مسرحية تتناول «ترويض» زوج لزوجة جامحة الطبع أو ناشزة أو سليطة اللسان، ويكاد ينحصر الترويض هنا في الصورة المستمَدَّة من عالم الحيوان، بمعنى تحويل الكائن الوحشي أو البري إلى كائن أليف أو مستأنس، بتدريبه حتى تقلَّ حدَّة ضراوته ويصبح أقدر على معاشرة البشر. ولا شكَّ أن هذا المعنى قائم في العنوان وفي الحدث الرئيسي في المسرحية، لأن الاستعارة مستمَدَّة من ترويض الصقور، وخصوصًا إناثها التي يُستعان بها في الصيد والقنص، ولكن المسرحية لا تقتصر عليه، فهي مسرحية مركَّبة تتضمن عناصر كثيرة متباينة، ولا تدور كلها حول هذا الخط الدرامي الأساسي وإن كانت تصبُّ فيه بطُرق غير مباشرة وتتكامل معه في إطار أكبر وأوسع كثيرًا.
فالمسرحية تدور حول قضايا الخِطبة والزواج، وخصوصًا ما تسميه الطقوس الاجتماعية الخاصة بتودُّد الرجل إلى المرأة والفوز بحبِّها، ثم خِطبتها والزواج بها، وهي الساحة التي تدور فيها أحداث ما اصطُلح على تسميته الكوميديا الاحتفالية (festive Comedy) ولكنها تختلف في أن بناءها يقوم منذ البداية على «الميتامسرح»، أي وعي المسرح بأنه مسرح، وهو ما يتجلى في تقديم مسرحية داخل مسرحية أخرى (play, within, the, play) أو وجود نظارة للحدث المسرحي على خشبة المسرح نفسها، يوحون للنظارة في قاعة المسرح بأن ما يشاهدونه تمثيل، وقد يصل هذا إلى حدِّ كسر الإيهام المسرحي حين يخاطب الممثلون الجمهور لا من خلال أقنعتهم المسرحية (personae) بل بأصواتهم الشخصية الحقيقية.

فالقارئ أو المُشاهد الذي لم يكُن قد قرأ أو شاهد هذه المسرحية من قبل، يفاجأ عند رفع الستار، أو في الصفحة الأولى من النَّص، بمشهد لا علاقة له بما كان يتوقعه؛ إذ يشاهد حانةً شعبيةً في الريف الإنجليزي، ويرى صعلوكًا نائمًا قد أسكرته الجِعَة التي أسرف في تعاطيها، ويرى صاحبة الحان وهي تطالبه بأن يدفع ثمن الأكواب التي كسرها، وهو يصرُّ على الرفض، وتهدِّده بإحضار الشُّرطة، مؤكِّدة له أن عقابه التجريس في حبَّاسةٍ خشبيةٍ تُنصب وسط السوق، وهو يناوئها ويشتمها ويجادلها زاعمًا أنه ذو حسبٍ ونسب، بلُغة تنمُّ على جهله الفاضح، ومن ثَم يعود إلى النعاس قائلًا «دعي الدنيا تسير!» مما يوازي التعبير الدارج «مشِّي حالك!» أو بالعامية المصرية «خليها على الله».

وهذه السطور الأولى تمثل تنويعًا حاذقًا على عنوان المسرحية، فالصفة في العنوان shrew ليست مؤنثةً وليست خاصةً بالمرأة، وإنما جرى العُرف على تأنيثها بسبب ارتباطها في التراث الشعبي والأدبي الإنجليزي بالمرأة ذات اللسان السليط أو الطبع العدواني، وهي تشير في المسرحية الرئيسية قطعًا إلى امرأة، ولكنها خارج هذا السياق تُطلق على الجنسين، أيْ إننا نرى منذ البداية مواجهةً بين سليطين، هما الصعلوك وصاحبة الحان. ولكن النطاق الدلالي (register) لهذا المشهد سرعان ما يتغير، وأنا أستعمل هذا المصطلح بمعناه عند أهل اللغة (يقول هاليداي إنه يعني «تشكيل الموارد الدلالية التي يربط الفرد المنتمي إلى ثقافةٍ معينةٍ بينها وبين نمطٍ معينٍ من أنماط المواقف الحياتية» ١٩٧٨م، ص١١١) وبمعناه الأدبي الذي يقوله إنه نطاق الدلالات المتوقَّعة في موقف اجتماعي معين، وقد لا تقتصر الدلالات هنا على الألفاظ، بل قد تشمل عناصر غير لغوية كالموسيقى، والإيقاع في الشعر أو النثر، أو المظاهر المادية للمتحدِّث والسامع. وهكذا فعندما يصل أحد الأعيان إلى هذه الحانة يتغير النطاق الدلالي، بمعنيَيه السابقين، إذ إن هذا اللورد (الذي لا نعرف اسمه ولا نعرف سبب دخوله هذه الحانة الشعبية) يتحدث نظمًا، وحالما يرى الصعلوك النائم يعبِّر عن قبح صورة الموت التي يراها مجسَّدة في هذا الصعلوك، ثم يفاجئنا بأنه يريد أن يلهو بهذا المسكين بأن يوهمه بأنه لورد حتى يجعله ينكر هويته وينسى نفسه. واللورد الأرستوقراطي المذكور يمارس مثل الكثير من أبناء طبقته رياضة صيد الثعالب (والغزلان أحيانًا)، وهي رياضة أرستوقراطية تتضمن ركوب الخيل وإطلاق كلاب الصيد السريعة بحثًا عن الثعلب، تتشمَّم رائحته في الضيعة الشاسعة التي يملكها اللورد، وعادةً ما يصاحب فريقَ راكبي الخيول راكبٌ متقدمٌ ينفخ البوق لتنبيه الركب إلى مسار الطراد. أيْ إننا نواجه هنا اللهو الذي يمارسه الأعيان في مواجهة الحالة المزرية للصعلوك وصاحبة الحان، وذلك في إنجلترا نفسها لا في إيطاليا حين تدور أحداث المسرحية بعد ذلك.
واللهو الذي يريده اللورد هو خاص، فهو يريد أن يلهو ﺑ «الهُويَّة»، أيْ أن يرى كيف تتشكل الهُويَّة أو تتغير أو تتحدَّد لا بعناصر نفسية وذهنية جوهرية (أيْ وفق مذهب الجوهرية (essentialism)) بل اجتماعيًّا، أيْ بالتغيير المتعمَّد ﻟ «موقع الذات» (subject position) وفق تعريف نورمان فيركلف (Fairclough) للذات (انظر اللغة والسلطة، ٢٠٠١م)، وهكذا يقرِّر أن يجعل الصعلوك لوردًا، واللورد خادمًا، من خلال تغيير الملابس والظروف الاجتماعية الدالة على «موقع ذاته»، أيْ على مكانته «الحقيقية»، وهو ما سوف يحدُث على مستوياتٍ كثيرةٍ فيما بعدُ في المسرحية، وإذَن فإن هذا لهوٌ في باطنه جِد؛ إذ ينتمي إلى قضية رئيسية من قضايا النظرية النقدية الحديثة التي تناقش دور الأيديولوجيا والمجتمع في تشكيل الذات، والكثير من أفكارها مستمدٌّ من فوكوه (Foucault) وبورديو (Bourdieu) وهابرماس (Habermas).

وهكذا يبدأ اللورد في وضع الخطوط المحددة لمسرحيته الخاصة، ويرسم الأدوار اللازمة لإيهام الصعلوك، واسمه كريستوفر سلاي، وهو سمكري فقير، بأنه لورد ذو أملاك شاسعة، وخدم وحشم، وأراضٍ وخيول، وبأن له زوجةً تحبه، ويكلف اللورد غلامه الصغير بارثلوميو بأن يلعب دورها! وأثناء انهماك الجميع في تأليف وإخراج المسرحية، تصل فرقة مسرحية محترفة جوالة، تؤكد تغيُّر النطاق الدلالي للحدث، إذ تعرض على اللورد تقديم مسرحية جاهزة، فإذا بالإطار العام للحدث الأصلي قد اتسع ليشمل هذه المسرحية الجديدة. وفيها نرى مجموعة من الأشخاص من عدَّة مدنٍ إيطالية وقد توافدوا على بادوا حيث جامعتها العريقة، وتجارتها المزدهرة، وصِيتها الداوي. وعندما تبدأ الأحداث داخل هذه «المسرحية داخل المسرحية»، تتضح لنا «العقدة» التي أظنها جِدُّ مألوفةً لدينا في مصر، وربما في الشرق العربي كله، وهي رفض الوالد تزويج ابنته الصغرى (بيانكا) قبل زواج الكبرى (كاترينا / كيت)، وهي عقدة كأداء لأن الكبرى تشتهر بحدَّة طبعها وسلاطة لسانها، الأمر الذي يحُول دون إقبال الشبَّان على طلب يدها، على الرغم من جمالها وثرائها.

وهنا نلمح أول خيط يربط أحداث «المسرحية — داخل — المسرحية»، (أو قُل إنها المسرحية الرئيسية) بالمسرحية الإطارية، وهو خيط التنكر أو تغيير الهُويَّة، فالعاشق الأول لوسنتو يأسر لُبَّه جمال الأخت الصغرى بيانكا ويقرِّر أن يتزوجها مهما تكُن العوائق، وأكبر عائق هو أن أباها فرض عليها الحجاب، أي الاحتجاب عن عيون الناس، ومن ثَم يقرِّر لوسنتو (السيد) وخادمه ترانيو أن يتنكر العاشق في زِيِّ معلِّم من المعلِّمَين اللذَين طلب بابتيستا، والد الفتاة، إحضارهما لتعليم ابنته، ويقتضي هذا التنكر أن يحلَّ ترانيو الخادم محلَّ سيده لوسنتو في أعين الناس، وأن يتبادلا موقعَي السيد والخادم، ولكن لوسنتو الذي قبِل أن يكون ترانيو يتنكر من جديد في دور كامبيو معلم اللغات الكلاسيكية، أيْ إنه يتنكر مرَّتين، ويظلُّ إلى آخر المسرحية قائمًا بدور المعلِّم، في حين أن ترانيو يحتفظ بتنكره في دور لوسنتو على امتداد الأحداث كلها حتى لحظة التكشُّف. وكنا قد شاهدنا قبل القيام بالتنكر المذكور مشهد المواجهة بين خاطبين آخرين من خُطَّاب بيانكا، هما جريميو العجوز الأبله وهورتنسو الصديق الصدوق لبتروشيو، حول العقبة المذكورة، وهو مشهدٌ لازمٌ لإطلاع الجمهور على طبيعة القضية، ويتضفَّر بطبيعة الحال مع مشهد التنكر، وهو ما يُعتبر تنويعًا على حيلة اللورد التنكرية في المسرحية الإطارية، ويتأكد لنا ذلك حين يعود إلينا سلاي بطل المدخل، السمكري الذي أصبح يتصور أنه لورد، وقد غلبه النعاس، وعندما ينبِّهه الخادم إلى ذلك يقرُّ بأنه «نعسان»، وعندما يؤكد بارثلوميو، غلام اللورد المتنكر في دور زوجة سلاي، أن المسرحية قد ابتدأت لتوِّها، يقول قولته الشهيرة «عمل ممتاز يا سيدتي الزوجة! كم أرجو أن تُختتم الآن!»

ويزداد التضفير المُشار إليه في المشهد التالي الذي يأتي بالخاطبَين، جريميو الهَرِم وهورتنسو الشابِّ، بصحبة بطل المسرحية بتروشيو، فأمَّا جريميو فيدرك صعوبة الزواج من بيانكا ما دامت أختها كاترينا دون زواج، ولا يعرف ماذا يفعل، وأمَّا هورتنسو، صديق بتروشيو، فيلمح إمكان الوصول إلى قلب حبيبته إذا استطاع بتروشيو أن يتزوج من كاترينا ذات اللسان السليط. ويتفق جريميو وهورتنسو على مساعدة بتروشيو في الزواج من هذه السليطة، وهنا يتوسل هورتنسو إلى صاحبه بتروشيو أن يقدِّمه إلى والد الفتاة متنكرًا في زِيِّ معلِّم الموسيقى «ليسيو» حتى يتمكن من الوصول إلى بيانكا التي يحجبها والدها عن الناس، أيْ إننا نشهد من جديدٍ حيلة التنكر، ووسط هذه المعمعة تلمح ما يشي بتنكرٍ من نوعٍ آخر، ألا وهو النبرة العالية التي يعلن بتروشيو بها عن نفسه (على الرغم مما يقوله أوليفر (ص٥٣) وهو ما سوف أعود إليه فيما بعد)، زاعمًا أنه مقاتل صِنديد اعتاد ضجيج الحرب، وقصف المدافع، وزئير الأسود، بلُغة طنَّانة توحي بالزيف، ومن ثَم فلن يزعجه صوت امرأة مهما تكُن، إلى جانب قوله، كذبًا أو صدقًا، إنه غني ويريد الزواج من امرأة غنية. وهكذا فبنهاية الفصل الأول تكون حلقة التنكر قد اكتملت، فأصبح ترانيو يُدعى لوسنتو، ولوسنتو يُدعى كامبيو، وهورتنسو يُدعى ليسيو.

هذا النطاق الدلالي يربط المسرحية الرئيسية بالمدخل الإطاري، ويؤكد لنا جوَّ التمثيل الذي سوف يستمر على امتداد الحدث كله؛ فالمشهد الأول من الفصل الثاني يقدِّم إلينا علاقةً يصعُب استيعابها على المستوى الواقعي، بين الشقيقتين، إذ إن كاترينا تقيد يدَي أختها الصغرى بيانكا التي تبكي وترجوها ألا تعاملها معاملةَ الخدم أو العبيد. وتكشف دهشة والدهما حين يراهما عن صعوبة تصوُّر هذه العلاقة، ناهيك بتقبُّلها، والجمهور يرى فيها مبالغةً تشبه مبالغة بتروشيو في الحديث عن نفسه، وترتبط بالتصنُّع الذي يسود الأحداث التالية.

وأنا أُلقي الضوء على هذا التصنُّع لأنه يكشف لنا العلاقة بين «التمسرح» (theatricality) وهو المصطلح الذي وضعه يوسف إدريس بالعربية، ويعني به تقديم أيِّ فكرة أو علاقة بشرية في صورة مجسدة تقوم على التوتر المرئي والمسموع (وقد وافقني العلَّامة ماهر شفيق فريد في صحة اشتقاق الفعل من الاسم، أيْ مَسرحَ يُمَسْرِحُ مسرحةً) وبين «الميتامسرح» (metatheatre)، أي الوعي بأن ما يحدُث تمثيل، أيْ إن الممثل الذي يقوم بدورٍ معينٍ يعي ذلك. وقد يمثل دورًا آخر من خلال هذا الدور «الأصلي» الذي يلعبه، ما دام عدد كبير من الشخوص يمثل أدوارًا تختلف عن أدوارهم المفترضة أولًا، وإذا كان ترانيو الذي يمثل دور سيده لوسنتو أبرز هؤلاء وأنجحهم في اكتساب دوره «الميتامسرحي»، مع احتفاظه بدوره الأصلي عند معاملة بيونديلو، الخادم الأقل منزلةً منه، فإن غيره يشاركه هذا التمثيل المزدوج الذي يجعلنا نتشكَّك في صدق ما نراه على المسرح من تمثيل، ولا نقبل كل ما يُقال، وهو ما يعني استناد المؤلِّف إلى التورية الدرامية الساخرة (dramatic irony)، وهي التي تؤكد صدق ما وصفته بأنه «النطاق الدلالي التمثيلي»، بمعنى أن ما نسمعه على المسرح قد يكون له معنيان؛ معنًى قريب ظاهر ومباشر، ومعنًى بعيد خفي وغير مباشر، وهذا هو الأصل في معنى «التورية» اللغوية بالعربية، ولكنه في المسرح يتسع ليشمل الموقف كله أو جزءًا منه، أو ليصف خطابًا معيَّنًا أو حدثًا من الأحداث، بل إن بتروشيو نفسه الذي نُطالَب بتصديقه في البداية، سرعان ما يعلن عن خطَّة الترويض التي وضعها، وبعد ذلك نصبح مطالبين بأن نتساءل عن مدى صدقه في كل ما يقوله ويفعله، أيْ إنه ينضم إلى النطاق الدلالي التمثيلي، وقِس على ذلك موقف كاترين التي ربما كانت منذ البداية تلعب دور الشرسة كما يقول بعض النقاد، ومن ثَم فنحن مطالَبون بأن نتساءل أيضًا عن مدى صدق ما تقوله وما تفعله وحقيقة موقفها، حتى في خطابها الطويل الأخير الذي تنصح فيه أختها بيانكا زوجة لوسنتو، والأرملة زوجة هورتنسو، بطاعة زوجيهما، إذ إن مبالغتها في تصوير واجب الطاعة للزوج يمكن تفسيره تفسيرًا ساخرًا، ولهذا تفاوتت آراء النقاد ما بين مقتنع بصدقها مستنكرًا لآرائها (مثل آرثر كويلر-كوتش) (Quiller-Couch) وبين مَن يراه «أعظم فكاهة صدرت من كيت للسخرية من بتروشيو» (مثل داعية المذهب النِّسوي مارجريت وبستر Webster)، وهو الموقف الذي يلخِّصه هارولد ج. جودارد (Goddard) قائلًا:

تنتهي المسرحية بمشهد يوحي بأن كيت تصبح أقرب إلى القيام بدور مَن يتولَّى الترويض لا مَن يخضع له، وأن بتروشيو أصبح أقرب إلى مَن خضع للترويض لا مَن قام به، وإن كان من الطبيعي أن تحافظ كيت على إخفاء حقيقة الموقف. وقبول هذا التفسير يعني أن المسرحية صورة مبكرة لمسرحية «ما تعرفه كل امرأة»، وما تعرفه كل امرأة يعني طبعًا أن المرأة تستطيع أن تسيطر تمامًا على الرجل ما دامت تسمح له بأن يظنَّ أنه مسيطر عليها. ومن مزايا هذا التفسير أن يجعل المسرحية تتمشى مع الكوميديات الأخرى جميعًا، وهي التي يتيح شيكسبير لبطلاته فيها قدرًا معيَّنًا من التفوق. (المجلد الأول، ص٦٨.)

وسوف نعود لهذه فيما بعد، إذ أكتفي الآن بالإشارة إليها في حدود الطابع الميتامسرحي القائم على النطاق الدلالي التمثيلي، ودور التورية الدرامية الساخرة فيه، فإذا عدنا إلى مسار الأحداث حيث وجدنا ثلاث حالات للتنكر في قلب الحدث، أيْ في الفصل الثاني، وجدنا — بعد لقاء بتروشيو وبابتيستا للاتفاق على خِطبة الأول لابنة الثاني وبعد المقابلة «العاصفة» بين بتروشيو وكاترينا حيث تحدُث الخِطبة الرسمية — أن التصنُّع والتمثيل مستمر حتى النهاية. ففي القسم الأخير من هذا الفصل نرى بابتيستا وقد حقَّق الشرط الذي وضعه لزواج ابنته الصغرى (بزواج الكبرى) يعقد مفاضلةً بين خُطَّاب الصغرى، وهي مفاضلةٌ تتخذ صورة المزاد العلني، يشترك فيه جريميو ومنافسه لوسنتو، الذي يقوم خادمه ترانيو بدوره ويمثله، والمقصود بالمزاد تحديد مَن سوف يقدِّم أعلى مَهرٍ لِفَتاته. وهنا نجد أن ترانيو يتجاوز كل حدٍّ في تصوير ما سوف يرثه من والده أو ما سوف يضمنه له والده من أموالٍ وممتلكات، والمقصود طبعًا هو والد لوسنتو، واسمه فنشنتو، الذي يزعم ترانيو أنه أبوه! وتفلح مبالغات ترانيو في إقناع بابتيستا بأنه الأحقُّ بالزواج من بيانكا، لولا عقبةٌ معيَّنةٌ وهي التثبُّت من صحة مزاعم ترانيو (باعتباره لوسنتو) فيما يتعلق بالأموال والممتلكات.

ويختتم ترانيو الفصل بأن عليه، إن أراد تحقيق زواج سيده لوسنتو بحبيبته بيانكا، أن يجد له شخصًا يصلُح للقيام بدور فنشنتو والد لوسنتو، وهكذا يأمر خادمه بيونديلو بأن يراقب الطريق باستمرار حتى يجد أحد الغرباء الذي يصلُح والدًا لسيده لوسنتو، وحين يُقبِل تاجرٌ هرِمٌ يصطحبه إلى ترانيو، الذي يسأله عن موطنه ومقصده، وحين يعرف أنه أتى من مانتوا لتحصيل كمبيالات (حوالاتٌ لأموالٍ أتتني من فلورنسا) يقول له إنه في خطرٍ داهم، وعليه أن يتنكر (خوفًا على حياته) في شخصيةٍ أخرى، ويقترح عليه أن يتخذ لنفسه شخصية فنشنتو والد لوسنتو، بعد إقناع التاجر طبعًا أنه هو لوسنتو! والطريف أن التاجر يستمرئ التنكر ويصرُّ على تمثيل فنشنتو حتى النهاية، أيْ حتى حين يصل فنشنتو الحقيقي فتجري المواجهة بين فنشنتو المزعوم وفنشنتو الحقيقي في وجود ترانيو الذي يصرُّ على أنه لوسنتو!

كل هذه الخيوط الدرامية المتشابكة القائمة على التمثيل أو تبادل الأدوار ما بين الشخوص، تؤكد ما رأيناه في المدخل من «طعن» في ثبات الهُويَّة، وإمكان استبدال هُويَّة بهُويَّة استنادًا إلى العوامل المادية، والزيف الذي يمكن أن يصيب العلاقات الشخصية نتيجة قلقلة هذه العوامل، فالواضح أن المسرحية تتضمن سخريةً مريرةً مما قد يُعتبر في حالات أخرى مواقف «طبيعية» أو فكهة وحسب، مثل المزاد العلني الذي يعرض فيه بابتيستا ابنته للبيع لأعلى سعر، أو التظاهر بالثراء والارتكان إلى قوة المال في الوقت الذي يزعم فيه الوالد المذكور أن الحبَّ عنده كل شيء! (١  /  ٢  /  ١٢٨) أيْ إننا نواجه القيم الطبقية التي تبرزها المسرحية في الهزلية بأسلوبٍ كاريكاتوري (انظر كوميديا الكاريكاتير في كتابي فن الكوميديا وفي قضايا الأدب الحديث) لإدانتها والسخرية منها، وسوف أعود إلى هذا، ويكفي أن أشير الآن إلى مسار هذه النظرة التي تقوم على اعتبار المسرحية هزلية، وإن كانت تختلف عن الهزليات المعتادة، وسوف أناقشها بالتفصيل بعد مناقشة علاقة هذه المسرحية بالمسرحية الأخرى المنشورة عام ١٥٩٤م بعنوان ترويض امرأة شرسة دون اسم المؤلِّف.

(٢) بين مسرحيتين

في عام ١٥٩٤م نُشرت مسرحيةٌ في طبعة شعبية من القطع الصغير الذي يسمَّى كوارتو (أيْ ربع فَرخ الورقة الكاملة) عنوانها ترويض امرأة شرسة (The Taming of a Shrew)، وقِيل إنها قُدِّمت على المسرح عدَّة مرَّات، من دون ذِكر اسم المؤلِّف، وأُعيدَ نشرها كما هي عام ١٥٩٦م، وفي عام ١٦٢٣م صدرت الطبعة الكاملة لأعمال شيكسبير من القطع الكبير الذي يسمى الفوليو (أيْ نصف فَرخ الورقة الكاملة)، وفيها المسرحية الحالية، أيْ ترويض الشرسة (The Taming of the Shrew).

وعلى امتداد ثلاثة قرون شُغِل النقاد ومخرجو المسرح بالعلاقة بين النَّصَّين، فلم يكُن الاختلاف مقصورًا على الاختلاف الشكلي في العنوان ما بين التنكير والتعريف، بل كان يتعلق بقضايا جوهرية مثل الأسلوب الشعري، والطول (فالمسرحية الكوارتو لا تزيد عن ٦٠ في المائة من طول الفوليو)، والأهمُّ من ذلك قطعًا قيام سلاي السمكري الذي يخدعه اللورد في البداية بدورٍ كبيرٍ ومستمرٍّ في المسرحية الكوارتو، إذ يبدؤها ويظهر في ثنايا أحداثها ويختتمها، لكنه في المسرحية الفوليو الشيكسبيرية الحقَّة يختفي بعد الفصل الأول. وعلى الرغم من إجماع النقاد على أن المسرحية الكوارتو بعيدة عن روح شيكسبير وعلى أن أسلوبها و«فكرها» أقرب إلى أساليب وفكر بعض معاصريه، فإنها كانت تتمتع بمزية بالغة الأهمية وهي وجود سلاي من البداية إلى النهاية، مما كان يمثل إغراءً لا يُقاوم بانتزاعه من المسرحية الكوارتو المجهولة المؤلِّف وإضافته إلى مسرحية شيكسبير باعتباره عماد «مسرحية إطارية» تجعل للمسرحية التي بين أيدينا معنًى خاصًّا وتضفي عليها دلالاتٍ ساخرةً تشبه ما نجده في أعمال شيكسبير الكبرى.

لم يكُن النقاد ومخرجو المسرح يُجِلُّون المسرحية الكوارتو، أو يعتقدون جازمين أنها شيكسبيرية، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون مقاومة سحر «سلاي»، وعلى مرِّ القرون كان حذق مسرحية شيكسبير يكتسب من استمرار وجود سلاي ووجود المسرحية الإطارية حتى النهاية دلالاتٍ رمزيةً أعمق، وتعقيدًا مسرحيًّا يغري باستثماره، والواقع أن المسرحية الشيكسبيرية، بغض النظر عن «سلاي وشركاه»، كانت منذ أوائل القرن السابع عشر، حتى قبل أن تطبع في طبعة الفوليو، قادرةً على سلب الألباب واجتذاب الجماهير، لا بسبب القضية التي تثيرها وهي خضوع الزوجة لزوجها، إذ كانت هذه من عوامل القبول أو عوامل الرفض وفق أيديولوجيا المجتمع والعصر الذي تقدَّم فيه، ولكن بسبب العنصرين اللذَين ذكرتهما أولًا، وهما التمسرح؛ أي الطابع الحركي المجسَّد على خشبة المسرح بكل ما فيه من توتر وخداع وتضارب في القول والفعل، والطابع الميتامسرحي الذي شرحته آنفًا، ويؤكده التنكر المباشر مثلما تؤكده ضروب التظاهر والتصنُّع التي تعمق من ذلك التنكر.

ويُجمع النقاد على أن هذين العنصرين ظلَّا يدفعان المؤلِّفين والمقتبسين والمُخرجين إلى معالجة المسرحية بأساليب مختلفة، تتفاوت بطبيعة الحال وفقًا لتفاوت نظرة المجتمع إلى تقاليد الخِطبة والزواج، والقيم المادية والطبقية، وعلاقة الرجل بالمرأة، وهكذا رأينا كيف يؤدِّي حذق التمسرح إلى محاكاة ترويض الشرسة في مسرحياتٍ تستلهمها لتردَّ على ما فيها، أو لتؤيد ما فيها، وبصورٍ بالغة التنوع، من بينها مسرحية كتبها جون فلتشر (Fletcher) عام ١٦١١م تقريبًا، أيْ في حياة شيكسبير، بعنوان جائزة المرأة، أو ترويض المُرَوِّض، ومسرحية كتبها جون ليسي (Lacey) عام ١٦٩٨م، بعنوان صوني الاسكتلندي أو ترويض الشرسة، والإعداد (الاقتباس) الذي قام به الممثل والمُخرج العبقري ديفيد جاريك (Garrick) وقدَّمه على المسرح بعنوان خاص هو بتروشيو وكاترينا عام ١٧٥٦م، وحتى المسرحية الحديثة التي كتبها بورتر (Porter) بعنوان قبِّليني يا كيت، عام ١٩٤٨م، والفيلم السينمائي الذي أخرجه فرانكو زيفيريللي (Zeffirelli) بالعنوان الأصلي الذي وضعه شيكسبير، من بطولة إليزابيث تيلور وريتشارد بيرتون (Taylor & Burton) عام ١٩٦٧م، والفيلم الذي أخرجته جيل يونجر (Junger) بعنوان عشرة أشياء أكرهها فيك عام ١٩٩٩م، والفيلم الآخر الذي أخرجته إيمي فريد (Freed) بعنوان لحية ابن نهر ايفون (أي شيكسبير) عام ٢٠٠٣م، وأخيرًا الفيلم التليفزيوني الذي أعدَّه وأخرجه ريتشاردز بعنوان إعادة عرض شيكسبير عام ٢٠٠٥م (وأذاعته محطة الإذاعة البريطانية)، ولعلي أشير — ما دمت أقتصر على ما أعرفه — إلى العرض الذي شاهدته للمسرحية في لندن عام ١٩٦٧م، ولم أكُن أدرك آنذاك العلاقة بين نصِّ الكوارتو ونصِّ الفوليو، فلم أفهم سر الإشارة في عنوان المسرحية إلى تنكير وتعريف الشرسة في آنٍ واحد، إذ كان المخرج تريفور نَنْ (Trevor Nunn) يريد أن يقول إنه استعار المسرحية الإطارية من نصِّ الكوارتو المذكور حتى يؤكد عنصر الميتامسرح المشار إليه.
ويشترك النصَّان — نصُّ الكوارتو مجهول المؤلِّف ونصُّ شيكسبير الذي أترجمه في هذا الكتاب — في المادة الدرامية إلى حدٍّ بعيد، فهما يستلهمان ثقافتها المعاصرة، والموارد الفولكلورية والقصص الشعرية الشعبية والأقوال المأثورة التي أصبحت تجري مجرى الأمثال، بل وغدت جزءًا لا يتجزأ من اللغة الحية على الألسنة، وكُتُب تعليم استخدام الصقور في الصيد والقنص، وكلها يصبُّ في العادات الاجتماعية التي كانت قد بدأت تتغير، كما سوف أبين فيما بعد، فيما يتعلق بطقوس الخِطبة والزواج، كما يستفيد النصَّان من حبكة مسرحية اشتهرت آنذاك بعنوان Supposes، أي المزاعم (أو الافتراضات أو الادعاءات)، والمقصود هو «صور التنكر»، وهي مترجمة عن الإيطالية، وقد اشتهرت باسم المترجم جورج جاسكونيي (Gascoigne) أكثر مما اشتهرت نسبتها إلى المؤلِّف الإيطالي وهو أريوسطو (Ariosto) (والعنوان الإيطالي الأصلي وهو I Suppositi يترجمه المتخصصون بكلمة Supposings، وقد عُرضت هذه المسرحية أولًا في إنجلترا عام ١٥٦٦م، ثم طُبعت بعد ذلك عدَّة طبعات، وتقوم كما يبين العنوان على اختلاط الهوية، نتيجة للتنكر، حسبما يظهر في كلٍّ من النَّصَّين بوضوح، مثلما يستفيد النطاق الدلالي بالخلفية الثقافية المذكورة الخاصة بترويض الزوجة. ولقد تأثر كلٌّ من هذين النَّصَّين (كما أثبت الباحثون) بأداء الممثلين لأدوارهم ومفاهيم الإخراج في الفترة ما بين ١٥٩٤م (وما قبلها قطعًا) وحتى ١٦٢٣م تاريخ نشر طبعة الفوليو الشيكسبيرية، وكذلك ما أضافه المحرِّرون أو حذفوه أو عدَّلوه في نصِّ «الكوارتو» المُشار إليه ونصِّ الفوليو المعتمَد.
وأمَّا العلاقة بين النَّصَّين فهي مشكلة لم تجد ما يشبه الحلَّ النهائي إلا في أواخر القرن العشرين، إذ نشط الباحثون حتى يحسموا الأمر، خصوصًا بعد صدور طبعتين مستقلتين لنصِّ الكوارتو المذكور؛ الأولى من تحرير ستيفن روي ميللر (Miller) عام ١٩٩٨م، والثانية شارك في تحريرها جراهام هولدرنس (Holderness) وبريان لفري (Loughrey) عام ١٩٩٢م، وكلٌّ منها يُلقي الضوء على العلاقة الخاصة بين النَّصَّين وينتهي إلى نتائج تختلف اختلافاتٍ طفيفةً عن بعضها البعض. وقارئ المقدِّمتين اللتين تَشرحان النصَّ مجهول المؤلِّف يدرك صعوبة تحديد العلاقة بينه وبين نصِّ شيكسبير، فالباحث هنا، كما تقول هودجدون (Hodgdon) يشبه ضابط المباحث الذي يحاول جمع أدلة جديدة في قضية أُغلقت ملفاتها من زمن بعيد، (٢٠١٠م، ص٧)، ولكن بعض الدراسات الحديثة تقدِّم «مفاتيح» علمية تشرح لنا ممارسات دور النشر التي لم تكُن تولي اهتمامًا يُذكر للعناوين وتخلط بين الأعمال الفنية التي تشترك في الحبكة أو في القضية المطروحة، مثل الدراسة الرائعة التي قامت بها روزالين كنوستون (Knuston) (٢٠٠٨م) قائلةً إن دور النشر ربما كانت تفعل ذلك عمدًا لأسبابٍ تجارية، وهو ما أثبته جيمز مارينو (Marino) في دراسة أحدث (٢٠١١م). وبعد أن قضيت وقتًا طويلًا في دراسة الأدلة المقامة على العلاقة بين نصِّ ترويض الشرسة الشيكسبيري (١٦٢٣م) ونصِّ ترويض امرأة شرسة مجهول المؤلِّف (١٩٥٤م) خصوصًا الحُجج التي أوردها كبار المحرِّرين والباحثين ممَّن ذكرتُ أسماءهم في التصدير، والمواد النقدية الأحدث، وجدت أن العلاقة مرَّت بالمراحل (أو الخيارات) التالية:
  • (١)

    رأي يقول إن مسرحية ترويض امرأة شرسة، المسرحية مجهولة المؤلِّف، تمثل نصًّا أصليًّا أعاد شيكسبير صياغته وتشكيله، ومن ثَم فهو يُعتبر نصًّا رئيسيًّا، أو حتى المصدر الرئيسي لمسرحية ترويض الشرسة، ويتوازى مع هذا الرأي رأيٌ يؤكد أنه لمَّا كان شيكسبير نفسه مؤلِّفًا مجهولًا عند نشر المسرحية المذكورة عام ١٥٩٤م، فربما كان مؤلِّف المسرحيَّتين جميعًا.

  • (٢)

    رأي يقول إن مسرحية ترويض الشرسة هي المسرحية الأصلية، وبالقياس إليها تُعتبر مسرحية ترويض امرأة شرسة من «النسخ المسروقة والمختلسة» المُشار إليها في تصدير طبعة الفوليو لأعمال شيكسبير الكاملة، أيْ إنها «طبعة كوارتو سيئة»، سواءٌ أكانت مقتبسة من مسرحية شيكسبير الحالية، أمْ من مسرحية مفقودة، وقد يكون شيكسبير أيضًا كاتبها وقد لا يكون، وقد تكون بمثابة «توليفة» تضم عناصر من هذه المسرحية ومن غيرها، ويقول هذا الرأي (في صورة أخرى له) إن المسرحيتين تعتمدان على أصلٍ شيكسبيري مفقود، وهي النظرية التي يُشار إليها باسم نظرية الشرسة الأصلية.

  • (٣)
    رأي يقول إن مسرحية ترويض امرأة شرسة صورة مملاة مما وعته الذاكرة من مسرحية ترويض الشرسة، أيْ إنها تمثل ما قِيل على المسرح أو تسعى واعيةً إلى نقل الأصل، ومن ثَم فإنها تتميز ﺑ «أصالة واعية» (كما يقول ريتشارد هوزلي >Hosley، ١٩٦٤م، ص٢٩٣)، وهو تعبيرٌ يعني إمَّا (أ) أن الأولى تمثل ما وعته ذاكرة أفراد الفرقة الملكية من أدوارهم الأصلية، سواءً ساعدهم في إعادة تشكيله أحد الكتاب أو لم يساعدهم أحد، وهو ما قال به هونجمان (Honigmann) من قبلُ في عام ١٩٥٤م، وما يقول به موريس (Morris) محرِّر طبعة آردن الثانية عام ١٩٨٢م، وإمَّا (ب) أنها نصٌّ مستقى من نصٍّ آخر هو ترويض الشرسة، وإن كان مَن استقاه قد تصرف فيه بحُرِّية كبيرة، وأعاد كتابته إعادةً كاملة، أو إلى حدٍّ أكبر كثيرًا مما هو معتاد في النصوص المستقاة من الذاكرة، كما تقول آن طومسون (Thompson) محرِّرة طبعة نيوكمبرج عام ٢٠٠٣م (ص١٨٢) وإمَّا (ج) أنها استرجاع من الذاكرة لنصِّ ترويض الشرسة بعد تطويعه تطويعًا محكمًا، كما ذهب إلى ذلك ميللر في مقدِّمته لطبعة «الكوارتو» المُشار إليها عاليه عام ١٩٩٨م (ص١١).
ولا أظن أن القارئ العربي يُبدي اهتمامًا كبيرًا بالمراحل التاريخية التي مرَّت بها هذه العلاقة بل يهمُّه الاطمئنان فقط إلى صدق النصِّ المترجَم الذي يطَّلع عليه في هذا الكتاب؛ فهو نصٌّ لا شكَّ في نسبته لشيكسبير، بما في ذلك «المدخل» بمشهدَيه اللذَين كانا يمثلان جزءًا من الفصل الأول قبل أن يفصلهما الشاعر ألكسندر بوب (Pope) في طبعته لأعمال شيكسبير (١٧٢٣–١٧٢٥م) ويُطلق عليهما اسم المدخل، فالشاعر ابن الكلاسيكية الجديدة التي تؤمن بنقاء الأنواع الأدبية أو ما يسمى «اللياقة» (decorum) رأى أن يستفيد بوجود سلاي في المسرحية الإطارية ووجد أن المُشاهد أو القارئ يتوق لمعرفة مصير هذا الصعلوك وردِّ فعله للمسرحية داخل المسرحية، فأدمج بعض مَشاهد سلاي في نصِّ شيكسبير، متبعًا في ذلك المحرِّر «رو» (Rowe) ولكن المحرِّر الشهير مالون (Malone) حذف مَشاهد سلاي من نصِّ شيكسبير في طبعته عام ١٧٩٠م، في محاولة لحماية شيكسبير من نسبة أيِّ شيء إليه في هذه المسرحية ذات الحبكة غير المحكمة، والشعر الركيك، وكثرة الاقتباسات من مارلو (Marlowe) معاصر شيكسبير، واتسم القرن التاسع عشر باشتداد الخلاف حول علاقة مسرحية الكوارتو بمسرحية الفوليو ولم يُحسم إلا بعد عام ١٩٢٠م عندما بذل عددٌ من الدارسين والنقاد جهودًا مضنيةً للفصل بين النصَّين، كان من أهمِّهم بيتر ألكسندر (Alexander) الذي أطلق صفة الكوارتو السيئ (Bad Quarto) على المسرحية المطبوعة عام ١٥٩٤م، واتبعه جون دوفر ويلسون (Wilson) في مقدِّمته لطبعة كيمبريدج الأولى لترويض الشرسة، وغيرهما. وهذه الصفة تُطلق على الطبعات المقتبسة أو التي تزعم أنها تمثل نصَّ شيكسبير الأصليَّ من دون موافقة المؤلِّف ومن دون انتسابها إليه في الواقع، بمعنى أن ترويض الشرسة هي الأصل الشيكسبيري المعتمَد، وأن ترويض امرأة شرسة صورة شائهة لهذا الأصل، وعلى الرغم من اعتراض البعض مثل أ. ك. تشيمبرز (Chambers) في كتابه شيكسبير (١٩٣٠م) وليو كيرشبوم (Kirschbaum) عام ١٩٣٨م، فإن الأربعينيات شهدت إجماع النقاد والباحثين على صحة رأي ألكسندر.
ففي عام ١٩٤٢م نشر هوك (Hook) دراسةً يَقبل فيها رأي ألكسندر مضيفًا إيحاءً بأن الكوارتو السيئ مستمدٌّ من أصلٍ شيكسبيري آخر غير ترويض الشرسة، وفي العام التالي نشر باحثٌ مرموقٌ يُدعى ج. ا. دثي (Duthie) دراسةً تفصيليةً يتوسع أوليفر في عرضها وتؤكد ما قاله هوك مجملًا، ثم تأتي بالأدلة النصِّية القاطعة على أن «الكوارتو السيئ» مستمدٌّ من نصٍّ شيكسبيري يختلف عن ترويض الشرسة في احتوائه على حبكة فرعية غرامية تشبه حبكة الكوارتو السيئ إلى حدٍّ بعيد. وهذا هو ما أشرت إليه في آخر الفقرة الخاصة بالمرحلة الثانية أو الخيار الثاني في التعامل مع نصِّ الكوارتو السيئ، بتعبير نظرية الشرسة الأصلية (Ur–Shrew) أي افتراض وجود نصٍّ كتبه شيكسبير وفُقد إلى الأبد!
وسوف أكتفي بهذا القدر من مناقشة تاريخ العلاقة بين النصَّين، وهي التي تستغرق عشرات الصفحات في الطبعات الحديثة (٤٨ صفحة في آردن، ١٩٨٢م مثلًا) وأركز على ما يُهمُّ القارئ العربي للنصِّ الحالي ويساعده في تحديد مفهومه له، ألا وهو وجود المدخل الذي يمثل المسرحية الإطارية ويؤكد الطابع الميتامسرحي لترويض الشرسة. وهنا نجد اتجاهين مهمين؛ الأول اعتبار أن الكوارتو السيئ يمثل ما ثبت في ذاكرة الممثلين ورجال المسرح من نصِّ ترويض الشرسة ولكن بعد إخضاع هذا النصِّ المسترجع من الذاكرة لإعادة تشكيل ذات اتجاه «محافظ»، ونزعة طبقية واضحة، من جانب كاتبٍ محترف، وهو ما يقول به ميللر في مقدِّمته لطبعة «الكوارتو السيئ» (١٩٩٨م) وتوافقه عليه لوري ماجواير (Maguire) (٢٠٠٧م) (ص١٢٤) مع تحفظات محدودة، ووفق هذا الاتجاه يمكن فصل المسرحيتين عن بعضهما البعض، والاستغناء عن المدخل (The Induction) (وما يمثله من مسرحية إطارية لازمة للميتامسرح)، وهذا ما يعارضه أصحاب الاتجاه الثاني الذي لا يَقبل فصل المدخل عن المسرحية الشيكسبيرية الأصلية، حتى ولو لم نتبع الشاعر بوب في إطلاق صفة المدخل على هذين المشهدين الأولين، ولماذا لا نرى أن وجود هذا المدخل كان أمرًا معتادًا حتى من دون إطلاق أيِّ اسم عليه في التقاليد المسرحية للقرن السادس عشر، كما تقول ليا ماركوس (Marcus) (٢٠٠٦م)؟ وهذا ما تقول به باربرا هودجدون (٢٠١٠م) في تقييمها للمدخل، إذ تقول إن ترويض الشرسة أول مسرحية تُطبع في ذلك العصر من دون فصل المدخل عن المتن، بمعنى أنه حدثٌ ميتامسرحيٌّ ينتمي إلى المسرحية ولا يخرج عنها، فهو إطار للحدث ولكنه جزء منه، ولذلك فنحن نحترم إدراج شيكسبير للمشهدين الأولين في نصِّ مسرحيته وإن لم نتبع بوب في إطلاق عنوان المدخل عليهما. ولنا أن نقبل قيامهما بدورٍ مسرحيٍّ إطاريٍّ ميتامسرحيٍّ، أو نجعلهما جزءًا من الحدث الرئيسي فننسى سلاي وحادثته بعد الفصل الأول.
وتقول تيفاني ستيرن (٢٠٠٤م) إن استعمال أمثال هذه المداخل (والبرولوجات) في مسرحيات ذلك العصر كان أمرًا شائعًا، وتضرب أمثلةً من بعض الكتاب المعاصرين، ثم تتساءل إن كان الانتقاد الموجه إلى استعمال هذه المداخل والبرولوجات في مقدمة مسرحية كاره المرأة التي كتبها بومنت وفلتشر (١٦٠٦-١٦٠٧م) (Beaumont & Fletcher) يمكن أن يشير إلى وجود مادة من خارج النص، أيْ مادة تُعتبر مضافةً إليه، مثل مقدِّمات الأعمال الكبرى (انظر الفردوس المفقود حيث يبدأ كل كتاب بمقدِّمة عنوانها «الموضوع») وما جرى العرف على اعتباره رسالةً موجهةً من المؤلِّف إلى القارئ، مثل «خطبة الكتاب»، لدينا في الأدب العربي.
الإجابة هي أن وجود حادثة سلاي في نصِّ الكوارتو وفي نصِّ الفوليو جزء لا يتجزأ من طبيعة الممارسة المسرحية في ذلك العصر، وأمَّا سبب حذف باقي المادة الخاصة به في المسرحية الكوارتو من نصِّ ترويض الشرسة المعتمَد، المنشور عام ١٦٢٣م، فالبعض يُرجعه إلى أن الممثل الذي كان يقوم بدور سلاي هو نفسه الذي قام بدور بتروشيو، وغير ذلك من مقتضيات الأداء المسرحي، ولكنني أقبل ما يقوله أوليفر عن «النهاية المفتوحة للمسرحية» (ص٤٣) ما دمت أعتقد معه أن المسرحية هزلية أو تنتفع بمبادئ الهزلية إلى أقصى حد، على الرغم من بعض عناصر كوميديا الحبِّ فيها (التي توصف بأنها كوميديا رومانسية)، ومن ثَم فإن شيكسبير رأى أن اختتام المسرحية بعودة سلاي ليقول ما يقوله في نصِّ الكوارتو يمكن أن يفسد الخاتمة بما نسميه الانهيار (anticlimax) «فالمرء لا يُحسِّن الهزلية بتذكير الجمهور بأن الحدث الذي شاهده قد يكون مجرد هزلية، والأفضل أن نترك الجمهور يُصدر حكمه بنفسه إذا أراد.» وربما قصد شيكسبير إلى أن يترك المسرحية «ناقصة» كما هي الآن، ومن المحتمل أنه قرر استبعاد سلاي منها في مرحلةٍ مبكرةٍ لكي ينساه أفراد الجمهور «حتى يغادروا المسرح ويُتاح لهم الوقت الكافي لتأمُّل ما حدث والتساؤل عمَّا حدث لسلاي، وربما ما حدث لهم أيضًا» (المرجع نفسه.)
والخلاصة أن على المترجم أن يحسم موقفه من هذه الخيارات التحريرية، فعليه أولًا أن يترجم النصَّ الشيكسبيري المنشور في الأعمال الكاملة عام ١٦٢٣م، بكل ما فيه وبلا زيادة عليه، وهو ما تنشره كاملًا كل الطبعات التي عندي وأرجع إليها بانتظام، فأمَّا طبعة آردن ٢٠١٠م التي أعتبرها مصدري الأول، فتنشر نصَّ «الكوارتو السيئ» أيْ ترويض امرأة شرسة، مصورًا من طبعة ١٥٩٤م في ملحقٍ خاص، كأنما تدعو القارئ أو المُخرج المسرحي إلى أن يختار بنفسه ما يريده من هذا النصِّ إذا أراد «استكمال» المسرحية الإطارية، وهو ما يفعله بعض المُخرجين المحدثين، ولكنني لم أجد أن من حقي أن أفعل ذلك، فأنا أنقل وحسب ما كتبه شكسبير فعلًا ونُشر باسمه، ولكنني أبحت لنفسي الحقَّ في أن أُدرج ما تُدرجه الطبعات الأخرى من المادة الخاصة بالمسرحية الإطارية («سلاي وشركاه») في ملحقٍ قصير، إذ اقتنعتُ أن هذه المادة ربما كانت قائمة في المسرحية الشكسبيرية الأصلية التي قُدِّمت على المسرح في الفترة ١٥٨٩–١٥٩٢م، أيْ قبل إغلاق المسارح بسبب الطاعون، وأن شيكسبير قد حذفها فيما بعدُ لأسباب وجيهة، خصوصًا النهاية الإطارية التي ذكرتُ أنه ربما رأى فيها «انهيارًا» أيْ هبوطًا دراميًّا يُفسد ثراء الدلالة، والقارئ لا يحتاجها، كما يقول أوليفر، ما دام «المدخل» أو المشهدان الأولان من المسرحية قد حدَّدا النغمة (tone). والنغمة مصطلح أدبي يمثل عنصرًا رئيسيًّا من عناصر النطاق الدلالي الذي أشرت إليه (register). كما لاحظت عند مقارنتي النصَّين أن نصَّ «الكوارتو السيئ» يتضمن أقوالًا أقرب إلى روح بعض المعاصرين منها إلى روح شيكسبير، وهو ما حدا بالباحث دثي (Duthie) (الذي اقترن اسمه بالرأي الحديث في هذه القضية) إلى أن ينسبه إلى مارلو (Morlowe). وتوقفت طويلًا عند خطاب كاترينا الأخير (٤٤ سطرًا) الذي تمتزج فيه المبالغة برنة السخرية، كما سوف أشرح فيما بعد، فوجدت أنه قد انكمش كمًّا وكيفًا وروحًا في الكوارتو السيئ، فكاترينا تتحدث فيه عند شيكسبير بروح المذهب الإنساني (أو الهوماني بتعبير أستاذنا لويس عوض)، وأمَّا الخطاب المقابل في طبعة الكوارتو فيعتمد اعتمادًا واضحًا على الدين، ويتسم بسذاجة تحول دون أن نجد فيه نبرات السخرية النابعة من الهزلية، فترجمته وأدرجته في الملحق حتى يستطيع الدارس التحقق من زيف هذا النصِّ ومدى التجاوز في نسبته إلى شيكسبير. وعلى أية حال، فالمترجِم قارئ، والقارئ مفسِّر، والمفسِّر لا يستطيع ادِّعاء الموضوعية الكاملة، إذ يخضع لتأثير خبرته وتكوينه ودراساته، ولقد عكفت على المسرحية أدرسها وأقرأ ما كُتب عنها زمنًا طويلًا حتى اقتنعت بأنني إزاء هزلية ساخرة، وانطلاقًا من هذا الانطباع انكببت على الترجمة.

(٣) النوع المسرحي، هزلية ساخرة

قلت إن تفسيري الخاص الذي يقول إن المسرحية هزلية ساخرة يمثل أحد الاتجاهات الحديثة في التفسير، ولكن من حق القارئ أن يطَّلع على غيره من الاتجاهات الحديثة أيضًا، وهي التي نجدها لا في دراسات النقاد فقط بل أيضًا في تفسيرات مُخرجي النصِّ المسرحي، فأمَّا الاتجاه الأول فاعتبار المسرحية كوميديا اجتماعية والتركيز على قسوة «الترويض»، انطلاقًا من أن هذه المرأة «حالة خاصة»، وأن سوء طبعها وعدوانيتها ناجمان من تصور خاطئ لذاتها وعلاقتها بأختها وأبيها (بغض النظر عن الأسباب العلمية الحقيقية لهذه الحالة). وما دام «موقع الذات» (بتعبير فِيرْكلف) «تشكيلًا» اجتماعيًّا؛ أيْ كيانًا مستمدًّا من واقع اجتماعي وعلاقات اجتماعية معيَّنة، فإن تغييره يقتضي تغيير هذا الواقع، بالابتعاد عن المكان الذي نشأ فيه والعلاقات التي أدت إليه كما سبق أن ذكرت، بحيث يتسنَّى لهذه الذات أن تعيد النظر في موقعها إذا ارتبطت برجل يحبها ويقدِّم إليها صورةً مختلفةً عمَّا يكمن في نفسها، وربما تكون الصورة الأصدق، وقد يتمثل علاج هذا المحب في أن يحيل نفسه إلى مرآةٍ ترى فيها عنادها وسوء طبعها (الظاهري) فتتبين حقيقته، وسواء نجحت في اكتشاف حقيقتها من خلال علاقة الحب الجديدة أو نجحت في نبذ العناد وسوء الطبع (الذي تكتسب خبرةً مباشرةً به من علاقتها بهذا الزوج الذي يعكس لها صورتها «المغلوطة» في مرآة سلوكه)، فإنها تنجح في النهاية في إعادة الارتباط بالمجتمع، سواءٌ كان رضاها عن رئاسة زوجها «للشركة الزوجية» حقيقيًّا أو ظاهريًّا، فعلاقة الحب التي تربطها به كفيلة بأن تطوع ذاتها لاحتلال «موقع ذات» جديد لا مكان فيه للعناد من أجل العناد، بل التفاهم والسعادة وفق مقتضيات واقعها الاجتماعي الجديد.

هذا التفسير «الجديد» يتضمن عناصر جديدة وعناصر قديمة، وقد هاجمه البعض قائلين إن المقصود به تبرير موقف الرجل (الزوج) إزاء الأنثى (زوجته) بادعاء أنها ليست كل أنثى ولا تمثل كل زوجة، كما تقول باحثة معاصرة هي فرانسيس دولان (Dolan) في كتابها عن الزواج والعنف: تراث الحداثة المبكرة (٢٠٠٨م) حيث تبين أن بعض الكُتَّاب (الرجال) يحوِّلون الظواهر الاجتماعية إلى ظواهر نفسية تسمح لهم باستخدام سلطة المجتمع الفكرية في السيطرة عليها (ص٣٣). وتضيف دولان إن على الباحث المُنصف ألَّا يسمح بالخلط بين ما هو اجتماعي وما هو نفسي، وأن يميز بين ما يرجع إلى النظام الأبوي الذي يتيح الحكم على المرأة من منظور الرجل فقط، وبين ما يرجع إلى التحليل الموضوعي البريء من النظرة الذكورية. فما الشرسة؟ أيْ ما معنى كلمة shrew التي نترجمها بالشرسة؟ ومَن الذي يصف كاترينا بأنها كذلك؟
أول مَن وصف امرأة بأنها شرسة الشاعر جيفري تشوسر (Chaucer) في حكاية التاجر (في حكايات كنتربري التي ترجمها أستاذنا مجدي وهبة) والكلمة أصلًا تشير إلى حيوان شبيه بالفأر يسمَّى الزَّبابة بالعربية، وكل ما نعرفه عنه يرجع إلى المثل المشهور «أسرق من زَبابة»، ولسان العرب يورد أوصافًا متضاربة بعضها يصفه بالصمم، وبعضها يصفه بأنه لا شَعر عليه، أو بأنه حسن الشعر، وهذا أرجح لأن مادة «زبب» في المعجم تفيد كثرة الشعر. وكان كُتَّاب ذلك العصر يقولون إن له «عضةً سامة» وطبعًا قاسيًا وميلًا إلى إيذاء الجميع، ولكن علماء الأحياء المحدثين عدلوا هذا الوصف، فالحيوان علميًّا يسمَّى genus sorex) وأهمُّ ما يميزه الطابع العدواني والصوت الحاد الذي يشبه الصرير. وقد أصبح الاسم يطلق في نحو منتصف القرن الثالث عشر (أيْ قبل تشوسر بقرن كامل) على الرجل «الخبيث الميال إلى ارتكاب الأذى أو الشر» (وفق معجم أوكسفورد الكبير O.E.D.)، وقبل انتهاء القرن الرابع عشر اتسع المعنى ليفيد الشيطان، وعند تشوسر كان الوصف يطلق على الرجال والنساء فإذا أُطلق على المرأة كان يعني scold؛ وهو الاسم الذي يفيد عند شيكسبير كل مَن تدعو إلى العنف المنزلي أو تثيره، ولكن هذا المعنى كان يشير أساسًا إلى ذات اللسان الجارح، والطريف أن المشتقات من shrew استمرت تشير إلى الشيطان مثل كلمتي shrewd وshrewish وقد تغيَّر معنى الكلمة الأولى الآن فأصبحت تعني الشخص ذا الفطنة والكياسة، ولكن الكلمتين في شيكسبير توحيان بطباع الخبث والشر، وكان الفعل to shrew يعني يلعن، ولدينا في الإنجليزية فعل مشتق منه هو beshrew يُستخدم في التعبير عن الدهشة أو الغيظ كقولك اليوم إن أحببت الإعراب عن مثل ذلك أن تقول I’ll be damned! التي توازي beshrew me أو beshrew my soul! كيف تنطبق هذه الصفة إذَن على كاترينا مينولا؟

في مستهلِّ المسرحية يقول جريميو (الهرم الأبله) «إن فظاظتها أكثر مما أحتمله.» (١ /  ١ /  ٥٥) وبعدها «هذي الشيطانة من قلب جهنم.» (١ /  ١ /  ٨٨) ثم «من حقك أن تذهبي لأم الشيطان.» (١ /  ١ /  ١٠٥) وفي المشهد التالي يصفها هورتنسو بأنها «كاترينا الشرسة» (١ / ٢ /  ١٢٦) ويقول بتروشيو من قبل أن يقابلها إنها فيما سمع «سليطة اللسان تطلب الشجار والنكد.» (١  / ٢ / ١٨٦) ثم يشبِّهها فيما بعد بالنحلة الطنَّانة (٢ /  ١ /  ٢١٤) ويشير ترانيو في موقف لاحق إلى «لسانها الثرثار» (٤ /  ٢ / ٥٩). وتقول هودجدون (٢٠١٠م) إن صورة كاترينا الصاخبة الغضوب العدوانية صورة «صوتية»، وسلوكها يوحي بأشكال متعددة تقوم على ما يُفترض أنه خاص بالمرأة، وتضيف قائلةً إن الكثير من الأوصاف المزرية التي تُطلَق عليها مصدرها الأقاويل («الشيطانة»، «العنيدة»، «الشرسة»، «مثيرة الشقاق»، «القطة البرية») فهل تعتبر «الشراسة» قناعًا (مسرحيًّا) وحسب؟ (ص٤٠) والواقع كما ذكرت أن المسرحية لا تقدِّم دافعًا صريحًا لشراستها، ومع ذلك فإن كاترينا ليست شرسةً طول الوقت، وعلى الرغم من سرعة بديهتها التي يؤكدها لسانها ويميزها عن غيرها، فإنها لا تكاد تتكلم بعد وصولها إلى منزل بتروشيو، حتى تصل إلى نهاية المسرحية فإذا بها تتكلم، وتتكلم وتتكلم! (ص٤١).

والاتجاه الثاني تمثله قِلَّة من النقاد والمُخرجين الذين يكتفون بما يشاهدونه ويسمعونه في المسرحية باعتبارها مسرحيةً واقعيةً ترمي إلى تصوير قهر المرأة في المجتمع، ومن ثَم فهي تدعو — بصورةٍ غير مباشرة — إلى التصدِّي له، وتعديل العلاقة بين الزوج والزوجة حتى تقوم على التكافؤ، ولكن هؤلاء، حتى حين يعربون عن قبولهم لظاهر قسوة الترويض، يدينونه، ومن ثَم يدينون المسرحية، وتقول إحدى الناقدات إن مغبة هذا التفسير هو الإيحاء بأنه يُرضي الرجال الذين يعانون من قهر زوجاتهم ولا حيلة لهم في تغيير هذا الواقع، ومن ثَم فهم يجدون في مشاهدة معاناة كاترينا تنفيسًا غير مباشر عن غيظهم وعجزهم عن «ترويض» زوجاتهم. وكان من أهم مَن التزم بهذا التفسير غير الهازل المُخرج الشهير تشارلز ماروفيتز (Marowitz) حين قدَّم المسرحية في لندن عام ١٩٧٤م، وكنت أترقب افتتاحها كي أشاهدها بعد أن عرضها في «لاهاي»، في العام السابق، ولكنني لم أتمكن من ذلك، فاكتفيت بقراءة ما كتبه النقاد عن العرض؛ إذ هاجموه بكل قسوة بسبب تركيز المُخرج على قسوة المعاملة التي لقيتها كاترينا على يدَي زوجها، حتى بدت بطلة محطَّمة جسديًّا ونفسيًّا وجنسيًّا، وتبدو عليها دلائل الهزيمة الساحقة، وتضطر آخر الأمر إلى إلقاء خُطبتها عن واجب الطاعة إلقاء الببغاء الذي يردِّد ما لُقِّنه دون إدراك دلالته، ناهيك بالإيمان بصدقه أو صحته. وعلى الرغم من هجوم النقاد فقد اشتهر العرض لأنه أضفى لمسةً مأساويةً على الكوميديا، وبذلك حقَّق مرامي المُخرج في نفور الجمهور من الترويض ومن بتروشيو، وأخيرًا من العرض المسرحي كله الذي هاجمته الناقدات النسويات أيضًا، لأن العرض في رأيهنَّ كان ينحاز انحيازًا مقيتًا لسلطة الرجل، وكأنما كان يعاقب النساء جميعًا في شخصية كاترينا، ويقدِّم الفرصة للذكور المحبطين للتلذُّذ بمرأى المرأة التي تعاني هذه المعاناة.
وأمَّا الانتقاد «الفني» لهذا العرض فهو أنه تجاهل روح الهزلية الأساسية في هذه الكوميديا، وتجاهل معها — وهو الأخطر — إطارها الميتامسرحي، فالطابع الهزلي الساخر الذي يميزها يتيح لها، حتى لو بُولغ فيه، أن تكتسي بعض ما تسميه هودجدون «ملامح فئة معرفية رئيسية» (٢٠١٠م، ص١٠٣) بمعنى أنه يطرح قضايا الواقع والوهم في علاقة الجنسين، ويتيح معالجة السيطرة والخضوع من زاوية قوة الشخصية، «أنثى كانت أو ذكرًا»، فقد تنجح العلاقة الزوجية إن سيطر أحد الزوجين على الآخر من خلال «نظام» أو «جهاز» معقد للتعامل، وقد تفشل العلاقة إن ظلَّت قائمة على مستوى التعامل السطحي البسيط، وفق ما يقوله أنطوني كوكمان (Cookman) عام ١٩٦٠م (مقتطف في هودجدون ٢٠١٠م، ص١٠٤). ولكن المعالجة الناجحة للمسرحية باعتبارها هزليةً قد أثبتت جدواها في الخمسين عامًا الأخيرة، وأظنني لا أبالغ إذا قلت إن دراسة هايلمان (Heilman) عام ١٩٦٦م قد مهَّدت الطريق للدراسات اللاحقة بأقلام ألكسندر ليجات (Leggatt) (١٩٧٤م) ولورنا هاستون (Huston) (١٩٨١م) وماريان نوفي (Novy) (١٩٨٤م) وبيتر ساكيو (Saccio) (١٩٨٤م) وتوماس مويسون (Moison) (١٩٩٥م)، وغيرهم ممَّن أشرت إليهم من قبلُ من أبناء القرن الحادي والعشرين، ولأبدأ بأحدثهم (عندي) وهو الكتاب الذي أصدرته مارجريت جين كيدني (Kidnie) عام ٢٠٠٩م عن مشكلات تطويع نصوص شيكسبير للإخراج المسرحي وحدود إمكانات هذا التطويع. وسوف أعرض مدخلها الخاص لمفهوم الهزلية ومعنى ما جرى العُرف على تسميته «حدود الهزلية في الكوميديا»؛ أيْ إن الكوميديا قد تتميز بخصائص هزلية معينة لا تمسُّ جوهر الكوميديا ما دام المؤلِّف أو المُخرج يحافظ على حدودها المرسومة بدقة، ونحن نعرف هذا في المسرح المصري، حيث لا يطيق الممثل في الكوميديا الالتزام بقدْر محدَّد من الهزل، فإذا وجد من الجمهور استجابة انطلق فتجاوز كل حدود يُسمح بها في الهزلية، وتقول كيدني إن مسرحية ترويض الشرسة تستعين بقدْر معيَّن من الهزل في رسم الشخصيات والمواقف بحيث تقترب من تقاليد تصوير الشخصيات الكاريكاتورية في أفلام الرسوم المتحركة، إذ يسقط أحدهم من ارتفاعٍ شاهقٍ أو يلتقط قنبلةً منفجرةً ثم ينهض فلا يصيبه سوء، ويستأنف السير ويواجه غير ذلك من مصاعب تظلُّ ظاهرية لأنها هزلية.

وتقول كيدني في دراسة أسبق (٢٠٠٦م) إن لنا أن ننظر إلى شخصيات المسرحية من هذه الزاوية؛ أيْ باعتبارها صورًا متحركة ذوات نفوس لا تتأثر بالأحداث المادية، ما دامت هذه الأحداث عاجزةً عن إحداث ضرر دائم، إذ إن كاترينا مثلًا تكابد الجوع والسهد، ولكنها تكابدهما مع زوجها الذي يؤكد لها دائمًا عمق حبه لها، فهما يشتركان في هذه المعاناة التي لا يكاد ينجو منها أيُّ فرد في حياته، فهي عابرةٌ ولا تغيِّر شيئًا في الجسم ولا في النفس، ومشاركة زوجها المحب لها تجعلها تشعر بأنها تشاركه في «لعبة» معيَّنة قد يكون ظاهرها الألم، ولكنه ألمٌ لا يكسر روحها، ما دام يمثل عنصرًا من عناصر «اللعبة»، ومن ثَم فإنه ألمٌ من النوع الذي يحرر الفتاة من رتابة الحياة الباهتة في بادوا، أي الحياة التي تتشابه فيها الأيام بلا أملٍ في خلاصٍ حقيقي، ويتيح لها خبرةً جديدةً مع زوجها بالترحال والتعامل مع أفراد لم تُتَح لها فرصة التعامل معهم من قبل، وبذلك تصبح رحلة زواجها رحلة اكتشاف الحقائق في ذاتها، لم تكُن تدري مداها أو أهميتها.

والوسيلة الرئيسية التي تتيح لكاترينا هذه المعرفة هي مواجهة نِدٍّ لها في التلاعب اللفظي الذي يتطلب اللماحية الفطرية والتدريب على المطارحة الفكرية التي تشحذ الذهن، وربما كانت كاترينا، كما تقول كيدني (٢٠٠٦م، ص٤٦) غير واعية في البداية بأن مشاركتها بتروشيو هذه اللعبة سوف تطلق طاقاتها الذهنية من عقالها، ومن ثَم تمكنها بالاستمتاع بالمبارزة الفكرية التي تتبادل فيها الفوز مع بتروشيو، فإذا كان قد أثبت أنه نِدٌّ لها في «المشاكسة» (أو الشراسة) على المستوى المادي السطحي باعتباره رجلًا له أملاك وخدم وسلطة اجتماعية، فقد أثبتت له أنها نِدٌّ له في نوع الحب الذي يمارسه بالألعاب التي تشير إليها كاترينا بوضوح في الفصل الرابع، أيْ إنها تدرك عشية عقد القِران أن زوجها مغرم بهذا التلاعب اللفظي الذي يقوم، كما ذكرت، على التطارح الفكري المرتبط بالتصنُّع أو بالتمثيل، (ومن ثَم بما قلت إنه من عناصر الميتامسرح)، وبدخول هذا العنصر نشعر أن «الجاذبية الجنسية» التي نَمَت بينهما في مشهد المطارحة قد أدَّت إلى جاذبيةٍ نفسيةٍ أدَّت بدورها إلى تحويل علاقتهما من منافسة إلى إعجاب متبادل، خصوصًا حين تتحول من الاعتراض على ألعابه الفكهة (في مشهد الشمس والقمر) إلى المشاركة فيها مشاركةً إبداعيةً مستقلة، فعندما يشير بتروشيو إلى فنشنتو الذي قابلاه مصادفةً باعتباره عذراء فاتنة، تُنشئ كاترينا أبياتًا من الشِّعر تتغزل فيها في جمال هذه العذراء الوهمية، وعندما يعترض بتروشير (في إطار اللعبة) ترتجل كاترينا أبياتًا أخرى تلغي ما ذكرته، وتدلُّ على استمتاعها بلعبة الادعاء أو التظاهر، وهي اللعبة الأساسية التي ذكرتُ أنها تمثل النطاق الدلالي الكبير لأحداث المسرحية، فكلٌّ منهما يعي بأنه يهزل، وأنه «يمثل»، وأداؤهما معًا يؤكد قوة «التمسرح» الكامنة في النصِّ (وسوف أعود إلى كل هذا فيما بعد).

قد يرى القارئ في كلام كيدني بعض التأويل، ولكن موقفها الأساسي سليم في نظري، وأعني به اعتبار المسرحية هزلية، أو كوميديا تستخدم أساليب الهزلية ببراعة، فما الهزلية؟ الهزلية مصطلح عربي وُضع في منتصف القرن العشرين تقريبًا، ترجمةً للمصطلح الأجنبي farce وإن كان بعض النقاد العرب يفضِّلون تعريب المصطلح الأجنبي، أيْ كتابته بحروف عربية، فبعضهم يكتبه «فارْسْ»، وبعضهم يخشى الاختلاط بالكلمة العربية المألوفة فيكتبها «فارْصْ» ضمانًا للاختلاف وجريًا على الخلط في الآونة الأخيرة بين الحرفين، إذ يكتب البعض «البرد القارص» بدلًا من «القارس»، ولكن مصطلح «الهزلية» أقرب إلى وصف هذا النوع المسرحي، وإن كانت عناصره تتداخل مع أنواع أخرى من الكوميديا. وإذَن فنحن حين نُعرِّف مصطلحًا مترجمًا لا نولي أهميةً أوليةً لمدى اقترابه أو ابتعاده عن معنى المصطلح في اللغة المصدر إلَّا إذا كنا نقدِّمه للمرَّة الأولى، وأمَّا إن كان قد شاع وثبت معناه، فالعبرة هنا بالمعنى الشائع مهما يكُن بعيدًا عن معنى اللفظ في اللغة المصدر، فالهزلية ضربٌ من ضروب الكوميديا، والمصطلح الأخير معرب عن اللغات الأوروبية، ونحن نستخدمه جنبًا إلى جنبٍ مع الترجمة التي وضعها وأشاعها أستاذنا محمد مندور، وهي «ملهاة»، مثلما شاع استخدام التراجيديا جنبًا إلى جنبٍ مع الكلمة الأخرى التي أتى بها لها وهي «مأساة»، ولكننا حين نعرِّف الملهاة لا نلجأ إلى أيِّ دلالة تتصل باشتقاق الكلمة العربية، بل نعرِّفها من خلال المصطلح المقابل لها في اللغة الأجنبية التي أخذت منها، فتقول إنها مسرحية تنتهى نهايةً سعيدةً وتوحي بانتصار الحياة بعودة المياه إلى مجاريها أو الاحتفال بالحياة، ومهما يكُن حدبنا على استعمال مصطلحات عربية (مترجمة) فإننا نضطر إلى التعريب بمعنى استخدام اللفظ الأجنبي نفسه بحروف عربية حين نواجه نوعًا مختلطًا هو التراجيكوميدي، أو عندما نواجه أنواعًا مسرحيةً مستحدثةً مثل الكوميديا السوداء، وهلمَّ جرًّا.
ومشكلة مصطلح الهزلية، مثل الكثير من المصطلحات المترجمة، مشكلة صرفية محضة؛ أيْ إنها تقيد الناقد بهذا الشكل الصرفي الذي لا يستطيع الخروج عنه، فقد يجد من الصعب الإشارة إليه بأفعال مشتقة منه، أو أن يأتي منه بمصدرٍ ميميٍّ يماثل البناء الصرفي للمأساة والملهاة فيقول «مهزلة»! ونحن في حياتنا المسرحية نأتي بما يناسب الممارسة العملية، فإضفاء الطابع الهزلي على بعض عناصر الكوميديا نسميه «فرسكة»، والفعل «يفرسك»، مشتق من الصفة الإنجليزية farcical وهي — بالمناسبة — لا تُستخدم بهذا المعنى الدقيق نفسه في النقد الإنجليزي، وعلى أيَّة حال فما دمتُ عرَّفتُ ترويض الشرسة بأنها هزلية ساخرة، فلا بدَّ أن أقدِّم للقارئ مفهوم الهزلية الذي نعرفه، والذي تحدَّث عنه النقاد الذين ذكرتهم آنفًا من عام ١٩٦٦م إلى اليوم.
درجنا على أن الهزلية مسرحية تعتمد على الحركة الجسدية الصاخبة، والتهريج، والمهاوشات العالية النبرة، وضروب التحايل والخداع، والخلط والضجيج، والفكاهات المرتجلة، إلى آخر هذه المظاهر التي نألفها في بعض أنواع المسرح المصري المعاصر، وهي في مجملها هزلية (سواءٌ بمعنى هازلة أو ترمي إلى الإضحاك وحسب). وهذا كله، ولا شكَّ، موجود في ترويض الشرسة، ولكنه لم يُقنع جميع الدارسين والنقاد بأنه يكفي لوصف المسرحية بالهزلية، إذ يرى جانبٌ منهم أنها كوميديا تستعين بعناصر الهزل، ويرى جانبٌ آخر أنها في جوهرها هزلية تكتسي شكل الكوميديا، بل لقد أشرت إلى إخراج ماروفيتز الذي أضاف لمسات تراجيدية أو جادة أو مأساوية إلى العرض حتى في إطار أحداث الكوميديا أو الهزلية، كما أشرت إلى مَن ينكرون الهزل تمامًا، ويسقطون على أحداث المسرحية رؤاهم الجادة — مهما كانت تتعارض مع ما نشهده على المسرح من العناصر الهزلية الصريحة — وينتهون إلى أحكام نقدية لا تبررها المسرحية. وأظن أننا بحاجة إلى أن نتجاوز المظاهر المذكورة وننظر في «روح الهزلية» باعتبارها نوعًا أدبيًّا يقوم على نظرةٍ معيَّنةٍ للناس والدنيا، فما المظاهر المادية للنوع الأدبي إلَّا تجسيد «لرؤية» خاصة، ولن أقول «فلسفة»، لأنها قد لا تصل إلى حدِّ الفلسفة كما نفهمها، وكما يعالجها المفكر المعاصر شبل الكومي في مداخله الفلسفية للأدب، وربما يكون من المفيد استخدام الوصف الذي يطلقه روبرت د. هايلمان على النوع الأدبي genre قائلًا إن أيَّ نوع أدبي يمثل منهجًا متعارفًا عليه للتعامل مع الواقع، وإن الأنواع الأدبية المختلفة تمثل عاداتٍ ذهنيةً مختلفةً، وتنمي القدرة على استقاء المتعة من الأساليب المختلفة لتمثيل الواقع، فمصطلح الرومانس (Romance)، على سبيل المثال، نوع يقوم على افتراض قدرة الإنسان على التغلب على العراقيل والأخطار الداهمة، خصوصًا ما يتمُّ منها بالجسامة، بذكاته وروحه أو حتى بحسن الحظ، وعلى العكس من ذلك نرى أن المذهب الطبيعي في الأدب («الطبيعة» naturalism) يقوم على تصور هزيمة الإنسان أمام القوى الخارجية، خصوصًا إذا كانت قوى جبارةً طاحنة، ثقيلة الوطأة كاتمة للأنفاس. وأمَّا العنصر الأساسي في الهزلية فهو قدرة الشخوص فيها على تحمُّل ما لا يتحمله الإنسان عادةً في «الحياة الطبيعية»، وهو ما عادت كيدني إلى ذكره بألفاظ مختلفة أوردتُها آنفًا، غير أن هايلمان ينسب هذه القدرة إلى افتقار شخوص الهزلية لبعض الحساسية الجسدية والعاطفية والذهنية والخلفية التي نعتبرها طبيعية.

ويضيف هايلمان قائلًا إن الإقبال الشديد على تذوق الهزلية، وشعبيتها الخارقة منذ آلاف السنين، يرجع إلى أن هذا النوع كان يتيح للناس التمتُّع برؤية شخوصٍ يتصرفون تصرُّفَ ذوي الطاقات المحدودة، وربما كنا جميعًا نستمتع برؤية ذلك في بعض الأحيان، أيْ إن الهزلية تتيح لنا أن نرى واقعًا يشبه الحياة الواقعية، وأن نشارك فيه، من دون أن نتحمل المسئوليات والأعباء التي تترتب في العادة على حدوثه، وربما أحسسنا أننا أفضل من الرجال والنساء المشاركين في حبكة المسرحية، وربما وجدنا في أفعالهم وأقوالهم تنفيسًا عن نوازعنا العدوانية المكبوتة آمنين، إذ يشيع في الهزلية التهجُّم اللفظي والجسدي. أيْ إننا نحب وتسهل علينا المشاركة في الهزلية إذ نتحاشى بذلك مواجهة التعقيد في طبيعتنا، ومن دون أن نتحمل أيَّة عواقب مادية أو معنوية، «فالهزلية مملكة لا ألم فيها ولا ضمير» (ص٤٩)، بمعنى أنها تقدِّم لنا عطلةً تنجينا من عوارض ضعفنا وعواقبه وتكاليفه، فهي النقيض لجميع درامات الكوارث التي يواجه الإنسان فيها مصيرًا يشقُّ عليه احتماله، «وهي تحقق رغبتنا الملحة، وإن تكُن لا واعية، في تبسيط الحياة من خلال التخدير الانتقائي للشخص كله، ففي الهزلية يحتفظ الإنسان بطاقته كاملة دون أن يُصاب بأيِّ أذًى حقيقي» (المرجع نفسه).

وأنا ألخِّص هنا دراسة هايلمان لأنها تضع أُسسًا نفسيةً لتذوق الهزلية، وهي أُسسٌ تشترك فيها مع الكوميديا إلى حدٍّ كبير، ولن أعود إلى تفصيل ما قلته في كتابي فن الكوميديا المُشار إليه آنفًا، بل أنتقل إلى خصيصةٍ أشدَّ بروزًا في الهزلية عنها في الكوميديا، وهي خصيصة أفرد لها دارسو الكوميديا مساحةً تحليليةً أكبر مما نجده عند هايلمان، مثل بيتر ساكيو (١٩٨٤م) وماريان نوفي (١٩٨٤م)، ألا وهو افتقار الشخصيات في الكوميديا عمومًا وفي الهزلية خصوصًا إلى العمق، والتمييز هنا مُهم؛ لأن الكوميديا تتيح مساحةً لفهم الشخصيات أكبر مما تتيحه الهزلية، وإن كانت أبعد ما يكون عن التحليل الذي نجده في المأساة، ذلك أن الكوميديا والهزلية معًا لا يخاطبان المشاعر بقدْر ما يخاطبان العين والأذن، فالإنسان يضحك لأنه يدرك بذهنه ما تدلُّه عليه هاتان الحاستان من تناقضاتٍ، مثلًا، أو وجوه خللٍ تدري بها الشخوص أو لا تدري، ولكننا نجد أن الكوميديا قد تتيح لنا مشاهدة شخصيات صوَّرها المؤلِّف تصويرًا دقيقًا، بل وكشف عن نقائضها ونقائصها ظاهرًا وباطنًا، على عكس الهزلية، فقد يعاني بطل الكوميديا من عيبٍ معيَّنٍ في شخصيته، كالجهل بحقيقة ذاته (مثل أنجيلو في دقة بدقة، لشيكسبير. انظر الترجمة العربية ٢٠١٣م)، وقد يكون واعيًا بهذا العيب مثل لوشيو أو برنردين في المسرحية المُشار إليها، وقد يكون غير واعٍ به، ولكننا ندركه ونراه ونحسُّه (مثل فولسطاف في زوجات مرحات، لشيكسبير أيضًا. انظر الترجمة العربية ٢٠٠٨م)، ولكن سواءٌ كان البطل واعيًا أو غير واعٍ فالمؤلِّف يتيح لنا أن نتأمل طبيعته حتى ولو لم يتأملها البطل بنفسه، وأمَّا في الهزلية فلا يُتاح لنا ذلك إلا في أضيق الحدود أو ربما لم يُتَح لنا قط. ومن عواقب ذلك، كما يقول أوليفر، أن سرعة الحدث في الهزلية أكبر منها في الكوميديا، وهي أكبر في الكوميديا منها في التراجيديا، وذلك طبقًا لدرجة التأمل والتفكير المطلوبة في المأساة، ما دمنا نغوص في نفوس الأبطال، ونشهد تنازع العوامل داخل النفس، على عكس الهزلية، وكذلك على عكس الكوميديا ولو إلى حدٍّ أقل.

انظر إلى تلاحق الأحداث في ترويض الشرسة؛ ما إن يدخل اللورد ويرى سلاي النائم بعد أن امتلأ جوفه بالجعة حتى يقرِّر أن يلهو به. مَن هذا اللورد؟ وما الذي أتى به إلى هذه الحانة الشعبية؟ وما علاقة صورة الموت التي يوحي بها إليه المخمور النائم بالتلاعب بهُويَّته؟ هذه أسئلة لا نملك لها إجابةً، لأننا ببساطة لا نطرحها. وما إن يظهر بابتيستا مع ابنتَيه ويعلن ضرورة زواج الكبرى قبل الصغرى حتى يتضافر خُطَّاب الصغرى للعثور على خاطبٍ للكبرى، وما إن يشاهد لوسنتو الابنة الصغرى بيانكا حتى يقرِّر أن يتزوجها ويضع على الفور خطةً للفوز بها، وما إن يصل بتروشيو حتى يقرِّر الزواج من كاترينا، قبل أن يراها، مؤيَّدًا من خُطَّابها الثلاثة! ويتعجل بتروشيو الانتهاء من مراسم الخِطبة والاتفاق مع والد الفتاة (بابتيستا) على المَهر، وبعد ذلك يُقنع كيت بالزواج منه ويحدِّد يوم الزفاف! ونتابع تلاحق الأحداث اللاهية في ألاعيب الخُطَّاب، وألاعيب بتروشيو يوم زفافه، ورحلته مع زوجته إلى منزله الريفي، ونظل ننتقل بين هذا المنزل، وبين منزل الوالد حتى النهاية. ويُظهر شيكسبير براعةً فائقةً في الحفاظ على السرعة (المصطلح الإنجليزي pace والعربي «الإيقاع» أيْ تيمبو tempo) من خلال عدم التعمق في رسم الشخوص، بل إن عدم التعمق هو الذي يملي هذه السرعة.
وعادةً ما تتضمن الهزلية مشاهد «ثانوية» تُعتبر استطراداتٍ أو طُرقًا فرعيةً لا يتوقف الحدث عندها، ولا يلتفت القارئ أو المُشاهد كثيرًا لها، وذلك على عكس ما نرى في الكوميديا أحيانًا وفي التراجيديا في كل الأحيان، فمقتل سينَّا الشاعر في مسرحية يوليوس قيصر لشيكسبير مشهد ثانوي، لا يصبُّ على المستوى الواقعي في الحبكة، ولكنه من المحال تجاهله، فهو مشهدٌ عبثيٌّ يسهم في تحديد نغمة الحدث، والنغمة، كما قلت، جزءٌ لا يتجزأ من النطاق الدلالي (register) للفعل المسرحي، والأبيات التي يقولها المهرِّج في الملك لير لشيكسبير عن انقلاب الأحوال في المملكة والمستقبل المدلهمِّ الذي ينتظرها، والتي تبدأ بالسطر المشهور «إذا مال كُهَّاننا ذات يوم إلى اللفظ دون معاني الكلام …» يصعب حذفها لأنها تمثل تعليقًا ساخرًا على الحدث المسرحي الرئيسي، وقِس على ذلك شتَّى الاستطرادات في مسرحيات شيكسيير التراجيدية والكوميدية، وأمَّا هنا فنحن نجد في مطلع الفصل الثاني مشهد قرع الباب، بين بتروشيو وجروميو خادمه، وهو مشهد لا يتوقف القارئ عنده ولا يجتذب اهتمام المُشاهد، وقد يحذفه المُخرج لأنه لا يصبُّ في الحبكة الرئيسية ولا في الحبكات الثانوية، فهو مشهد تلاعب بالألفاظ يرمي إلى إثارة الضحك، وإن لم يكُن قادرًا على ذلك الآن، كما يقول برنارد شو، والسطور المائة الأولى من (٤ /  ١) تتكون من حوارٍ هازلٍ بين جروميو خادم بتروشيو وكيرتيس، أحد خدم المنزل الريفي، عن تفاصيل الاستعداد لوصول الزوجين، ولا يتضمن ما يمكن أن يسهم في الحبكة إلا السطور العشرة الأخيرة التي يحكي جروميو فيها تفاصيل الرحلة، وهذا الحوار الذي وصفته بأنه هازل يفتقر إلى ما يدفع القارئ أو المُشاهد المعاصر إلى الضحك، ويقول النقاد إن وظيفة أمثال تلك المَشاهد «تقديم فرصة للمُشاهد لالتقاط الأنفاس»؛ أيْ لإبطاء الحركة المسرحية قليلًا، مثل المشهد (٣ /  ٤) حيث يدور الجدل الهزلي بين بتروشيو والحائك والخردواتي، وحيث ننسى وجود كيت لمدَّة ستين سطرًا، فكل شيء هنا يدور على المستوى السطحي ويقتصر على اللغة، فالمشهد يقدِّم تسليةً لا شك، وهو يمتعنا بتأمل الدور الذي يلعبه بتروشيو، ولكن العمق مفقود، وقِس على ذلك المشهد الذي أعتبره خير ما يمثل الهزلية، وهو مشهد اللقاء بين فنشنتو الحقيقي والد لوسنتو وبين التاجر الذي يزعم أنه فنشنتو، فنحن لا نجد مناقشةً منطقيةً ولا احتكامًا إلى العقل، بل إحساسًا بالغضب والإحباط يؤدِّي إلى الهرج والمرج، والتُّهم المتبادلة بالتحايل والخداع والشتائم وما إلى ذلك بسبيل، وهو ما أعرفه خير المعرفة في المسرح المصري، ويقول الباحثون إنه من الأساليب الثابتة والمعتمدة في كل هزلية منذ بلاوتوس إلى يومنا هذا.
وتتميز الهزلية أيضًا بتكرار أنساقٍ سلوكيةٍ معيَّنة، تتفق في خطوطها العامة، وهذا التكرار مقصود لذاته ويؤكد صفة الصنعة، بل و«التصنُّع» أحيانًا، فإن خُطَّاب الفتاتَين كيت وبيانكا، وإن اختلفت دوافعهم على طلب الزواج، «يتفاهمون» أولًا مع والدهما قبل محاولة اكتساب ودِّ الفتاتَين، خلافًا لما نجده في كوميديا الحب الرومانسية، ثم نجد أن هورتنسو وترانيو (الذي يتظاهر بأنه لوسنتو) يشتركان في إعلان نبذهما معًا لحب بيانكا كأنما يشكلان جوقة تقول كلامًا واحدًا، وفي المشهد الأخير تشترك بيانكا مع الأرملة في أسلوب الردِّ على طلب زوجيهما بالحضور، وفي هذا المشهد نفسه نجد أدلةً على ما يسميه بعض النقاد «تلاعبًا» بالشخصية في سبيل التناظر البنائي، إذ يريد شيكسبير أن يقدِّم عكسًا مزدوجًا للأدوار في النهاية، أيْ أن يقدِّم تناظرًا للحركة في الاتجاه العكسي، بمعنى أنه ما دامت كاترينا قد نمَت أو تطورت، ولو ظاهريًّا، فتخلَّت عن صورة «الشرسة»، فلا بد أن تنمو بيانكا وتتطور باعتبارها النظير العكسي، فتكتسب صورة «الشرسة» بعد الزواج مباشرة، وهو ما لا يتفق (وفق منطق الكوميديا) مع صورتها التي بُنيت على امتداد أحداث المسرحية، فهل كان سلوكها السابق كله متصنعًا؟ أيْ هل كانت تلعب هي الأخرى دورًا خاصًّا بها مثل الأدوار التي يلعبها مَن حولها من الرجال (والنساء)؟ إن ثباتها ورباطة جأشها وتحديها لزوجها يفاجئنا في هذا المشهد الأخير، خصوصًا حين تنضم إليها الأرملة، فأمثال هذا «التحول» الشديد لا نعتاده في الكوميديا (وقطعًا في التراجيديا)، فهو من خصائص الهزلية وتلاعبها، كما يقول بريان موريس (Morris)، بالشخصية في سبيل الأشكال البنائية.
ويقتضي إيضاح ذلك التمييز بين المصطلحين اللذَين نترجمهما إلى العربية بكلمة واحدة هي «الشخصية»، وهما character وpersonality؛ أمَّا الأول فهو الذي نستخدمه في النقد الأدبي بمعنًى خاصٍّ يشير إلى الخصيصة الخلقية الرئيسية لفرد من الأفراد، أو الصورة التي يرسمها المؤلِّف لهذا الفرد، في عمل أدبي معيَّن، ويقابل في الدراما مصطلح persona الذي نترجمه بالقناع المسرحي، والأقنعة المسرحية هي Dramatis Personae وعادةً ما نجد هذه العبارة على رأس قائمة «شخصيات المسرحية»، أو أسماء مَن يلعب الممثلون أدوارهم، وكان آباؤنا في مطلع القرن العشرين يترجمون المصطلح بتعبيرٍ غريب، وإن كانت له دلالته، وهو «أخلاق الرواية»، وذلك قبل أن تتحول ترجمة play من «اللعبة» والرواية إلى المسرحية، وقبل اختلاف معنى الأخلاق، ومفاد هذا أننا قد نجد في المسرحية لكل شخصٍ طابعًا خاصًّا يميزه عن غيره بحيث يتفرد به في داخل العمل المسرحي فقط، فالإرشادات المسرحية مثلًا في ترويض الشرسة تقول إن جريميو «هرم أبله» والكلمة الإنجليزية لهذا الوصف هي pantaloon فقط، أيْ إن المؤلِّف يختصُّ هذا الشخص بصفة إنسانية معيَّنة تميزه عن سواه، وقِس على ذلك أيَّة أوصاف أخرى ترِد للشخصيات. والمعنى المراد إذَن يختلف عن معنى personality الكلمة التي تعني العناصر النفسية والذهنية والخلقية التي تمثل ذات الإنسان، و«الذات» في الكتابة العلمية الحديثة يُشار إليها بلفظ subject (وهو ما تنكر وجوده النظرية الأدبية الحديثة إلى حدٍّ بعيد)، وتمثل «هُويَّته» أيضًا؛ أيْ identity، أيْ مَن «هو» أو مَن «هي»، فالكلمة ذات بناء صرفي يوحي بالمصدر الصناعي، ويقترب من مصدر صناعي آخر هو «ماهية». وأمَّا في اللغة الإنجليزية العادية فإنك إن وصفت شخصًا بالصفة الأولى فربما كنت تعني الأخلاق، كقولك a man of good character ويتغير المعنى بتغيُّر الصفات، فإن جاءت الكلمة دون صفات كقولك He is quite a character كنت تعني أنه غريب وفريد، وأمَّا إذا وصفته بالكلمة الأخرى فإنك تشير إلى تماسك العناصر المذكورة وصلابة تكوينه (إلَّا إذا أرفقت بالكلمة صفات مضادة)، بل إن الكلمة الأخيرة كثيرًا ما ينصرف معناها إلى السلوك الاجتماعي والأخلاق. وقد سبق لي في غير هذا المكان أن ذكرت الهجوم على بعض النقاد الذين يعاملون القناع المسرحي (persona = character) معاملة الشخصية (personality) خصوصًا في المأساوات؛ فيعاملون هاملت أو عطيل أو سواهما باعتبارهم شخوصًا بالمعنى الأخير، بل وباعتبارهم أشخاصًا حقيقيين لهم، أو كان لهم، وجود تاريخي، وهو ما يفعله برادلي في تناول مأساوات شيكسبير، وما انتقده ليفيز وعابه عليه. وإغراء تحويل القناع المسرحي إلى شخصية أو شخص بالمعنى الأخير إغراء قائم دومًا، فالناقد قارئ يستكمل ما يقوله المؤلِّف، على لسان البطل أو على ألسنة الشخصيات الأخرى، بما يمليه «المنطق السليم»، بحيث يملأ أيَّة فراغات في رسم المؤلِّف للشخصية، ولذلك فإن هايلمان يقول إن الهزلية تضحي بالشخصية بالمعنى الأخير أيْ personality في سبيل الحبكة المسرحية، بمعنى أنها تقلُّ عن الكوميديا (وعن التراجيديا طبعًا) في إبراز شخصياتٍ تقترب من نظائرها في الحياة اليومية. ومثلها يرِد وصف جريميو بأنه هرِم أبله في الإرشادات المسرحية، يُقال لنا إن كاترينا فتاة شرسة وحسب. ولقد سبق لي أن ناقشت معنى الشراسة وفق ما تقوله المسرحية ووفق معنى الكلمة في اللغة والأدب حتى عصر شيكسبير، ولكن النصَّ لا يزيدنا إحاطةً بسائر خصائص شخصيتها، وكما ذكرت بشأن اللورد (في المدخل) يذهب القراء ومُشاهدو المسرح مذاهب شتَّى في تفسير «شراسة» كيت، فالناقدة هودجدون تقول، (٢٠١٠م) (ص٧٠)، إنها شراسة «صوتية»، ولدينا في المسرحية ما يؤكد ذلك إلى حدٍّ كبير، ولكن كاترينا تقيد يدَي أختها بيانكا، وتضرب بتروشيو في مشهد التطارح اللفظي / الغرامي، وتضرب جروميو الذي يرفض تقديم الطعام لها، ولكنها تتدخل لتنقذ جروميو حين يضربه بتروشيو أثناء الرحلة! وهي تشترك مع غيرها (خصوصًا بتروشيو) في استخدام الشتائم والسباب، ولكن هذه الشتائم لا تُغضب أحدًا، ولا يبدو أن أحدًا يبدي تضرره من الشتم أو الضرب، فبتروشيو يضرب جروميو، وجروميو يضرب كيرتيس، وفنشنتو يضرب بيونديلو، ولكن التوافق يسود ولا تبقى أيَّة مرارة في النفس من الشتائم أو الضرب، بل إن الهزلية لا تكترث بطبيعتها بالآثار الناجمة عن خداع الناس بعضهم بعضًا أو إيذائهم بصورٍ أخرى.
ولنعُد إلى المدخل؛ إن اللورد يمارس خدعةً مُحكمةً على السمكري المسكين، ويشارك اللورد الخدَم والأتباع، ولا يخطر لأحدهم ما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار نفسية سيئة عند الصعلوك سلاي، تُرى ماذا يكون إحساسه عندما يكتشف أنه خُدع وغُرر به، وأنه كان مصدر تفكهٍ (من أجل التفكه وحسب)، وأنه كان ضحية لعبة قاسية؟ لا توجد إجابةٌ لهذا السؤال لأنه لم يُطرح قط. وإذا قِيل إن مَن يُشتَمون لا يتأثرون فيما يبدو، أو يتأثرون ولكنهم لا يبدون تأثرهم، إمَّا لأنهم اعتادوا هذه المعاملة وإمَّا لأن أوضاعهم الاجتماعية المتدنية تمنعهم من إظهار تأثرهم، كان الردُّ أن كاترينا نفسها بنت الحسب والنسب تتلقى الشتائم التي لا يخجل الآخرون من توجيهها إليها دون أن تتأثر، فيما يبدو، ومشهد التطارح اللفظي بين بتروشيو وبينها، وهو المشهد الذي نفترض أنه شهد بزوغ علاقتهما الغرامية، حافل بالشتائم المتبادلة بين البطلين، من دون أن يغضب أحدهما. وعندما تكسر كيت العود (الآلة الموسيقية التي أتى بها هورتنسو متنكرًا في زيِّ ليسيو أستاذ الموسيقى) ليعلِّمها العزف عليه، أقول عندما تكسر كاترينا العود على رأسه فإنه يشعر بالخوف وفقًا لمنطق الهزلية، ولكنه لا يبدي حزنًا حقيقيًّا على فقدان آلته الحبيبة، مثلما نتوقع من أيِّ رجل في عالَمٍ خارج الهزلية، وأنا أذكر الموقف المشابه في فيلم يحيا الحب عندما حطمت ليلى مراد عود محمد عبد الوهاب وكيف انزعجتُ أنا شخصيًّا كأنما حطمت الفتاة عودي، وأذكر كيف أدَّى ذلك إلى غناء عبد الوهاب أغنيةً شجيةً كتبها أحمد رامي «الظلم ده كان ليه»، على الرغم من أنه كان عودًا رخيصًا، وكنا نصفه بأنه «خشَّابي» مثل أول عود أشتريه! وأمَّا الشتائم التي أشرت إلى أنها لا تؤذي أحدًا فإنها تتحول في هذه المسرحية إلى فنٍّ لغويٍّ جذاب، يشبه ما وصفته في فن الكوميديا (١٩٨٠م) بأنه «فن الردح»، وسوف أناقش الجانب اللغوي في الحواشي الملحقة بالترجمة، وأكتفي بأن أقول إن منطق الهزلية يمنح الأشخاص دروعًا معنويةً تجعلهم يصمُّون آذانهم عن الشتائم أو لا يسمحون لما تسمعه آذانهم أن يصل إلى قلوبهم، كأنما هي طلقات فارغة («فشنك») مثل التي تسمعها في أفلام الريحاني، إذ إن تحية كاريوكا تقول للبطل «يا أبيح يا بارد يا قليل الأدب» في فيلم لعبة الست ولا يردُّ عليها «حسن»، وفي فيلم أبو حلموس يقول عباس فارس لنجيب الريحاني («شحاته أفندي») «انت غلباوي، أنت أبيح، أنت جزمة قديمة … إلخ.» وهكذا فذاك منطق الهزلية، ولا يذكر مَن شهد عقد قِران بتروشيو على كاترينا أن أيًّا من الكاهن أو الشماس أبدى أيَّة ردود أفعال. وهذا ما يستشهد به مويسان (Moisan) تأكيدًا لزعمه أن شخصيات الهزلية تشبه الدُّمى، وينبغي ألَّا نتوقع منها ردود أفعال مثل ردود أفعال شخصيات الكوميديا الحقة مثلًا (ص١٦). وهو يستند في هذا لا إلى نماذج التفاعل اللفظي والجسدي التي ذكرتها، بل يقول إن الحدث الرئيسي نفسه لا يمكن أن يحدُث بهذه السرعة إلا في هزلية، فترويض أنثى الصقر أمرٌ معتاد ولا ينكره أحد، ولكنه يستغرق وقتًا طويلًا، وأمَّا ترويض الشرسة فهو يجعل كاترينا تكتسب طباعًا أخرى بسبب «إنجاز» الترويض بسرعة خارقة، كأنها هي آلة عدَّلها صاحبها في يوم أو بعض يوم (ص١٧).
ولكن هذه الصورة ناقصة؛ إذ إنني طلبًا للوضوح لخَّصت ما أورده النقاد من ظواهر نوعية خاصة بالهزلية، وأمَّا الإنصاف فيقتضي استكمال الصورة بملامح الكوميديا الواضحة في المسرحية مهما بلغت فيها عناصر الهزلية الساخرة، ولقد سبق أن احترزت في التعاريف التي أوردتها بأن جعلت الهزلية صورةً خاصةً من صور الكوميديا، وأرجو ألَّا يكون تركيزي على مظاهر الاختلاف بينهما قد أوحى بأنهما «متنافيتان» (mutually exclusive)؛ أيْ لا يجتمعان، فالعكس هو الصحيح، وواقع المسرح المصري يشهد بأن أهل المسرح لدينا يخلطون على الدوام بين النوعين، وما أكثر ما سمعت المُخرج ينبِّه ممثلًا أو أكثر إلى تحاشي هذا الخلط، وعبارة «مش عايز فرسكة!» عبارة تتكرر ولا يصغي إليها أحد.

واستكمال الصورة المُشار إليه يقتضي النظر في مدى ما تتمتع به الشخصيات الرئيسية من الصفات النفسية التي نعتبرها «طبيعية»، وعلى رأسها المشاعر والقدرة على التفاعل بالوجوه المتعارف عليها مع الغير، وإثبات الذكاء الكفيل بتحقيق النجاح آخر الأمر. ويحقق شيكسبير هذا في بطلَيه بتروشيو وكاترينا، بأن يجعل بتروشيو في مشهد التطارح اللفظي والفكري يعبِّر عن حبه بأسلوب «الهزلية»، بمعنى أنه يبدي إعجابه بكاترينا ورغبته في «وصالها» — وهي مشاعر بشرية لا شكَّ فيها — بأسلوب فظاظة مصطنع، وعندما تتدلل كاترينا وتهدِّده بالرحيل يمنعها «جسديًّا» في لحظةٍ استغلها المُخرجون في إظهار تجاوبها مع عاطفته، إذ إن فظاظته الهزلية لا تخفي صدق هذه العاطفة، فهو يقسم أن لن يتزوجها أحدٌ غيره، ويؤكد لها أنهما أصبحا حبيبين أتمَّا مراسيم الخِطبة الرسمية (الموازية للزواج، وانظر تفاصيل ذلك في مقدمتي لترجمة دقة بدقة، القاهرة ٢٠١٣م)، وعندما يأتي والدها مع جريميو وترانيو (المتنكر في زيِّ لوسنتو) يؤكد بتروشيو للجميع أنه قد اتفق مع كيت على كل شيء، وأنها لا تبدي الشراسة إلَّا لتحقيق غاية معيَّنة وأمام الناس وحسب، ثم ينسج بخياله صورة عناقها له وكيف أقسمت على الإخلاص في حبها إياه، ويرى الجميع في صمتها رضًا عن خاطبها، وإعرابًا عن صدق ما يزعمه، ويجد والدها نفسه مضطرًّا إلى إعلان موافقته على الزواج وإمضاء العهد بالمصافحة وفى وجود شهود، وهكذا يستغل شيكسبير تقاليد السرعة في الهزلية لإخفاء عاطفة الحبيبين التي بُنيت من قبلُ أيضًا بأسلوب الهزلية.

وأمَّا كاترينا فإنها تسمح لمشاعرها بالظهور، على الرغم مما يصدُر عن لسانها من ألفاظ «فظة»، وعندما يتأخر وصول بتروشيو يوم الزفاف تشعر بحزنٍ عميق؛ لأن الصورة التي رسمها لها بتروشيو لم تتحقق، وإن كانت تُرجع سبب غضبها إلى موقفها أمام الناس، ويشاركها والدها الحزن، ويبدي تعاطفًا حقيقيًّا لم نشهده منه قبل تلك اللحظة، وتتكرر لحظة المواجهة من جديد بعد عقد القِران وقرار بتروشيو الرحيل على الفور من دون حضور المأدبة، وعندما يواجه معارضة من الجميع إذا به يستغل تقاليد الهزلية في إظهار حبه لزوجته، واستعداده للكفاح في سبيل حفاظه عليها، فتتغير نبرته بعد السطر (٣ /  ٢ /  ٢٣٠) من المواجهة الفظة إلى التهديد الذي يعبِّر بعذوبة أنغامه عمَّا يكنُّه من حبٍّ لها، ولو في إطار الهزلية:
إنَّها لي كل شَيءٍ. ها هِيَ الآنَ بمرْأًى منكُمْ،
فليحاولْ مَن لديه جُرأة أنْ يَلْمسَها،
سوف أشكُو للقضاء أو أصدُّ عَنوةً أعْتَى الرجالْ،
إنْ أعاقوا مَسلَكي في بادوا! يا جروميو سُلَّ سيفَكْ!
قد أحاطتنا اللصوصْ! هُبَّ كي تنقذ مولاتكْ!
أَظهِر الآن الرُّجولة! لا تَخافي يا فتاتي الفاتنة!
لن يَمسُّوكِ أيا كيتُ بسوءْ؛
فأنا أحميكِ حتى لو تكُنْ منهم أُلوفٌ وأُلوفْ.
(٣  /  ٢  / ٢٣٣–٢٤٠)
أيْ إن بتروشيو يمثل هنا دورًا مرسومًا بدقة وفق تقاليد الهزلية، ويعمد إلى «التمسرح» الذي يشدُّ انتباه الناظرين ويعقد ألسنتهم، الأمر الذي يعقد لسان كاترينا أيضًا ويجعلها تتأمل ما يحدُث في صمت كأنها سُلبت إرادتها، وعندما يخرج بتروشيو محتضنًا زوجته هذه المرَّة، نحسُّ بأن الجاذبية المتبادلة قد فعلت فعلها، وإن كان موقفها كله يقوم على الدهشة بعد أن فوجئت بما قاله بتروشيو، وهي دهشة لا تخلو من إعجابٍ دفينٍ لا تملك له دفعًا. وعندما يصلان إلى منزله الريفي، يواصل بتروشيو هذا «التمسرح»، متظاهرًا برفض تناول الطعام الذي أُسيء طهوُه، مؤكدًا في غضون رفضه الطعام أنهما يشتركان معًا في الطبع (الصفراوي) وأنه «يزيد في الدم الصفراء حتى يورث الغضب!»
والخير أنْ نصوم ليلةً معًا،
ما دام طبعُنا أنا وأنتِ صَفْراويًّا،
لا أنْ نذوق ذلك اللحم الذي طال شواؤُهْ.
لتصبري ففي غدٍ سنُصلِح الأحوالْ،
ولتصحبيني في الصِّيام هذه الليلة،
هيَّا معي أُريكِ غرفة الزفافْ.
(٤  /  ١  /  ١٦١–١٦٣، ١٦٥–١٦٧)

ونحن هنا ننتقل من جوِّ الهزلية إلى جوِّ الكوميديا حيث يقترب الزوجان من بعضهما البعض دون أن يدرك أيٌّ منها إدراكًا كاملًا حقيقة ما يحدُث، فبتروشيو يتصور أنه يروض أنثى الصقر، وكاترينا «تجلس ذاهلةً مثل مَن استيقظ من حلم»، والمفارقة هي وجود صورة الصيد نفسها التي شهدناها في «المدخل» الذي يرسم حدود المسرحية الإطارية، فالمدرب يدرب أنثى الصقر على أن تقتنص الفرائس له، ويقيم علاقةً وثيقةً حتى يضمن انتماءها إليه وتعلُّقها به، وما عسى أنثى الصفر هذه (كاترينا) أن تصيد؟ إنها لا تستطيع إدراك الموقف إدراكًا كاملًا، فلقد استيقظت من وهم شراستها على حقيقةٍ أخرى تبين عدم جدوى الشراسة، وكيف تقبل شراسة بتروشيو الظاهرة؟ وعندما تشكو الجوع إلى الخادم يأتيها زوجها بالطعام كأنما ليؤكد اقترابهما من بعضهما البعض، ثم يرسم صورةً جميلةً للاحتفال الذي سوف يقيمانه في منزل والدها، ويسرف في امتداح المظاهر التي يتوقعانها هناك، وخصوصًا ما يتعلق بالملبس والزينة، تمهيدًا لتحطيم هذه الصورة في مشهد الحائك والخردواتي، ثم ينتهي بتمثيل دور آخر، هو دور الزاهد في متاع الدنيا الزائل، والذي يقدِّر قيمة غنى النفس لا غنى الملبس. وكشأنه يلجأ إلى النَّظم «المصنوع» في أداء هذا الدور الجديد، ملقيًا بالأفكار الشائعة عن غنى العقل وغنى اليد، كأنها هي حِكمٌ ومواعظ، والأبيات قائمة على الطباق المعنوي واللفظي، ولكن رحيلهما إلى منزل والدها يتأجل بسبب إصراره الهزلي على أن الساعة السابعة، ومحاولتها تصحيح الوقت إلى الثانية، إذ يصرُّ على صحة تقديره للوقت، ثم يرجو الجميع أن يتركوهما وحدهما.

وقبل أن يخرج الجميع يسخر هورتنسو من الجدل حول الساعة فيواجه الجمهور قائلًا:
إنَّ هذا العاشق المغوار يبغي أنْ تطيع الشمسُ أمْرَهْ!
(٤  /  ٣  /  ١٩٥)

وهذه السخرية تنتمي للكوميديا بقدْر ما تنتمي للهزلية، إذ ترتبط من زاوية النسيج بصورة الشمس التي تعود إلينا أثناء رحلة بتروشيو وكاترينا إلى منزل والدها في (٥ /  ٤)، وعندها تأتي اللحظة التي يقول النقاد إنها تمثل الذروة، وأنا أرى أنها تسبق الذروة الحقيقية، فهي ذروة في حدود الهزلية، وانظر معي إلى الحوار التالي:

بتروشيو : أقول إنَّه القمرْ.
كاترينا : لا شكَّ عندي أنه القمرْ.
بتروشيو : إذَن فأنتِ كاذبة … فإنَّما هي الشمس المباركة.
كاترينا :
تبارك الله القدير إنَّها الشمس المباركة.
لكنَّها ليست بشمسٍ إنْ نَفَيْتَ ذلكْ.
بل إنَّ أوْجُهَ القمرْ … لا تهتدي إلَّا برأيكْ.
أَطلقْ على الأشياء ما تهْوَى من الأسماء تَصدُقْ!
(٤  /  ٣  /  ١٩٥)         

وما يقصده النقاد (بلا استثناء تقريبًا) أن كاترينا هنا قد قررت مسايرته وحسب، من دون أن ترى في ذلك غير وسيلةٍ عمليةٍ لتجنب الخلاف على ما لا يجدي، أيْ إن كاترينا تفعل هذا من غير اقتناع باعتباره سلوكًا نفعيًّا محضًا، وهذا ما يتصوره بتروشيو، أمَّا اللقاء التالي مع فنشنتو فيقول لنا غير ذلك، وفق معظم أساليب الإخراج الحديثة التي اعتمدتُ عليها في هذا التفسير؛ إن بتروشيو حين يرى فنشنتو قادمًا يوجه الكلام إليه قائلًا:

بتروشيو :
عِمِي صباحًا يا فَتاتي الرقيقة! أنَّى عساكِ ذاهبة؟
والآنَ قُولي كِيتُ يا حبيبتي وأصدقيني القولَ هلْ
رأيتِ قبل الآن من كرائم النساء مَن تفُوقُها نُضرة؟
وفوق خدِّها الصراع دائرٌ بين البياض والحُمرة؟
وهل تألقَتْ في صفحةِ السماءِ من نجوم الحُسْن نجمتانْ
مثل عينيها اللَّتَين زانتا مُحيَّاها السَّماوي؟
(٤  /  ٥  /  ٢٨–٣٣)         

إن هذه الأسئلة الإنكارية المتوالية ليست مجرَّد امتحانٍ لمدى استعداد كيت لمسايرة زوجها، بل إن فيها نبرة مضمرة تقول: «هيا يا كيت نلعب!» ويحاول بتروشيو فيها إثبات قدرته على البيان وتلوين الواقع بخياله، وإن يكُن في الواقع يسخر من شعر الغزل التقليدي الذي شاعت فيه الصور الشعرية المألوفة، وهنا تبرز لنا كيت «الشخصية» التي تريد أن تجاري زوجها فيما يفعله وأن تتفوق عليه في هذه السخرية، وما كان أيسر أن توافقه وحسب لو كان الهدف إثبات طاعتها! وكان يمكنها أن تقول مثلًا (من البحر الشعري نفسه) «صدقت إنها لغادة جميلة حسناء!» ولكن كاترينا التي تتمتع بالاستقلال تنشئ أبياتًا من الشعر الموزون، من بحر آخر، ويتضمن صورًا مشابهة لصور بتروشيو، ولإلماحه أثناء مطارحتهما اللفظية / الغرامية إلى أن يطلب الدفء «في فِراشها»، باعتبار ذلك جزءًا من «اللعبة الزوجية» التي يلعبانها، قائلة:

كاترينا :
فيا بُرعمًا في زهرةٍ ما تفتحتْ
على غُصنها عذراءُ فذٌّ جمالُها.
فما غايةُ التَّرحالِ؟ أين مُقامها؟
وما أسعدَ الآباءَ إذ رُزقَا بمَن
تتيهُ بحُسْنٍ يزدهي بدلالها.
وأكثرُ سعْدًا مَن تبسَّم طالِعُهْ
فأضحى رفيقًا هانئًا لفِراشها.
(٤  /  ٥  /  ٣٧–٤٢)         

وهنا يشعر بتروشيو بالتحدي لطاقته البيانية التي لم يتوقف عن استعراضها على امتداد المسرحية، فيردُّ على كيت بشعرٍ من بحرٍ آخر منكِرًا ما تقوله، فإذا بكاترين الجديدة أو الحقيقية تردُّ من جديد عليه، ومن بحرٍ آخر أيضًا حتى يكاد بتروشيو يشعر أنه أُفحم فيعود إلى حدث المسرحية الرئيسي، ولنتأمل كيف استطاعت كيت أن تثبت وجودها بأبياتٍ أخرى من الشعر الموزون المقفى:

كاترينا :
اصفحْ أبانا الشَّيخ عن عيني إذا انحرفَتْ فضلَّتْ
من بَعد أن عَشِيَتْ بضوْء الشمسِ ثُمَّ اختلطتْ
فيها الرُّؤى فتخيَّلتْ كل الذي تلقاهُ أخضرْ
الآن أدركُ أنك الشَّيخ المُبجَّل والموقَّرْ
أرجوكَ فاعفُ عن اختلاطٍ في الرُّؤَى إنْ كنتَ تغفرْ.
(٤  /  ٥  /  ٤٦–٥٠)         
إننا نواجه هنا زوجين يعربان عن العاطفة التي تربطهما بالأسلوب المبتكر لهذه الهزلية، فهو أسلوب مباراة في استخدام الخيال واللماحية، وعلى الرغم من أن القالب ينتمي عمومًا للهزلية فإن وجود المشاعر التي نستشعرها في هذه اللعبة الزوجية يضمن اقترابها من الكوميديا التي لا تعامل الشخصيات معاملة الدُّمى التي تفتقر إلى الروح الحية، وقِس على ذلك ما نلمحه من مشاعر إنسانية لدى ترانيو الخادم الذي تقمَّص شخصية سيده لوسنتو، وخلال تظاهره بأنه من خُطَّاب بيانكا وجد نفسه ميالًا إليها، إن لم نقُل عاشقًا لها، وهي لمسة نحسُّها في مسار الحدث وإن لم يعترف بها إلَّا في النهاية، وما نلمحه أيضًا من مشاعر إنسانية لدى بابتيستا، والد الفتاتَين، وهو ما يضيف أبعادًا كوميدية «عالية» أو «رفيعة» بتعبير سيلفان بارنيت (Barnet) إلى مسرحية تنتمي في صلبها إلى نوع الهزلية الساخرة، وسوف يزداد وضوح هذا عندما أتطرق في هذه المقدمة إلى البناء والنسيج والأسلوب، ولكن «المصادر» التي أشرت إليها إشاراتٍ عابرةً في سياق هذا التحليل تتطلب وقفةً خاصة.

(٤) المصادر

سبق لي أن أشرت في مقدمة سابقة إلى العوار المنهجي الذي يشوب نظرتنا إلى ما نسميه «المصادر» (انظر مقدمة «دقة بدقة»، القاهرة ٢٠١٣م، ص٢٨-٢٩)، فاقتفاء «مصدر» فكرة أو صورة فيما يشبهها أو ما يوحي بها في عمل أدبي سابق يوحي بأن العمل الحالي قد تأثر بها، أو استعارها، أو أعاد تشكيلها، بحيث نحرمه أصالة الابتكار وننسب الفضل كله أو معظمه للمصدر، والأخطر من ذلك أن نتصور أننا لن نفهم العمل الأدبي الحالي حقَّ الفهم إلا بالرجوع إلى المصدر، وهذا خطل أيُّ خطلٍ في الرأي.

ومن الأخطار المترتبة على هذا الخطأ أن يتصور الدارس أن المصادر لا بدَّ أن تكون أعمالًا أدبية أو نصوصًا مكتوبة يمكن الرجوع إليها للبحث عن مَنشأ صورة أو فكرة، خصوصًا حين تكون هذه الأعمال قريبة الصلة (ولو ظاهريًّا وحسب) بالعمل الأدبي الذي نحن بصدده. فإذا تكاثرت هذه الأعمال أو النصوص أمامنا، فسوف نجهد أذهاننا في الفصل في العمل الذي نرجِّح أن يكون «مصدر» العمل الأدبي الحالي، فما أكثر الحكايات الأدبية والفولكلورية التي تتناول ترويض زوج لزوجة ناشز، كما يقول بريان موريس، مضيفًا:

إن شيكسبير قد اختار هذا الموضوع لملهاته أساسًا لأنه كان، على وجه الدقة، موضوعًا شعبيًّا محببًا إلى القلوب، وكان مرجع شعبيته وحب الناس أنه ذو جاذبية دائمة لنوازع العدوان والتنافس والتعصب عند الرجال والنساء، فهو يمثل مرآة لصورة الحياة المنزلية، وهو العمل الذي يمكنه زعزعة اطمئنان أفراد الجمهور، إذا أُجيدَ تقديمه على المسرح، وأمَّا المصادر الحقيقية لمسرحية ترويض الشرسة فمنشؤها خبرة شيكسبير الشخصية في مقاطعة «وريكشير»، وخبرته بمنازل البلدة في لندن التي أصبحت مدينةً تجارية، وبالحانات والشوارع، وبشتَّى أنواع النساء وأحوالهن، وضروب توقعاتهن، وأشكال إحباطهن، وانتصاراتهن وهزائمهن. (ص٦٩).

فإذا ترجمنا ما يقوله إلى لغة عصرنا التي تغيرت في السنوات التي انقضت منذ كتابته هذا الكلام عام ١٩٨٢م، قلنا إنه يرى أن المقصود بالمصادر ما نعنيه اليوم بالثقافة السائدة في العصر الذي كُتبت فيه المسرحية؛ ما مدى ارتباطها بخطاب النخبة وخطاب العامة آنذاك، وما مدى علاقتها بالعادات الاجتماعية وأساليب الرؤية والكلام في مطلع الحقبة الحديثة؟ كيف تشكلت قصة ترويض الشرسة من خلال ثقافة ذلك العصر؟ إن إجابة هذا السؤال كفيلة بإطلاعنا على أسباب نجاح المسرحية في عيون مشاهديها الأوائل (وقرائها الأوائل)، وعوامل نجاحها أو فشلها مع جماهير اليوم من مُشاهدين وقُراء، اهتداءً بما تكشفه لنا الدراسات الحديثة عن تاريخ المرأة وأوضاعها في تلك الفترة، وطرائق معالجة المسرحية لقصة الترويض في إطار خبرات المرأة الواقعية في تلك السنوات التي اتسمت بالتحولات المعروفة التي كُتِب عليها أن تظلَّ خلافيةً حتى عصرنا الحديث.

فصورة «المرأة الشرسة»، كما سبق أن ذكرت، تشغل مكانًا رئيسيًّا في تراثٍ هائلٍ من حكايات الترويض الصاخبة التي تتضمن الأمثال السائرة، والفكاهات، والحكايات الشعرية (البالادات) والأدب الشعبي الشفاهي، والمسرحيات بطبيعة الحال، ومن بين الأمثال التي كانت تُستعمل «لإغاظة» الرجال مثلٌ يقول «كل رجل يستطيع أن يتحكم في المرأة الشرسة، إلا زوجها.» وتقول الباحثة لندا بوس (Boose) (١٩٩٤م) إن «شيطنة» المرأة الشرسة كانت تُعتبر «العقبة الرئيسية التي تحدِّد شروط الثقافة القائمة لاختبار مدى قدرة الرجل على السيطرة، لا على النساء فقط بل على الرجال أيضًا» (ص٢١٤). فالمكان الرئيسي الذي تشغله هذه الصورة فيما ذكرته من مادة شعبية وأدبية تفترض بلا استثناء نظامًا منزليًّا يرأس الرجلُ فيه المرأة، وهو النظام الذي تقلبه الشرسة رأسًا على عقب، ثم يتولى المروض تصحيح الوضع، وتضيف فرانسيس دولان (Dolan) (١٩٩٩م) التي تضرب أمثلةً كثيرةً على ذلك من الثقافة السائدة، إن هذا التصحيح كان يستند إلى «معيار مزدوج»، وتقصد أنه كان يقوم على معيارين لا على معيارٍ واحد، بمعنى أن التقاليد تقول إن المرأة الشرسة تتسبب في العنف المنزلي، ومن ثمَّ تفترض هذه التقاليد نفسها أن سلوكها يبرِّر لجوء زوجها إلى العنف لإثبات هيمنته (ص٢٠٦-٢٠٧)، وقد أصدر أنطوني فلتشر (Fletcher) في العام نفسه كتابًا شاملًا يتضمن نماذج من عنف الزوجة وعنف الزوج، ويتفق في حُجته مع ما تقوله دولان في دراستها الطويلة.
وفي إطار ما أسميته «الثقافة» تبرز حكاية شعرية (بالاد) بالغة الطول، طبعت عام ١٥٥٠م ولم أجد لها طبعةً حديثة، وعنوانها «هنا تبدأ فكاهة مرحة عن زوجة شرسة ناشز، لَفَّها زوجُها في جلد حصانه موريل، لتحسين سلوكها»، والأصل هو:
(Here Begynneth a Merry Jest of a Shrewd and Curst Wife Lapped in Morel’s Skin, for her Good Behaviour)
وقد نشر ريتشارد هوزلي (Hosley) دراسةً ذائعةً عام ١٩٦٤م يقول فيها إن هذه «البالاد» المرحة تمثل المصدر الأول للمسرحية، وإنه بذلك يستدرك ما فات بولو (Bullough) في كتابه عن مصادر شيكسبير، غير أنه لم يكُن يميز بين الأعمال الأدبية التي تعتبر مصادر لغيرها (sources) وبين الأعمال الأدبية التي تشبه غيرها (analogues)، وإن لم تؤثر فيها، إذ يرى فيها «جذور» مادة المسرحية، والمحدثون لا يرون ذلك، وأظن أن تلخيص الحكاية الشعرية سيساعد القارئ على الحكم بنفسه، وأنا أعتمد في تلخيصي على تلخيص غيري، إذ يرِد ذِكر «البالاد» في جميع الطبعات. فأمَّا الحكاية فتقصُّ قصة رجل تزوج امرأة شرسة، وتقصُّ كيف أنجب منها بنتين؛ الأولى (الكبرى) شرسة مثل أمِّها، والصغرى وديعة ولطيفة، وهي القريبة من قلب والدها. ويتقدم خُطَّاب كثيرون للصغرى، فتتزوج أحدهم، ثم يختفي الزوجان من الحكاية. وأمَّا الكبرى فيتقدم لها خاطبٌ واحد، ويحاول أبوها أن يثنيه عن عزمه، ولكن الفتاة تشرح له بالتفصيل موقفها، وتأذن والدتها له بأن يزوِّجها، فيقبل ويقيم حفل زفاف عادي تتلوه وليمة فرح رائعة، ثم يرحل العروسان.

وتصف «البالاد»، ليلة الزفاف وصفًا مسهبًا، وتقدِّم بعض تفاصيل تنمُّ على العنف.

ثم لا تلبث الزوجة أن تسيء معاملة الخدَم، وعندما يعاتبها زوجها تسبُّه وتشتمه، ثم تنقضُّ عليه وتضربه في سورة غضبها، فيضطر إلى الخروج من المنزل ويركب جواده وينطلق حتى يتيح لها الوقت اللازم لاستعادة هدوئها. وعندما يعود تزجره وتنهره وترفض تقديم الطعام له. ومن ثَم يقتل حصانه العجوز الأعرج الأعمى موريل، ويأمر بسلخه وتجفيف جلده بالملح، ثم يرغمها على دخول قبوٍ في المنزل ويضربها ضربًا مُبَرِّحًا بالعصا حتى تنزف جروحها وتفقد الوعي، فيلف جسدها العاري في الجلد المملَّح، فتفيق ويهدِّدها بأن يبقيها هكذا طول عمرها، فتشعر بالانهيار وتَعِده بأن تصبح وديعةً ومطيعة. وهنا يقيم الزوج مأدبةً كبرى احتفالًا بهذا التحول، مؤكدًا أن زوجته أصبحت على ما يُرام، وتقوم الزوجة أثناء المأدبة بواجبات ربة المنزل المضيفة المهذَّبة، وهو ما يُدهش والديها، وتنفرد بها أمُّها في المطبخ لتلومها على هذا السلوك غير المعتاد فتقول لها ابنتها لو أنك وُضعتِ في جلد الحصان موريل لتعلَّمتِ الخضوع والطاعة. وتختتم البالاد الطويلة (أكثر من ١١٠٠ سطر) بخاتمة تقول:
مَن يَعرف أسلوبًا أفضل يكفُل ترويض قَرِينته النمِرَة
فليأتِ إليَّ يجدْ صُرَّةَ ذهبٍ حاضرةً وجُنيهاتٍ عَشْرَة.

ويقول هوزلي إن هذه الخاتمة تشبه خاتمة حديث بتروشيو، وهي التي تقول «إن يكُن فيكم فتًى يعرف نهجًا أفضل … فيه ترويض الشراسة /  فلْيُحطنا الآن به … ذاك إحسانٌ وخيرٌ وكياسة» (٤  /  ١  /  ١٩٩-٢٠٠). ولكن المحدثين لا يرون ما يقول به من تأثر شيكسبير بها، فالجميع يقطعون بفجاجة «البالاد»، وافتقارها إلى التعقيد الناجم في ترويض الشرسة عن علاقة الحب التي تربط كيت ببتروشيو، على الرغم من الألاعيب الهزلية التي تكاد تُخفي هذه العلاقة، وتقول دولان (١٩٩٩م) إن البالاد تصوِّر بإيجازٍ سيطرة المرأة على الرجل ومحاولة الإبقاء على هذه السيطرة في الجيل التالي، أيْ إن الأمَّ التي تهيمن على الأب تحاول أن تجعل ابنتها الكبرى صورةً منها، ولكنها باستثناء ذلك تؤازر موقف الرجل، وتؤكد حقَّ الزوج في الهيمنة، في سلَّم المراتب الاجتماعية القائمة آنذاك، وتوحي بأن العنف «مزية ذكورية تغتصبها النساء الشرسات»، وعندما تصرُّ هذه الناشزات على ارتداء ملابس الرجال فإنهن يمسكن بالعصا أيضًا (ص٢٠٧). وعلى أيَّة حالٍ فالتناقض واضح بين ضرب الزوجة ولفِّ جسمها في جلد الحصان وبين أسلوب بتروشيو في الترويض بالحرمان من الطعام والنوم والملابس الجديدة، فإنه يبدو بالقياس إلى هذه البشاعة مثل مَن «يقتل زوجته بالمبالغة في تدليلها» (هودجدون ٢٠١٠م). وإن كان لا «يقتلها» هنا، بل «يروضها» وحسب كما يقول في حديثه المنفرد في آخر المشهد الأول من الفصل الرابع.

وتقول أنَّا برايسون (Bryson) في كتابها المهمِّ الذي تناقش فيه أنماط السلوك في مطلع الحقبة الحديثة، وكيف تغيرت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر (١٦٩٨م). إن علينا أن نميز بين صور ترويض الشرسات (وهي صورٌ يُفترض أن تكون فكاهية) وبين تاريخ العنف المنزلي المعقد في بواكير العصر الحديث؛ إذ لم يكُن القانون يمنع ضرب الزوجة، ولكن المجتمع كان يزداد تشكُّكه في صحة ذلك ويزداد رصدًا لأحداث ذلك العنف، فكُتُب السلوك الحميد والمواعظ الدينية كانت تنصح بالابتعاد عن العنف، في «إدارة المنزل الصالح»، وتضرب برايسون مثالًا من كتاب صدر عام ١٦٢٣م بقلم وليم هويتلي (Whately) بعنوان «شجرة العروس: أو إرشاد للمتزوجين» على الرغم من وجود مَن يدافعون عن الضرب قائلين إن «اللكمات نفسها» إذا استفزت الزوجة زوجها فاستحقت العقاب «قد تصبح موازيةً لأرق مظاهر الحنان الزوجي»، فإن الناس كانوا يزدادون نفورًا من مثل هذا السلوك ويرونه مناقضًا للمُثُل العليا للزواج؛ وهي المودة والتراحم.
ولكن التراث الفولكلوري الشفاهي يتضمن حكاياتٍ عن ترويض الزوجات تقوم على حبكات شديدة الشبه بحبكة ترويض الشرسة، وقد أثمرت «الدراسات الفولكلورية»، وهي التي نعرفها في مصر باسم دراسة الآداب والفنون الشعبية، نتائجَ باهرةً عن الأنماط الشعبية لفكرة ترويض الزوجات، المكتوبة والشفاهية، بعد تحليلها وتصنيفها وفقًا للخيوط الرئيسية، أو «الثيمات» أو «الموتيفات» في كل حكاية. وهكذا قام باحث معاصر، هو يان هارولد برونفاند (Brunvand) بإعداد رسالته للدكتوراه عن «ترويض الشرسة: دراسة مقارنة للصور الشفاهية والأدبية» عام ١٩٦١م (ونشرها بالعنوان نفسه عام ١٩٩١م) استنادًا إلى المرجع الشامل في الموضوع، وعنوانه أنماط الحكاية الشعبية: تصنيف وببليوغرافيا، من تأليف أنتي آرني (Aarne) ومن ترجمة ستيف طومسون (Thompson) إذ وجد الباحث في ذلك المرجع الشامل نمطًا يماثل حبكة المسرحية ويُشار إليه في المرجع الشامل بأنه «النمط ٩٠١» فقط. ونظرًا لتعذر اطِّلاعي على أيٍّ من هذين المرجعين فقد اعتمدت على دراسةٍ نشرها الباحث المذكور عام ١٩٦٦م في مجلة شيكسبير الفصلية بعنوان «الأصل الفولكلوري لترويض الشرسة»، وهي دراسة وافية مفصلة تتضمن تلخيصًا لما انتهى إليه في بحثه من نتائج، وسوف أعرضها بإيجاز.
يستعرض برونفاند في البداية ٣٥ صورة من الصور الأدبية لهذه الحكاية، و٣٨٣ صورة شفاهية لها، مؤكدًا أن هيكلها الأساسي ذو جذورٍ في العصور الوسطى، في نحو ثلاثين بلدًا أو كيانًا قوميًّا، ثم يذكر ما يسميه «مُركَّباتٍ مُوتيفيَّة» (motif-complexes) أمَّا «الموتيفة» (التي أُعرِّبُها مضطرًّا) فتعني العنصر الأساسي الذي يدور حوله العمل الأدبي أو الموسيقي، والكلمة تشترك اشتقاقًا مع كلمة motive التي تعني الدافع أو «المحرك»، أيْ إن الموتيفة قد تكون فكرة «تحرك» العمل، وقد تكون صورة أو علاقة أو موقفًا، وإذا كان العمل كبيرًا فقد يؤدي تكرار الموتيفة إلى ترابطه داخليًّا، وهو يشترك في هذا الجانب مع مصطلح الثيمة theme المستعار أصلًا من الموسيقى، وهكذا فإن تكررت هذه الموتيفة أصبحت موتيفة رئيسية (leitmotif أو leitmotiv)، وأصبح معناها أقرب ما يكون إلى اللحن الأساسي. وإيضاحًا لهذا أضرب أمثلةً من الأدب العربي، فقصيدة المتنبي المشهورة «ملومكما يجل عن المُلامِ» تُستَهلُّ بموتيفة الفخر التقليدية، ولكن الموتيفة الرئيسية فيها إحساس الشاعر بالعزلة والغربة، وفي إطارها نجد موتيفة الشكوى التي تشتبك مع موتيفة الفخر، وهلمَّ جرًّا. والمقصود بالمركَّبات الموتيفية إذَن مجموعات متداخلة من الموتيفات، إلى جانب «عناصر سردية تتبادلها الصور الأدبية والشفاهية للحكاية الأساسية بلا نظام محدد»، والباحث يرصد الملامح التالية في الحكايات المُشار إليها، ما دامت تشترك فيها جميعًا، وأنا أضع بين قوسين بعد كلٍّ منها المكان الذي يمكن التعرف فيه عليها في ترويض الشرسة:
  • يتخذ الترويض صورة مسرحية داخل المسرحية أو قصة داخل قصة (المدخل ١-٢).

  • الشرسة في العادة كبرى أختين (١  /  ١) وتُوصف بأنها شيطانة.

  • والدها غني ويحذِّر مَن يطلب يدها من شراستها، ويعرض بائنةً هائلة (١  /  ٢، ٢  /  ١).

  • يزعم الخاطب أنه يستطيع ترويض الشرسة ويُراهن على ذلك. (١  /  ٢، ٢  /  ١، ٥  /  ٢).

  • في يوم الزفاف يصل العريس متأخرًا، مرتديًا ثيابًا لا تليق، راكبًا حصانًا هرمًا ضعيفًا، وفي يده أنثى صقر مدربة، ويتصرف بغلظة ويرفض البقاء بعد عقد القران بل يرحل فورًا مع عروسه، عائدًا إلى منزله، وراكبًا مع زوجته حصانًا واحدًا، أو يركب هو وتمشي عروسه. (٣  /  ٢، ٤  /  ١).

  • يحدث الترويض إما في منزل الزوجين أو أثناء رحلة لزيارة والدي الزوجة. ويقوم الزوج بضرب الخدَم و / أو معاقبة كلبه على خطأ مرتكب، باعتبار ذلك تحذيرًا لزوجته (٤  /  ١).

  • توجد مدرسة يتعلم الأزواج فيها ترويض الشرسات. (٤  /  ٢  /  ٥٥).

  • تتضمن أساليب الترويض حرمان الزوجة من الطعام، وإرغامها على الموافقة على أقوال الزوج السخيفة، ونجد في عدَّة حكايات إشارة الزوج إلى الشمس باعتبارها القمر، وإلى أحد الرجال باعتباره امرأة (٤  /  ٣، ٤  /  ٥).

  • يقع اختبار طاعة الزوجة بعد حفل عشاء في منزل والدها، وأثناء الاختبار تستعرض الزوجة بعض الملابس الجديدة، ويكافئها أبوها بمبلغٍ ماليٍّ ضخم. (٤  /  ٣، ٥  /  ٢).

  • تحضر الزوجة على الفور عندما تُستدعى، وتبدي التأدب مع الجميع، وتلقي بقبعتها على الأرض وتدوسها، وتخلع حذاء زوجها لتنظيفه، وتضع يدها تحت قدمه، وتأتي بزوجاتٍ أخرياتٍ لإرشادهن، وتُقبِّل زوجها (٥  /  ٢).

  • يعترف الآخرون بأن زوج الشرسة قد انتصر (٥  /  ٢).

ويقول أوليفر إننا نفتقر إلى براهين قاطعة تؤكد أن شيكسبير قد استقى نموذجه الأول من التراث الشفاهي، ولكن اكتشاف الصور المتفاوتة لهذه الحكاية في شتَّى بلدان شمال أوروبا وبريطانيا يوحي بأن جمهور ذلك العصر كان على استعدادٍ للاستمتاع «بمشاهد» الترويض، إذ كان يجد فيها ما يتوقع من تسليةٍ في أيَّة هزلية.

وتبين هودجدون (٢٠١٠م، ص٤٥) كيف تختلف ترويض الشرسة عن هذه المصادر المفترضة من عدَّة زوايا، وسبق لي أن أشرت إلى أن نصِّ شيكسبير، على ما فيه من سباب، يكاد يخلو من العنف، إذ إن بتروشيو منذ البداية يبني «ترويضه» على أساس «الحب»، مهما تكُن الصور الهزلية التي يعبِّر بها عن هذا الحب، وعندما تضربه كيت في مشهد «التطارح اللفظي / الغرامي» تقول إنها تختبر شهامته، فالشهم لا يضرب امرأة! وأقصى ما يبديه بتروشيو من عنف هو «قرص أذن» خادمه جروميو، وقيام جروميو بعد ذلك بلطم كيرتيس على أذنه، فهذه من «لوازم» الهزلية التقليدية.

وما دمنا تطرقنا إلى الثقافة التي تمثل الخلفية الحقيقية للمسرحية، فلا بدَّ أن نشير إلى بدايات التغيير في النظرة إلى العلاقة الزوجية في مجتمع تلك الفترة، فلا شكَّ أن أمثال هذه الحكايات الشعبية كانت تدعو المرأة إلى تفادي التمرد ومحاولة التوافق مع الأعراف الاجتماعية، ولو أدَّى ذلك إلى الخضوع للرجل، كما تقول جوي ويلتنبرج (Wiltenburg) (١٩٩٢م)، فإن بعض هذه الحكايات كان ينتهي بأن يَعِد الزوج زوجته بأن يعاملها بمثل ما تعامله به، أيْ بأن يقدِّم الخيار في أن تتلطف معه أو تتعسف، وربما كان ذلك، يرجع أيضًا إلى قانون معاقبة العنف المنزلي الذي أدَّت المطارحات الفكرية إلى وضعه، إذ صدر في تلك الفترة قانون يقضي بمعاقبة الرجل أو المرأة على إثارة الشقاق المؤدِّي إلى استخدام العنف في المنزل، فكان الرجال يتعرضون للتجريس والحبس علنًا في حبَّاسة خشبية مثل النساء، وتقول مارجريت هنت (Hunt) في دراسة مفصلة لها (١٩٩٢م) إن أمثال هذا التجريس للرجال والنساء كان عادةً ما ينتهي باحتفال بعد أن يقسم الرجل ألَّا يعود إلى ضرب زوجته أو تقسم المرأة ألَّا تعود إلى مناوأة زوجها، وكان الناس يجتمعون للاحتفال بتوبة الرجل أو توبة المرأة، بعد الطواف بالتائب حول المدينة في مشهدٍ شبه مسرحي، يصفه مارتن إنجرام (Ingram) (١٩٩٤م) بالتفصيل مبررًا سبب الاحتفال بأنه يفسر عودة الصفاء إلى الأُسرة، اللبنة الأولى للمجتمع، واعتبار التناغم النموذج الحق للعلاقات الزوجية ومن ثَم العلاقات الاجتماعية.
وبعد انهماكي في هذه الدراسات (ومعظمها منشور في مجلات علمية أو فصولًا في كتب) وجدت أن آفة البحث في هذه المسرحية منذ البداية تكاد تنحصر في التبسيط والتعميم، فنحن ننظر إلى العلاقة بين الجنسين آنذاك بعيوننا المعاصرة التي ترفض النظام الأبوي (أي المجتمع الذي يسوده الرجال) برمَّته من ناحية المبدأ، ونتمنى في أعراقنا مجتمعًا لا يسوده أحد الجنسين، بل يشاركان فيه على قدم المساواة في السلطة. وأنا أؤكد كلمة نتمنى لأن ذلك لا يزال في حدود الأماني، والأمنية أقلُّ من الأمل، والأمل أقلُّ من الرجاء، فالواقع أن المجتمع الذكوري آنذاك — بغض النظر عن ضرورته التاريخية لأممٍ في طور تشكيل هُويَّتها القائمة على الحروب التي تتطلب القوة الجسدية — لم يكُن متجانسًا أو موحَّدًا في الإيمان ﺑ «ضرورة» سلطة الرجل، فلقد برزت في تلك الأيام الآراء المستندة إلى الواقع الذي يؤكد نجاح المرأة في التوافق معه «بأسلوبٍ يتيح لها قدْرًا معيَّنًا من الاستقلال، ومساحةً ما تفتأ تتسع للممارسة الاجتماعية، ودرجةً محدودةً من السلطة» كما يقول برنارد كاب (Capp) (٢٠٠٣م، ص٢٥). وكانت الحكايات الشعبية تتلون باستمرار من عصرٍ لعصر، وهو ما كان يتجلى في تطور النظرة في الأعمال الأدبية إلى العلاقة بين الجنسين، وما «النمط ٩٠١» في تصنيف آرني-طومسون إلا نمطٌ واحدٌ من بين مئات، وهو نمط يستخدمه شيكسبير بأن يحوِّله إلى هزلية تقوم على التوريات الساخرة، أيْ إنها تتيح لنا أن نصدِّق ما نريد ونكذِّب ما نريد، وتقول هودجدون إن قلب الأوضاع هو اللعبة التي تجعلنا نضحك من العنف المنزلي، «وهذه من التقاليد التي لا تزال تحيا في الهزليات، وفي مسرح العرائس، وفي كوميديات الموقف (سيتكوم) في الأفلام والتليفزيون، حيث نرى أن المرأة المسيطرة، مهما تسُؤ معاملتها، دائمًا ما تتمتع بقدرة هائلة على استعادة هيمنتها» (٢٠١٠م، ص٤٨). وكانت هودجدون قد ذكرت في دراسة سابقة لها أن هذه اللعبة الهزلية ذات خطورة لا يُستهان بها، إذ يصعب على المُشاهد أو القارئ أن يفصل فصلًا حاسمًا بين الهزل والجدِّ في أمور تتعلق بواقعه الحالي، أو الواقع الذي يصوره المؤلِّف (١٩٩٢م، ص٢٤-٢٥).

ومصدر الخطورة، كما هو واضح، هو إيلاء أهمية أكبر مما ينبغي لما يُقال إنه «المصدر»، حتى وإن كان الثقافة السائدة، فالكاتب يكتب في إطارها، ولكنه لا يقصد التعبير عنها وإعلاء شأنها حتى حين يبدو لنا ذلك، بل إنه قد يشكِّك فيها حين يعبِّر عن بعض مظاهرها تعبيرًا مبالغًا فيه أو تعبيرًا «كاريكاتوريًّا»، والقارئ أو مُشاهد المسرح يدرك ذلك لأنه يحيط إحاطةً تامَّةً بها إن لم نقُل إنه «يمثلها»، فالقارئ لا يشك في أن أدريانا (في كوميديا الأخطاء لشيكسبير) تريد أن تتعلق بزوجها، فتصوره في صورة شجرة دردار، وتصور نفسها في صورة كرمة أعناب متسلقة تتعلق فروعها بجذوع الدوحة، وهي صورة مبتكرة مستوحاة من النباتات المتسلقة التي «تعانق» فروعها جذع الشجرة الضخمة قائلة:

أقبِلْ فإنَّني أودُّ ربْطَ كُمِّ سُتْرتي بسُتْرتكْ،
فأنتَ دَوْحَةُ الدردار يا زوجي ولستُ غير كَرْمتِكْ.
وإنَّني اقترنت في ضعفي بنفحةٍ من قوَّتِكْ
حتى غدوتُ أستمدُّ بأسًا من شديدِ همَّتِكْ.
(٢ /  ٢  / ١٧٣–١٧٦، طبعة آردن ١٩٦٣م)

وترجع عبقرية شيكسبير في جانب منها إلى قدرته على تغيير النغمة من مشهدٍ إلى مشهدٍ في إطار النطاق الدلالي الذي يختاره وتساعده تقاليد الهزلية على إظهاره، ولذلك فمهما يكُن مقدار ما استعاره أو استفاده (على الأقل) من المصادر المذكورة، فإنه يُطوِّعها للنطاق الدلالي الذي اختاره وبذلك يتيح للقارئ أو مُشاهد المسرح أن يصدِّق أو يكذِّب ما يسمع، ولم يُشر أحدٌ من النقاد إلى وجود «أصل» للصورة المحدَّدة التي يرسمها شيكسبير لبطله بتروشيو، ولم يعُد أحدٌ من المُخرجين يجعله يدخل المسرح ممسكًا بسوطٍ مستعدًّا لتأديب الناشز!

وقد أشرت من قبل إلى اختلافي مع أوليفر في تفسير حديث بتروشيو الذي يعلن فيه أنه قهَّار جبار، (١ /  ٢ /  ١٩٧–٢٠٩)، فالباحث أوليفر من أنصار برادلي، إذ يرسم للبطل صورةً يجمع أجزاءها من شذرات الأقوال والأفعال ويستكملها بخياله معربًا عن تصديقه لكل ما يقوله بتروشيو هنا، على الرغم من تناقض ذلك مع النطاق الدلالي الساخر في المهزلة، وإذا حاكينا أوليفر حِرْنا في تحديد الصورة التي يرسمها شيكسبير له، فهو يقول أولًا إنه جاءت به الريح التي تدفع الشبَّان إلى الانطلاق في الدنيا لتوسيع معارفهم «ما في المُقامِ بموطنٍ إلا قليلُ الخبرةِ» (بعد أن قال إنه جاء إلى بادوا من فيرونا للقاء أصحابه)، ويردف ذلك قائلًا «فربما سعدت بالزواج وازدهار حالي، خرجت من دياري كي أرى الدنيا» (١ / ٢ /  ١–٥٧). أيْ إنه، إذا صدَّقناه، شابٌّ يفتقر إلى الخبرة، وقد خرج من بيت أبيه الريفي بعد أن ظفر بميراث هائل يبتغي «أن يرى الدنيا» ويكتسب معارف جديدة ويتزوج. وإذا صدَّقنا ذلك فكيف نصدِّق قوله إنه لم يأتِ إلَّا ليتزوج كاترينا؟ (وهل جئتُ إلا كي أفوزَ بوصلها؟) (١٩٧) فإن قِيل إنه يبالغ هنا مبالغةً «معقولة»، فكيف نصدِّق ما يزعمه في حديثه المُشار إليه من أنه مقاتل صنديد، اعتاد سماع زئير الأسود (أين؟) وقصف المدافع في حومة الوغى، ومجالدة أمواج البحر الطامي، وما إلى ذلك بسبيل؟ فإن صدَّقناه فكيف نوفق بين هذا وبين صورة صاحب الأملاك الريفي، أو التاجر الذي لديه «أشغال» لا تقبل التأخير، أو الإقطاعي صاحب القصر الذي يعمل فيه ثلاثة عشر خادمًا؟

إننا نقبل هذا كله لأن منطق الهزلية قادر على التوفيق بين المتناقضات، فهو لا يُظهر أصلًا أنها متناقضات، لأن سرعة الحدث تجرفنا ولا تتيح لنا الوقف اللازم لتصور بناء الشخصيات وفق منهج برادلي، ولذلك فمهما يكُن ما استفاده شيكسبير من «المصادر» المفترضة، فإنه يعدِّل شكل الهزلية التقليدي حتى يتيح له أن يتجاوز مادة المصادر، والسر يكمن بطبيعة الحال في البناء، وهو ما سوف أناقشه بعد أن أذكر الدَّيْن الذي يَدين به شيكسبير لمسرحية المزاعم (Supposes) التي أشرت إليها آنفًا.
أول ما نلاحظ على هذه المسرحية، التي يقول مؤلِّفها أريوسطو إن عنوانها يعني ضروب التنكر، أنها مكتوبة نثرًا، وقد ترجمها جاسكونيي نثرًا أيضًا، وإن كان أريوسطو قد أعاد كتابتها نظمًا فيما بعد، ويقول النقاد إنها تعتبر أول مسرحية إنجليزية منثورة، إذ سبق المترجمُ المؤلِّف جون ليلي (Lyly) بنحو عشرين عامًا في هذا الصدد. وأحداث المسرحية تشبه الحبكة الفرعية الخاصة بالفتاة الصغرى بيانكا وخطابها. فنحن نعرف أن شابًّا يُدعى إريستوراتو (لوسنتو عند شيكسبير) أحبَّ فتاةً تُدعى بولينستا (بيانكا) وتنكَّر في شخصية خادم يُدعى دوليبو حتى يستطيع الاتصال بها في منزل والدها دامون (بابتيستا) وأمَّا خادمه الحقيقي دوليبو فيتنكر في دور سيده إريستوراتو، (ودوليبو يوازي ترانيو عند شيكسبير)، ويتظاهر الخادم المتنكر بأنه يريد أن يخطب الفتاة، حتى يصدَّ عن بابها خاطبًا هرمًا يُدعى كليندر (جريميو). ويشترك الاثنان في «المزاد» الخاص بمَهر الفتاة، الأمر الذي يدفع الخادم المتنكر إلى طلب مَن يمكن أن يقوم بدور والده، وسرعان ما يعثر على أحد الغرباء المسافرين، ويقنعه بأن يتنكر في شخصية والد إريستوراتو.

ويتأزم الموقف في المزاعم عند اكتشاف حمل بولينستا، ولا يأخذ شيكسبير بهذا لأنه يريد لبطلته أن تكون العذراء التقليدية في كوميديا الحب الرومانسية، ويُعاقَب دوليبو بإلقائه في السجن، وهو ما يرفضه شيكسبير بطبيعة الحال لأنه لا يتفق مع «النطاق الدلالي» لأحداث الهزلية، وبعد أن يصل الوالد الحقيقي للبطل ويُدعى فيليجانو (فنشنتو عند شيكسبير) تتكشف الحقائق وينتهي تنكُّر مَن تنكَّر، ويحلُّ الهناء.

ولكن المسرحية الإيطالية تتضمن مفاجأةً لم يجد لها شيكسبير مكانًا في هزليته، وهي أن جريميو يكتشف أن دوليبو ابنه الذي فقده في موقعة أوترانتو، ولم يأخذ شيكسبير بها، كما حذف شيكسبير شخصية الطفيلي الذي كانت الكوميديات الكلاسيكية تتضمنه، وأضاف إلى الحبكة شخصية خاطب ثالث للفتاة الصغرى يُدعى هورتنسو، الذي يتنكر أيضًا في دور معلِّم الموسيقى، بل وأضاف تودُّد لوسنتو إلى بيانكا أثناء التظاهر بتعليمها اللاتينية، أيْ إن شيكسبير لم يكتفِ بأشكال التنكر في المسرحية الإيطالية، بل أضاف إليها ما يتفق وهزليته.

ولن نتجاوز الصواب إن قلنا إن شيكسبير لم يستعرْ من المزاعم إلا خط الحبكة فقط، وهو خط التنكر، فلا يوجد أدنى شبهٍ بين شخصيات ذلك النصِّ «المصدر» وشخصيات شيكسبير، وإذا كان لي أن أصدر حكمًا عامًّا قلت إن تغيير النوع (genre) وفق تعريف هايلمان له (والمذكور آنفًا) جعل شيكسبير يغير من أوصاف الشخصيات وألفاظهم بما يتفق مع النطاق الدلالي للهزلية، أيْ إنه غير النسيج فتغير البناء معه، كما سوف أشرح لاحقًا.

وأمَّا ما يُشار إليه أحيانًا بتعبير الأيديولوجيا عند مناقشة الثقافة، فمن الواضح أنها كانت تقوم على أُسُس التعاليم الدينية، وخصوصًا كتاب الصلوات العامة (١٥٥٩م) الذي يسجل الترانيم والصلوات والابتهالات الأنجليكانية. إذ نجد فيه تصورًا ماديًّا للزواج يقوم على الطاعة، إذ يأمر الزوجة قائلًا «عليك أن تطيعي زوجك وأن تخدميه، وأن تحبيه وتشرفيه وترعيه» (ص٢٩٢). ويشير إلى «الارتباط الوثيق بينهما» (ص٢٩٦) الذي يستلهم القول بأن الرجل والمرأة كانا أصلًا جسدًا واحدًا، وهو ما يعني ضمنًا أن القسم الذي يقسمانه في حفل عَقد القِران يعني أنهما أصبحا (مرة أخرى) جسدًا واحدًا، ويتضمن الكتاب المذكور النص، على أن تُقرأ على الزوجين، بعد نصوص الكتاب المقدس، موعظة خاصة أمر بقراءتها الملك إدوارد السادس في نحو منتصف القرن السادس عشر، أو أن يستبدل بها موعظة يلقيها الكاهن حول واجب الأزواج نحو زوجاتهم، وواجب الزوجات نحو أزواجهن، والطريف أن كتاب الصلوات العامة يؤيد موقف بتروشيو الداعي إلى التواضع في الملبس والبُعد عن الزينة الباهرة وتصفيف الشَّعر الفتَّان أو ارتداء الملابس المزركشة بالذهب (ص٢٩٨-٢٩٩).

وفي عام ١٩٩٢م نشرت جوان لارسن كلاين (Klein) كتابًا ضخمًا يتضمن بعض النصوص الخاصة بالعلاقات العائلية في تلك الحقبة، وأهمها في سياقنا الحالي موعظة بشأن الزواج، نقلتها المؤلفة من المجلد الكبير الذي يضم مواعظ كبار رجال الكنيسة الأنجليكانية، وهو الذي كان متاحًا في جميع الكنائس ويسهل الرجوع إليه. وتقول كلاين إن ارتياد الكنيسة كان إجباريًّا، وكانت الدولة تعاقب مَن يتخلف بالحبس أو بدفع غرامة مالية، وكان هذا يعني أن معظم أفراد الشعب الإنجليزي قد سمع الموعظة المذكورة، أو ما يوازيها على لسان الكاهن. وتقول دولان (١٩٩٦م) في طبعتها للمسرحية إن صورة الزواج التي ترسمها الموعظة كانت مثاليةً ولم يكُن يلتزم بها الجميع، فالموعظة تقول إن الزواج تنظيم مشرف ومريح، وتحذِّر من محاولة أيٍّ من الزوجين السيطرة على الآخر، وتنصح الأزواج بعدم ضرب زوجاتهم مع تأكيدها أن للزوجة التي تتعرض للإساءة «ثوابًا عظيمًا» عند الله إذا صبرت على ابتلائها ولم تتذمر.
وأهم ما في هذه الموعظة، بالنسبة «لقضية» المسرحية، أنها تستند إلى رسالة بطرس الأولى (٣) أساسًا في تحديد دور الزوج باعتباره «قائد العلاقة الزوجية القائمة على الحب وصاحبها»، إذ تنصح الزوج بأن يتسم بالإنصاف لا بالاستبداد بالرأي، فيخضع أحيانًا لإرادة المرأة، فمن «الأرجح أن تنجح الكلمات اللطيفة في إقناع ذوات الطبع الصالح بأداء واجبهن نجاحًا أكبر من الضرب بالعصا»، وأمَّا الواجب المُشار إليه فتحدده الموعظة على النحو التالي:

أيتها الزوجات، اخضَعْنَ وأطِعْنَ أزواجكُنَّ … لا بُدَّ لكُنَّ من إبداءِ الطاعةِ، والكفِّ عن إصدار الأوامرِ، والالتزامِ بالخضوع. إذْ إنَّ من شأنِ هذا أن يزيد التناغمُ والتوافقُ زيادةً كبيرة … أمَّا إذا حدث العكس، وأبدت الزوجات عنادًا، ونشوزًا، وسوء سلوك، فإن أزواجهنَّ يُضطرُّونَ إلى كراهيتهنَّ لهذا السبب، وإلى الفرار من بيوتهم. (مقتطف في كلاين ص٧٩.)

والواقع أن المسرحية تحرمنا من مشاهدة مراسم عَقد القِران، وتحرمنا، من ثَم، من سماع ما يلقيه الكاهن على أسماع الحاضرين من مواعظ، وهو ما لفتت هودجدون الأنظار إليه في دراسة ممتعة نشرتها عام ٢٠٠٧م، إذ تقول ما سوف ألخصه لأهميته عند تحديد موقف شيكسبير في المسرحية من هذه الموعظة وأضرابها. تقول الباحثة: على الرغم من أن الموعظة تمنح بتروشيو اليد العليا الأيديولوجية باعتباره الزوج، فإن المسرحية تكسر النظام الذي وضعته المواعظ بأن جعلت الكلمة أو الكلمات الأخيرة بالنسبة للنصوص الدينية للمرأة، بل إنها تتيح لها أن تقول ما يزيد عمَّا كان يمكن أن يقوله الكاهن في مراسم عَقد القِران. «ومثلما يستعيض الزفاف عن الطقوس الكنسية بجهد الترويض الذي قام به بتروشيو (مازجًا بينهما فيما يُعتبر إعادة كتابة جذرية)، فإن الموعظة لا تتأخر وحسب، بل تأتي في غير موضعها من زاويتين؛ الزاوية الأولى (وهي إعادة كتابة جذرية أيضًا) وجودها في ختام المسرحية (أيْ بعد عَقد القِران)، والزاوية الثانية هي أنها تأتي على لسان امرأة لا على لسان كاهن من الذكور، ولا يحدُث هذا في الكنيسة، بل في حفل زفاف بيانكا» (ص٧٥).

وقد عادت هودجدون إلى هذه القضية (٢٠١٠م، ص٥٤) إذ توحي بأن كلمات بتروشيو الأخيرة، التي تمثل استجابةً لغزو كاترينا دنيا الرجال، تؤكد أنه أصبح على مشارف الاعتراف بمبدأ المشاركة الزوجية الحديث، فإعجابه بموقف زوجته وصلابته يوحي بأنه قد حقق مرامه في الاقتران بزوجة قوية جديرة بما يراه في نفسه من التفوق. وتقول الباحثة إن خطاب كاترينا ينبغي ألا يقتصر على كونه خاتمة «للعبة» الترويض، بل إنه يفتح المجال لأسئلة كثيرة لم يُجب عنها شيكسبير، ولكنها تتصل بالقضية التي لا تزال حية (وحاولت أنا إيراد بعض النظرات الحديثة إليها في القسم الأول من هذه المقدمة).

(٥) البناء والنسيج

عندما تعرضت للبناء فيما سبق من أقسام المقدمة، كنت ألقي الضوء على جوانب معيَّنة مما تتميز به المسرحية عن غيرها، فناقشت «الميتامسرح» وكيف يساهم التنكر في خلق جو التمثيل بحيث يمثل الممثلون أدوارًا أخرى ويُطلِعُون الجمهور على ذلك في خطواتٍ متواليةٍ نشعر معها أن التنكر أصبح وسيلة لسؤال الهُويَّة وسؤال الذات، وهما من الأسئلة التي اكتسبت أهميةً كبيرةً في النظرية الأدبية الحديثة، مضافًا إلى ذلك ما يعنيه وعي الممثل بأنه يمثل، ووجود مسرحية إطارية نشاهد من خلالها المسرحية الرئيسية. كما سبق لي أن ناقشتُ البناء أيضًا من زاوية السرعة اللازمة للهزلية، ضاربًا أمثلة عليها من النص، وإن لم أتطرق في غضون ذلك إلى النسيج إلا بإشارات عابرة.

وأودُّ في هذا القسم أن ألقي الضوء على الدور الذي يلعبه النسيج في البناء وتأثير البناء أيضًا في النسيج، فالمسرحية تبدأ بمشهدين يعتبرهما المؤلِّف جزءًا من الفصل الأول، وفقًا للطبعة المعتمدة الأولى للمسرحية عام ١٦٢٣م (طبعة الفوليو)، وإن كان الباحثون الآن يقولون إنها كُتبت ما بين عامَي ١٥٨٩–١٥٩٢م، مرجحين التاريخ الأول. وبعد ذلك بقرن كامل قرر الشاعر ألكسندر بوب فصلهما عن المسرحية (في طبعته لأعمال شيكسبير عام ١٧٢٣–١٧٢٥م) كما ذكرت آنفًا، وأطلق عليهما اسم «المدخل» (Induction) استنادًا إلى أنهما يمثلان التمهيد للمسرحية الرئيسية، وإلى أن أبطالهما يختفون تمامًا بعد الفصل الأول. كيف يُبنى هذا المدخل إذَن وما نسيجه؟
ذكرت من قبل أن المدخل يقدِّم إطارًا مسرحيًّا لأحداث ترويض الشرسة، وهو إطار يوحي بالواقعية في نسيجه، وبأنه يحدُث الآن وفي إنجلترا نفسها، أيْ إن النسيج يربط الحدث بالأرض الصلبة التي نقف عليها، وباللحظة الحاضرة التي نعيشها، ولكن القضية التي يطرحها، أيْ قضية الذات والهويَّة، قضية لا ترتبط بزمان أو بمكان، فإن سؤالها يقول: هل يستطيع المرء أن يتخذ ذاتًا أخرى أو هويَّة أخرى إذا تغيرت أحواله المادية تغييرًا يكفل مثل هذا التحول؟ واللورد الذي يطرح هذا السؤال يتصور أن الردَّ عليه لا بدَّ أن يكون بالإيجاب، ويوافقه أعوانه على أنه إذا غيَّر الأحوال المادية للسمكري الفقير، كريستوفر سلاي، فلا بدَّ أن ينسى ذلك «الشحاذ» نفسه. وفكرة التحول فكرة معقدة، فالمرء قد يغير رأيه دون لأيٍ إذا تغيرت الظروف التي تقتضي ذلك، وقد تتغير مشاعره أيضًا، ولكن التحول الخاص بما أسميته «الشخصية»، بالمعنى العلمي، أمر آخر، وقد يتضمن عناصر أعمق وأخطر من مجرد الرأي أو الإحساس، وأيُّ تغيير في «الذات» يستغرق وقتًا طويلًا وأحداثًا جللًا، وأمَّا الذي نراه هنا فيتعلق بتغيير «الهوية»، وهو الذي قد يحدُث من خلال التنكر، من دون مساسٍ بثوابت الذات، ولذلك فقد يكون موريس (Morris) على حقٍّ في التمييز بين حالات تنكُّر لوسنتو وهورتنسو وترانيو باعتبارها تغييرات «بسيطة» في الهويَّة، وبين تنكُّر بتروشيو «لطبيعته الحقة» باصطناع «دور المروض» لنفسه، فما ذاك إلا دور مرسوم، وأداء تمثيلي لتحقيق غرض محدَّد (ص١١٤) وذلك ينطبق أيضًا على كاترينا، حسبما يقول موريس، مع أخذ اختلاف الظروف في كل حالة في اعتبارنا، إذ إنها «تتخلص من تنكُّرها في صورة فتاة شرسة، وهو الدور الذي فرضه عليها والدها الذي يهملها، وأختها الصغرى الماكرة، ومجتمعها غير المتعاطف» (ص١١٤). ولذلك ينتهي موريس إلى إقامة صلة «واضحة بين اتخاذ سلاي شخصيةً جديدةً وبين تحول كاترينا إلى زوجة مُحبة» (ص١١٥).

أقول قد يكون ذلك صحيحًا إذا اكتفينا بصورة تحول سلاي في «المدخل» وفي آخر الفصل الأول، حيث نترك السمكري في شبه اقتناع بوهم تحوله إلى لورد. ولكن المسرحية الأخرى ترويض امرأة شرسة المنشورة عام ١٥٩٤م والتي ناقشتها عاليه، تقدِّم لنا ما يشبه إجابةً مختلفةً عن سؤال تغيير الهويَّة (ناهيك بتغيير الذات)، إذ يقوم اللورد بإعادة السمكري إلى ما كانت عليه حاله، ماديًّا، ومن ثَم يعود له الوعي بحقيقته، فيتبين أن دور اللورد الذي تقمَّصه إبان عرض المسرحية كان وهمًا أو «حلمًا» كما يقول. ومع ذلك فإننا قد نجد الإجابة على السؤال المطروح بصورة غير مباشرة في نسيج مسرحية شيكسبير، فعلى الرغم من قول الصعلوك إنه يصدِّق أنه لورد وأنه كان غافلًا عن «حقيقته» لأنه قضى سنواتٍ طويلةً نائمًا ثم أفاق، فإن اللغة التي يستخدمها تبين لنا أنه لم يتغير قيد أُنمُلة في عناصر «الشخصية» (بالمعنى العلمي)، فهو شخص يعيش بغرائزه، ومشاعره تقتصر على عالم حواسه الجسدية، ويتضح لنا ذلك من خلال التضاد بين اللغة المنظومة التي يستخدمها اللورد وأتباعه، واللغة المنثورة التي يستخدمها الصعلوك. وعندما يبدأ العرض المسرحي، لا يستطيع الصعلوك متابعته بل يغلبه النعاس، وعندما يوقظه الخدَم يقول إنه يرجو أن ينتهي العرض حتى يضاجع «زوجته» (المزعومة) التي يقوم بدورها غلام اللورد.

إن سلاي ابن هذه الأرض، وواقعيته تأتي بنثرٍ لا يخلو من جمال، وقد اجتذب هذا الموقف عددًا من الكُتَّاب فكتبوا مسرحياتٍ كاملةً عن «خدعة سلاي»، وهاك نموذجًا من نثره الذي يصف فيه ما يعرفه عن نفسه.

«فصِداري في صدري، والجورب في أقدامي، وحذائي يكفيها! بل أحيانًا ما لا يكفيها؛ إذ إن أصابع أقدامي أحيانًا ما تنظر نافرةً من سطح حذائي!»

(مدخل ٢ /  ٩–١٠)

وأمَّا سبيله لإثبات هويَّته فهو أن يستشهد بصاحبة الحان قائلًا إنها سوف تعترف بأنه مدين لها بأربعة عشر بنسًا من حساب شرب الجعة، وهو ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع وسيلة اللورد لإقناعه بأنه لورد، أيْ ذلك الشِّعر الذي يزخر بالصور الكلاسيكية، وخصوصًا حسناوات التاريخ الأدبي، إذ يبدأ بوصف فراشه الوثير الذي يفوق في «إثارته الشهوة» فراش الملكة سميراميس، ثم يأتي بفينوس ربة الحب والجمال، والحسناء «إبيو» في مشهد اغتصابها، ودافني حورية الغاب، وينتهي أخيرًا بزوجته قائلًا إنها أجمل نساء الأرض، حتى بعد أن نزفت الدمع حزنًا عليه:

قبْلَ انبثاق دمعها حزنًا عليكَ مثلَ أنهارٍ
حَقُودٍ تغمر الوجهَ الجميلَ!
لم يكُن في الكون مخلوقٌ يضارعُها جمالًا أو بهاءً،
ورغمَ ذاكَ لا تزالُ أجملَ الحِسانِ كلِّهِنَّ!
(مدخل ٢ /  ٦٢–٦٥)

وهذه الصورة تقنعه فيما يبدو بأنه لورد، وإن لم يتخلَّ عن شرب الجعة «الخفيفة»، فيتحدث بالنظم قائلًا:

جِيئُوا بامرأتي حتى أُبصرها،
وبقَدَحٍ أخرى من هذي الجِعَةِ لأشربها.
(مدخل ٢ /  ٧٢-٧٣)

أيْ إن لغته المنظومة أصبحت دليل اقتناعه بأنه لورد، ولذلك ما إن يدخل بارثلوميو، غلام اللورد، زاعمًا أنه زوجته، ومُغويًا إياه بذِكر «الفِراش»، حتى يبدي لنا سلاي ما يتوقعه من مكانته الجديدة، فيأمر خدَمه أن يتركوه وحده مع زوجته ويأمرها قائلًا:

وأنتِ اخلعي الآن هذي الثياب وهيَّا مَعي للفِراش! (١١٤)

وعندما تعتذر بسبب أوامر الأطباء يقول إنه سيظل صابرًا «برغم هذا اللحم والدم» (١٢٤). أيْ إن حوار سلاي خلال المشهد الثاني من المدخل يركز على موتيفة العلاقة الزوجية تركيزًا حسيًّا، فالمشهد زاخر بالتفاصيل المجسدة الحسيَّة، وعندما يُقال له إنك ستشهد كوميديا يخلط ما بين الكوميديا والكومودينو، وعندما يشيرون إلى أنها قصة فيها إمتاع، يظن أن اللفظ له علاقة بالمتاع المنزلي، وموقفه من الدنيا عمومًا لم يتغير، إذ يكرر عبارته الكاشفة التي قالها في مطلع المدخل لصاحبة الحان «دعي الدنيا تمضي!» والتي قلت إنها توازي بالعامية «مَشِّي حالك» أو «خليها على الله».

التغير الظاهري في سلاي إذَن لم يصاحبه تغيُّر في شخصيته، وفي هذا شبه إجابة على سؤال الذات أو الهويَّة، أيْ إن البناء يصل بنا إلى لحظة تكشُّف (وإن تكُن محدودة)، وهي تختلف اختلافًا بيِّنًا فيما تكشف عنه عن لحظة الوفاق بين بتروشيو وكاترينا حين نكتشف مدى صدق إعزازه وفخره بكاترينا بعد أن يتخلى عن دور «مروض الصقور»، وحين نكتشف مدى صلابتها واعتزازها بزوجها بعد أن تخلَّت عن دور الشرسة. فالتحول في حالة سلاي يبعده عن الواقع، والتحول في حالتهما يعيدهما إلى الواقع، ولكن «المدخل» يلعب دورًا مهمًّا في البناء من خلال النسيج، وأكاد أقول إنه الدور الرئيسي. فلننظر نظرةً سريعة إلى هذا النسيج.

إن اللغة المستخدَمة في خداع سلاي لغة يسيرة المأخذ، تعتمد على التراكم أو على الحيلة البلاغية التي تسمى «التراص» (الفهرس: مجدى وهبة)، وهي بالإنجليزية (وغيرها) catalogue ومعناها رصُّ الأسماء أو الأفعال وفقًا للنظام الذي يختاره الكاتب، مثل نظام «المسرد» (index) الملحق بآخر بعض الكتب وفق الترتيب الهجائي، وقد يُطلق عليه «الكشاف» أو «الفهرس»، أيضًا، ولكن التراصَّ تصفيف للأفكار أو للأشياء في خطة خداع سلاي، بحيث لا تشكل نسقًا صاعدًا (crescendo)، أيْ من الخاص إلى العام مثلًا، ولا نسقًا هابطًا — وهو العكس — أيْ diminuendo، ولكن الأفكار تمثل خيوطًا ممتدةً أفقيًّا لرسم الصورة المطلوبة. إذ نجد في خطة الخداع، إلى جانب موتيفة «العلاقة الزوجية»، موتيفةً أخرى تشتبك معها وهي موتيفة الصيد، وهي تمهد مثلها للصورة التي تهيمن على المسرحية الرئيسية، وهي استخدام الصقور في الصيد (بعد ترويضها بطبيعة الحال):
تريد أنْ تَصيدَ بالصُّقور؟ إذَن فهذهِ صقورُكَ التي تَجوبُ
أقْطارَ السماءِ عالياتٍ فوق ما ترتادُ قُبَّرةُ الصباحْ!
تريد صيدَ الثعلب؟ إذَن فهذه كلابكَ التي يعلو نُباحُها،
وتُرجعُ السماءُ صوتَها فتُصدرُ الأصداءَ حادَّةً من جُحْر كلِّ ثعلبٍ!
قُلْ أبتغي صيدَ الأرانب! فهذه كلابكَ التي
تُنافس الغزلان سُرعةً وكرُّها يفوقُ ظبيةً تفرُّ نافرة.
(مدخل ٢ /  ٤١–٤٦)

ومعنى الامتداد الأفقي هنا أن الصور متجاورة وحسب، وهذه الحيلة البلاغية نفسها يستخدمها جريميو في وصف المَهر الذي يعرض تقديمه إلى بيانكا في آخر الفصل الثاني (في مشهد المزاد)، وهو تراصٌّ حافلٌ بكل ما في منزله ومزرعته، إذ يقول إنه حافل بأطقم الموائد الفضية وغيرها حتى يصل إلى أبقاره وثيرانه في حديثٍ ليس بالقصير (٢ /  ١ /  ٣٤٩–٣٦٦) ويردُّ عليه ترانيو مستخدِمًا الحيلة البلاغية نفسها، والدلالة واضحة في هاتين الحالتين، إذ يوازي كلٌّ من الخاطبَين بينه وبين ما يملك، أمَّا جريميو فيبدو أنه صادق ويأمل أن يستعيض بالممتلكات عن شبابه الذي ولَّى، وأمَّا ترانيو فيصعُب تصديقُه، وعلى أيَّة حالٍ فإن التراصَّ يبطئ من سير الحدث ويتيح لنا أن نفهم الشخصية فهمًا أكمل.

لكن هذه الحيلة في المدخل لها وظيفة أخرى، وهي إعداد الجو لما سوف نشهده في المسرحية، فصورة الصيد والظباء من الصور الشائعة في شِعر الحب التقليدي، فإذا شئنا الربط بين الصور هنا وجدنا أن صورة الصقر تتصل مباشرةً بفكرة الترويض، ولكن الصيد نفسه يوحي بطلب الوصال، فالشِّعر التقليدي الذي يصور نشدان العشاق لمعشوقاتهم يصور الحبيبة في صورة الظبية أو الغزال، ولا يقتصر هذا على آداب عصر النهضة الأوروبية، بل هو شائع من زمن بعيد ونعرفه في الأدب العربي أيضًا. أيْ إن صورة الظبية التي تفرُّ نافرةً تمهد الطريق حتى نرى صورة الجميلة التي يتعذر الوصول إليها، سواء كانت بيانكا أو كاترينا. وهكذا فقد بدأنا المدخل باللورد العائد من رياضة الصيد، وتفصيل القول في الكلاب النابحة التي تساعده على اقتفاء آثار الطريدة، وانتهينا بالوهم الذي يصدِّقه سلاي بأن لديه كلابًا نبَّاحةً عدَّاءة، ومكافأته بزوجةٍ زائفةٍ تؤكد هذا الوهم.

المدخل إذَن ليس مستقلًّا عن المسرحية، لأن نسيجه يمتدُّ طولًا وعرضًا فيها، طولًا بأن يبدأ حلقاتٍ متداخلةً من الطراد، إذ يطلب العشاق الوصول إلى حبيباتهم، وعرضًا يوسع من نطاق السعي للفوز بقلب المحبوبة من خلال اختلاط الوهم بالواقع. وسوف أرصد بإيجاز خطوات البناء وأبين كيف يسخِّر الشاعر فنون النسيج في البناء.

يبدأ المشهد الأول بوصول لوسنتو وخادمه ترانيو إلى بادوا، ونفهم من حديثها الاستهلالي أن لوسنتو شابٌّ ساذجٌ أتى إلى بادوا لدخول الجامعة حتى يستقي العلوم والمعارف، وخصوصًا الفلسفة الأخلاقية، التي سمع عنها في بيزا موطنه، وهي المدينة التي تشتهر بالوقار والبعد عن الهزل. ولكن ترانيو خادمه الأمين، يبدو لنا من البداية في دور «الشريك الأقوى»، إذ يطلب لوسنتو النصح والإرشاد فلا يضنُّ ترانيو على سيده بما يطلب، وهو يوافق على أن يدرس سيده العلوم الطبيعية والرياضيات ولكنه يشترط أن يختار سيده منها الممتع، معربًا عن تفضيله مذهب أهل اللذة، ويشير على سيده بعدم التقيد بالصرامة الخلقية قائلًا له «واقبس من فنِّ الشِّعر وفنِّ الموسيقى ما ينعش روحك … إذ لا خير بعلمٍ لا يمتع قلب الإنسان.»

وهذا الثنائي يمثل بنائيًّا ما نسميه «الجدلية الدرامية»، بمعنى أن لوسنتو يمثل «القضية» وخادمه ترانيو يمثل «النقيض»، ولكنهما لا يلتقيان في التركيب الذي تعنيه الجدلية إلا بعد خوض غمار تجربة درامية، ولا يطيل شيكسبير انتظارنا لهذه التجربة؛ إذ يدفع إلى المسرح بمجموعة من أهل بادوا لا يعرفهم لوسنتو وخادمه، فيقرران على الفور أن يختبئا ليسترقا السمع ويعرفا ما شأن هؤلاء. و«استراق السمع» نسقٌ شائعٌ في الكوميديا (والهزلية بطبيعة الحال) منذ العصر الكلاسيكي، ويسميه درايدن «الستائر المسرحية» (انظر درايدن والشعر المسرحي، مجدي وهبة ومحمد عناني ١٩٦٣–١٩٩٤م)، ويقصد به اختباء مَن يسترق السمع وراء ستار، وفي هذه الحالة من حالات التمسرح نجد بذرة الميتامسرح؛ لأن المختبئَين يسمعان ويشاهدان ما يجرى دون أن يسمعهما الآخرون، بينما نسمعهما نحن وربما خاطبانا من خلال محادثتهما.

المسرح الآن يتضمن منطقتَي «تمثيل»؛ المنطقة التي يتحدث فيها مَن دخلوا، وهم بابتيستا وابنتاه كاترينا وبيانكا، وخاطبا البنت الصغرى (بيانكا) وهما هورتنسو وجريميو، وقد تكون هذه المنطقة مقدمة المسرح، وأمَّا المنطقة الثانية فهي الركن الذي يقف فيه لوسنتو وترانيو لاستراق السمع، وقد يكون في أقصى يسار المسرح أو أقصى اليمين، وهكذا فكأننا نشاهد مشهدين لا مشهدًا واحدًا، ولكن الحوار فيهما يتداخل في آذاننا، فعندما يقرر بابتيستا والد الفتاتَين بأن تحتجب بيانكا عن العيون، وألَّا يراها الخُطَّاب ما دامت حبيسة المنزل، تردُّ بيانكا قائلةً «فسأقرأ وأمارس تدريبي الموسيقي وحدي.» وهنا يقول لوسنتو لخادمه ترانيو ولنا نحن الجمهور «اسمع كأنها تكلمت منيرفا ربة الحكمة» دون أن يسمعه أحدٌ من الفريق الآخر، ثم نسمع هورتنسو يقول «لِمَ تبدي هذي القسوة يا سنيور بابتيستا؟» (١  /  ١  /  ٨٣–٨٥).

وفي إطار «التمسرح» أيضًا يتخذ بابتيستا (أو يعيد اتخاذ قرار) احتجاب بيانكا أمامنا على المسرح كأنما هو وليد اللحظة، وهي إحدى حيل التمسرح التي كان أستاذنا رشاد رشدي يصفها بأنها «حضورية الحدث» (immediacy of action)، فالمعتاد في الحياة الواقعية أن أمثال هذه القرارات الأُسرية المهمَّة لا تُتخَذ على قارعة الطريق فجأةً، ولكن التمسرح هنا يقتضيها، كما يقتضي أن يظل لوسنتو وترانيو في مخبئهما حتى يستمعا إلى الشرح المنثور الوافي، بعد خروج بابتيستا وابنتَيه، وهو الشرح الذي يقدِّمه لنا (ولهما) حوار جريميو الهرِم مع هورتنسو الشابِّ حول هذه المشكلة العويصة. وعندما يخرج الخاطبان يتقدم لوسنتو وترانيو إلى مقدمة المسرح حيث نتابع ما ابتدأ الفصل به.

وبذرة الميتامسرح التي شاهدناها في التمسرح تورق وتزهر؛ إذ نشهد أول حالة تنكُّر في المسرحية، ذلك أن لوسنتو وترانيو يتفقان على تبادل هويَّتيْهما ظاهريًّا بحيث ينقلب السيد خادمًا والخادم سيدًا، وفي هذا ما يمكن اعتباره توريةً دراميةً ساخرة، بمعنى أن الحوار الذي سمعناه حتى الآن بينهما يدلُّ على أن ترانيو هو العقل المدبِّر الذي يسود هذه «الشراكة»، وأن لوسنتو يافعٌ يقع في الحب من أول نظرة، كما يقال، ويردِّد القوالب اللفظية الشائعة لشعراء الغرام في عصره، وهو ما يسخر منه شيكسبير. فالصور الشعرية التي تتضمن إحالاتٍ إلى الكلاسيكيات ليست سوى زخارف «خارجية» (أيْ مضافة) لا تسهم في رفع مستوى الشِّعر، ولا في إيضاح فكرة من الأفكار. وسذاجة لوسنتو لا شكَّ محبَّبة، كما يتضح في نسيج المشهد.

كان شعراء العشق (sonneteers) يستخدمون قوالب معيَّنة تتضمن مبالغاتٍ أو صورًا شاعت إلى الحدِّ الذي جعلها تفقد تأثيرها، فبعد الإحالات الكلاسيكية يسأل ترانيو سيده «ألم تلاحظ كيف أن أختها هبَّت تسبُّ مثل أكبر العواصف المدمدمة؟» فيقول لوسنتو:
رأيتُ مَرْجان الشِّفاه يا ترانيو عندما افترَّتْ
وعطَّرتْ أنفاسُها الهواءَ حولنا،
وكل ما رأيته فيها مُقدَّسٌ وعَذْب.
(١  /  ١  /  ١٧٤–١٧٦)
وهذه إجابة غريبة على سؤال ترانيو، وقد تبعث بالبسمة إلى الشفاه، ولكن لوسنتو «الولهان» لا يستطيع التركيز فيما يقوله ترانيو الذي يشير عليه بالتنكر من جديد في دور معلِّم حتى يستطيع أن يصل إلى فتاته ويصارحها بحبه، ولمَّا كانت وظيفة المعلِّم في دنيا المال والتجارة وظيفةً حقيرةً يوافق لوسنتو (على مضضٍ فيما يبدو) قائلًا فليكن:
ولأكُن العبدَ لأظفَرَ بفَتاةٍ لاحَتْ لي فجأة،
فاستعبدَت العينَ وجرحتْها بَغْتة!
(١  /  ١  /  ٢١٨–٢١٩)
وعندما يصل بيونديلو الخادم الثاني للوسنتو ويُدهَش لتبادل الملابس، يبتكر له لوسنتو قصةً وهميةً ولا تكاد تُصدَّق، بل ولم تكُن به حاجةٌ إلى اختلاقها على الإطلاق، ولكنها تتفق مع عالم الوهم الذي تنشئه الهزلية قائلًا:
فأنا عند نزولي شاطئَ البلدة
كنتُ نازلتُ فتًى ثُم قتلتُهْ … وبقلبي خشيةٌ ممَّن عساه رآني.
(١  /  ١ / ٢٣٠ -٢٣١)

ولا يختتم المشهد إلا باصطناع زعمٍ آخر من المزاعم التي يستخدمها شيكسبير في البناء، إذ إن لوسنتو يرجو من ترانيو أن يكون أيضًا خاطبًا من بين خُطَّاب الفتاة.

كنت قد ذكرت في وصفي لخصائص الهزلية خصيصة تكرار نسق معين، وهو التناظر الذي أسميته الثنائيات السلوكية وضربت له أمثلةً محدودة، وركزت على التلاعب بالشخصية في سبيل تناظر الحبكة، وبداية المشهد الثاني تقدِّم لنا نموذجًا رائعًا لتكرار نسق مُستهلِّ المشهد الأول، إذ يصل بتروشيو وخادمه جروميو، فيشكِّلان الثنائي المقابل للوسنتو وترانيو، وهما معًا يمثلان تناظرًا بنائيًّا، لوسنتو وترانيو، ولكنهما فعلًا يمثلان التضاد للتركيب الذي حدث عندما تبادل لوسنتو وترانيو هُويتيهما، فإذا كان لوسنتو يافعًا ساذجًا تدفعه عاطفته ويوجهه خادمه الحصيف، فإن بتروشيو يقدِّم لنا صورة سيد مقدام «مغامر»، يصحبه خادمٌ ذرب اللسان مولع بالتلاعب اللفظي والسخرية من الجميع حتى من سيده. أيْ إن لدينا هنا تناظرًا بنائيًّا يقوم على تضاد في النسيج، ونظرة واحدة إلى حديث بتروشيو عن الزوجة التي يطلبها تكفي لتبيان ذلك، ولنقتصر على الإحالات الكلاسيكية التي يستخدمها بتروشيو في حديثه مع صديقه هورتنسو: إن زوجة فلورنتوس كانت عجوزًا قبيحة، ثم استحالت بعد الزواج إلى شابَّة جميلة، وسيبيل كانت عجوزًا عاشت دهورًا واستمرَّ انكماش حجمها كلما تقدَّم بها العمر، من دون أن يأتيها الموت، لأنها كانت طلبت من الأرباب العمر الطويل ونسيت طلب الشباب الدائم، وزانثيبي (وتكتب أحيانًا زانتيبي) زوجة سقراط التي يُضرب بها المثل (إلى الآن) للزوجة المزعجة المولعة بالنكد، وتشبيه هياج المرأة بهياج البحر تعبير شائع يؤدي وظيفته مثل سائر الإحالات الكلاسيكية، أيْ إننا نواجه رجلًا يعرف ما يريد، والطريف أن جروميو خادمه يعيد ذِكر ما قاله سيده ولكن بأسلوب منثور ساخر، وانظر معي إلى نثر جروميو:

إن تمنحه الذهب الكافي لن يتردَّد في أن يتزوج من دُمية، أو من حلية على شكل فتاة، أو من عجوز شمطاء سقطت أسنانها، حتى وإن كانت تعاني من أمراض اثنين وخمسين حصانًا! فالمال سيفتح كل السُّبل!

(١ / ٢ / ٧٦–٨٠)

وإذا كان شعر بتروشيو ونثر جروميو يمثلان نغمةً جديدةً من أنغام النطاق الدلالي، فهذه النغمة ترتبط بنائيًّا بالنغمة التي نسمعها من الثنائي لوسنتو وترانيو، وأمَّا الرابط الدرامي بين الثنائيين وبين الحبكتين في هذا الفصل فهو هورتنسو الذي شاهدناه وهو يتفق مع جريميو الهرم على البحث عن زوج لكاترينا حتى يستطيع أحدهما الفوز بأختها «الوادعة»، بيانكا، فهو صديق بتروشيو ويرى فيه حل المشكلة، ويطلب منه أن يقدمه إلى بابتيستا والد الفتاتَين متنكرًا في صورة معلِّم للموسيقى يُدعى ليسيو، مثلما اتفق ترانيو على تقديم سيده لوسنتو متنكرًا في صورة معلِّم للغات الكلاسيكية.

أيْ إن نسق البناء قد تكرر هنا مع اختلاف المتنكرين، وسرعان ما يتأكد ذلك حين يتكرر استعمال حيلة «استراق السمع»، إذ يختبئ بتروشيو وخادمه جروميو مع هورتنسو في ركن من أركان المسرح، ويسترقون السمع إلى الخطَّة التي وضعها جريميو الهرِم للاستعانة بلوسنتو، منافسه، دون أن يدري في حب بيانكا (وهي مفارقة شائعة في الكوميديا) في توصيل رسالة حبه إلى حبيبته، ولكن تكرار حيلة «استراق السمع» لا يعيدنا إلى الموقف الأوَّلي (كما حدث في المشهد الأول)، بل يؤدي إلى تلاحم الجانبين إذ يكشف المختبئون عن شخصياتهم، ويتفق الخُطَّاب على مساعدة بتروشيو على خطبة كاترينا والزواج منها، فتلك هي العقبة التي تحول دون وصولهم إلى بيانكا. وإزاء تشككهم في قدرة بتروشيو على النجاح في مَسعاه بسبب لسانها اللاذع، يرسم بتروشيو لنفسه صورة مقاتل صنديد ومجرِّب حلب الدهر أشطره، بأنغام شعرية تعقد ألسنة من حوله، وقد سبق لي الإعراب عن اختلافي مع أوليفر (واتفاقي مع غيره مثل ديفيد دانيل (Daniell) ص٦٤) في الإحساس بعدم الاطمئنان إلى صدق بتروشيو، والمفتاح هنا هو النسيج، فإن جريميو يسأله غير مصدِّق: «أتُراك تودُّ بصدقٍ أن تخطب ودَّ فتاة متوحشة؟» فيجيبه بتروشيو قائلًا:
وهل جئتُ إلَّا كي أفوز بوصلها؟
وكيف تخيَّلتم بأنَّ مسامعي
تخاف ضجيجًا تافهًا من لسانها؟
تُراني لم أسمع بما مرَّ من عمري
زئيرًا لرِئْبالٍ وصيحةَ ضَيْغَمِ؟
تُراني لم أسمع هديرَ بحارنا
إذا لطمَتْها الريحُ فاشتدَّ سُخْطُها
وهاجتْ كخنزيرٍ من الوَحشِ غاضبٍ
ويَعرَقُ من غيْظٍ فيعلو قُباعُهُ؟
تُراني لم أسمع ضجيجَ مَدافعٍ
ضِخامٍ وفي المَيدانِ يُرعِدُ قَصفُها؟
تُراني لم أسمع هزيمًا مُقَعقِعًا
لقصْفِ رُعُودٍ كالمدافعِ في السَّما؟
ألم أستمع من قبلُ في حَوْمة الوَغَى
لدقَّاتِ طبلٍ أو نفيرٍ يُدوِّي أو صهيل خيولها؟
(١ / ٢ / ١٩٤، ١٩٧–٢٠٥)

النبرة العالية في كلام بتروشيو لا تبعث على الاطمئنان إلى صدقه، كما قلت، كما أن إيقاع النظم يؤثِّر في السامعين الذين يبهرهم بالنسق المرسوم للأسئلة الإنكارية التي تتكرر فتوحي بأن القائل لا يرتجل ذلك ارتجالًا، بل يبنيه بحذقٍ واضح، وصورة البحر الذي تلطمه الريح فيغضب ويهيج مثل خنزيرٍ وحشيٍّ يعرق غَيظًا ويعلو صوته، صورة مركَّبة لا تأتي عفو الخاطر، وهي تشترك مع هزيم الرعد ودقِّ الطبول ودويِّ النفير وصهيل الخيول في رسم صورة صوتية زاعقة تُقنع مَن حوله بقدرته على النجاح فيما يتصدى له.

النسيج هنا إذَن يخدم البناء إذ ينتهز هورتنسو الفرصة ليطلب من جريميو المساهمة في نفقات خِطبة كاترينا إلى بتروشيو (مضمرًا اختلاس المال لنفسه وفق ما رآه مُخرجو المسرحية المحدثون وحذا حذوهم أحدث المفسرين، وآخرهم هودجدون ٢٠١٠م)، وعندما يدخل ترانيو لمواجهة الحشد متنكرًا في زيِّ لوسنتو المتنكر في دور المعلِّم (إذ لا يعرف الباقون سرَّه)، وثانيهم جريميو العجوز الأبله (الذي كلف لوسنتو المتنكر بالتقريب بينه وبين بيانكا)، وثالثهم هورتنسو، صديق بتروشيو، الواقعي الذي لا تغفل عينه عن المال، وأخيرًا ترانيو المتنكر في زي لوسنتو، والذي قَبِل أن يساهم في نفقات الخِطبة التي طلبها هورتنسو، ويدعو الجميع إلى حفل عشاء لديه.

وفي مستهلِّ الفصل الثاني نرى مشهدًا قصيرًا يصور غيرة كاترينا من أختها الصغرى لكثرة خطَّابها وتصورها أن والدها يفضلها عليها، وقد تكون مخطئةً في ذلك كما يقول بعض النقاد، أو على حقٍّ كما يقول غيرهم، ولكن غضبتها توحي بأنها تتمنى من أعماقها أن تتزوج حتى تتجنب الوصف الشائع بأن «العانس ترقص حافية القدمين يوم زفاف أختها» وبأن «العانس تقود القردة في نار جهنم»؛ إذ تخاطب أباها قائلة:

ما عُدتَ تطيق وجودي؟ الآن اتضحَ الأمر!
فهي الكَنزُ المكنونُ لديكَ ولا بدَّ بأنْ تتزوَّجْ،
وعليَّ بأنْ أرقُص حافيةَ القدمَين إذَن يومَ زفافِ المحبوبة،
وكذا يقضي حبُّكَ بقيادتيَ القِرَدَةَ في نارِ جَهَنَّمْ.
لا أقبلُ أيَّ مُخاطَبةٍ بل أمضي كي أبكي وحدي،
حتى أجدَ الفرصةَ سانحةً للثأر.
(٢ / ١ / ٣١–٣٦)

وحالما تخرج كاترينا نرى مشهدًا يضم ثلاثةً من المتنكرين؛ لوسنتو في دور كامبيو، المعلِّم، وهورتنسو المتنكر في دور ليسيو معلم الموسيقى، وترانيو المتنكر في دور لوسنتو، إلى جانب بونديلو خادمه، وجريميو الهرِم الأحمق، وبتروشيو الذي يقابل بابتيستا للمرة الأولى. وإذا كان أحدٌ في شكٍّ من أن بتروشيو يمزج الصدق بالكذب (في حدود الدور الذي رسمه لنفسه) فإن كلماته الأولى عن كاترينا تحسم الأمر:

سمعتُ عن جمالها وعن ذكائها،
عن لُطفها وحيائها … وما يَزِينُها من التواضع الرَّقيق،
ومن خِصالٍ رائعة … ومن سلوكٍ ذي وَدَاعةٍ رَزينة.
(٢ / ١ / ٤٨–٥٠)

ولا يكتفي بتروشيو بالكذب عمَّا سمعه عن «الفتاة الشرسة»، بل يقدِّم صديقه هورتنسو إلى والد الفتاة باعتباره معلِّم الموسيقى والرياضيات «ليسيو». أفلا نعتبر ذلك جزءًا من التحايل والتنكر الذي يمثل عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحدث؟ وبعده يقدِّم جريميو الهرِم لوسنتو متنكرًا في زيِّ كامبيو معلِّم اللغات، ومنافسه في حب بيانكا (وهي المفارقة التي أشرت إليها آنفًا).

وهنا يقع ما أسميته التضفير في أحد الأقسام السابقة، أيْ إننا نرى خيط تقديم بتروشيو لخِطبة كاترينا، وقبل الفصل فيها يتقدم جريميو بطلب تعيين لوسنتو (المتنكر في دور كامبيو) معلمًا للفتاة، وقبل أن يردَّ بابتيستا عليه، يتقدم ترانيو المتنكر في زي لوسنتو بطلب خِطبة بيانكا، أيْ إننا نرى الخيط الأول وقد التفَّ عليه الخيط الثاني ثم الثالث ثم نعود إلى الخيط الأول حيث المفاوضات حول الصفقة المالية الخاصة بزواج بتروشيو من كاترينا، أي التفاصيل الخاصة بالبائنة وبالميراث من قبل أن يرى العريس عروسه.

ولكن التضفير يؤدي أيضًا إلى دخول هورتنسو، صديق بتروشيو المتنكر في دور ليسيو معلِّم الموسيقى وقد جُرح رأسه بعد أن حطمت كاترينا العود عليه. وهذه اللحظات الفكاهية توقظ في صدر بتروشيو شوقًا إلى لقاء هذه الفتاة التي يراها ندًّا له:

أقسَمْتُ بالدنيا بأنَّ هذه الفَتاة بالحياة نابضة
وفي فُؤادي ضُوعِف الحبُّ لها عَشْرةَ أضعافْ
أوَّاهُ كم أتوقُ أنْ أُجاذب الفَتاة أطراف الحديثْ!
(٢ / ١ / ١٥٩–١٦١)

وإذَن فالأرجح أن هذا العاشق لا يهوى «الفتاة الجميلة»، (١ / ٢ / ٥٨) التي لم يرَها والتي أسبغ عليها أوصافًا لا تنتمي إليها، بل يهوى صورة المرأة القوية الجديرة بممارسة قوَّته معها، وهي صورة تمثل في خياله التقاء نارٍ بنارٍ أخرى:

ألَا فاعلمْ أبي أنِّي عنيدٌ
وعزمي في صلابةِ كِبْرِياها
فإمَّا يلتقي لهبٌ شديدٌ
بنارٍ من ضِرامٍ تَتَباهى
رأيتُ تلاحُم النارَيْن فِعلًا
ليُحرِق ما غَذَا النارَيْن تِيها
(٢ / ١ / ١٣٠–١٣٢)
أيْ إن بتروشيو يرى أن يضارع كاترينا في صلابة الشخصية، وأنه يتصور أن علاقتهما ستكون علاقة لهبٍ بلهب، وهو فخور بطاقته البيانية، وصوره التي رأينا بعضها، على قلَّتها في المسرحية بصفة عامة. وأشير هنا إلى أنه قد اشتهر عن الناقد ج. و. ماكيل (Mackail) قوله في كتابه مدخل إلى شيكسبير (١٩٣٠م) إن المسرحية لا تتميز ببلاغة أسلوبها، وليس فيها ما اعتدناه عند الشاعر من صور شعرية «معقدة»، أيْ تنمُّ على عمل مخيلة شعرية خصبة، وقد حذا نقادٌ آخرون حذوه، خصوصًا بعد أن قالت كارولاين سبيرجون (١٩٣٥م) إن عدد الصور الشعرية في المسرحية برمتها لا يزيد على ٩٢، والواقع أننا يندر أن نجد من النقاد مَن يتحدث عن الصور الشعرية في هذه المسرحية أو عن أسلوبها، خصوصًا مَن اعتادوا صور شيكسبير المبتكرة والمعقدة فعلًا في فترة نضجه، وكان البعض يلتمس الأعذار له قائلًا إنها ثاني مسرحية يكتبها في حياته، وهو بعد في منتصف العشرينيات من عمره، كما أشار لفيفٌ من النقاد (خصوصًا قبل التسعينيات التي شهدت إحياء الاهتمام بالقضية) إلى أن الشاعر كان في بداياته أشدَّ اهتمامًا بالتمسرح (أيْ بناء العرض المسرحي المتماسك) منه بالصوغ الأسلوبي الذي يعدُّه هؤلاء النقاد لازمًا لتعريف الأدب. كما وجدت فيما قرأته من تعليقات النقاد مَن يقول إن غلبة التشبيهات على الاستعارات فيها من خصائص الكوميديا.

ولكن كل هذا يصبح غير ذي موضوع إذا نظرنا بعين النقد الجديد الذي يطلب منا أن نسأل: ماذا يريد الشاعر أن يفعل؟ وهل حقَّقه؟ وكيف حقَّقه؟ الشاعر هنا، إذا فحصنا النصَّ فحصًا دقيقًا، يبني أحداثًا متضافرة ذات نطاق دلالي تمثيلي، وهي التي تتتابع في سرعةٍ محسوبة، وتتطلب من «البيان» ما يسهل على الذهن استيعابه الكامل، مع إمتاع الأذن بإيقاع النَّظم، وأنا أؤكد هذه الخصيصة الأخيرة التي نجدها في الكثير من مواقف المسرحية، فالشاعر لا تشغله «المباني البيانية» لذاتها، بل يُسخِّرها لتحقيق هذه الغاية. فبعد أن يشبه بتروشيو نفسه وحبيبته التي لم يرَها بالنيران، وبعد أن يصف لقاءهما بأنه تلاحم النارين الذي سيقضي على ما كان يغذوهما أصلًا (في الأبيات المقتطفة عاليه) إذا به يقول:

فإنْ أدَّى النسيمُ إلى اشتدادٍ
بوَقْدَةِ جمرةٍ فغدَتْ ضِراما
فإنَّ الريح إنْ عصفَتْ عُتوًّا
ستُخمِدُ كل نيرانٍ تَراها
فذاكَ مِثالها وكذا مِثالي
فإنِّي سوفَ أُخضِعها غَراما
فإنِّي عارمٌ وشديدُ بأْسٍ
وما أنا بالرضيع إذا هَواها
(١٣٣–١٣٦)
أيْ إنه يشبِّه نفسه بالريح بعد أن شبَّهها بالنار، وبعد أن تكلم عن تلاحم النار عاد في اللحظة التالية يتحدث عن إخماد النار، أيْ إننا إذا حلَّلنا الصور الشعرية في الأبيات كلها (٢ / ١ / ١٣٠–١٣٦) وجدنا أنها تستعصي على ما يسمى التحليل «الجدلي» أو المنطقي، وهذا ما كان أصحاب النقد «القديم» يعيبونه على شلي (Shelley) الشاعر الرومانسي، ولكن النقد الجديد يرى أن التحول في التصوير يرجع إلى تلون الانطباعات، بل وإمكان تضاربها، حتى يمكن القول بأن لغة الشعر تقبل المفارقات، بل قد تستند اللغة الشعرية إلى المفارقة، على نحو ما يشرحه كلينث بروكس (Brooks) في تحليله لصورة الرضيع العاري في مكبث (في كتابه الإناء المُحكم الصنع، وانظر كتابي الصغير النقد التحليلي)، فإذا ذكرنا ذلك أدركنا كيف ينقل بتروشيو صورة الرياح العاتية بعد ذلك إلى كاترينا مشبِّهًا نفسه بالجبال هذه المرة:
نعم ولديَّ دروعٌ حَصينة
كمِثْل الجبال أمام الرياحْ
فليس تَهزُّ الجبالَ الرياحُ
وإنْ دامَ هذا الهُبوبُ وجاحْ
(٢ / ١ / ١٣٩-١٤٠ )
وما قُلته عن متعة إيقاع النَّظم لا يقتصر على هذه المسرحية، أو على مسرحياته الأولى بصفة عامة، فالنَّظم عنصر من عناصر النسيج، ولكن وظيفته تتفاوت وفقًا للمواقف الدرامية وتخضع لكل حالة على حدة، وحين ينتقد أحد النقاد «انتظام الإيقاع بصورة غير شيكسبيرية» يقصد أنه يفتقد ما نجده في مرحلة النضج مما يسميه العلامة ماهر شفيق فريد «التلوين العروضي»، أو ما كان أحمد مستجير يصفُه بالتمرد العروضي، والمقصود استخدام زحافات وعلل لم يسمح بها القدماء، ما دامت هذه الزحافات والعلل (الخاصة به) تكسر رتابة الإيقاع، والمحدثون يكرهون الرتابة ويشبِّهونها برنين الأجراس، وطالما عابوا على وولتر سكوط (Scott) رتابة نظمه الذي يذكِّرنا بأناشيد الأطفال، ولكن الرتابة حين توجد في الهزلية تقوم بدور درامي مُهم، فالشخص الذي يلقي شعرًا تقليديًّا، بمعنى خلوِّه من الزحافات والعلل غير المعهودة عند مَن سبقه، يوحي — كما يصوره شيكسبير هنا — بأنه جهز ما يقوله سلفًا، ولم ينطق به عفو الخاطر، وكنت كلما صادفت مثل هذا الشِّعر درسته اهتداءً بشرح الشراح ونقد النقاد وحاكيته في الترجمة، ومن نماذجه الأبيات الخمسة التي يقولها بتروشيو لكاترين:
تَمِيسُ كِيتُ دَلَالًا
بمِشْيةِ الأُمراءِ
في غُرفةٍ تَتَباهى
بِها بكل رُواءِ
تفوقُ دَلَّ ديانا
في وسْط تلك الخميلة
إن «كيت» صارت ديانا
بطُهرِ بنتٍ أصيلة
أضحتْ ديانا لَعُوبًا
من وحي كيت الجميلة
(٢ / ١ / ٢٦٠–٢٦٤)
وتدرك كيت على الفور أنه «أعدَّ» هذا الشعر سلفًا فتقول له:
«وأين تعلَّمت هذا الكلام المُنمَّق؟»
وبعدها يتطور النَّظم ويبتعد عن الاستواء والانتظام، الأمر الذي يوحي بأن بتروشيو يقول ما عَنَّ له دون «إعداد»، وهو يؤكد أنه يحبها وأنها ذات جمال عمَّق الحب بقلبه فأقسم على ألَّا تكون زوجةً لسواه. وهكذا فعندما يدخل بابتيستا وجريميو وترانيو (متنكرًا في زيِّ لوسنتو) ويُبدون التشكك في صحة ما يقوله ويفسرون صمت كاترينا بأنه اكتئاب (والمُخرجون يفسرونه بأنه إعجاب ببراعة أداء بتروشير وسعادتها الدفينة بإصراره على الزواج منها)، يعود بتروشيو إلى النَّظم الذي يتضمن ما نعرف أنه كذب، والمُخرجون يرون فيه لمسات خيال تؤكد تلاقي قلبيهما، وهي الأبيات التي يبدؤها بالمَثَل الشبيه بمَثَلنا العربي «أنا راضي وأبوها راضي، مالك انت بينا يا قاضي»:
إنْ سمحتمْ يا سادتي بعضَ صبرِ
فلنفْسي اصطفيتُها لا لغيري
إنْ سَعِدْنا معًا وسَادَ التَّراضِي
فأجيبُوا: ما شأنُكم بالوِدادِ؟
(٢ / ١ / ٢٠٦–٢٠٨)
وهو يُلقي الأبيات التي يستمع إليها الحاضرون في دهشة، خصوصًا عندما يقول ما تُدهَش له كاترينا (في ظني) وما يؤكد مُخرجو المسرحية أنها أبدت سرورًا به، بدليل موافقتها على مصافحته إثباتًا لطابع الخِطبة الرسمي، والأبيات هي:
أمطرَتْني قُبُلاتها دون عَدِّ
وعديد الأَيْمان من غير حَدِّ
فإذا بي في لحظةٍ أهْواهَا
حُبَّ صَبٍّ حياته في صِباها
(٢ / ١ / ٣١٢–٣١٣)
وأحب أن أستدرك قائلًا إن انتظام الشعر لا يعني في شيكسبير أنه مصطنع أو أن فن الصنعة فيه يوحي بقدر من الزيف، فتقاليد الهزلية تعني، كما ألمحت آنفًا، إمكان رسم صورة مغايرة للواقع من وحي «الإحساس» وحده، وقد تكون هذه الصورة المغايرة منتظمة على عكس الواقع، وقد تكون مشوشة عمدًا بحيث تجعل «نَظم الحياة نثرًا ونثرها نظمًا» كما يقول الشاعر الأمريكي ستانلي كونيتز (Kunitz) في كتابه نوع من الفوضى (١٩٧٩م)، وهي الفكرة التي سبقت بعض المبادئ التي اعتدنا نسبتها للمحدثين الذين شغلهم التحول من الحداثية إلى ما بعد الحداثة، فالحداثية وفق تعريف برادبري (Bradbury) الشهير تكمن في مقاومة النزوع إلى محاكاة الواقع، وما بعد الحداثة مذهب لا يرى في الواقع الانتظام الذي تفرضه عليه اللغة، ومن ثَم يحرر الفنان من العلاقة بالواقع سواءً كانت قبولًا له أو رفضًا، فالشاعر الذي يحول نظم الحياة إلى نثر، بمعنى كسر الأعراف أو الافتراضات المسبقة في النظر إليه، شاعر حداثي، بغض النظر عن كتابته الشعر نظمًا أو نثرًا (وخريف الأزهار الحجرية للأديب ماهر شفيق فريد شعر منثور من أوله لآخره)، وهي النظرة التي قدَّمها موريس بيكام (Peckam) عام ١٩٦٨م في كتابه السعي المحموم للفوضى، والشاعر الذي يحول نثر الحياة نظمًا قد يقترب من مذهب ما بعد الحداثة الذي يعينه على إدراك نظم دفينة في الواقع، تطلب التعبير عنها وإدراجها جنبًا إلى جنب مع أشكال الفوضى الظاهرة (مثل شعر صلاح جاهين)، وانظر ما يقوله ديفيد أندرداون (Underdown) عن هذه المسرحية في دراسة له في كتابٍ عنوانه النظام والفوضى في إنجلترا في أوائل الفترة الحديثة، ١٩٨٤م، ص١١٦–١٣٦. وعلى الرغم من وجوه الاختلاف الشديد في مفاهيم هذا المذهب في أعين الباحثين، وخصوصًا من عالجوه من الزاوية الأيديولوجية أيضًا مثل إيجلتون (Eagleton) وجيمسون (Jameson) ونوريس (Norris)، فإن فكرة التحرر من الواقع التي جاء بها هذا المذهب تربطه أيضًا بالحداثية التي كان النقاد يتصورون أنه يمثل تعديلًا في مسارها، إن لم نقُل «ثورة» عليها.

وهكذا فإننا إذا نظرنا في ضوء هذا الاستدراك إلى بناء الهزلية نظرة شاملة، أيْ باعتباره بناءً كليًّا، وجدنا أن تعبير النظم عن واقع منتظم لا يتحقق في بعض الأحيان، وتعبير النثر عن واقع غير منتظم غير متحقق في كل حالة. فالأبيات التي اقتبست بعضها آنفًا تقدِّم لنا صورةً منتظمةً لحدثٍ خيالي، وهي تقدمه بمنطق «الدنيا العاقلة»، وكل ما يفعله النظم هو تيسير انطلاق الأفكار التي يحملها الإيقاع إلى الأذن حتى يكاد يعوق تساؤل السامع عن مدى صحتها، إذ يجرفنا النظم فنكاد ننسى أن مزاعم بتروشيو قد لا تكون صادقة، بمعنى أن ما يقوله ربما لم يحدُث في الواقع المرئي، ونحن جمهور القراء نعرف أنه لم يحدُث، ولكن جمهور السامعين على المسرح لا يعرفون ذلك، أيْ إن كاترينا لم تتشبث بعناقه ولم تمطره بالقبلات دون عَد، ولكن الصوغ الشعري يقول إنه حدث على المستوى النفسي (غير الحسي) وإن تلاقيهما العاطفي يؤكده عدم اعتراضها عليه، واستجابتها له حين يقول لها «صافحيني يا كيت هاتي يديك» (٣١٨)، وهو ما يعني أنها تشاركه «الإحساس» بما قال، وتقبل إعلان خِطبتها على الملأ، وأنها تؤيد ما زعمه من اتفاقهما على أن تظل «شرسة» في الظاهر أمام الناس، وأن تعود إلى طبيعتها الحقيقية، باعتبارها أرقَّ الناس روحًا … «طيبة ودماثة ووداعة عندما تختلي بمَن تعشقه» إن هذا زعمٌ «شعري»، فهو لا يستند إلى ما دار على المسرح أمامنا، بل يستند إلى ما دار داخل النفوس وفق تصور صاحب الشعر المنظوم الذي أعلنت كاترينا رضاها عنه بالسكوت. وبإيجازٍ أقول إن النظم أظهر واقعًا باطنًا لا يراه إلا صاحباه، بتروشيو وكيت، وهو باطن متناغم (منتظم) يتعارض مع ظاهر ما حدث أمامنا بينهما.

وما إن يختتم بتروشيو حديثه حتى نلمح اختلاطًا في إيقاع الشعر بين سائر الشخوص، وقد نبَّهني العلامة ماهر شفيق فريد إلى أنني ألجأ إلى «التلوين العروضي» بعد انتظام الخفيف (بحره المفضَّل)، وهذا صحيح، إذ أعدت النظر فوجدت أن السطر الثاني من كلام بابتيستا يخرج إلى الرَّمَل، فكأنما تحرر من الإيقاع الذي فرضه كلام بتروشيو، وإذا بالنسق نفسه (المكون من البحرين) يعود بعد أن وضع يديه في أيدي كاترينا وبتروشيو إعلانًا لعَقد الخِطبة الرسمية. وكلما أنعمت النظر في نسيج الحوار (٣٢١–٣٢٦) وجدت اختلاط الإيقاعات عند الجميع في «أمواج» هذين البحرين، حتى يحسم بتروشيو الأمر بالرَّمَل المرتبط بالعذوبة والرقَّة، ولكنْ في دفقات ربما صدرت تلقائية من الإيقاع المذكور، ومُجزَّأة وفقًا لحركة ذهنه التي تمليها مشاعره:
سوف نأتي بالخواتمْ … بالحُليِّ الزاهيات … والزراكيش الجميلة
قبِّليني الآن كيتْ! عندما يأتي الأحَدْ … سوف تُمْسِين حَليلَة
(٣٣٧–٣٣٨)

السطران إذَن يجمعان بين الانتظام والتحرر منه، وهما مُقفَّيان قافيةً عارضة، ولكنها تختتم الحركة النفسية التي وصلت إلى ذروتها بسرعة أعتقد أن الإيقاع الشعري هو الذي تحكَّم فيها وأملاها.

وبالسرعة نفسها يتحول المشهد إلى ما يمثل نقيضًا لما أحسسناه من حركة المشاعر هنا، فبعد خروج الحبيبين تصدُر من جريميو عبارة تمثل ردَّ فعله المباشر السريع (من البحر الخبب)، ثم نسمع بابتيستا وهو يعبِّر عن مشاعره التعبير المادي الذي يسود في بقية المشهد (٣٣٠–٤١٤)، في بيت موزون مُقفَّى تبرز فيه الكلمات المحورية مثل «الصفقة»، و«الخسائر»، ويردُّ عليه ترانيو ببيت موزون مُقفَّى أيضًا يؤكد فيه ذلك النطاق الدلالي، إذ يتحدث عن «البضاعة»، وعن «الكساد» (من البحر الكامل)، فإذا عاد بابتيستا إلى النطاق نفسه بالحديث عن «الربح» سمعنا جريميو وهو يستكمل هذا الشطر بشطرٍ آخر يؤكد فكرة الفوز بصيدٍ ثمينٍ، بحيث يشكل مع ما قاله بابتيستا بيتًا كاملًا من الشعر المُقفَّى. معنى هذا أننا عدنا إلى الواقع المادي بكل قسوته، أو قُل بكل قواعده المادية الصارمة، وهو ما يتحقق مسرحيًّا (يتمسرح) في مشهد المزاد العلني الذي يبيع فيه الوالد ابنته لأعلى سعر! ولكن المشهد ينتهي بتعميق الصراع حول بيانكا، إذ يتشكك جريميو في صدق مزاعم ترانيو (المتنكر في زيِّ لوسنتو) وعندما يخرج جريميو غاضبًا يعبِّر ترانيو عن رأيه فيه بصورة من الصور الشيكسبيرية الأصيلة قائلًا:

يلعنكَ اللهُ أيا داهيةً ذبُلتْ بَشرتُهُ مَكْرًا!

(٢ / ١ / ٤٠٧)
ثم يعلن اعتزامه باعتباره لوسنتو المزعوم أن ينجب لنفسه والدًا مزعومًا يُدعى فنشنتو، قائلًا إن هذه «عجيبة»، فالمعتاد، حسبما يقول، أن ينجب الآباء الأبناء، أما في حالة هذي الخطبة

فسينجب ولدٌ والدَه إنْ أحكمتُ الحيلة في هذي اللعبة (٤١٤).

أيْ إن الفصل ينتهي بوعد جديد لاستخدام المكر والحيلة، كما أن تكرار الإشارة إلى الزعم والمزاعم جعل النقاد يتصورون أن شيكسبير يشير عمدًا إلى مصدر حبكته الثانوية، أيْ مسرحية المزاعم الإيطالية التي ترجمها جاسكونيي عن أريوسطو وسبقت إشارتي إليها، وتبارى النقاد في تبيان هيكل بنائيٍّ مفترض يقوم على تلك المسرحية، وخصوصًا أسلوب جمع شيكسبير بين ما جرى العُرف على اعتباره حبكات المسرحية الثلاث (المدخل والحبكة الرئيسية والحبكة الثانوية) وأسلوب إقامته الترابط الداخلي بينها، بحيث أمكنه تحقيق ما جرى العُرف أيضًا على الإشارة إليه باسم «الوحدة»، أيْ وحدة النصِّ بنائيًّا، وهو الذي وصفه هوزلي (Hosley) (١٩٦٤م، ص٢٩٤) بأنه «بلا نظير في الدراما الإليزابيثية.» ومن الطريف أن هذا الرأي «الحديث» كان رأي الدكتور جونسون في منهج شيكسبير فيما أسماه «توحيد الحبكتين.» وقد وجدت أوجز بيان لهذا الرأي في فصلٍ عنوانه «الحبكات المزدوجة في شيكسبير.» في كتاب سالينجر (Salinger) عن الكوميديا الشيكسبيرية (١٩٧٤م) إذ يقول:

إن شيكسبير يطبِّق أولًا الدرس الذي تعلَّمه في بناء حبكة مزدوجة متوازنة مترابطة، والأرجح أن يكون قد تعلَّم هذا الدرس من مسرحية المزاعم لا من سواها. ففي فصله الأول يقدِّم إلينا زواج كاترينا باعتباره مجرد وسيلة لتحقيق غاية معيَّنة، ألا وهي إطلاق حرية بيانكا في الزواج، والتنافس للفوز بيد بيانكا يشغل معظم الحوار، على الرغم من أن شيكسبير يكفل زخم الحدث بحبكته المزدوجة من خلال زيادة اهتمام الجمهور بكاترينا، وهو يحافظ على التضاد الكامن بين نصفَي حبكته بابتكار مَشاهد تتناول التظاهر بتعليم بيانكا قبل أن يعرض لنا «تعليم» بتروشيو لكاترينا في الفصل الرابع. وبعد ذلك يربط بين الحبكتين ربطًا يقوم على مبدأ العلة والمعلول، بطريقين؛ الطريق الأول هو جعل هورتنسو ومَن ينافسونه في حب بيانكا في الحقيقة أو في الظاهر يقدمون حوافز لتشجيع بتروشيو على «إذابة الجليد» أمامهم بأن يتزوج الأخت الكبرى، والثاني هو أن يجعل ترانيو يشرح لسيده هورتنسو أن «لنا مصلحة في هذا.» وسط مشهد زواج كاترينا (٣ / ٢ / ١٤٢)، ثم يجمع بين الزيجتين (مضافًا إليهما زواج هورتنسو من الأرملة) ابتغاء تحقيق المقارنة في المشهد الأخير، وليس هذا مجرد محاكاة لما يسمى الكوميديا الجديدة (في العصر الكلاسيكي) أو الحبكات الإيطالية، ولكنه تطبيق للمناهج الإيطالية لتحقيق أغراض جديدة (ص٢٢٥).

ولا شكَّ أن هذا صحيح إذا اعتبرنا المسرحية كوميديا، ولو لم تكُن كوميديا حب رومانسية، إذ إن التشابك بين الحبكتين واضح منذ البداية، بل بين الحبكات الثلاث ما دمنا اعتبرنا المدخل يمثل جزءًا لا يتجزأ من المسرحية، فهو يقدِّم الرابط الحقيقي الذي يوافق بين جميع العناصر ويكفل الوحدة، ألا وهو «الميتامسرح»، وما يفرضه من «نطاق دلالي تمثيلي». فآخر كلمات ترانيو في ختام الفصل الثاني تستخدم الكلمتين الدالتين «المكر» و«الحيلة» (cunning وcrafty) و«المزاعم» التي نشاهدها في مطلع المشهد الأول من الفصل الثالث تقوم على هذين المفهومين، أيْ إن مشهد تعليم بيانكا اللاتينية والموسيقى لا تقتصر أهميته على أن «المعلميْن المزعوميْن» من خُطَّاب بيانكا وأنهما متنكران، بل تتضمن مكر كلٍّ منهما إزاء الآخر وإزاء مكر بيانكا نفسها، فكلٌّ منهما يتحايل للفوز بقلبها، وهي تتحايل مستمتعةً بالتلاعب بهما، وفي ذروة جدلهما عمَّن تكون له الأولوية في إلقاء درسه تبرز لنا صورة لبيانكا لم نكُن رأيناها من قبل، فإذا كانت تمثلها حقًّا فإنها تكشف لنا عن زيف ادِّعائها الخضوع والطاعة والمسكنة، أيْ إننا قد نكتشف هنا أنها كانت تلعب «دورًا» معينًا فيما مضى، وهذه الصورة الجديدة تربطها ربطًا صادقًا بأختها كاترينا، الفتاة المستقلة التي تحدِّد لنفسها ما تقول وما تفعل، فهي تفاجئ أستاذيها قائلة:
أسأتُما إليَّ بالخلافِ حول أمرٍ لا يكونُ فيه الاختيارُ
إلَّا في يَدِي! وهذه إساءةٌ مُضاعفة.
فلستُ بالتلميذة الصغيرة التي تحتاج للتأديب،
وأرفضُ التقيد الدقيق بالسَّاعات والمواعيد المحدَّدة،
لكنَّما دُرُوسي أستقيها كيفما أشاءُ.
(٣ / ١ / ١٦–٢٠)
ونسمع في هذا بوضوح صدى قول كاترينا:
هل سيُحدِّد لي أحدٌ ساعاتٍ أعمل فيها أو لا أعمل؟
فكأنِّي لا أعرف ما أختار وما أترك؟ ها!
(١ / ١ / ١٠٣–١٠٤)
أيْ إننا نكتشف في هذا المشهد، الذي يرى فيه النقاد قمة «الفكاهة» والهزل، حقيقةً لا تسمح بالهزل ولا بالفكاهة، ففي ضوء قوة تعبيرها عن شخصيتها المستقلة نرى مؤشرًا إلى النطاق الدلالي التمثيلي الذي نحن بصدده، فهل كانت فعلًا الفتاة الوديعة المسالمة التي رأيناها؟ أم أنها كانت تقوم بدور تمثيلي معيَّن؟ وإذا كان من حقنا أن نتشكك فيما سبق أن شاهدناه وسمعناه، أفليس من حقنا أيضًا أن نتشكك في سواه؟ إنها تُصدر الأوامر للأستاذين (الزائفين) وتتلاعب بهما، فعندما يتظاهر لوسنتو (المتنكر في دور كامبيو المعلِّم) بترجمة النصِّ اللاتيني ويكشف لها عن هُويَّته ويصارحها بحبه، تتظاهر هي أيضًا بالترجمة لتقول له أقوالًا تثبت أنها سيدة الموقف بلا جدال:
أنا لا أعرفك. لا أثق فيك. حاذر أن يسمعنا. لا تتعلق بالآمال، لا تيأس.
(٣ / ٤٣–١٤١)

ويلي ذلك مباشرةً حوارٌ «رمزي» طريف، إذ يقول هورتنسو «الأوتار انضبطت يا سيدتي.» كأنما يعلِّق على ما قالته بيانكا، فيضيف لوسنتو، في شبه إشارة إلى منافسه «باستثناء الوتر الأغلظ والأسفل.» فيردُّ عليه هورتنسو ردًّا يعتمد على اللماحية قائلًا «الوتر الأسفل مضبوط. أمَّا الناشز فهو الوغد الأسفل!» (٤٤–٤٦)، ثم يقول جانبًا (أيْ لنفسه وللجمهور) ما يؤكد أنه يعني لوسنتو.

الموقف لا شكَّ فكاهي، ولكن فكاهته مُسخَّرة لتأكيد النطاق الدلالي التمثيلي، إذ إن بيانكا عرفت حقيقة «أستاذيها»، وأظهرت بالفعل تفضيلها للشابِّ لوسنتو، لكنها لم تُعطِه وعدًا صريحًا إذ «تأمره» ألَّا يتعلق بالآمال وألَّا ييأس في الوقت نفسه، كما أنها تُبدي رفضها (غير القاطع) لتودُّد هورتنسو، إذ تعتذر له عن نبرات الهزل أولًا قبل أن تقول له إنها لم تعُد طفلةً تبدأ درس الموسيقى بمعرفة السلالم الموسيقية، وعندما يصرِّح لها عن حبه باعتباره هورتنسو من خلال السُّلَّم الموسيقي الجديد الذي وضعه لها، تعرب عن رفضها الاستجابة له من خلال الأسلوب الملتوي نفسه قائلةً «لا! لا يعجبني! فأنا أوثر كل مناهجنا التقليدية … وأنا أنفر من نزوات استبدال المبتكرات الشاذة … بقواعد ثابتة الصحة.» (٧٧–٧٩). وبعد أن تخرج بيانكا نكتشف نحن شيئًا آخر عن هورتنسو، أيْ إنه واقعي وعينه على المال، ويقول لنا إنه يرفض الارتباط بحب فتاة تقبل الحطَّ من مكانتها بأن تتزوج مجرد مُعلِّم!

هذا المشهد الذي يعتبره بعض النقاد ذيلًا للفصل السابق، وكثيرًا ما يعتبره المُخرجون خاتمةً للنصف الأول من المسرحية عند تقديمها في جزأين على المسرح، مشهد وثيق الصلة بالمشهد الثاني الذي يصور زفاف كاترينا، إذ يتأخر بتروشيو عن الوصول باعتبار ذلك جزءًا من الدور الذي يمثله، وترانيو المتنكر في زيِّ لوسنتو يزعم أنه يعرف بتروشيو حقَّ المعرفة (وليس لهذا من سندٍ في النصِّ)، ويدافع عنه، فيلتقط وصف كاترينا له بأنه ذو «ملاعيب متفكِّهة»، ولديه «قدرة بالغة على الهزل» فيقول:

فإنَّه على فظاظتهْ
لديه ما عرفْتُه من حكمةٍ وعقل
ورغم ما لديه من مرحْ
فإنَّه لَذو أمانةٍ وذو شرفْ.
(٣ / ٢ / ٢٤–٢٥)
وتردُّ كاترينا قائلةً:
ورغم ذاكَ ليت أنَّ كاترينا هنا … ما شاهدَتْه قَطْ! (٢٦)
أيْ إنها توافق على وصف ترانيو العام لعريسها، ثم تخرج باكية وبيانكا تتبعها. وسرعان ما يأتي بيونديلو خادم لوسنتو ليصف لنا الدور الجديد الذي يمثله بتروشيو، ويصف حصانه وصفًا لا يستطيعه إلا الطبيب البيطري، في نحو عشرين سطرًا من النثر العجيب، ولننظر في بعض ما يقوله هذا الخادم الذي لم نكُن سمعنا منه كلامًا معقولًا من قبل:

الحصان أعرج … مصاب بالتهاب الغدة، ورشح الأنف، وتآكل العمود الفقري، وفمه منتفخ، مليء بالقروح الخبيثة، وفي أرجله أورام، وغضاريف المفاصل ملتهبة، والجلد أصفر من اليرقان، وخلف الأذنين انتفاخ يصيبه بالدوار، وتنهكه ديدان البطن، والظهر منحول، والكتف مخلوع …

(٣ / ٢ / ٤٩–٥٥)
أيْ إن هذا الوصف يمثل شطحةً من شطحات الخيال التي ترسم لنا صورة «جروتيسك» (بشعة مضحكة) للحصان، وقبلها وصفٌ مشابهٌ لراكب الحصان وخادمه، وبذلك تواصل جو الزيف الذي صاحبنا من خلال التنكر والتمثيل. وعندما يدخل بتروشيو مرتديًا ملابس جروتيسك أيضًا، يتأكد النطاق الدلالي التمثيلي الذي أشرت إليه في المشهد السابق. وأثناء غياب بتروشيو وعروسه وباقي الصحب للانتهاء من مراسم عَقد القِران، يظل على المسرح لوسنتو وخادمه ترانيو الذي يشرح ضرورة العثور على شخص يقوم بدور والد لوسنتو، أيْ إننا نشهد من جديد أن العقل المدبِّر في هذه الثنائية هو الخادم لا السيد، وعندما يعرض ترانيو على سيده الخطة التي وضعها، يقول لوسنتو عبارة تربطه ببتروشيو، إذ يقول إنه يودُّ أن يتزوج بيانكا سرًّا، مضيفًا:
فإذا عُقد قِراني لن آبَهَ لو عارضني العالَم كُلُّه
فسأحرصُ وأدافعُ عمَّن أملكه رغم أُنوف الخَلْق جميعًا.
(٣ / ٢ / ١٤٠-١٤١)
إنه يرى أن الزواج يمنحه الحقَّ في أن يملك زوجته، وهذا ما سوف يقوله بتروشيو بعد عودته مع الصحب من حفل عَقد القِران:
فإنَّني لَمالكٌ أُريد أنْ يكون في يدِي ما أملكْ!
إنَّها بضائعي أو قُلْ متاعي … منزلي وكلُّ ما يكون فِيه!
إنَّها حَقْلي وجُرْني وخُيولي بل وثِيراني وحتَّى حُمُري!
إنَّها لي كل شيء.
(٣ / ٢ / ٢٣٠–٢٣٣)
ومن ثَم يرحل بتروشيو مع كيت، كما سبق لي أن شرحت في تحليلي لعناصر الهزلية والكوميديا، مقتبسًا باقي سطور بتروشيو، وقبل أن أنتقل إلى الفصل الرابع أودُّ أن ألقي الضوء على ما أعتبره بداية «الصدام» الظاهري بين كاترينا وبتروشيو، وهو الذي يمكننا أن نعتبره عنصرًا من عناصر النطاق الدلالي التمثيلي، إذ تُبدي كاترينا للجميع أنها المرأة المستقلة التي لا تنصاع لأمر أحد، وفق دور «الشرسة»، الذي تحكم أداءه، إذ تقول عباراتٍ هلَّلت لها الناقدات النسويات في عصرنا أكبر تهليل، مثل:
… … … يبدو بأنَّكَ تنتوي
منذ البداية أنْ تُبيِّن كيف تَقهرْ،
وبأنْ تكون لي العريس الفظَّ والمُسيطِرْ.
(٢١٣–٢١٥)
هيَّا يا أصحابُ إلى مائدة العُرْس،
فأنا أدرك أنَّ المرأة يمكن أنْ تُقهرْ
إنْ فقدَتْ رُوحَ مُقاومةِ القهر.
(٢٢٠–٢٢٢)

أقول يمكننا أن نعتبر هذا «تمثيلًا»، أو تعتبره تعبيرًا صادقًا عمَّا تراه وتشعر به، وفي أيِّ الحالين يبرز دور بتروشيو «المُروِّض»، فهو يوافق كيت على ما تقول «لسوف يذهبون منصاعين يا كيت لأمرك.» (٢٢٣) ثم يبسط حُجَّته القائمة على أنه ما دام قد تزوجها فقد أصبحت ملك يمينه، ويَلي ذلك الموقف الذي ناقشته من قبل في إطار ملامح الهزلية، فخروجهما معًا قاصدَين منزله الريفي يمثل خطوته الأولى في سبيل ترويض زوجته «الشرسة»، بغض النظر عن حقيقة شراستها أو زيفها.

وعلى الرغم من اعتبار الفصل الرابع «فصل الترويض»، أو ما يسميه النقاد «مدرسة الترويض»، المستعار من وصف ترانيو لمغامرات الزوجين، فإنه الفصل الذي نشهد فيه تضفير خيوط الحبكات الثلاث في مرحلة أعتبرها مرحلة التعقيد الحقيقية، إذ تتشابك هنا الحبكة الرئيسية (ترويض كاترينا) مع الحبكة الثانوية (بيانكا وخُطَّابها) في إطار النطاق الدلالي التمثيلي (المدخل). فالفصل يتكون من خمسة مشاهد، الأول يتناول أولى خطوات الترويض وهي خطوة تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول سردي منثور والثاني «تمثيلي» منظوم، أمَّا الأول فيزيد طوله عن مائة سطر ويدور بين خدَم قصر بتروشيو ويحكي فيه جروميو خادم بتروشيو تفاصيل الرحلة من بيت والد كاترينا إلى قصر زوجها، وأمَّا الثاني فيمثل مسرحيًّا ما يعتبره بتروشيو الخطوة الأولى للترويض، وهي الحرمان من الطعام. والقسم الأول لا يرمي في الظاهر إلَّا إلى الفكاهة، ولكنه في رأي كثير من المحدثين ومُخرجي المسرح يرمي أيضًا إلى تصوير حياة أفراد الطبقة الفقيرة التي ينتمي إليها سلاي (في المدخل) من دون أوهام عن حقيقة أحوالهم ومعاناتهم. ويتولى جروميو الكلام باسم هؤلاء، فنسمع في مطلع المشهد:

تبًّا لكل منهكٍ من الخيول، وكل سيد مخبول، وكل دربٍ واعرٍ موحول! هل لقي رجل ما لقيته من الإذلال؟ أو اكتسى ما اكتسيته من أوحال؟ وهل حدا به الإرهاق مثلي لهذا الحال؟ أُرسِلتُ قبلهما لأشعل مدفأة، ويأتيان من بعدي لينعما بالدفء، لو لم أكُن ضئيل الجُرم كالقِدْر التي سرعان ما تسخن، لتجمدت شفتاي والتصقت بأسناني، ولالتصق اللسان بسقف حلقي، ولالتصق قلبي بجدار جوفي، قبل أن أشعل نارًا تنقذني من التجمد!

(٤ / ١ / ١–٨)
وبعد حوارٍ فكه بينه وبين خادم أقلَّ منزلة منه (كيرتيس) يحكي جرومير في نثر لا يقلُّ براعةً عن هذا النثر بعض ما حدث في الرحلة، وهو ما يتضمن أول خطوة من خطوات الترويض، ويكشف عن الحذق اللغوي الخاص الذي يتمتع به جروميو، وهو ما يميزه عن الباقين:

لو لم تكُن عارضَتْني لكنتَ سمعتَ كيف سَقَط حصانُها، وكيف كانت تحتَه، ولكنت سمعتَ كيف كان المكانُ موحلًا، وكيف لطَّخها الطين، وكيف تركها والحصان فوقها، وكيف ضربني لأنَّ حِصانها تعثَّر، وكيف خاضت في الأوحال لتمنعه من ضربي، وكيف علت شتائمه، وكيف توسَّلت إليه امرأةٌ لم تتوسَّلْ من قبلُ إلى أحد، وكيف كنتُ أصرخ، وكيف هرب الحصانان، وكيف انقطع الزمامُ في يدها، وكيف فقدتُ أنا مِقْوَديَ الجِلْدِيَّ …

(٤ / ١ / ٦٥–٧٢)

وما إن يصل بتروشيو حتى ينقضَّ بسبابه وشتائمه على الخدم، مُظهرًا درجة من الشراسة لم نشهدها فيه من قبل، ويبدي التفنن في أنواع الشتائم، كأنما ليبين لكاترينا أنه يستطيع أن يلعب لعبة «الشراسة»، هو أيضًا، بل وأن يكون أكثر من ندٍّ لها في هذه اللعبة، والخادم بيتر يقول ساخرًا «إنه يقهرها مستخدمًا سلاحها نفسه.» (٤ / ١ / ١٦٩). وبعد القرار الذي اتخذه «بالصيام»، معها هذه الليلة، يصحبها إلى غرفة النوم، ثم يعود إلينا وحده ليعلن لنا الخطة التي وضعها لترويض كاترينا — باعتبارها من إناث الصقور — بالحرمان من الطعام ومن النوم، وهو خِطابٌ جديرٌ بالتوقف قليلًا عنده.

من المعتاد أن نشير إلى أمثال هذا الخِطاب المنفرد باسم المناجاة (soliloquy) وهو المصطلح العربي الذي وضعه محمد مندور، بمعنى الحديث المنفرد الذي لا يخاطب المتكلِّم فيه أيَّ مستمع، أيْ «يكلم نفسه» ويعبِّر عن أفكاره ومشاعره لنفسه وهو يُستخدم في المسرح من جانب شخص يكشف عمَّا في ذاته في لحظة معيَّنة أثناء مسار الحدث، وقد يكون مبنيًّا على شيء حدث أو يمثل تعليقًا على ما يحدُث أو تأملًا لما يمكن أن يحدُث أو ما يمكن أن يفعله هذا الشخص في إطار الحدث، وقد يُشار إليه باسم المونولوج، ما دام حديثًا منفردًا، ولكنه يختلف عمَّا نسميه «المونولوج الدرامي» الذي يُنسب ابتداعه في الشعر الغنائي إلى روبرت براوننج (Browning)، الشاعر الإنجليزي ابن القرن التاسع عشر، حيث يتقمَّص الشاعر شخصيةً معيَّنةً ويتكلم بلسانها فيبني موقفًا دراميًّا يتطور ويصل إلى ذروة «درامية»، أيْ تمثل الكشف أو التكشف الذي عادةً ما يكون في آخر المسرحية، وهو ما يصفُه ت. س. إليوت بأنه «الصوت الثاني للشعر» (انظر تحليل ذلك في دراسات العلامة ماهر شفيق فريد عن نقد إليوت)، ومعنى ذلك أن علاقة المتحدث بحديثه في المونولوج هي التي تحدِّد إذا ما كان يتكلم بصوته (وفي المسرحية إذا كان يتكلم بصوت الشخصية التي يمثلها)، أو إن كان يتكلم بصوت مصطنع، أيْ باعتباره شخصًا آخر. وهذا ما يضفي أهميةً خاصةً على هذا المونولوج؛ فنحن نستمع إلى بتروشيو الذي يشرح لنا ما فعل ويقول لنا ما سيفعل، أيْ إنه يتكلم باسم الشخص الذي نفترض أنه بتروشيو «الحقيقي» — الممثل الذي يقوم بدور بتروشيو — أو هو الشخصية الأولى أو القناع الأول (١ persona)، وهو يقول لنا إنه سوف يصطنع لنفسه قناعًا آخر يتوسل به في ترويض كاترينا، ولنا من ثَم أن نسميه القناع الثاني (٢ persona)، وهو يخاطبنا، نحن مُشاهدي المسرحية وقراءها في السطور الأخيرة، أيْ إن القناع الأول يدري أنه قناع وأنه يمثل وهو يدعو مَن يراه أو يسمعه إلى التجاوب معه، وهذه لمسة «ميتامسرحية».

ومعنى هذا أننا سوف نصادفه في المَشاهد التالية وهو يتكلم بصوت القناع الثاني في تعامله مع كاترينا، وعلينا أن نميز بينهما استنادًا إلى النسيج، فاللغة التي يستخدمها بتروشيو تتغير حين يغير قناعه، وقد مرَّ بنا في هذا المشهد نفسه لمحات من تبديل الأقنعة، ففي طلب العشاء يقول بتروشيو «هيا يا أوغاد انطلقوا … آتوني بعشائي.» وعندما يخرج الخدَم يغني، أو يبدأ غناء أغنية يتحسر فيها المُغني على ضياع أيام «العزوبة»، ثم تلمح عينه كيت فيخرج من حالة الغناء ويقول لها بصوت الزوج الحنون «اجلسي كيت مرحبًا واستريحي.» ثم يكمل شطر الأغنية قائلًا: «بعتها بعتها وبعت الليالي!» (٤ / ١ / ١٢٥–١٢٨). وأقول استنادًا إلى خبرتي الشخصية إن الممثل الذي رأيته يؤدي هذا الدور كان يغير من نبرات صوته فجأةً بطريقة مفزعة ومضحكة، وكنت أردُّ ذلك لتبديله قناعًا بقناع، ولنا أن نعتبر شتائمه التي يتفنَّن في تلوينها من «إنتاج» القناع الثاني، فهي شتائم طريفة، تقتصر هنا على الخدَم «يا أغلظ فلاح … يا فرس الطاحون الأخرق … يا مَن دماغه كالمطرقة، ومَن تدلَّت الآذان منه كالكلاب!» ولكنها تتلون بطبيعة مَن يشتمه في المشهد الثالث؛ إذ يقول لحائك الثياب «يا خيط الإبرة! يا كستبان! يا برغوثًا! يا بيضة قملة! يا جندب ليل شتاء! يا بَكَرة خيط! يا فضلات نسيج بقيت بعد التفصيل!» (٤ / ٣ / ١٠٩–١١٣).

قلت عند بداية الحديث عن الفصل الرابع، فصل «الترويض»، إنه فصل تضفير الحبكات وإنه يتكون من خمسة مَشاهد، ناقشت أولها بقِسمَيه المنثور والمنظوم، واختتامه بالمونولوج الذي يصرِّح لنا فيه القناع الأول لبتروشيو باعتزامه التحول إلى القناع الثاني اللازم للترويض، وبينت أن هذا المونولوج يمثل نقطة تحول في المسرحية لأنه يمكننا من الوعي بوجود القناعين اللذَين يظهر بهما بتروشيو، وأمَّا المونولوج نفسه (١٧٧–٢٠٠) فهو يقوم على صورة شعرية واحدة هي ترويض أنثى الصقر، وهي صورة مهيمنة ممتدة، وكل ما يقوله بتروشيو يصبُّ فيها، ولا يتيح مكانًا لصور شعرية «محلية» أخرى، فهو يعتمد على لغة الفعل لا لغة التأمل الشعري.

ويتجلى لنا تضفير الحبكات كما قلت من خلال تتابع المَشاهد التي تمثل خيوط الحبكات، وأيضًا من خلال النسيج الذي يوحي بهذا التضفير، إذ نرى هورتنسو في المشهد الثاني يستخدم أيضًا صورة أنثى الصقر ولكن في الإشارة إلى بيانكا لا إلى كاترينا! فالمشهد الثاني يقدِّم لنا ترانيو المتنكر في صورة لوسنتو وهو يشارك هورتنسو المتنكر في صورة ليسيو معلِّم الموسيقى في مراقبة بيانكا مع لوسنتو (المتنكر في صورة معلِّم اللغات) خلسةً واستراق السمع إليها، ويقتنع هورتنسو بأن بيانكا تحب ذلك «المعلِّم» (لوسنتو) فيقرر نبذ هواها والزواج من أرملة ثرية:
فلقد كانت تُبدي لي الحُبَّ وقَلْبي
يعشق أُنثى صقرٍ تتباهى في خُيَلاءْ!
(٤ / ٢ / ٣٨-٣٩)
ويتابع ترانيو استخدام هذه الصورة بعد رحيل هورتنسو، فعندما يقابل سيده لوسنتو مع بيانكا في المشهد نفسه يقول لهما إن هورتنسو قد التحق بمدرسة الترويض، والتعلم على يدَي أستاذه بتروشيو، وإذَن فإن هذه الصورة تربط الحبكتين، وإذا افترضنا أن ترانيو قد استمع أثناء دخوله (مع بابتيستا وجريميو) إلى بتروشيو وهو يقول:
إذ إنَّني مَن جاءَ للدنيا لكي يُروِّضك … يا كيت …
وأنْ يحوِّلك … من «كيت» ذات الشَّراسة … من قطَّةٍ بريَّةٍ
إلى الأليفة التي نرى أمثالها في المنزلْ
(٢ / ١ / ٢٧٨–٢٨٠)

أقول إننا إذا افترضنا أن ترانيو سمع عن الترويض هنا، فما الذي جاء بصورة أنثى الصقر إلى خيال هورتنسو؟ بل وما الذي جعل ترانيو يتصور أن هورتنسو التحق ببتروشيو؟ لا سند لهذا أو ذاك في النص، إلا أن منطق الهزلية يسمح بافتراضه ولا تتيح لنا سرعة الأحداث التوقف للتحقق من أمثال هذه الإشارات في الواقع الفعلي، فسرعان ما ننشغل بحيلة أخرى حين يصادف بيونديلو التاجر الغريب عن البلدة، فيقنعه ترانيو (باعتباره لوسنتو) بأن حياته في خطر ما دام قد قدِم من مانتوا، ويبتكر له أكذوبةً طريفةً (يصعُب تصديقها خارج الهزلية) تقول: «كل فرد من أهالي مانتوا يجيء بادوا … عقابه الإعدام!» (٤ / ٢ / ٨٢) ولكن التاجر يصدِّق ويوافق على أن يتقمَّص شخصية فنشنتو والد لوسنتو، ويقيم في منزل «ابنه» المزعوم، (ويستمرُّ في أداء هذا الدور حتى يصل فنشنتو الحقيقي فيأمر الزائفُ بوضع الحقيقي في السجن في المشهد التالي).

واعتماد البناء على التضفير يعني تبادل المَشاهد بين الحبكتين، كما بيَّنت، إذ نترك بيانكا وحبيبها في بادوا وننتقل في المشهد الثالث إلى قصر بتروشيو الريفي، حيث نشهد جوع كاترينا، وأصناف الطعام التي يعرضها جروميو عليها حتى يسيل لعابها، وهي أطعمةٌ لا تخلو من طرافة، مثل «الكوارع» و«الكرشة» والشواء، حتى يأتي لها بتروشيو بطعامٍ يزعم أنه طهاه بنفسه، وعندما تبدأ الأكل يحثُّ بتروشيو صديقه هورتنسو (وتلميذه في «مدرسة الترويض») على أن يأكله كله إن استطاع، ويذكر النقاد أن الممثل الذي قام بدور هورتنسو في إخراج بوجدانوف (Bogdanov) للمسرحية عام ١٩٧٨م التهم دجاجةً كاملةً في زمنٍ قياسيٍّ بدا كأنه ثلاث ثوان! (هودجدون، ٢٠١٠م، ص٢٦٣)، وعادةً ما يشير النقاد إلى هذا المشهد باسم مشهد «الخياط» أو «مشهد الخردواتي»، حيث يعرض كلٌّ منهما ما أعدَّه من ملابس لكاترينا ويعارضهما بتروشيو معارضةً شديدةً فكهة، وحيث نسمع تعبير كاترينا عن إصرارها على إبداء رأيها، بأبيات منتظمة الإيقاع، وهو الشعر الذي يهلِّل النقاد والنسويات خصوصًا لروح «الاستقلال» التي تسوده، وقد اشتهر بمطلعه:
أظنُّ يا سيِّدي أنْ سوف تسمح لي
بأنْ أعبِّر عن رأيي بلا وَجَلِ
وهاك الأبيات الأخيرة:
لذاكَ أعتزم التَّصريح في ثقةٍ
بكُلِّ ما جاشَ في صدري وما عَبَرَا
وسوف أُرخي زِمامي للكلام هنا
كي لا يَضيعَ فُؤادي إنْ هُو انْكَسَرَا
فللِّسانِ عِنانٌ سوف أُطلقُهُ
لآخِرِ الشَّوْطِ حتَّى أَقضِيَ الوَطَرَا!
(٤ / ٣ / ٧٥، ٨١–٨٣)
ويحوِّل بتروشيو دفَّة الحديث مفترضًا أن كاترينا تقصد غير ما تقصد، ثم يتشاجر الحائك الذي يشتبك معه جروميو خادم بتروشيو الذي يقوم بدور المُهرِّج، وعندما ينتهي المشهد بقرار الرحيل إلى منزل بابتيستا والد كاترينا، من دون شراء أيَّة ملابس جديدة، يُلقي بتروشيو أبياتًا من النَّظم الذي يوحي بالأمثال والحِكَم (sententiae) التي يوجِّهها إلى الجمهور أيضًا، فجمهور عصر شيكسبير كان يحب الأمثال ويراها دليلًا على «البلاغة»، وإن كانت في الواقع أفكارًا وصورًا شعبيةً شائعة، كقولنا بالعربية «الغنى غنى النفس.» الذي يوازي قول بتروشيو إن العقل هو مكمن الثراء:
وهل للغُراب الأخضر اللَّونِ قيمةٌ
تفُوق بفضل الحُسْن في الرِّيش قُبَّرَة؟
وهل تَفضُلُ الأفعى بألوانِ جِلْدها
ثعابينَ أسماكٍ قليلٌ جمالُها؟
(٤ / ٣ / ١٧٤–١٧٥)
أيْ إننا نرى في هذا المشهد دور النسيج في إبراز استمرار المطارحة الفكرية والنفسية بين بتروشيو وكاترينا، فالشِّعر يقرِّب بينهما على الرغم من إصرار بتروشيو على إثارة غيظ كاترينا بأقواله الغريبة، وهو ما يعني أن صراع الإرادتين الفكه يقابله في الكفَّة الأخرى تفاهمٌ مبنيٌّ على الطاقة اللغوية المعبِّرة عن عنصر أصيل في الشخصيتين، وسرعان ما نرجع في المشهد التالي إلى مغامرة ترانيو مع التاجر الذي يقوم الآن بدور فنشنتو والد لوسنتو، ونتابع حبكة بيانكا مع حبيبها لوسنتو من خلال الخطة التي وضعها خادمه بيونديلو، وهي تمكينه من الزواج سرًّا منها، ويضيف شيكسبير لمحة سخرية من لوسنتو العاشق الرومانسي الذي يعبِّر عن خوفه لا من سريَّة الزواج، بل من احتمال رفضها إياه بعد طول تودُّد وتفاهم. وينتهي المشهد الرابع بصورة طريفة لهذا العاشق «المرتعد»، وهي التي تتناقض بشدة مع صورة بتروشيو. يقول لوسنتو:
لي أنْ أقترن بها وسأقترن بها إنْ رضيَتْ
هذا يُسعدها … فلماذا أتشكَّكْ؟ فليحدُثْ ما يحدُثْ!
سأُثير الموضوع بكلِّ صراحةٍ … سأُفاتحها،
سيشُقُّ عليَّ تقبُّلُ إخفاقي في الفوز بها.
(٤ / ٤ / ١٠٢–١٠٥)

وهكذا نصل في المشهد الخامس إلى بداية التوافق الذي تقبل بموجبه كاترينا أن تلعب اللعبة التي يريدها بتروشيو، وقد جئت في القسم الثالث الذي أتحدث فيه عن الكوميديا والهزلية بما يكفي من الأدلة على المودة التي نمَت على أُسُس التفاهم والجاذبية بين العروسين، وأكتفي هنا بتبيان الاشتباك البنائي الكامل في هذا المشهد بين الحبكتين، إذ يقابل العروسان فنشنتو الحقيقي والد لوسنتو، وإذا ببتروشيو يقول له إن ابنه لوسنتو قد تزوج (أو لا بدَّ أنه قد تزوج الآن) من بيانكا أخت كاترينا زوجته، ولهذا فإن بتروشيو يحقُّ له أن يناديه «يا أبي!» ولا يوجد في النصِّ ما يدل على أن بتروشيو سمع بذلك الزواج السري، ولكن هذا منطق الهزلية. ويزيد الطين بلة تأمين هورتنسو على ما قاله بتروشيوا! أنَّى له أن يعرف؟ وعندما يخرج الجميع تاركين هورتنسو إذا به يقول إنه تعلَّم الترويض، فإذا وجد في مسلك الأرملة التي سيقترن بها أيَّة شراسة، فسوف يروِّضها.

وتتلاقى في الفصل الخامس خيوط الحبكات في الهزلية، إذ أصبح بتروشيو عضوًا بالمصاهرة في أُسرة بابتيستا، بل يشارك في إتمام خِطبة بيانكا فيأتي بوالد لوسنتو الحقيقي (فنشنتو) إلى منزل ابنه حيث يقع الصدام بين هذا الوالد وبين التاجر الذي جعله ترانيو يتنكر في زيِّ فنشنتو، وهو الذي يشارك فيه أشخاص المسرحية كلهم تقريبًا، والمشهد يتميز بالسرعة والصخب، وربما يكون ذلك سبب كتابته نثرًا.

والمشهد الأول يتضمن، قبل الصدام المحتوم بين فنشنتو والتاجر الذي ينتحل شخصيته، تنفيذ خطة عَقد القِران السري بين لوسنتو وبيانكا، بمساعدة بيونديلو، وعندما يصل بتروشيو مع كاترينا، وفنشنتو وجروميو خادم بتروشيو، يجدون جريميو الهرِم الأبله واقفًا وحده في انتظار وصول كامبيو (أيْ لوسنتو)، إذ لا يزال جريميو يأمل أن يساعده هذا في الزواج من بيانكا. وعند وقوع الصدام المحتوم نلمح دليلًا قاطعًا على الوفاق الذي تحقق بين بتروشيو وكاترينا، إذ يرجوها أن تقف معه وحدهما في ركنٍ من أركان المسرح لمشاهدة ذلك الصدام (السطر ٥٥). وبعد الهرج والمرج يعود لوسنتو مع عروسه بعد الزواج في الكنيسة، ويتولى لوسنتو وبيانكا شرح ما حدث، ونعود إلى الشِّعر فيقول لوسنتو أبياته السبعة التي تبدأ:

حقَّق الحُبُّ هذه المعجزاتِ!
فبيانكا غرامُها أوحَى لي
أنْ يحُلَّ الفتى ترانيو مكاني،
فغَدَا في الدِّيار يُدعَى لوسنتو،
ريثما حقَّق الزَّمانُ مَرامي …
(٥ / ١ / ١١٤–١١٦)

وعندما يخرج معظم مَن على المسرح نسمع كاترينا تقول لبتروشيو «هيا نتبعهم يا زوجي حتى نشهد آخر تلك الضجة.» (١٣٣) وهو الذي يرجع صدى السطر ٥٥ أعلاه، ويمهِّد للحظة الوفاق الكامل حين يطلب بتروشيو قُبلة، وبعد مناوشة ضاحكة تعطيه القُبلة! وكأنما يريد بتروشيو أن يقول لها إن هذه قُبلة حب لبتروشيو الحقيقي (القناع الأول) يقول:

هيَّا إذَن يا كيتُ يا حبيبتي … قد كان ذاك صادقًا
مهْما يَزِدْ تأخيرُ ما تأتي به … يأتي لنا مُوفَّقًا
فإنَّما أوانُ فِعْل الخير لا يَفوتُ مُطلقًا!
(٥ / ١ / ١٤٠–١٤٢)

والمشهد التالي، الأخير في المسرحية، يشير إليه النقاد باسم «مشهد الرهان»، حيث يتراهن الأزواج الثلاثة حول مدى طاعة زوجاتهم، ولكن أهميته ترجع إلى خِطاب كاترينا الأخير الذي من المفترض أن يمثل فضَّ التعقيد، أو حلَّ العقدة، ولكنه في الحقيقة يقدِّم العقدة التي استعصت على الحلِّ النهائي حتى اليوم، والمقصود طبعًا هذا السؤال: هل يؤكد خِطاب كاترينا الأخير ما يبدو من حقِّ الزوج في السيطرة على الزوجة؟ أيْ: هل ترمي كاترينا إلى أن تقول جادةً إن خضوع الزوجة للزوج يحقق ما أشار إليه بتروشيو من تبشير «بالسلم وبالحب وبالعيش الهادئ» (٥ / ٢ / ١١٤)؟ أم تُراها تواصل تمثيل دورها، وبذلك تمثل نجاح المرأة في السيطرة على الزوج بخداعه، أيْ بإيهامه أنه المسيطر؟ وبعض النقاد يرى أن الخِطاب يقبل هذه التفسيرات جميعًا، ولننظر إذَن في دور النسيج في بناء المشهد.

يبدأ المشهد شعرًا، وهو شعر لم نكُن نتوقعه من لوسنتو العاشق الرومانسي الذي ظلَّ خلال أحداث المسرحية متنكرًا في زيِّ كامبيو معلِّم اللغات الكلاسيكية، ولحنه الأساسي في هذا الشعر هو التناغم بعد النشاز، ما دامت المناسبة هي الاحتفال بزيجاتٍ ثلاثٍ معًا، ويتجلى في الشعر ميله إلى المبالغة التي يسخر منها شيكسبير مثلما سخر من الصور الكلاسيكية العجيبة التي أتى بها هذا العاشق من قبل (١ / ١ / ١٥٢-١٥٣، ١٦٧–١٧٠) ويبدأ قائلًا:

أخيرًا ومن بعد طول النَّشاز بألحاننا والشِّقاقْ
أتتْ بالتناغم روحُ الوِفاقْ
فعند انتهاء الحروبِ الغَضُوبِ يعود ابتسامُ الشِّفاهْ
فننسى به كيف خُضْنا المَشاقْ
وننسى المخاطر بعد النَّجاة
(٥ / ٢ / ١–٤)

ولكن تناغم ضيوف المأدبة ينبئ عن شقاقٍ دفين، فيبدأ الحوار الهازل الذي يرمي إلى إثارة الشكِّ في مدى الوفاق بين الأزواج، وهي «موتيفة» نادرة في أعمال شيكسبير، فالمعتاد أن تنتهي الكوميديا بالزواج أو بالوعد به وحسب، أمَّا مناقشة علاقة الأزواج فقد اقتضاها منطق هزلية «ترويض الشرسة»؛ أيْ إن المسرحية تثير التساؤل في هذه المحطة عن مدى نجاح بتروشيو في بلوغ التوافق مع زوجته الشرسة، ومدى ما تتمتع الزوجتان الأخريان اللتان لا شراسة بهما من توافق مع زوجيهما. ذلك أن عالم المال والتجارة والقيم المادية في بادوا يختلف عن سائر البلدان، وسيطرة المادة على أذهان الطبقة التي ينتمي إليها الأزواج جميعًا تجعل للمال دورًا دفينًا ربما كان بتروشيو خير مَن يعرفه.

«وفي هذا السياق» (كما تقول كيدني (٢٠٠٦م، ص٥١)) «فإن قرار هورتنسو أن يتزوج أرملةً قرار له مغزًى خاص، وهي شخصية لا اسم لها، وتُدعى بصفتها (الأرملة) وحسب، لا بصفة الزوجة إلَّا فيما ندر، وكانت الأرامل شخصياتٍ تثير قلقًا شديدًا في بواكير العصر الحديث في إنجلترا، لأنهنَّ كُنَّ من بين أنماط النساء القليلة اللائي كان من حقهن امتلاك الأموال والعقارات بصورة مستقلة عن الرجال؛ فإذا تزوجت الأرملة مرة أخرى، كان من المعتاد أن تئول تركتها إلى زوجها الثاني (إلا إذا كانت قد قررت «وقفها»، وفي هذه الحال كان يمكن للتركة أن تئول إلى أملاك أُسرة زوجها الأول أو إلى أولادها)، ولكنها ما دامت غير متزوجة فإن من حقها قانونًا أن تدير شئونها المالية وحياتها الجنسية. وهكذا فإن مأدبة الزفاف تستكمل فحص المسرحية لأدوار المرأة في الخِطبة والزواج بإجراء منافسة بين ثلاثة أنماط متطرفة لصورة الأنثى المتمردة على المسرح، وهي نمط الشرسة، ونمط الأرملة، ونمط الهاربة، وأيُّ صورة من هذه كان يمكن أن تبدو لمخيلة الناس في بواكير الحقبة الحديثة تجسيدًا لمخاوف الرجل إزاء الأنوثة غير المقيدة.»

أيْ إن هذا المشهد منذ بدايته حافل بأسباب التوتر، ومن ثَم فإن قول بتروشيو إنه يرى أن هورتنسو يخشى أرملته يستند إلى واقع يعرفه الجميع، والحوار الذي يبدو في ظاهره لاهيًا حوارٌ جادٌّ في أعماقه، فإن الأرملة تردُّ عليه الردَّ المُفحِم ما دامت تظن أنه قد تزوج امرأةً شرسةً يخافها، ولكنه يحتملها من أجل مالها، قائلة:

ومَن يَكُ رأسُهُ يومًا يدورُ
يظنُّ الأرضَ والدنيا تدورُ

والبيت قريب من قولنا بالعربية:

ومَن يَكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يَجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا
وعندما تشارك بيانكا بفكاهةٍ عن قرن الديوث يعجب الصحب ويسألها حموها «هل ذاك أيقظك؟» (أي «صح النوم!» بالعامية المصرية)، وهذا الحوار الفكه الذي يعتمد عليه النسيج يُخفي ما أشرت إليه من حقائق المجتمع الرأسمالي الذي يقدس المال، فالنماذج المتطرفة للمرأة المعارضة للأعراف تواجه أزواجًا تجمعهم القيم المادية، ولذلك فمن الطبيعي أن يقترح بتروشيو عَقد رهان حول مدى طاعة الزوجات لأزواجهن:
دَعْ كُلًّا منهم يرسل في طلب قرينته ولْنتراهَنْ،
مَن تُبدي أكبر قدْرٍ من طاقتها للزوج وتأتي
قبْل سِواها تضمن للزوج الفوز بمقدار رهانٍ
نتَّفقُ عليه الآنْ.
(٥ / ٢ / ٦٦–٧٧)
وعندما ترفض بيانكا والأرملة الحضور وتأتي كاترينا، يعجب الجميع للتحول الذي يشهدونه، فعهدهم بها أن تبدي ما ذاع عنها من «شراسة»، وهي تدخل — بإجماع النقاد ومُخرجي المسرح — في ثقةٍ واطمئنانٍ لتسأل زوجها عمَّا يبتغي، فيأمرها أن تجيء بالزوجتين العاصيتين، فتلبي أمره، وكل الحاضرين في دهشة كأن ما يرونه حدثًا خارقًا، وعندما تعود النساء الثلاث، يأمر بتروشيو زوجته بأن تلقِّن الزوجتين درسًا، فتلقي حديثها الشهير الذي يختلف النقاد في تفسيره من حيث النغمة (tone).
ولقد سبق لي أن ذكرت أن «النغمة» عنصر من عناصر «النطاق الدلالي» (register) الذي شرحته قائلًا إنه نطاق الدلالات التي يتوقعها مَن نشأ في ثقافةٍ معيَّنةٍ من الكلام المنطوق في إطار هذه الثقافة (هاليداي) وفي السياق الناشئ من تلك الثقافة والمرتبط بها، ونحن نستعين بالنطاق الدلالي في تحديد «النغمة» التي نُعنى بها إن كان المتكلم جادًّا أو هازلًا، أيْ إن كان يعني ما يقول حقًّا أو كان يعني عكس ما يقول أو شيئًا مختلفًا عنه وحسب، أو إن كان يقصد السخرية أو الهجاء مثلًا حتى وهو يمتدح، ولذلك اختلف النقاد ومُخرجو المسرح والممثلون في تفسير نغمة الخِطاب بسبب اختلافهم في تحديد النطاق الدلالي للمشهد الأخير الذي يصفُه المُخرج المعاصر بوجدانوف (Bogdanov) بأنه حافل بالدلالات الظاهرة والخفيَّة والمعاني الاجتماعية والجنسية المضمرة (٢٠٠٣م، ص١٤٥ من المجلد الأول)، وقد حاولت رصد تطور تحديد نغمة الخِطاب ما بين الجِدِّ والسخرية في نصف القرن الأخير، فلم أستطع أن أجد تطورًا يسير في اتساق من نغمةٍ إلى نغمة، إذ دائمًا ما تختلط النظرات وتسير في خطوط متعرجة، فقد تجد في عامٍ واحدٍ مَن يدافع عن كون الحديث جادًّا ومَن يدافع عن كونه ساخرًا، وإن يكُن الاتجاه الحديث عمومًا، باستثناءاتٍ ضئيلة، يميل إلى تأكيد قوَّة كاترينا واستقلالها وثقتها بذاتها، استنادًا إلى النطاق الدلالي للمشهد الأخير وللمسرحية كلها، مع اختلافاتٍ طفيفة في تفسير النغمة ما بين الجِدِّ والهزل.
وقد أبدأ بالباحثة ميوريل برادبروك (Bradbrook) التي تعتبر الخطاب ثمرةً «للتعليم» الذي تلقته كاترينا على يدَي بتروشيو عن نفسها وأعراف مجتمعها وما إلى ذلك بسبيل، مدافعةً عنها في دراستها المنشورة عام ١٩٥٨م، في وجه الهجوم القاسي الذي كانت تتعرض له من جانب برناردشو (G. Bernard Shaw) والسير آرثر كويلار-كوتش (Quiller-Couch) في مقدمته لطبعة كيمبريدج للمسرحية عام ١٩٢٨م (الطبعة الثانية ١٩٥٣م)، ولكن فكرة التعليم لم تلقَ آذانًا صاغية، وإن كان رأي مارجريت وبستر (Webster) (١٩٤٢م)، وجو دارد (Goddard) (١٩٥١م) في تفسير خِطاب كاترينا بأنه ساخر قد بدأ يلقى مَن يؤيده ويتحمس له، خصوصًا من جانب أوائل دُعاة النقد النسوي، وقد ردَّ هايلمان (١٩٦٦م) على هذا الاتجاه التفسيري قائلًا إن الزعم بأن الخِطاب الأخير ساخر، أيْ إن كاترينا لا تعني ما تقول أو الزعم بأنها تخدع بتروشيو وحسب، زعم لا يؤيده النصُّ ولا تؤيده أحداث المسرحية، فالبطلة جادة فيما تقول ولا نستطيع أن نجد في الخِطاب سطورًا ساخرةً إلا السطور السبعة أو الثمانية الأخيرة (١٩٦٦م) (ص٧٠). وتفسيره يقوم على أنها اكتشفت ذاتها الحقيقية ووجدت أن الحب الذي تكنُّه للرجل الذي تزوجها ورأى فيها ما لم يرَه غيره يفرض عليها أن تتوافق معه ولو كان ذلك بالانصياع إلى أعراف المجتمع التي كانت ترفضها (وربما ظلت ترفضها في أعماقها) حتى تلك اللحظة.
وكان رأي هايلمان الذي يمثل التوازن بين الجِدِّ والسخرية يلتقي في الواقع مع دُعاة المذهب النسوي آنذاك مثل جيرمين جرير (Germaine Greer) التي قالت إن كاترينا تمثل الكائن المستقل الذي يرتبط واعيًا بكائنٍ آخر، وهي تقبل المرتبة الثانية في الزواج الذي يفرضها المجتمع بروح المرأة التي تتمتع بالطاقة اللازمة لتحقيق ذاتها، ولو ظاهريًّا في تلك المرتبة، و«قد أسعدها الحظُّ بلقاء بتروشيو الذي كان يريد امرأةً ذات روح صلبة وطاقة فيَّاضة جديرة بالحفاظ عليها، وهي تكافئه بطاقة جنسية عارمة وإخلاص لا يتزعزع.» وتضيف قائلةً: «إن تنازل امرأة مثل كيت تنازلٌ أصيلٌ ومثيرٌ لأن لديها ما تتنازل عنه، ألا وهو كبرياؤها العذراء وفرديتها.» (١٩٧١م، ص٥-٦)، وتردِّد ما يشبه هذا آن بارتون (Barton) في مقدمتها لطبعة ريفرسايد للمسرحية قائلة إن «ما يريده بتروشيو وما يحصل عليه في النهاية يتمثل في كاترينا التي لم تنكسر روحها ولم تفقد مرحها، إذ لم تتعرض إلَّا لمتاعب جسدية طفيفة وبعد أن تعلمت قيمة ضبط النفس والحرص على شخص آخر غير ذاتها.» (١٩٧٤م، ص١٠٦).
وفي السبعينيات أيضًا يعارض الناقد ر. سي. هود (Hood) في مقدمته لطبعة ماكميلان للمسرحية تفسير الخِطاب بأن نغمته ساخرة بالتمهيد المنطقي لذلك، إذ يقول عن تطور حدث المسرحية إننا نجد هنا صورةً لكاترينا ذات الذكاء النادر واللماحية والحساسية، والقدرة على تقدير قيمة التجربة الثرية التي تخوضها مع بتروشيو في اللغة والخيال ذي الشطحات، والاستجابة لها بأكمل الصور الإنسانية. ثم يبين أننا نشاهدهما معًا، اعتبارًا من نهاية الفصل الرابع، باعتبارهما زوجًا وزوجة، وعندما يصل إلى المشهد الأخير يقول: نستطيع الوثوق إلى حدٍّ معقول في كاترينا في المشهد الأخير من المسرحية، ولكننا نفتقر مع بتروشيو إلى الثقة المطلقة في مدى التحول الذي حدث لها، بعد أن رجعت الآن إلى عالمها المألوف، وفي لحظة عابرة مثيرة نراها امرأةً تتمتع بالاستقلال الطاغي عن بتروشيو، ثم تبدأ إلقاء خِطابها الشهير الذي يؤكد مدى ثقتها فيه والتزامها بالرباط بينهما، ليست هذه لعبة عارضة، إذ تختلط فيها الأفكار العامة المعلنة بمشاعر الحب الخاصة المكنونة، بأسلوب لا ينكر أحدٌ ما فيه من جِدٍّ وإلحاح. ولم يحدُث قطُّ أن عجز هذا الخِطاب عن الإقناع في المسرح. وهذا برهان قاطع على خطأ أولئك النقاد الذين يرون أنه يقصد السخرية، فنحن لا نجد هنا أدنى أثر للإحساس بالحرج أو الذلَّة أو المسكنة عند كاترينا هنا، بل إن لغتها تتسم بالحيوية وعمق الإحساس والعدوانية بأسلوب إيجابي مثير. والواقع أن بيانكا هي التي تهيأت لاكتساب الوصف الضيِّق بالشراسة، وأمَّا كاترينا فقد تحررت من دورها النمطي فأصبحت امرأة لا تقتصر على تمثيل الزوجة الإليزابيثية المثالية، بل أصبحت امرأة بأكمل معاني هذه الكلمة وأثراها. (١٩٧٥م) (ص٢٤-٢٥).
وأمَّا أشدُّ الأصوات تأثيرًا من حيث الموقف النقدي الذي يلتزم بظاهر النصِّ ولا يعمد قطُّ إلى التأويل فهو صوت بريان موريس (Morris) محرِّر طبعة آردن الثانية للمسرحية (١٩٨١م)، إذ يفنِّد آراء النقاد الذين يجدون في خِطاب كاترينا الأخير ما يوحي بالسخرية، أي التظاهر وحسب بالانصياع لإرادة بتروشيو، ويختصُّ بهجومه رالف بيري (Perry) (١٩٧٢م) ومايكل ويست (West) (١٩٧٤م) (ومارجريت وبستر وجيرمين جرير بطبيعة الحال) قائلًا إنهم واهمون ويعمدون إلى التأويل بدافع أيديولوجي هو نصرة المرأة أي المذهب النسوي في النقد، قائلًا:

لا شكَّ إطلاقًا في أن القصد من خِطاب «الطاعة» أن يكون المقولة النهائية حول موضوع الحب والزواج. إنه يبلغ ٤٤ سطرًا طولًا والمسرحية تنتهي بعده بعشرة أسطر، وهو خُطبة منتظمة رائعة ولا يطعن فيها أحد. وهكذا فمن المُهمِّ أن نتوخَّى الوضوح التام بشأن ما تقوله كاترينا وتأثير الدلالات المترتبة عليه في جمهور المسرحية الأصلي (ص١٤٤-١٤٥).

ويدافع موريس عن حُجَّة كاترينا القائمة على المراتبية ونظام الحكم في الدولة، بل والنظام الكوني، قائلًا إن ذلك كله منصوصٌ عليه في الكتاب المقدس وشروحه وكُتُب المواعظ المبنية عليه، ويقتطف منها — ومن كتاب الصلوات العامة (البروتستانتي) — فقرات كثيرة تؤكد ما تقوله كاترينا، ومؤكدًا سلسلة المراتب التي تقول إن الزوجة تخضع للزوج، مثلما يخضع الزوج للملك، ومثلما يخضع الملك لله، رب الكون الوحيد. وينتهي من ذلك إلى أن يقول «من المحال أن يكون شيكسبير قد قصد إلقاء هذا الخِطاب بنبرات السخرية.» (ص١٤٦).

ومن الطريف أن يصدر في عام ١٩٨١م نفسه كتاب كوبيليا قان (Coppelia Kahn) عن أملاك الرجل؛ هُويَّة الذَّكر في شيكسبير الذي تتصدى فيه تحديدًا لقضية النغمة في هذا الخِطاب وتعارض موريس معارضةً مطلقة. ولأحاول أن أعرض رأيها بإيجاز، فهي تقول إن الأمر لا يقتصر على أن الخِطاب ساخر وحسب، بل إن المسرحية كلها هجاء ساخر للنزعة الذكورية للسيطرة على المرأة وللحِيَل التي تلجأ إليها المرأة للردِّ على هذه النزعة (ص١٠٤–١١٨). ويبدأ هذا الهجاء الساخر في نظر «قان»، بالصعلوك كريستوفر سلاي (في المدخل)، إذ إن ممارسته السلطة على زوجته في عالم الوهم (أي حين يُخيَّل إليه أنه لورد وأن بارثلوميو غلام اللورد هو زوجته) تتناقض تناقضًا مضحكًا مع إذلاله على أيدي صاحبة الحان. وتقول إن جميع الشخصيات من الذكور في حبكة الترويض وفي الحبكة الفرعية يتعرضون للهجاء الساخر بسبب انشغالهم المَرَضي بالمال وتضخيمهم المضحك لشراسة كاترينا. والمبالغة هنا تنفي صدق المقصد، فكلام بتروشيو في خِطابه العجيب «إنها بضائعي أو قُلْ متاعي.» (٣ / ٢ / ٢٢٣–٢٤٠) وخطابه المنفرد (المناجاة) الذي يبدأ «هكذا كان شروعي في تولي الحكم بالحيلة.» (٤ / ١ / ١٧٧–٢٠٠)، كلام ذو نبرات عالية بل صارخة إلى الحدِّ الذي يتعذر معه أن نحمله على محمل الجِد، فهذا وذاك، كما تقول قان، «يصوران المرأة، بلا حياءٍ، في الزواج تصويرًا يخسف مكانتها خسفًا شديدًا، ويعلنان بوضوح مرتبة أدنى من الإنسان، وأن الغرض من وجودها لا يتجاوز إرضاء زوجها.» (ص١١٢).
وهكذا فإن قان تعتقد أن القصد هو إحداث الصدمة التي تنبَّهنا إلى سخافة القول بتفوق الذكور. وتقول آن طومسون (Ann Thompson) (١٩٨٤م، ص٣٨) إن تاريخ تقديم المسرحية على المسرح والنقد الذي كُتب عنها على مرِّ السنين يؤيد نظرة قان، إذ يبين أن عددًا كبيرًا من الجماهير والقراء قد وجدوا هذين الخطابين صادمين. وتقول قان إن نقطة التحول في حدث المسرحية هي (٤ / ٥)، وهي مثال آخر على السخف المتعمد، إذ إن بتروشيو يستطيع، لأنه رجل، أن يفرض على زوجته «الحقيقة» الباطلة بوضوح؛ وهي أن الشمس هي القمر، وأن فنشنتو الهرِم غادةٌ حسناء. وتقول قان إن كاترينا تستجيب للزعم الأخير «بأن تتظاهر بأنها تقبله تظاهرًا مبالغًا فيه بحيث يقنعنا بأنها من المُحال أن تكون جادة.» (ص١١٣). أيْ إن كاترينا هنا، وفي المشهد الأخير، تعمد إلى التطرف عمدًا، وهو ما يدل على تشككها فيما يحدُث ويؤكد استقلالها في النهاية، أيْ إنها تبدي استعدادها لمجاراة وهم تفوُّق الذكور، ولكنها في الوقت نفسه تسخر منه باعتباره مجرَّد وهم.
والمشكلة الكامنة في هذا التفسير هو أنه يجعل انتصار بتروشيو انتصارًا أجوف، ويمكن أن يؤدي إلى حياة زوجية غير هانئة، ولكن قان وجدت ردًّا على ذلك قائلة:

لما كانت المسرحية ترسم لبطلتها، على أعمق مستوى، صورة المرأة المنصاعة في الظاهر والمستقلة في الباطن، فإنها تمثل ما يمكن اعتباره أعزَّ وهمٍ يتعلق به الذَّكر، ألا وهو أن تظل المرأة غير مُروَّضة حتى في خضوعها له. هل يعرف بتروشيو أنه خُدع؟ الأرجح أنه يعرف، ما دام قد لعب بنفسه لعبة إثبات النفي ونفي الإثبات. هل كان من المحتمل أن يستمتع بالزواج من امرأة بليدة صالحة مثل كيت التي تُلقي موعظة الزواج؟ جميع المؤشرات تنفي ذلك. إذَن هل نستطيع أن نَخلُص إلى القول بأن بتروشيو يتساوى مع كيت في إدراك أنه يلعب دورًا زائفًا في هذا الزواج، وهو دور المروِّض الظافر والسيد الراضي عن ذاته؟ أظن أننا نستطيع ذلك. (ص٢١٧).

وهكذا، وفقًا لما تقوله كوبيليا قان، فإن لدينا شخصيتين، يغمز كلٌّ منهما إلى الجمهور — إذا شئنا التعبير المجازي عن مقصد السخرية — في المشهد الأخير، إذ إن كاترينا قد أتاحت لبتروشيو أن يُرضي غروره الذكوري بإبداء طاعتها علنًا، وإن كان كلٌّ منهما يعرف مدى زيف ذلك الاستعراض وكذبه.

والواقع أن كوبيليا قان كانت قد نشرت الفصل الذي عرضتُ له في كتابها المذكور قبل ذلك عام ١٩٧٥م، في مجلة دراسات في اللغات الحديثة، وكان قد سبقها إلى مثل هذا التفسير ألكسندر ليجات (Leggatt) في كتابه عن كوميديا الحب عند شيكسبير (١٩٧٤م) الذي يؤكد فيه أن الزوجين «يمثلان» دور الثائر على الأعراف الظاهرية للمجتمع، ويضمران عمق العاطفة والرقَّة الإنسانية، وأن دور بتروشيو كان أن يمثل مرآة لسلوكها (المصطنع) ويبين لها بقسوته (المصطنعة) قيمة التناغم، أيْ قيمة صدق سلوك المرء مع مشاعره، أو ما يسميه ج. ر. هيبارد (Hibbard) «قيمة النظام والأدب التي لم تكُن كاترينا تعترف بها من قبل» (في مقدمته لطبعة بنجوين للمسرحية ١٩٦٨م، ص٢١). وليجات يؤيد التفسير الذي قدمته لموقف الزوجين من مقابلة التاجر (في قسم الهزلية والكوميديا أعلاه). ولنا أن نقول إن افتراض «التمثيل» الذي ابتدأ في هذه الفترة، بفضل تأثير كتاب كوبيليا قان الذي أصبح مرجعًا للنقد النسوي في العقود التالية، أمسى راسخ الجذور، على الرغم من هجوم بعض داعيات النقد النسوي عليه، مثل ليندا بامبر (Bamber) في كتابها الصادر عام ١٩٨٢م، والذي يمثل المرحلة القديمة للنقد النسوي (أو النقد النسوي التقليدي، إذ يصف النقاد التطور الجديد لهذا التيار النقدي بأنه ما بعد النسوية (postfeminism)؛ أي الذي لا يرى أن قضية «الصراع» بين الجنسين هي القضية الرئيسية في المسرحية، كما تقول طومسون ص٤٧)، إذ إن بامبر تبدي غضبها من «سيطرة الرجل المادية والاجتماعية والاقتصادية.» ومن خطاب كاترينا الأخير الذي ترى فيه الحطَّ من مكانة المرأة، وهو ما ردَّت عليه آن طومسون قائلةً إنها بذلك تقيم معادلةً بين الفن والواقع، «وتبالغ في السلطة المعنوية للفن» (وهو ما ناقشته هاريت هوكنز (Harriet Hawkins) في كتابها الصادر عام ١٩٧٢م). ثم تقول طومسون: «إن المشكلة الحقيقية موجودة خارج المسرحية، وهي أن خضوع المرأة للرجل، على الرغم من وضوح ظلم ذلك واستحالة تبريره، ما زال منتشرًا في شتَّى أرجاء العالم تقريبًا. العالم هو الذي يغضبنا لا شيكسبير» (ص٤٠-٤١). وتقتبس بامبر بعض آراء باربر (C. L. Barber) الذي يميز بين الكوميديا الهجائية والكوميديا الساتورنية (أي الاحتفالية) إذ يقول باربر «إن الكوميديا الهجائية تعالج عادة العلاقات بين الطبقات الاجتماعية والانحرافات في حركة كلٍّ منها، وأمَّا الكوميديا الساتورنية فهي لا تتضمن الهجاء إلا «عرضًا» وإيضاحها يأتي من الحركة ما بين قطبَي الحبس والانفراج (للمشاعر) في خبرة كل إنسان» (مقتطف في بامبر ص١٦٧). وتنتهي من ذلك إلى أن تقول إن «الشرسة» ينصبُّ عليها الهجاء الفكاهي المستند إلى العلاقة بين الطبقات «أيْ بين طبقتَي الرجال والنساء» (ص١٦٨). وهذا أغرب تعريف للطبقة في حدود ما أعرف!
وإذا كان تيار النقد النسوي قد اعتمد كما تقول طومسون على علم النفس (وهي تسميه التحليل النفسي ص٤٧) حتى تلك الآونة، فإن دراسة فريدريك جيمسون للمسرحية أرست أُسُسًا أشمل لما نجده في المسرحية من ظواهر سيطرة الزوج على الزوجة، فهو يؤمن بأن المسرحية تقوم على «التمثيل»، أيْ على تقمُّص أدوار معيَّنة، ومن ثَم فهي تتوسل بالوهم بقدْر ما تتمثل بالواقع، وهو يصف خِطاب كاترينا الأخير بأنه «حلٌّ خيالي وشكلي لتناقضات اجتماعية لا تقبل التوفيق بينها» (في كتابه اللاوعي السياسي، ١٩٨١م، ص٧٩). وهو يصف ذلك الحلَّ الظاهري بأنه «سرابٌ أيديولوجي» (ص٥٦) قائلًا إننا نجد، على مستوى الحبكة أن ترويض إحدى الشرسات صاحَبه ظهور شرستين (كاترينا في مقابل بيانكا والأرملة) ومن ثَم فإن زعم كاترينا أن من واجب المرأة الخضوع لزوجها يقابله ما نشهده فعلًا على المسرح من تمرد بيانكا والأرملة على زوجيهما. ولكن هل تثبت كاترينا بخطابها الطويل أنها حققت المثل الأعلى لخضوع المرأة، وهو الصمت؟ إنها تتكلم وتفرض وجودها في المشهد الأخير على الجميع رجالًا ونساءً، وإذَن فإنها — بوجودها الجسدي في منتصف المسرح وصوتها الذي يعلو على الجميع — تثبت أن ترويضها لم يكُن إلا تمثيلًا. وتعتمد كارين نيومان (Newman) على ما قاله جيمسون اعتمادًا كليًّا تقريبًا في تحليل هذا الخِطاب، قائلةً إن حذف «سلاي» يُنسينا الإطار الميتامسرحي للحدث، أيْ إننا لا نعود إلى الواقع (مثلما يعود سلاي إلى واقعه في المسرحية الأخرى ترويض امرأة شرسة، ١٥٩٤م)، بل نظلُّ في عالم التمثيل، و«غياب ذلك الإطار الختامي يُنسى الجمهور أن ترويض بتروشيو لكاترينا خرافة» (١٩٨٦م، ص٩٩).
وقد تأكد الإطار الميتامسرحي للحدث في معظم ما كتبه النقاد عن المسرحية، ومعظم ما وضعه المُخرجون من تفسيرات للحدث عند التقديم على المسرح في التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، بل إن النقد النسوي الذي يتمتع باليد الطولى في النقد والإخراج لهذه المسرحية لم يستطع أن يتجاهل تأثير الميتامسرح في دلالة ما يحدُث أمامنا، ففي عام ١٩٩٣م أصدرت كاميل سلايتس (Slights) كتابًا عن عوالم شيكسبير الكوميدية وهي تعود فيه إلى إنكار إمكان اعتبار خِطاب كاترينا ذا نبرةٍ ساخرة، بل تقول إن علينا أن نعتبره إعلانًا بأنها قد قبِلَت أعراف المجتمع وغدت تلتزم بها، من خلال الارتباط برجلٍ يحبها ويفهمها، ومن خلال اشتراكهما في تكوين «عالَم منفصل» يمثلان فيه أو يصدُقان، فهو عالَمٌ ميتامسرحي في جوهره، قائلة:

إن النهاية السعيدة للمسرحية تجسِّد تحقيق الحب المتبادل والتفاهم الذي يوصي به ويزكيه دُعاة الزواج القائم على الصحبة، وإن كانوا يصرون أيضًا على أن للزوج سُلطةً على زوجته. وتمتاز مسرحية ترويض الشرسة عن سواها، لا في التوتر الذي يظلُّ قائمًا بين الحب المتبادل وبين التفاوت (في علاقة الزوجين)، ولكن في مطلبها الذي لا هوادة ولا تفريط فيه؛ وهو أن تتمتع المرأة بالحق في اختيار منزلتها الثانوية … (وعلى الرغم من فضح المسرحية لمساوئ سُلطة الذَّكر)، فإنها تصوِّر لنا كيف يحقق الرجال والنساء السعادة بتأكيد السيطرة الفعَّالة على هياكل السلطة. وبحلول الفصل الأخير تكون جميع الشخصيات الرئيسية قد حققت رغباتها الأساسية من خلال علاقاتها مع بعضها البعض، إذ فاز بتروشيو بزوجة غنية ذات روح وثَّابة، وحقق لنفسه «السلم والحب والعيش الهادئ … والسيادة الحقة.» (١١٤-١١٥). وفاز لوسنتو بحبيبته بيانكا، وظفرت بيانكا برضا والديها عن الزوج الذي اختارته لنفسها، كما أنها لا تزال تتعلم دروسها على النحو الذي تريده. وحقق بابتيستا وفنشنتو تزويج أبنائهما بمَن يتمتعون بمكانة اجتماعية معادلة، وما يتطلبه ذلك من التزامات مالية مناسبة، بل إن جريميو وهورتنسو اللذَين فقدا بيانكا التي فاز بها لوسنتو، أسعدهما أن يشهدا ضِيق منافسهما القديم بتمرد زوجته. وعلى الرغم من — أو بسبب — ضروب التوتر والتنافس في العلاقات الاجتماعية، تقدِّم لنا خاتمة ترويض الشرسة صورةً لمجتمع يحقق جميع رغبات أفراده، والمثل الناصع لمَن ينجح في فعل شيئين لا يجتمعان هو شيكسبير، إذ إنه استطاع من خلال تحويل قصة الشرسة التقليدية الخاصة بالسيادة المنزلية إلى عملية تدجين أو إيلاف، أن يقدِّم هجاءً لاذعًا لسخافات الأعراف الاجتماعية، وأن يحتفل في الوقت نفسه بالطاقة الإنسانية على تشكيل المجتمع تشكيلًا يعبِّر عن القيم الفردية، وتقديمه تحوُّل كاترينا في مسرحيةٍ داخل مسرحية، يسمح أيضًا بوجود معنًى مضمرٍ وباعثٍ على القلق؛ وهو أن هذا التوفيق السعيد بين الحرية الفردية وقيم المجتمع القهَّارة، من المُحال تحقيقه إلَّا في عملٍ فني (ص٤٩-٥٠).

أيْ إن تقديم الحدث من خلال الميتامسرح يساعد الجمهور على تصور أن كل ما حدث خيالي، أيْ متوهَّم.

وأودُّ قبل أن أختتم هذا القسم التحليلي الذي طال، أن أشير إلى التفاوت الشديد في النظر إلى خِطاب كاترينا الأخير الذي بلغ من أهميته أن بعض النقاد كانوا يبدءون دراسة المسرحية به، ثم يبنون على ما يخرجون به منه أحكامهم على النَّص، ولكن هذا مذهب نقدي لا يقبله النقد الجديد، فخِطاب كاترينا مبنيٌّ على ما شهدناه من أحداث، ومن التعسف إخراجه من النصِّ واعتباره «قصيدة» تقبل التحليل المستقل، فإذا نظرنا إليه في سياقه الدرامي وجدنا أن حديث كاترينا عن طاعة زوجها تمنحه مكانةً بارزةً بين أقرانه الرجال، وتوحي له بصحة ما رأت أنه يطلبه من تفوُّق وسيادة، مستغلةً الحُجَّة العُرفية التي تقول بذلك في تبيان أن الطاعة المطلوبة من الزوجة مشروطة بقيام الزوج بواجباته العُرفية من إعالة وحماية وإجلال، وهذا الشرط المضمر يتضمن، كما تقول كيدني (٢٠٠٦م، ص٥٤)، «فلتة» تهدِّد بتقويض «الأسُس الأيديولوجية التي تعتمد عليها امتيازات الذَّكر.»

وتنبِّهنا كيدني في الدراسة نفسها إلى وجود فكرة لم ينتبَّه لها قُدامى النقاد، وهي أن دعوة كاترينا إلى نبذ الحرب مع الزوج والسعي إلى الوئام و«السلم»، يقوم على أسُس براجماتية؛ أولاها أن رقَّة جسد المرأة تقتضي رقَّة مشاعرها، وهي، في رأي كيدني، «استراتيجية بلاغية» ذات جذور يمكننا أن نعتبرها «جمالية»، بمعنى أن المثل الأعلى يقتضي التوافق بين الجسد والروح. ومع ذلك فإن هذه «اللفتة» تتخذ صورةً غريبةً بعض الشيء بالقرب من نهاية الخِطاب وفي أثناء دعوتها لطاعة الأزواج، إذ تقول إن ذلك لازمٌ لا «لأن الحرب الصريحة خطأ، ولكن لأن الزوجات يفتقرن إلى الأسلحة والموارد التي تمكنهنَّ من التمرد والفوز»:
هيَّا إذَن يا حيَّتَين تَهوَيان دون قوَّةٍ طبائع المُشاكَسة!
كانت لديَّ ذات يومٍ كِبرياءٌ وكان قلبي ذا جَسارةٍ،
وعَقْلي طامحًا مثلكما … وكان يَهوى أنْ يُقارع الألفاظَ
بالألفاظِ والعُبُوسَ بالعُبُوسْ … لكنَّني رأيتُ اليوم
أنَّ كلَّ هذه الرِّماح أعوادُ أَسَلْ! وأنَّ قوَّة المرأةِ
مثل القَشِّ ضَعْفًا! وأنَّ ضَعْفَها شديدٌ لا مَثيلَ لهْ!
وإنَّما أشَدُّ ما نُظهره أشَدُّ ما نفتقدهْ،
فلْتُقلعا إذَن عن التكبُّر الذي لا نفْعَ فيه لكما،
لكنْ ضَعَا أيديكما … من تحت أقدامهما.
(٥ / ٢ / ١٧٥–١٨٣)

وتعلِّق كيدني على ذلك قائلة: «أيْ إن خضوع الزوجة، بعبارة أخرى، ليس بالضرورة الخيار المفضَّل، بل إنه الخيار الأوحد!» ومن ثَم تقدذِم الخلفية التاريخية التي تقول بأن الضعف كان جزءًا من صورة المرأة في الخطابين؛ اللاهوتي والطبي، في أواخر القرن السادس عشر، وإن معارضة هذه الصورة كان يمكن أن تتسبب في «خلل» يمنع تقبُّل الإطار العام الذي بُنيت عليه المسرحية.

وكما قلت من قبل، نجد أننا نعود إلى الميتامسرح، ولكن من زاوية الأداء المسرحي أو «المسرحة»، فإن صورة المرأة الفاضلة أو المثالية في ذلك العصر كانت تتطلب الهدوء («العيش الهادئ» ٥ / ٢ / ١١٤) و«الصوت الخفيض ولين الإيقاع» (المدخل ١ / ١١٢-١١٣). وهي الصفة التي يمتدحها الملك لير في كورديليا، والخصيصة التي اجتذبت لوسنتو في بيانكا:
لكنَّني في صمت أختها أرى الحياءْ
والحكمة التي تَزِينُ مَسْلك العذراءْ.
(١ / ١ / ٧٠–٧١)

ولكن بتروشيو الذي دبَّر تمثيل هذا المشهد، أيْ تقريع الزوجتين العاصيتين، أدَّى إلى إلقاء كاترينا لخِطابٍ رنَّانٍ طنَّانٍ يمثل عكس الصورة التي وصفتها بأنها مثالية، ويذكِّرنا بما كان بتروشيو نفسه يفعله أثناء «ترويضه» كاترينا، وبذلك فإن أداء كاترينا ينفي في الواقع ما يقوله لسانها.

وتقول كيدني:

على نحو ما يحدُث كثيرًا في هذه المسرحية، تتراءى لنا صورة «سلاي» النبيل، وترانيو السيد وبتروشيو المجنون، وبيانكا المُحبَّة الوديعة أو المتمردة، أيْ إن الجماهير على خشبة المسرح وفي الصالة تشهد الشخصيات وهي تتنكر في صور مغايرة لحقيقتها. وهكذا فإن هذه المَشاهد السابقة القائمة على تمثيل أدوار مضمرة أو صريحة تزيد بصورة حاسمة الفجوة القائمة بين الكيان الباطن والمظهر الخارجي، حتى يصعب على المرء أن يعرف ماذا يصدق أو كيف يفسره، وفي هذه الحالة نجد أن البناء الشكلي والطول الشديد للخِطاب يتناقضان تناقضًا شديدًا مع مبدأ خضوع الأنثى حتى يصعُب علينا أن نعرف على وجه اليقين ما يخفيه مظهر الولاء والإخلاص على وجه الدقة، إذ ربما يُخفي زوجةً مُحبَّةً تؤدِّي واجبها، وربما يُخفي ممثلةً تلعب دور الزوجة المُحبَّة المطيعة (ص٥٥-٥٦).

وتختتم كيدني دراستها بالإشارة إلى ما ذكره أوليفر من قبل عن النهاية المفتوحة، فإذا كان بتروشيو قد كسب الرهان وظنَّ أنه روَّض زوجته، ويجد من لوسنتو دعمًا لظنه، فإن تعليق هورتنسو، كما تقول: «معلَّق في الهواء.» فعبارته تضم تفعيلاتٍ أكثر من عبارة لوسنتو، وتتضمن فعلًا في المستقبل «سيمثل» لا الفعل الماضي الذي استخدمه لوسنتو. «وهكذا»، تقول كيدني: «فإن أداء كاترينا، شأنه شأن كل مسرح راقٍ، يدفع على التفسير ولكنه يتجاوزه» (ص٥٧).

(٦) بين النقد الأدبي والعرض المسرحي

كنت أنتوي أن أختتم المقدمة بما درجت عليه من العرض الموجز لأهم الكتب والدراسات الحديثة التي قرأتها ولم أقتطف منها أيَّة أجزاء، فيما يشبه الببليوغرافيا المشروحة، ولكنني عثرت على مثل ما كنت أنتوي تقديمه في مجلد كامل عنوانه ترويض الشرسة: ببليوغرافيا مشروحة كتبته نانسي لينز هارفي (Harvey) ونُشر عام ١٩٩٤م، ويتضمن ٨٦٢ مدخلًا (ما بين الدراسات والكتب) حتى عام ١٩٩٢م، ولذلك أحجمت عن هذا الجهد، خصوصًا لأن الدراسات والكتب التي اعتمدت عليها واقتطفت منها بعض المادة تكفي لتلبية حاجة القارئ غير المتخصِّص، وهكذا رأيت فائدةً أكبر في أن أعرض تطور بعض النظرات النقدية والمفاهيم الإخراجية التي اتَّسم بها تناول هذه المسرحية في العشرين عامًا الأخيرة. وأعتقد أن محاولة إلقاء الضوء على تفاعل الجمهور (والنقاد ورجال المسرح) مع المسرحية منذ عروضها الأولى أكبر فائدة من مثل تلك الببليوغرافيا التي تفيد المتخصصين أساسًا. وسوف أعتمد في هذا على كُتُب ودراسات كثيرة سأشير إليها بأسماء المؤلفين وسنة إصدارها فقط، على نحو ما أفعل في سائر المقدمة، معتمدًا على قائمة الكتب التي وضعتها في آخر الكتاب.
تقول ليزلي ويد سول (Soule) (٢٠٠٤م) إن لنا أن نتخيل أن العروض الأولى للمسرحية كانت تعتمد على فِرَق الممثلين المحترفين، وكذلك «على أستاذ متمكن من فن التمثيل يقوم بدور بتروشيو مع تلميذٍ له طموح يقوم بدور كاترينا، بحيث يكون درس الترويض في الوقت نفسه درسًا في التمثيل.» وهي لا تقطع بهذا طبعًا ولكنها تستشفُّه من السجلات الخاصة بالعروض المسرحية آنذاك، ولنا أن نعتبره خيالًا لا واقعًا تاريخيًّا (ص١٧٣)، كما تعرض تصورها قائلةً إن نجاح المسرحية كان يعتمد آخر الأمر آنذاك «على حيوية الممثل ومهارته، وطابع التمسرح في ترويض الشرسة كفيل بإظهار ذلك» (ص١٧٨-١٧٩). وتقدِّم التفاصيل التي تؤكد تصورها للجانب العملي (والتجاري) للعرض المسرحي حتى تصل إلى مسرحية جائزة المرأة: ترويض المروِّض (١٦١١م) التي كتبها جون فلتشر (Fletcher) وأشرت إليها آنفًا، وهي المسرحية التي يردُّ فيها ذلك الشاعر المعاصر لشيكسبير على ترويض الشرسة بأن يعكس دورَي مَن يقوم بالترويض ومَن يخضع له، فيصور بتروشيو بعد أن أصبح رجلًا «صالحًا»، أو كما تسميه الباحثة «رجلًا جديدًا»، وزوجًا محبوبًا.
وتقول آن طومسون (Thompson) (٢٠٠٣م) إن ترويض الشرسة أصبحت بذلك أول مسرحية شيكسبيرية تؤدي إلى وضع «ردٍّ مسرحي» عليها في حياة الشاعر (ص١٧-١٨)، وعندما تبدأ مسرحية فلتشر نكتشف أن كاترينا قد توفِّيت، ولكن ذكراها لا تزال عالقة بالأذهان، وفي أحد المشاهد الأولى نسمع أن بتروشيو عندما يذكرها يهبُّ من نومه في فزع، «ويهتف طالبًا عصًا أو هراوة، ويخفي سرواله حتى لا يدخل شبح كاترينا ويلبس سروال الرجل» (١ / ١ / ٣٤–٣٦). وفي غضون ذلك نعرف أن قصة ترويضه لكاترينا لم يعُد أحدٌ يصدقها، ولكن زوجته الجديدة ماريا، التي كان يفترض أن تكون وديعة لطيفة، تصبح شرسة وترتدي قناع بتروشيو الغاضب حتى تعيد تمثيل أفعاله، مصرَّةً على أن تظل «أنثى صقر حرة.» إلَّا إذا لبَّى شروطها، ألا وهي أن تتمتع بالحرية، وتنال ما تريد من ملابس وخيول وصقور، وتعيد تنظيم منزلها وحديقتها. وتحاكي أحداث المسرحية اليونانية القديمة ليزيستراتا (Lysistrata) التي تآمرت الزوجات فيها على الإضراب عن معاشرة أزواجهن حتى يخلدوا إلى السلم، فتحبس نفسها في غرفة النوم وتقيم المتاريس في وجه بتروشيو في ليلة زفافها مع ابنة عمٍّ لها تُدعى بيانكا، ونعرف من السياق أن بيانكا هذه أصبحت القائد العام لما تسميه المسرحية فرقة النساء الرهيبة، ومن ثَم توسع من نطاق تمردها الفردي بحيث يتحول إلى مبادئ عامة لمقاومة السُّلطة الأبوية، وبالمسرحية حبكة فرعية، نرى فيها بطلةً رومانسية؛ وهي ليفيا الأخت الصغرى لماريا، واثنين من خُطَّابها؛ هما موروزو الهرِم الغني الذي يرضى عنه أبوها، ورولاند الشابُّ الذي تحبه ليفيا، وتعيد المسرحية تقديم صورة التفاوض حول زواج بيانكا الذي نراه في ترويض الشرسة، مع اختلاف مُهم، وهو أن ليفيا تهتف قائلة:
لستُ البِضاعةَ التي قد يستغلُّها الرجالْ،
فقد أتيتُ للحياةِ حُرَّة الجمالْ،
وإنَّني لحُرَّةٌ في مَنْحه لمَن يحبُّني،
وليس للذي يبتاعُني بالمالْ.
(١ / ٢ / ٣٧–٣٩)
وتقول الباحثة مولي إيزو سميث (Smith) في دراسة لها عن مسرحية فلتشر (١٩٩٥م) إنه بينما كان بتروشيو في ترويض الشرسة يصول ويجول على خشبة المسرح حانقًا زاعقًا، كان سَمِيُّه في ترويض المروِّض حبيسًا مغلولًا، لأن فلتشر يستخدم أساليب الترويض في مسرحية شيكسبير بعد أن يمنحها «نطاقًا دلاليًّا مكانيًّا»، إذ يُحبَس الرجل أولًا في منزلٍ مغلق الأبواب، ثم يتظاهر بالموت فيُنقل إلى تابوت. وعلى عكس ذلك تملأ النساء خشبة المسرح، في عرض بصري باهر، خصوصًا حين يرقصن ويغنِّين بقيادة زوجة سمكري فقير (يذكِّرنا بكريستوفر سلاي في مدخل ترويض الشرسة) ويهلِّلن معلنين انتصارهنَّ بالدقِّ على أواني المطبخ والأدوات المنزلية الأخرى. ولكن تطور الأحداث يؤدي إلى تصالح، تقول الباحثة إنه «يستوعب ثورتهن النسوية الجماعية.» بحيث تنتهي المسرحية بخاتمة تشبه خاتمة مسرحية شيكسبير، فتتعهد ماريا بعدم اللجوء إلى المزيد من ألاعيبها، وأنها سوف تحب بتروشيو وتخدمه، في حين يعلن بتروشيو أنه وُلد من جديد، ثم تُلقي ماريا الإبيلوج (أي الخاتمة المنظومة) التي تقول فيها إن المسرحية ترمي إلى:
تعليمِ تَساوي الجنسين لكُلِّ الأزواج وللزوجاتْ
والحُبِّ المُتبادَل إذْ يرتبطان بعهدٍ من ثقةٍ وثباتْ.
(الإبيلوج ٦–٨)
وتقول هولي كروكر (Crocker) في دراسة عن تمثيل الأدوار في المسرحيتين (٢٠٠٣م) إن إعادة تصوير العلاقة الزوجية في مسرحية فلتشر تعني أن المجتمع كان قد بدأ، حتى في هذه الفترة المبكرة من الازدهار المسرحي في القرن السابع عشر، يقبل مناقشة مكانة المرأة باعتبارها شريكة للرجل خصوصًا في الزواج، وأن يعيد النظر فيما أوحت به مسرحية شيكسبير من انتصار للرجل، وتُورد الباحثة أدلة على أن نقاد ذلك العصر كان من بينهم مَن يقبل التفسير الساخر لنهاية ترويض الشرسة (ص١٥٠)، بل وتفسير مسرحية فلتشر تفسيرًا ساخرًا موازيًا لذلك التفسير.
وبعد أحداث الثورة الإنجليزية وعودة المسارح في فترة عودة الملكية، عاد تأثير مسرحية شيكسبير إلى الظهور، فكتب المسرحي جون ليسي (Lacey) مسرحية بعنوان صوني الاسكتلندي أو ترويض الشرسة وقدَّمها على المسرح عام ١٦٦٧م، ثم نُشرت عام ١٦٩٨م، وهي تُعتبر محاكاةً ساخرةً لمسرحية فلتشر ترويض المروِّض، لكنها تشبه معظم مسرحيات تلك الفترة فيما يُسمى بالحوار بين خشبة المسرح والحياة خارج المسرح، بمعنى حفول النصِّ بالإشارات إلى الحياة والأماكن والأحداث الجارية في لندن، وعلى الرغم من أن «المزدوج»، الختامي الذي يأتي به «ليسي»، يرمي إلى الإيحاء بأن مسرحيته توازي مسرحية فلتشر إذ يقول:
إنِّي روَّضتُ الشَّرسة لكنِّي لن أخجَل منها
إنْ كنتم سترون قريبًا ترويض مُروَّضِها.
(٥ / ١ / ٤٣٥-٤٣٦)
فإن مسرحية صوني في الحقيقة تحاكي مسرحية شيكسبير، كما يبين باسكال إيبيشر (Aebischer) (٢٠٠١م) الذي يثبت أن المؤلِّف (ليسي) كان يحاول أن يهبط بمسرحية شيكسبير إلى «الشارع» وهو التعبير الذي يعني به اختيار شخصياته وأحداثه لا من عِلْية القوم مثل شيكسبير، بل من شتَّى الطبقات، وخصوصًا شخصية «صوني» نفسه الخادم (المقابل لشخصية جروميو خادم بتروشيو عند شيكسبير) الذي يتكلم لغةً دارجةً منحطةً غاصَّةً بالبذاءات، أو ما يصفُه إيبيشر بأنه «الارتجالات» التي أُضيف بعضها إلى النصِّ، وتذكِّرنا بفكاهات الممثل المصري سعيد صالح، ويقول مايكل دوبسون (Dobson) في كتابه عن اقتباسات أعمال شيكسبير وتطويعها إن هذا النصَّ يبشِّر بأساليب التعديل والتطويع الحديثة في القرن العشرين، (١٩٩٢م) وتضيف هودجدون (٢٠١٠م) إنه يبشِّر ببعض العروض في مطلع القرن الحادي والعشرين أيضًا. وأطرف ما فيه أن بتروشيو (الذي يحتفظ باسمه في الإعداد المسرحي) يُرغم زوجته ميج (Meg) على أن تشرب الجِعَةَ وتدخِّن التبغ، وعندما ترفض أن تخاطبه يعلن أنها ماتت ويهدِّد بأن يدفنها حية، وتتطور الأحداث وينجح في «ترويضها»، ثم تفوز برهان بتروشيو وتطلب منه الصفح، ثم تعاتب الزوجتين العاصيتين بسطر منثور أو سطرين:

«تبًّا لكما من امرأتين! عارٌ عليكما! كيف جرؤتما على عصيان الواجب الذي تدينان به لزوجيكما؟ إنهم سادتنا وعلينا أن نخدمهم.»

(٥ / ١ / ٤٢٦–٤٢٨)

وبعد ذلك يبدأ بتروشيو الرقص والغناء ويقول «المزدوج» المقتطف أعلاه. وعلى الرغم مما يقوله الناقدان المُشار إليهما، فلا أظن أن مسرحية صوني يمكن أن توصف بأنها عرض مقتبس من شيكسبير، أو بأنها كانت عرضًا من عروض المسرحية الشيكسبيرية المعاصرة، وأرجح أنها كانت تمثل نمطًا من أنماط المقتبسات الهزلية المصرية، فروحها الهزلية صاخبة وتستجيب لحاجة الجمهور المتعطش إلى الضحك والفكاهة بعد إغلاق المسارح ثمانية عشر عامًا وحكم البيوريتانيين المتزمتين حتى عام ١٦٦٠م، وليس من الغريب إذَن أن تظل هذه المسرحية على خشبة المسرح ما يقرب من سبعين سنة! بل إن الصورة التي رسمها الرسامون لمأدبة عشاء بتروشيو وكيت (التي أصبحت ميج) ظلَّت تُطبع في طبعات أعمال شيكسبير حتى عام ١٧٤٧م.

وسوف أشير بإيجاز شديد إلى المسرحيات التي تحاكي مسرحية شيكسبير أو تقتبسها أو تقتبس منها، حتى أصل إلى اقتباس ديفيد جاريك (Garrick) الممثل والمُخرج اللامع الذي خلق لمسرحية شيكسبير صورةً جديدةً كُتب لها أن تشغل المسارح في البلدان الناطقة بالإنجليزية عشرات السنين. وأبدأ إشارتي إلى ما أسميته المسرحيات «المحاكية»، أو المقتبسة بمسرحيتين هزليتين تعتمدان على «المدخل» في ترويض الشرسة، وتضخمان شخصية «سلاي»، والطريف أنهما تشتركان في عنوان واحد هو إسكافي من بلدة بريستون، وقد كتب الأولى مؤلِّف يُدعى كريستوفر بولوك (Bullock) والثانية كاتب يُدعى تشارلز جونسون (Johnson). أمَّا بولوك فيحتفظ في مسرحيته بحبكة الترويض في صورة هزلية تقوم على الثأر، ويصور الصراع الطبقي وإن كان مقدار التهريج فيها يبعدها كل البعد عن مسرحية شيكسبير، وتنتهي نهايةً هزليةً صاخبة.
أمَّا بطل مسرحية بولوك فيُدعى توبى جزل (Guzzle)، وهو يوازي سلاي في ترويض الشرسة، وتبدأ المسرحية بأن يُعيَّن هذا الشخص في منصب قاضي الصلح فيُصدر حكمًا على زوجته دوركاس (Dorcas) وعلى السيدة هاكيت (Hacket) صاحبة الحان التي يدين لها بمقدارٍ معيَّنٍ من المال، بالتغطيس في النهر، وكان ذلك من العقوبات التي يفرضها القانون على النسوة الشرسات أو ذوات الألسنة السليطة، وكان كما يقول المؤرِّخون يعني تقييد المرأة في كرسيٍّ وإنزالها في الماء البارد (بل شديد البرودة). وعندما يصحو جزل من نومه تنقض عليه المرأتان وتضربانه، وتدَّعيان أنهما قد أصبحتا الآن من قُضاة الصُّلح. ولكن جزل يضربهما فيتفق الجميع على عَقد صُلح حقيقي يساعده عليه العثور على مبلغ من المال يكفي لسداد ديونه للسيدة هاكيت.
ويقول دوبسون في الكتاب المُشار إليه إن المسرحية الأخرى التي كتبها جونسون تعالج بعض القضايا السياسية الراهنة بأسلوب هزلي، وتعتمد على كثير من الأغاني الشعبية، والقصص الشعرية الشائعة (البالادات) مما جعلها تتحول تدريجيًّا إلى كوميديا غنائية، كُتب لها أن تُقدَّم فيما بعد على مسرح كفنت جاردن ويقول دوبسون إن المُخرج قد أعلن أنه يقدِّم صورةً مختصرةً لمسرحية شيكسبير، ولكنها كانت طبعًا صورة شائهة. ويشير دوبسون إلى مسرحية أخرى تزعم أيضًا أنها تختصر مسرحية شيكسبير، من تأليف جيمز ويرسديل (Worsdale)، وعنوانها علاج ناشز (١٧٣٥م)، ويؤكد دوبسون أنها أقرب إلى مسرحية صوني منها إلى ترويض الشرسة (ص١١٢-١١٣)، وأهمُّ ما فيها الأسلوب العجيب المُتَّبع في الترويض، إذ يهدِّد الزوج، واسمه (ويا للعجب) مانلي (Manly)، زوجته مارجريت بخلع أسنانها وفصد دمها تحت اللسان لأنه أصل الداء، فتقلع عن شراستها وتغني مع زوجها أغنيةً تقول:
تاجُ هناءِ زواجي هذي النَّشوة
والحبُّ المتكافئُ وحَّدَنا بالصَّبوة.
(٥ / ٢ / ٦٦-٧٧)

ثم تنتقد شيكسبير لأنه يفتقر في رأيها إلى الخبرة بالبشر الحقيقيين، ويعيش في عالمه المسرحي الخيالي، ويضيف دوبسون أن الزوجة مارجريت تعتذر عن سلوكها الذي لا يليق بالمرأة، وهو ما تراه هودجدون (٢٠١٠م، ص٧٨) دليلًا على بداية إدراك الناس لما تقول إنه «عدم اتساق» صورة المرأة عند شيكسبير مع صورتها في منتصف القرن الثامن عشر، وتضيف أن انتقادها لشيكسبير يمثل تمهيدًا لمسرحية كاترين وبتروشيو التي أعدَّها ديفيد جاريك وقدَّمها على المسرح عام ١٧٥٤م، وظلَّت تُقدَّم على المسرح (باعتبارها مسرحية شيكسبير) حتى عام ١٨٤٤م في بريطانيا وحتى عام ١٨٨٧م في أمريكا. ويقول دوبسون (ص١٨٤) إنها تحولت إلى كوميديا غنائية إذ وضع جاريك فيها أغاني مستعارة من مسرحيات شيكسبيرية أخرى، وموسيقى من روسيني.

وأسلوب جاريك في الاقتباس طريف، فهو يختصر الحبكة الثانوية ويضخم جميع الدلائل في مسرحية شيكسبير على «الحب المتكافئ» حتى يجعل مسرحية شيكسبير تتفق مع صورة العلاقة الزوجية وصورة المرأة التي تغيرت على مر الزمن، وأول حديث نسمعه من كاترين حديث جانبي (لنفسها وللجمهور) تقول فيه إنها معجبة ببتروشيو لأنه «رجل بمعنى الكلمة» (the man is a man). ثم يعقب ذلك حديثان جانبيان أيضًا تقول فيهما إنها تنتوي الزواج منه وترويضه (والثأر لنفسها من بيانكا)، وهكذا تصبح مقاومتها لبتروشيو بمثابة أداء دور تمثيلي (أيْ تمثيل دور الشراسة)، ويجعلها تختلف عن ماريا بطلة ترويض المروِّض التي كانت تعلن عزمها على أن تظل «أنثى صقر حرة طليقة.» وأمَّا بتروشيو فإنه يعترف أخيرًا أنه كان يرتدي «قناعًا بريئًا» يُظهره في صورة مروِّض الشرسة، وأنه كان يتظاهر بأنه «الزوج صاحب السيادة» أثناء ارتداء هذا القناع، ثم يقول إنه يسعده أن يتخلص من هذا القناع ويختار الحب المتبادل.

ونلاحظ هنا أن هذا العرض المسرحي الذي يبين استساغة الجمهور لاعتبار دوري الرجل والمرأة (المُروِّض والمُروَّضة) أدوارًا تمثيليةً تفضي آخر الأمر إلى أدوارهما «الحقيقية»، قد أثَّر في المفهوم العام للمسرحية، وكان من وراء التفسيرات الحديثة لمسرحية ترويض الشرسة ومن وراء مفاهيم كثير من المُخرجين للعروض الحديثة، بمعنى أن التجربة المسرحية المجسدة أظهرت ما كان يختفي وراء الكلمات من «تمسرح» واعٍ بذاته، أيْ من ميتامسرح، كما أن جاريك قد أضاف بعض المشاعر الرقيقة إلى مواقف الأبطال، و«روض الذكورية الإقطاعية المباشرة»، كما يقول دوبسون (ص١٨٨-١٨٩)، فحوَّلها إلى بوادر «حذرة» للمساواة بين الجنسين، إلى جانب إرساء المزيد من التعاطف والإيمان بوحدة الأُسرة وتماسكها حتى أصبحت كاترين وبتروشيو «مسرحية تصلح للمشاهدة العائلية في الخمسينيات من القرن الثامن عشر.» لأنها قدَّمت للجماهير صورةً لشيكسبير «الذي يريدون أن يشعروا بانتمائه إليهم» (دوبسون، ص١٩٩).

وقد توسعت بعض الشيء في رصد هذه الأساليب في الإعداد والإخراج بسبب علاقتها المباشرة بنظرتنا اليوم إلى ترويض الشرسة، فنحن مدينون للعرض المسرحي الذي قدمه جاريك بلفت انتباهنا إلى العلاقة الوثيقة بين التمسرح والميتامسرح، فالنقاد اليوم، مهما تكُن مواقفهم الأيديولوجية، لا ينكرون براعة التمسرح وإيحاءه بالميتامسرح، كما سبق لي أن شرحت، ولكن هذا التركيز على البطلين الرئيسيين في الفترة التي ساد فيها إعداد جاريك لنصِّ شيكسبير أدَّى إلى التضحية بالمدخل واختفاء سلاي اختفاءً تامًّا! وعندما عاد سلاي إلى الظهور في منتصف القرن التاسع عشر، عاد في صورة الصعلوك الشائعة في الحكايات الشعبية الهزلية والفكاهات الشائعة آنذاك، وكان يستند إلى ما كان يُعتبر المصدر غير المباشر لصورته، وهو الحكاية الواردة في ألف ليلة وليلة عن هارون الرشيد وأبو حسن، إذ كانت قد تُرجمت ورأى فيها المُخرجون مصدر إلهام شرقي جديد.

وهكذا وبعد قرنٍ كاملٍ تقريبًا من سيطرة إعداد جاريك على مسارح البلدان الناطقة بالإنجليزية قدم بنجامين وبستر (Webster) مسرحية شيكسبير «كاملة» أو كما يقول «بالنص الأصلي الذي عُرض عدَّة مرَّات عام ١٦٠٦م» على مسارح لندن، وكان أهم ما في هذا العرض الذي بدأ تقديمه عام ١٨٤٤م، إلى جانب عودة سلاي في المدخل، والخاتمة المقتبسة من ترويض امرأة شرسة، الديكور الجديد الذي صمَّمه ج. ر. بلانشيه (Planché) فاستعاض عن المَشاهد أو اللوحات الملوَّنة في الديكور بمساحات خالية تمثل أماكن الأحداث وفوق كلٍّ منها لافتة كُتب عليها اسم المكان، وهو ما يبشِّر بالأساليب البريختية الحديثة. وكان القصد من وراء العرض كله تقديم نصِّ شيكسبير خصوصًا لمَن لم يكُن يعرف حكاية سلاي ودوره الميتامسرحي.
وأمَّا العرض الذي حقق نجاحًا فاق فيه «إعداد» جاريك، فكان عرض ترويض الشرسة الذي أخرجه أوغسطين ديلي (Daley) عام ١٨٨٧م في نيويورك، وطاف به كثيرًا من البلدان، وكان النقاد يعزون نجاحه إلى البطلة، وهي الممثلة التي لمع نجمها في دور كاترينا واسمها إيدا ريهان (Ada Rehan). ويقول النقاد إنها «تعي الوعي الكامل بأن جوهر الأداء الهزلي هو اصطناع الجِدِّ المطلق، وأحيانًا ما يشبه الحماس المشبوب، في مواقف كوميدية «معكوسة»» كما يقول وليم وينتر (Winter) في كتابه عن ريهان (١٨٩٨م) والمقتطف في هودجدون (٢٠١٠م، ص٨٥). وأنا أورد هذه الملاحظة المُهمَّة لأنها تلقي الضوء على التمسرح المؤدِّي للميتامسرح، فعندما يصطنع الممثل الجِدَّ المطلق في موقف كوميدي «معكوس» (وهذا هو المعنى الاشتقاقي للصفة preposterous) التي تعني قلب الأوضاع أو تعكسها، فإنه يوحي بأنه ساخر، وسوف أوضح ذلك بما شهدته ذات يومٍ في لندن خارج كشك تليفون عمومي، إذ كان في داخله شابٌّ يتحدث من مدَّة طويلة ونحن ننتظر انتهاءه، أنا وسيدة عجوز طال صبرها وضاق صدرها بالانتظار، وأيامها كنت تدفع أربعة بنسات مقابل مكالمة لا حدود لطولها، وكان الشابُّ يرانا ولا يعبأ بانتظارنا، وعندما انتهى من مكالمته الطويلة وخرج باسم الوجه قالت له السيدة في نبرة «جِدٍّ مطلق»: Thank you very much، فضحكتُ لأن الشكر هنا يضمر اللوم أو العتاب، ولو أنها أنَّبَتْه أو عاتبته لَمَا كان في الموقف هزلٌ أو سخرية بمعنى irony. وهذا يعني أن للمرء ألا ينخدع بمظهر الجِدِّ في حديث شخصية من الشخصيات، فعندما يعلق جروميو (خادم بتروشيو الذي يقوم بدور المهرج) على جعجعة سيده وتفاخره بمنازلة الأُسُود والجيوش في حومة الوغى قائلًا «فذلك لا يخشى من الناس لاغيًا.» (١ / ٢ / ٢٠٩)، يدرك سيده مقصده فيصمت فترة طويلة آملًا ألا يتبيَّن أحدٌ مقصد خادمه الهازل، وينصت إلى حوار من حوله فقط قبل أن يعرض «قضيته» (في ١ / ٢ / ٢٥٨ وما بعده). وأقول إن هذه ملاحظة مُهمَّة على أداء الممثلة إيدا ريهان؛ لأنها تُلقي الضوء على إمكان قراءة نصِّ ترويض الشرسة بالأسلوب نفسه بحيث نعيد فهمنا لما يدور على خشبة المسرح.
وتحاول ريهان في المقدمة التي كتبتها لطبعة المسرحية الخاصة بالتمثيل عام ١٩٠٠م (ويشير إليها كل مَن تعرَّض لصورة المرأة على خشبة المسرح ومن أحدثهم سوزان جلين Glenn في كتابها الذي أعتمد عليه هنا) أن تضع أسُسًا نفسيةً لأداء دورها، قائلةً «إن كاترينا مشاكسة شرسة في الظاهر، ولكن أجمل وأرق الصفات الأنثوية كامنة فيها … وهي توجه قوَّتها الربَّانية الداخلية في أعماقها حتى تصبح مثلًا يُحتذى للطاعة والتبعية الإنسانية.» وهي تشرح معنى صفة «الإنسانية» التي استخدمتها قائلةً إنها تعني فضائل الأنثى المتحضرة المحترمة التي تمثل المرأة كما ينبغي أن تكون، فهي تحافظ على التوتر، كما تقول جلين (٢٠٠٠م، ص٢–٤) بين دورها الظاهري وحقيقتها الباطنة. وتقتطف جلين وصف وينتر المُشار إليه للعرض المسرحي قائلةً إن الممثلة عند إلقاء خِطابها الذي تذكر فيه تقديم يدها إلى بتروشيو لا تنحني لتضع يدها تحت قدمه، بل تجعله يقف بجوارها، وقوف المتكافئين في المنزلة، وعندما ألقت قبعتها على الأرض لم تدُسها بقدمها، بل جعلت بتروشيو يخلع قناع «الزوج السيد»، وينحني ليقبِّل يدها مثلما يفعل السادة المهذَّبون (جلين ص٢٠–٢٣). ويتساءل بعض النقاد عن دلالة تجسيد ريهان لهذا الدور الذي قد يكون قائمًا فعلًا على التوتر بين الظاهر والباطن، ولكنه كان يرهص دون شكٍّ بما شهده القرن العشرون من تغيُّر في مفهوم الدور والمسرحية كلها.
وسوف أضرب صفحًا عن العروض الأخرى للمسرحية التي بالغت في مظاهر الهزلية فيها، حتى أبيِّن كيف تحولت المسرحية في أوائل القرن العشرين إلى مصدر إلهام لكل مَن شُغل بقضايا المرأة، وخصوصًا في عام ١٩٠٩م؛ العام الذي شهد وصول كفاح المرأة في سبيل المساواة في جميع الميادين مع الرجل إلى ذروته، فحين عُرضت المسرحية في مهرجان ستراتفورد وقامت بالبطولة كونستانس بنسون (Benson) هاجمها بعض النقاد لأنها كانت تؤدِّي دورها بأسلوب يبين أنه موجَّه لإمتاع الجمهور، وخصوصًا جمهور الرجال، وهو ما اعترفت به فيما بعد، كما تقول سوزان كارلسون (Carlson) (١٩٩٨م، ص٩٣) التي تبين أن قيام فيوليت فانبره (Vanbrugh) بالدور بدلًا منها جعل ترويض الشرسة تتأرجح ما بين الفنِّ (وعالمه الخيالي) والواقع (وعالم الكفاح النسوي)، إذ اتجه بعض النقاد إلى تأكيد طبيعتها الهزلية، والبعض الآخر إلى تجنيدها للدفاع عن حقوق المرأة الحقيقية (كارلسون، ص١٠٢). وتعلِّق هودجدون على ذلك قائلة «وهكذا بدأت تظهر الخطوط العريضة لمسرحية وُلدت من رحم الهزلية، وقُدِّر لها أن يزعم النقادُ من دُعاة المذهب النسوي، والتاريخية الجديدة، والمادية الثقافية انتماءها إليهم بحلول نهاية القرن العشرين.» (٢٠١٠م، ص٩٣).
وينبغي أن أشير ولو إشارة عابرة إلى التحول الذي طرأ على أساليب إخراج المسرحية، ومن ثَم على مفاهيمها على امتداد القرن العشرين، فالمسرحية من النصوص التي يُقبِل المُنتجون والمُخرجون على استثمار مواهبهم فيها بسبب قضيتها «الساخنة» والتي من المُحال أن تبرد، ولكن تغير أقدار المرأة (والإنسان) على امتداد القرن بما شهده من حروب «ساخنة وباردة» أدَّى إلى تغيير مؤكد في أساليب الإخراج ومفاهيم النَّص، وقد عرضت في القسم الاستهلالي لهذه المقدمة التفسير السائد الآن، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، للمسرحية وأساليب النظر إليها، ولم أُلْمِح في كل ما كتبتُه إلى دور العناصر المسرحية الأخرى في تشكيل مسار هذا التغيير، مثل الملابس والإضاءة والديكور. فالمسرحية بطبيعتها تفرض مناهج خاصة للملبس مما يقتضيه التنكر، فعندما يتبادل ترانيو ولوسنتو ملابسهما باعتبارهما الخادم والسيد في المشهد الأول من الفصل الأول، ينصُّ الشُّرَّاح على أن الاستبدال يقتصر على العباءة التي يرتديها السيد وقبعته وعلى «حلة الخدمة» (أي الحلل الخاصة التي كان الخدم يرتدونها) وهو ما يجعل الخادم الآخر يسأل سيده «أين أنت؟» ما دام تغيير الملبس أدَّى إلى تغيير الهُويَّة، وعندما يرى فنشنتو خادمه ترانيو يلبس ملابس السادة يواجهه قائلًا:

يا أيها الوغد المتأنق! صدار من حرير، وسروال من قطيفة، وعباءة قرمزية، وقبعة رفيعة، لقد أفلستُ وانتهى أمري!

(٥ / ١ / ٦٠-٦١)
وترانيو يردُّ عليه قائلًا: «ملبسك يقول إنك من كبار السادة العقلاء، ولكن ألفاظك ألفاظ مجنون!» (٦٥-٦٦). والمشهد الثالث من الفصل الرابع يناقش أنواع الملابس والأزياء الحديثة، وانظر إلى وصف ملبس بتروشيو وملبس خادمه عند قدومهما لعَقد القِران في المشهد الثاني من الفصل الثالث. وهكذا كان على المُخرجين أن يقدِّموا بدائل لأزياء ذلك العصر وفق المفاهيم الجديدة التي وضعت للمسرحية، ويناقشها النقاد بالتفصيل ويخصِّص لها بعضهم دراسات أكاديمية، خصوصًا بسبب ارتباطها بالتمثيل والميتامسرح، وكيف يؤثر مثلًا ما تلبسه كاترينا في تمثيلها دور الشرسة أو الزوجة المُطيعة، خصوصًا في ضوء ما يقوله بتروشيو عن المظهر والمخبر في الحديث، الذي اقتطفتُ بيتَين منه أعلاه، ويلخِّصه في قوله:
فذا مَلبسٌ يَزهو به شرفُ النُّهى
رفيعٌ وإنْ كان التواضعُ ظاهرَهْ
وإنْ تكُن الأثوابُ فينا فقيرةً
فألبابُنا بالمالِ تختالُ عامرة
(٤ / ٣ / ١٦٩-١٧٠)

وكما أشير إلى الملابس أشير إلى طبيعة الديكور والإضاءة في المَشاهد المركَّبة الكثيرة التي يختبئ فيها شخصٌ أو شخصان لسماع ما يدور في وسط المسرح، وكيف يساعد تغيير الإضاءة على إيضاح التمسرح وإقامة العلاقة اللازمة للميتامسرح بين خشبة المسرح والجمهور، فبعض المذاهب الإخراجية القديمة كانت تجعل الأقوال الجانبية تُلقَى في ركنٍ معيَّن ويلقي عليها الضوء، وأمَّا أساليب الإخراج الحديثة فتمزج بينها وبين الحوار الدائر الذي يتوقف ثواني معدودةً تسمح للجمهور بالتفاعل مع مَن يعلِّق على الأحداث، باعتبار أن النظارة يشاركون الممثلين في «خبرة» «التمثيل»، ما داموا واعين بأن هؤلاء يمثلون أدوارًا قد تتضاعف أو تتناقض.

وكان من أهمِّ تجارب المُخرجين في ربط خشبة المسرح بالصالة جون بارتون (Barton) الذي قدَّم في عام ١٩٦٠م تجاربه على مسرح شيكسبير التذكاري، وأليكس ستون (Stone) في العام نفسه، الذي جعل الديكور على المسرح مفتوحًا بحيث يسمح للنظارة أن يشاهدوا ما يجري خلفه، أيْ مراجعة الممثلين لأدوارهم، وتغيير الملابس، أو صعود الدرجات والنزول إلى المستوى الأسفل، ولكن النقاد انتقدوا اقتصار تقديم حدث المسرحية على مقدمة المسرح، وتقول هودجدون (٢٠١٠م، ص١٠٨) «إن بارتون تفوَّق على المُخرج العظيم وليم بوويل (Poel) في جعل الديكور الجميل الذي يسترجع صور الماضي يوحي إلينا بنسخة إليزابيثية مُغرقة في انتمائها لعصرها، ومشغولة إلى حدِّ الهوس بالميتامسرح، إذ يوحي إخراجه بتعمد إظهار الإطار الخيالي للأحداث.» ما دام سلاي موجودًا على المسرح، وعندما يدخل لوسنتو وترانيو نراهما ينحنيان تحيةً له، ويردُّ التحية بفكاهات عن الطبقة التي ينتمي إليها، وعندما ينتهي بتروشيو من إلقاء خِطابه عن خطته في الترويض ينحني تحية للصعلوك سلاي، الذي ينهض من مجلسه لردِّ التحية، وأمَّا ردود أفعال سلاي على خُطبة كاترينا الأخيرة، فإنها مرسومة حركيًّا بدقة، ومنصوص عليها في نسخة الملقن من النصِّ المسرحي.
ويقول النقاد إنه إذا كان تعديل بارتون قد أعاد ترويض الشرسة إلى «أصولها» (بمعنى جذورها) الأولية، فإن إخراج مايكل بوجدانوف (Bogdanov) لهذه المسرحية التي قدمتها فرقة شيكسبير الملكية عام ١٩٧٨م قد سار بها في الاتجاه العكسي، فكانت بذلك لحظة تحول تاريخي للصعلوك سلاي وللمسرحية كلها. فعلى خشبة المسرح كان منظر عام لمدينة بادوا مرسومًا بأسلوب زيفريللي (الواقعي)، وهو ما أدهش النظارة خصوصًا بسبب هيمنة الاتجاه إلى الأخذ بالحدِّ الأدنى من المناظر المسرحية والديكورات. وفجأةً تحدُث جلبة في الصفوف الأمامية بالصالة، إذ يبرز رجل مخمور وهو يتشاجر مع إحدى الموظفات المكلفات بإرشاد المتفرجين إلى أماكنهم، ويعلو صوت الشجار فتهدِّده الفتاة باستدعاء الشرطة إذا لم يغادر القاعة، لكنه يصيح قائلًا «لا أسمح لامرأة أن تأمرني … لن أتلقَّى أوامر من امرأة صغيرة تلبس الزيَّ الرسمي … سأخرب بيتك فورًا» (وهذا منصوص عليه في نسخة الملقن). ثم يقفز المخمور إلى خشبة المسرح، ويهدم أعمدة الديكور، ويقلب سلال الفواكه على الأرض، ويهدم إحدى الشرفات، ويحطم تمثالًا لديانا، ويقع فوق رأسه لوحان، وبذلك يُخلى المسرح من ديكوره «الأوبرالي». وبعد الإظلام السريع، تعود الأضواء إلى خشبة المسرح فنسمع دويَّ أبواق رحلة الصيد قادمة من مكان بعيد، ويدخل المسرح الرجال الذين يرتدون أزياء رياضة صيد الثعلب تحيطهم سحابات ضباب دوامية لا تلبث أن تنقشع فتتبين عيونهم المخمور المُلقى على الأرض، غارقًا في سباته، ملتحفًا بفراء ثعلب تعلوه بعض الدماء، وهنا يبدأ الحوار الذي نجده في نصِّ شيكسبير، مختلطًا بشذرات العامية التي يتكلمها سلاي. ويقول النقاد إن هذا الإخراج جعل سلاي يطلُّ علينا من خلال الصراع اليومي المعتاد بين الجنسين، وبذلك زاد من كشف الهُويَّات والمزج بينها، وطمس الفوارق بين ما يحدُث على المسرح وما يحدُث خارجه، وخلط الأدوار بعضها بالبعض، وتبادل الروايات.
وتقول هودجدون في تعليقها «إن هذه «الخبطة» المسرحية المثيرة تمثل صورةً زمكانيةً للثقافة المسرحية لترويض الشرسة، فهي لحظةٌ منظِّمةٌ مؤرِّخةٌ، ودالَّةٌ مسرحيةٌ مركَّبةٌ على السياسات الطبقية والخاصة بالعلاقة بين الجنسين» (٢٠١٠م، ص١١٠-١١١). وأمَّا بوجدانوف نفسه فيقول إن شيكسبير كان من أوائل دُعاة المذهب النسوي، إذ إنه فضح القيود الاجتماعية التي يرزح في نيرها عصره، مؤكدًا أننا لم نعُد نستطيع اعتبار ترويض الشرسة كوميديا زوجية منزلية، ولكننا يجب أن نعتبرها تمثل «الإخضاع القاسي لامرأة على أيدي رجل استولى عليه التطرف الشديد في الوحشية الذكورية، مغلفًا في حلم الثأر الذي يحقق أماني طبقته الاجتماعية» (بوجدانوف ٢٠٠٣م، ص١٣٣-١٣٤، ١٣٨-١٣٩ من المجلد الأول). وقبل أن أقدِّم ما تقوله الناقدة هودجدون في تمجيد عرض بوجدانوف، أودُّ أن أوضح أن إشاراته إلى الصراع الطبقي تستند إلى ما يذكره النقاد من أن ربطه بين سلاي وبين بتروشيو يعني رمزيًّا أن سلاي ممثل الطبقة الفقيرة ينتقم (في صورة بتروشيو) من كاترينا ممثلة الطبقة الغنية، وهذا ما أستبعده تمامًا، فقيام الممثل الذي يلعب في هذا العرض دور سلاي بدور بتروشيو بعد ذلك لا يوحِّد بين الشخصيتين في المسرحية، وافتراض أن بتروشيو ينتقم من المرأة تحقيقًا لأمانيه الطبقية لا سند له إطلاقًا من نصِّ شيكسبير، والتوحيد بين الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمع وبين فقر الفقراء قول غير علمي، إذ إن مكانة المرأة تعتمد على الثقافة والدين والتراث، وأمَّا فقر الفقراء فظاهرة اقتصادية تقوم على استغلال الرجال لغيرهم رجالًا ونساءً، ولا يؤدي إصلاح إحدى النقيصتين إلى إصلاح النقيصة الأخرى، فقهر المرأة لا يعتمد على المكانة الاقتصادية، وكم من فقراء يقهرون زوجاتهم وكم من أغنياء ينافسونهم في قهر الزوجات. وأواصل الآن عرض موقف هودجدون من إخراج بوجدانوف، وقد فضَّلت أن أترجم كلامها لأنه يتضمن ما يمكن اعتباره ببليوغرافيا مشروحة للنقد النسوي للمسرحية:
على الرغم من الإغراء المتمثل في وجود علاقة علة ومعلول تمنح المسرح أولويةً على الثقافة الأدبية، فالذي يمكن قوله هو أن عرض بوجدانوف كان أسبق من المذاهب النقدية النسوية، والتاريخية الجديدة والمادية الثقافية التي كُتب لها في العقود الأخيرة من القرن العشرين أن تلقي أضواءً باهرة، بل متزايدة الإبهار، على ترويض الشرسة. ومنذ البداية التقى تياران نقديان ناشئان؛ أولهما دراسات النوع / المذهب النسوي، والثاني دراسات الأداء، وهما اللذان كانا محصورين في الماضي، حول هذه المسرحية (رانالد Ranald ١٩٩٤م). وكان من وراء الموجة الأولى للنقاد النسويين كتاب بيتي فريدان (Friedan) الرؤيا الروحية للأنثى (١٩٦٣م) إلى حدٍّ ما، إذ قال هؤلاء إن المذهب النقدي المعتمد الجديد الذي يدعو إلى تفسير ترويض الشرسة من خلال عدسة الكوميديا، يتجاهل الفوارق القائمة بين قدرة الرجال والنساء الحقيقيين على الوصول إلى السلطة الاقتصادية والسلطة الاجتماعية الثقافية في بواكير الفترة الحديثة. أضف إلى ذلك أن مناخ الالتزام السياسي الذي تلا حرب فيتنام أوجد حاجةً عاجلةً لاستعادة الشرسة من يدَي بتروشيو ومن أجل المرأة، وإن لم يكُن ذلك من أجل متعتها فباعتباره وسيلةً لفهم ماضيها وموقعها اليوم في شتَّى أشكال النظم الأبوية، وتقيم كوبيليا قان الحُجَّة على أن المسرحية لا تعالج ترويض امرأة شرسة بقدر ما تفضح أسلوب المجتمع في جعل الرجال يعتقدون أن النساء في حاجة إلى الترويض، ومن ثَم فهي ترى أن كاترينا قد وجدت في الزواج تشكيلًا جديدًا لذاتيَّتها القادرة على تمكينها من (إعادة) خلق بتروشيو في صورة رجل صالح (١٠٤، وانظر أيضًا دوسنبير Dusinberre ١٩٧٥م، وبين Bean ١٩٨١م، وبيريت (Perret) ١٩٨٣م). وتقرُّ كارول توماس نيلي (Neely) ١٩٨٥م بوجود منظور مزدوج، على الرغم من أن «دُعاة المذهب النسوي لا بدَّ لهنَّ أن يبتهجن بالروح واللماحية والفرحة التي تميز تكييف كيت لنفسها مع دورها الجديد باعتبارها زوجة.» ولا بدَّ لهنَّ أيضًا «أن يدركن مظاهر التباين والتفاوت في المصالحة الكوميدية، وأن يتمنَّين لكيت ولأنفسهن لو كانت الخيارات المتاحة أكبر، وأقل جمودًا وتفاوتًا، وأن تتسم حالات التكيف بالمزيد من التبادل وبدرجة أقل من القسر.» (٢١٨-٢١٩ وانظر أيضًا نوفي Novy ١٩٨٤م). وأمَّا كاثلين ماكلوسكي (McLuskie) ١٩٨٥م، فإن صورة الشاعر الأبوي (شيكسبير) لا تغيب قطُّ عن بصرها، في تقديمها عرضًا أساسيًّا لاستراتيجيات التفسير النسوية والتاريخية، (٩٢-٩٣)، وهي التي أدَّت إلى نشأة استراتيجيات أخرى (انظر خصوصًا وودبريدج (Woodbridge) ١٩٨٤م، ونيومان Newman ١٩٩١م، خصوصًا ص٤٢). وبحلول الثمانينيات بدا لنا وجود قهر، وقهر بلا حدود، وبخاصة للمرأة، أو كما تقول آن طومسون «كانت المشكلة تكمن خارج المسرحية، أيْ في قهر الأزواج لزوجاتهم، فهو على وضوح ظلمه واستحالة تبريره، لا يزال قائمًا في شتَّى أرجاء العالم تقريبًا، إن أحوال الدنيا، لا شيكسبير، هي التي تسيء إلينا» (٤١).
«وقد أدَّى النقد في الآونة الأخيرة إلى توسيع حدود البحث النسوي إذ قامت جويل فاينمان (Fineman) ١٩٨٥م، وباتريشيا باركر (Parker) ١٩٩٦م، ولوري ماجواير (Maguire) ٢٠٠٧م ببحث لمظاهر «الالتواءات» اللغوية، والتعابير المجازية عن الهُويَّة، كما أن مجموعات المقالات التي حررتها نوفي قد بحثت طرائق استجابة النساء في السياق التاريخي لشيكسبير ولمسرحية ترويض الشرسة ١٩٩٠م. (وانظر أيضًا فليمنج (Fleming) ٢٠٠٠م). كما وضع النقاد المسرحية في سياقاتها في بداية الفترة الحديثة، بما في ذلك المناظرات الخاصة بطبيعة المرأة (انظر مثلًا مارتن Martin ١٩٩١م) والوضع القانوني للمرأة، والخطوط العريضة للحياة المنزلية، باحثين عن الأصوات التي أنشأت ذلك كله من داخل الصورة الاجتماعية الخيالية في العصر الإليزابيثي واليعقوبي. الواقع أن البحث التاريخي دائمًا ما يتسم بالانحياز، خصوصًا عند فحص مواقع ومظاهر كفاح المرأة، وقد أدَّت البحوث الدائبة مثل الأعمال المثالية التي أنجزتها فرانسيس أ. دولان (Dolan) ٢٠٠٨م إلى إرساء منهج صحيح جديد وضع ترويض الشرسة في موقع النصِّ الحَدِّي لضروب تاريخ المرأة.»
«وربما كانت الدراسة التي كتبتها ليندا بوس (Boose) ١٩٩١م في هذا الصدد من المعالم التي أثرت في هذه الدراسات أكبر تأثير، فهي تتناول ما يسمَّى لجام المرأة، والقيود التي يفرضها على كلام المرأة، فالدراسة تتخذ منظورًا مزدوجًا، بحيث تقيم التوازن بين المعاني المتصلة باللحظة التاريخية الأصلية لترويض الشرسة في مقابل إمكانية التحرير التي يقدِّمها العرض المسرحي، وتستكشف بوس سياقًا مرتبطًا بهذا وهو المشاكل الزراعية الناجمة عن تخصيص الأراضي (للرعي)، إذ تعتبر بوس أن ترويض الشرسة تمثل ما يشغل بال المتفرج الذَّكر ابن الطبقات المتوسطة والدنيا من خيالات المتعة الجنسية، والنجاح المالي، والحراك الاجتماعي الصاعد، وقد امتزجت كلها وانصهرت، وهي الخيالات التي تؤثر آخر الأمر في كاترينا» (ص٢١٥، ٢١٩). وتحذو جين هوارد (Howard) حذو بوس، ولكنها تركز على لغة المجاز في ترويض الشرسة الخاصة بالطبقة والعلاقة بين الجنسين، قائلة إن زعم سلاي أنه قد تعلَّم الآن كيف يروض امرأة شرسة يوحي «بأنه دائمًا ما يوجد مَن هو أدنى من الشحاذ، أيْ زوجة الشحاذ» (ص١٣٩). وقد اتجهت غيرها من الباحثات إلى استكشاف الجانب المادي من الحياة المنزلية، إذ إن ناتاشا كوردا (Korda) ٢٠٠٢م تنظر إلى المسرحية في إطار الثقافة السلعية الوليدة في أواخر الثمانينيات من القرن السادس عشر والتسعينيات منه، حيث تحولت ربة المنزل من منتجة إلى مستهلكة، وتستفيد كوردا من الأفكار الماركسية في الكشف عن نتيجة ذلك، ألا وهي أن بناء ذاتية ربة المنزل يجري في علاقتها بالأشياء التي ترمز لمكانتها، قائلةً إن على كاترينا أن تتعلم أن تنغمس، لا في فيض لغوي، بل في فيض من الأشياء المادية (ص٧١–٧٥). ولكن لينا أورلين (Orlin) ١٩٩٣م لا تقيم معارضةً بين اللغة والأشياء المادية، بل تربط بينهما، قائلةً إن الأشياء لها حياة اجتماعية ومسرحية، وأن الطرفين يؤديان عملهما باعتبارهما أشكالًا للتبادل، وهي تبين أن الهوية والذاتية ترتبطان بالممتلكات وأوجه التمييز الطبقي، وهو ما يؤدي إلى المنافسات وصور التحول المتباينة (ص١٦٧-١٦٨، ١٧٢–١٧٥ وانظر أيضًا كريسنسين (Christensen) ١٩٩٦م). وعلى الرغم من أن هذه البحوث كلها تتناول جوانب معيَّنةً من بعض العروض الحديثة، فإن بوس وهوارد، فيما يبدو، قد كتبتا بحوثهما حتى تمثل الإطار غير المسرحي المناسب تمامًا لإخراج بوجدانوف، وحتى تصبحا عدسةً ينظر منها إلى إخراج بيل ألكسندر (Alexander) للمسرحية عام ١٩٩٦م، إذ إنه جمع في إخراجه بين خيوط التعامل التقليدي مع المراتبية الطبقية والاجتماعية في نسيج مسرحية ترويض امرأة شرسة وخيوط التأكيد على العلاقة المراتبية بين الجنسين في مسرحية ترويض الشرسة (انظر هولدرنس ولفري (Holderness & Loughrey) ص١٣٣) ١٩٩١م، فأخرج نسيجًا مسرحيًّا قشيبًا تبرز فيه الأفكار الدائرة حاليًّا في الثقافة النقدية (ص١١٢–١١٥، ٢٠١٠م) (أضفت التواريخ بين أقواس مربعة).
ولا أظن أن القارئ العربي في حاجة إلى أن أذكر تواريخ العروض المسرحية لترويض الشرسة وما امتاز به كل عرض من رؤية إخراجية خاصة، فللمتخصِّص أن يجد بُغيته في كتاب توري هيرينج-سميث (Haring-Smith) (١٩٨٥م)، وعنوانه من الهزلية إلى الميتادراما: تاريخ ترويض الشرسة على خشبة المسرح في الفترة ١٥٩٤–١٩٨٣م، وأمَّا في الفترة التالية، أيْ حتى عام ٢٠٠١م فتغطيها إليزابيث شافر (Schafer) في سلسلة «إخراج شيكسبير» التي تصدرها دار نشر كيمبريدج، ويكفي أن أضيف أن المسرحية تُقدَّم في كل عام ضمن مسرحيات شيكسبير في موسمي فرقة شيكسبير الملكية في مدينتي ستراتفورد ولندن، وأمَّا أهم تغيير شهدته الساحة النقدية والإخراجية فيما يتعلق بهذه المسرحية واستقبال الجمهور لها في العقدين الأخيرين (أيْ منذ أوائل التسعينيات) فهو ذو شقين؛ الشق الأول هو إظهار بعض العروض للصراع الطبقي من خلال إدماج قصة سلاي وصاحبة الحانة الشعبية و«زوجة» سلاي في العروض، والتناقض بين رؤيتهم للدنيا ورؤية الأرستوقراطيين، وخير مثال على ذلك إخراج ألكسندر المُشار إليه في ذيل المقتطف الذي أوردته من كلام هودجدون، وهو العرض الذي يركز فيه المُخرج على أدوار الطبقة الدنيا في المسرحية، إذ يبدو لنا ترانيو (خادم لوسنتو) في صورة المتسلق الاجتماعي الذي ينسب لنفسه صفات الطبقة الراقية، ويتصور لطول تنكُّره في شخصية لوسنتو أنه أصبح جديرًا بالمنافسة في حبها والزواج منها، بحيث جعل إخضاع كاترينا آخر الأمر يقبل التفسير بأنه انتصار للأغنياء، ما دام فوز لوسنتو بيد بيانكا تحقَّق بفضل فوزه في «المزاد»، إذ قهر جريميو بتفوقه في الممتلكات المادية، وتقول طومسون إن هذا التفسير يحول الصراع إلى صراع حول السلطة الاجتماعية بدلًا من كونه صراعًا بين الجنسين (ص٤٦). وتكرَّر هذا التوجه في إخراج ستيفن أنوين (Unwin) للمسرحية عام ١٩٩٨م، وأمَّا الشق الثاني فهو زيادة الاعتراف في دراسات الإخراج المسرحي بما تسهم به المرأة في التفسير وتحديد مسار العمل ومغزاه، باعتبارها ممثلة ومخرجة مسرحية. ففي عام ١٩٩٨م نُشر كتابٌ بعنوان أصوات صاخبة: نساء شيكسبير اليوم، وتناقش فيه المؤلِّفة كارول رتر (Rutter) آراء الممثلات فيما قُمن به من أدوار شيكسبير، وفيه فصل خاص بترويض الشرسة عنوانه «كيت تفسر الصمت»، ويتضمن آراء ثلاث ممثلات قُمن بدور كاترينا في الدور وفي المسرحية. وفي عام ٢٠٠١م أصدرت سارة فيرنر (Werner) كتابًا بعنوان شيكسبير وأداء أدوار الأنثى: الأيديولوجيا على خشبة المسرح. ويتضمن فصلًا خاصًّا عن هذه المسرحية.
وتقول طومسون (٢٠٠٣م) إن النقد النسوي للمسرحية كان ولا يزال مهيمنًا لكنه لم يعُد يتكلم بصوت واحد، إذ كانت معظم الدراسات حتى عام ١٩٨٤م تركز على «أسلوب التحليل النفسي الذي كان محبوبًا آنذاك، ولكن الدراسات التالية أصبحت أكثر ميلًا إلى المذهب التاريخي (بل والتاريخي الجديد) في مدخلها.» وهي تشير إلى كتاب كارين نيومان (Newman) عام ١٩٩١م الذي تخصص فيه فصلًا لترويض الشرسة، وكتاب ليندا بوس (١٩٩١م) (المُشار إليه عاليه) وكتاب ناتاشا كوردا (Korda) (١٩٩٦م) الذي تناقش فيه مكانة المرأة في المجتمع التجاري الرأسمالي ممثلًا في الأُسرة، وكتاب إميلي ديتمر (Detmer) الذي تربط فيه بين قسوة النظام الرأسمالي والعنف المنزلي في ترويض الشرسة (٢٠٠١م).

وتقول باربرا هودجدون، ذات المؤلَّفات الكثيرة، في كتاب لها صدر عام ١٩٩٨م بعنوان صنعة شيكسبير: العروض المسرحية وصور الانتحال، وفي الفصل الخاص بترويض الشرسة وعنوانه «كاترينا مغلولة» (على غرار بروميثيوس مغلولًا) إن هذه المسرحية أصبحت «ساحة لفحص العلاقات المريرة بين ضروب النقد النسوي، و«ما بعد النسوية»، والنصوص المكتوبة في بداية العصر الحديث … فهذه عقارات تستثمر فيها جهود أكبر مما ينبغي، وليست لها حدود مقننة.» (ص١). وتدلِّل هودجدون على الصراع بين «النسوية» و«ما بعد النسوية» بالمناقشات التي اشتدَّت حدَّتها في التسعينيات بين المداخل النسوية التقليدية وبين المداخل التي تتجاوزها إلى الأحوال الاجتماعية و«مواقع الذوات» فيها بصفة أعم، أي التي لا تقتصر على مواقع الذات الخاصة بالمرأة، بل تشمل الأفراد جميعًا ما دامت العروض المسرحية الحديثة تنحو نحو التاريخية الجديدة التي تعني ربط النصِّ بحقائق الواقع خارج المسرح، مع التزامها في الوقت نفسه بالمدخل التاريخي الذي يقيم مسافةً بين العرض وبين جمهور اليوم. ويمكن اعتبار كتاب هودجدون من دراسات العروض المسرحية، فهو قريب في معالجته للقضية من كتاب سارة فيرنر المُشار إليه عاليه.

وأمَّا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فسوف يشدُّ انتباهنا الاتجاه إلى التجريب انطلاقًا من فكرتين متعارضتين، وإن كان التجريب المذكور يدور حول محور مزدوج هو الجنس والتمييز بين الجنسين؛ أمَّا الفكرة الأولى فتقول إن طبيعة النصِّ الكامل (أيْ من دون حذف المدخل) تقوم على تداخل الجنسين وعدم التمييز بينهما ما دام كلٌّ منهما يشغل موقع ذات اجتماعية لا بيولوجية، ففي عصر شيكسبير كان الغلمان يقومون بأدوار الإناث، مثل صاحبة الحانة التي تسمع صوتها في بداية المدخل، ولكن المدخل ينصُّ على أن يقوم غلام اللورد بدور زوجة سلاي، واللورد يؤكد أنه سوف يجيد تقمص دور المرأة، وعندما يراه سلاي لا يشكُّ مطلقًا في أنه زوجته، ومن ثَم فإن المدخل الإطاري يقول إن التمييز بين الرجل والمرأة تمييزٌ اجتماعي، والدور الاجتماعي ليس محتومًا ويمكن أن يتغير ويتحول، ولذلك رأينا أحد المُخرجين في السنوات القريبة العهد يجعل بتروشيو يلقي بعضًا من سطور خطاب كاترينا الأخير إثباتًا لانطماس الفارق بين الصوتين الأنثوي والذكري، إلى جانب دلالته على توحدهما بطبيعة الحال.

والفكرة الثانية تقول بعكس ذلك، وتؤكد اختلاف المرأة واستقلالها عن الرجل، وتبرز أدوار النساء في المسرحية تأكيدًا لسيطرة المرأة في الواقع على الرغم من تكبيلها بأغلال الأعراف الأبوية، وإثباتًا لأن المرأة، مهما بدا من خضوعها، حاكمة ذات إرادة، حسبما تصورها الحكايات الشعبية والقصص الشعرية الغنائية.

وكان من نتائج هذا المحور المزدوج تقديم عروض كل ممثليها من النساء، أهمُّها العرض الذي قُدِّم عام ٢٠٠٣م، وتبارى النقاد في امتداح قيام النساء بأدوار الرجال فيه، خصوصًا دور بتروشيو، فالموسم المسرحي الذي قُدِّم في مسرح الجلوب كان عنوانه «موسوم تغيير النظام»، وهو ما اقتضى أن تقوم بإخراج النصِّ مُخرجة لمعت في النقد المسرحي قبل أن تتحول إلى الإخراج هي فيليدا لويد (Lloyd)، وعلى الرغم من نجاح العرض جماهيريًّا فقد أرجع بعض النقاد نجاحه إلى الإغراق في حيل الهزلية، والتفاعل المباشر مع الجمهور في الإطار الميتامسرحي. وربما كان هذا النجاح دافعًا إلى تقديم عرض لترويض الشرسة كل ممثليه من الرجال، عام ٢٠٠٦-٢٠٠٧م، من إخراج إدوارد هول (Hall)، ولكن هذا العرض لم يلقَ النجاح المتوقع، فقد كان يعتمد على الخشونة والغلظة، ولم ينجح جميع الرجال في القيام بأدوار النساء، فالتخنث ما زال يُعتبر آفةً على الرغم من التحولات الواسعة النطاق في مفهوم كلٍّ من الجنسين للجنس الذي ينتمي إليه، ويقول أحد النقاد إن التليفزيون هو المسئول، إذ يبالغ في أنوثة الأنثى بالصوت والصورة وهو ما يجعل من الصعب على مَن يريد التحول تمثيلًا من جنس إلى جنس أن يقنع السامع أو المُشاهد.
وأمَّا العنصر الأول في المحور المزدوج، وهو الجنس — إذ إنني بدأت في مناقشتي بالمحور الثاني — فيتناوله يكنين (Yachnin) في دراسة طويلة نشرها في كتاب شارك في تحريره عام ٢٠٠١م، (ص٣٨–٦٨)، ويقدِّم فيها بعض الآراء التي ذكرها غيره (قبل دراسته وبعدها) واستفدتُ من بعضها في تحليلي للنصِّ في هذه المقدمة. وينطلق يكنين في هذه الدراسة من دراسة كوردا، المُشار إليها عاليه، التي تناقش الإطار الرأسمالي الذي كانت ملامحه قد تشكلت بالفعل في إنجلترا في تلك الأيام، وأدَّى إلى بروز الدور الذي يلعبه المال في تحديد المكانة الاجتماعية، فالسمكري سلاي (في المدخل) يُشار إليه باسم «الشحاذ» (حرفيًّا beggar وإن كانت الكلمة الإنجليزية تعني الفقير المعدم)، واللورد يمارس رياضة الصيد في أملاكه، وكلمة لورد الإنجليزية تعني المالك، وهو المعنى القائم حتى اليوم في تعبير صاحب العقار (Landlord)، أو صاحبة العقار (landlady)، وحديث كاترينا حين نال منها السغب يشير إلى ذلك:
إنْ أتى السائلُ يومًا بابَنا ثُمَّ توسَّلْ
كان يَلقى في حِمانا كلَّ ما يسألْ
وإذا لَمْ يَلقَهُ لَمْ يَعْدِم الإحسانَ عند المُتفضِّلْ
(٤ / ٣ / ٤–٦)

ويستند يكنين إلى هذا المدخل الطبقي أو الاقتصادي بدايةً ثم يتوسع فيه بربطه بالمسرح التجاري، قائلًا إن تحويل الأفراد في المجتمع الرأسمالي إلى «مستهلكين» (فيما نسميه ثقافة الاستهلاك لا الإنتاج) جعل الفقراء الذين يشكلون معظم رواد المسرح يشعرون بالمرارة حين يدركون أن مكانتهم قد أصبحت تعتمد على معيار نسبي، وهو مدى اقترابهم أو ابتعادهم عن مراتب الأغنياء، وأن فقرهم يسلبهم حريتهم، والخادم الذي يطيع سيده في سبيل العيش يضحي بحريته في سبيل الانتماء إلى كيان اجتماعي يكفل له «الشرعية الاجتماعية»، وهذا، حسبما يقول يكنين، «مصدر أهمية المسرحية للثقافة البورجوازية الحديثة.» (ص٥٩)، ولكن الباحث يُدخل في تحليل ترويض الشرسة عاملًا آخر وهو الجنس، إذ يقول إنه «يتصور» أو «يحدس» أن كاترينا ترى في خضوعها للمكانة التي وفرها لها المجتمع باعتبارها امرأةً محترمةً وزوجةً مطيعةً قدْرًا من المتعة «بل المتعة الجنسية» في أعين الجمهور الإليزابيثي، ويضيف قائلًا إن تعبير كاترينا عن اشتهاء مُروِّضها، عن وعيٍ أو من دون وعي، لا يجعلها وحسب من رعايا الدولة (أي الأسرة) المطيعين، أي الذين لا يخرقون القانون، بل يجعلها تجد متعة، «مثل نظيرها سلاي في الجوانب الجنسية للملاعيب الاجتماعية» (ص٦٠-٦١)، ويقصد يكنين بهذا «ألاعيبها» مع بتروشيو.

والمشكلة في موقف يكنين أنه لا يعمل حسابًا لاحتمال وجود نغمة ساخرة أو هازلة أو مصطنعة بمعنى أنها قائمة على التظاهر والتمثيل في أيِّ موقع بالمسرحية، مع أن إخراج المسرحية يؤكد ذلك على امتداد القرن العشرين، وتحديدًا منذ عام ١٩٢٩م، العام الذي لعب فيه دجلاس فيربانكس (Fairbanks) دور بتروشيو، مع ماري بيكفورد (Pickford) في دور كاترينا، في الفيلم الذي أخرجه سام تيلور (Taylor) فالنقاد يبينون كيف أن كاترينا ألقت خِطابها الأخير وهي تغمز للجمهور غمزاتٍ تفيد أنها غير جادة، وكيف كانت أختها بيانكا تشاركها هذه «النغمة»، ولما كنت أشارك بيتر ساكيو (Saccio) (١٩٨٤م) رؤيته للمسرحية باعتبارها «هزلية لطيفة فطنة» فإنني أصرُّ على ضرورة التحقق من نغمة كل كلام في المسرحية على ضوء النطاق الدلالي للسياق، وعدم القبول المُطلق لكل ما يقوله الممثلون، ما دام التمسرح يتضمن قدْرًا من الميتامسرح، أعتقد أنني شرحته بما يكفي في القسم السابق.

وأودُّ أن أشير إلى أن الأرقام التي وضعتها أمام السطور تمثل ترقيم السطور في طبعة آردن ٢٠١٠م، تيسيرًا لمَن يريد المضاهاة بين النصَّين الإنجليزي والعربي، فالطبعات الأخرى تستند إلى ترقيم مختلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤