القصيدة التائية للإمام الغزالي١

١

الصوفي شاعر، سواء أنظم القول أم نثر؛ فأداة الإدراك عنده هي نفسها أداة الإدراك عند الشاعر، والمَعين الذي يستقي منه هو نفسه المَعين الذي منه يستقي الشاعر، والوسيلة التشبيهية التي يستخدمها في أداء ما يؤديه هي نفسها وسيلة الشاعر.

فأمَّا أداة الإدراك عندهما معًا فهي الذوق، أو هي الحدس الصادق، أو الرؤية المباشرة التي تواجه الحق مواجهةً لا تدعُ بصاحبها حاجةً إلى إقامة البرهان، وأما المَعين الذي يستقيان منه معًا فهو الذات من باطن، وعندئذٍ لا يكون الناظر إلى خارج ظاهر إلا بمقدار ما يُعين صاحبه على بلوغ صميم ذاته. وأما الوسيلة التشبيهية التي يستخدمها الصوفي والشاعر معًا فهي الألفاظ التي تُوحي ولا تحدد، وتحرِّك ولا تقطع، ثم هي الصور التي ينحتها صاحبُها نحتًا ليمثل فيها الحق وكأنما هو من قبيل الواقع المشهود، فلا عجب أن نرى الصوفي غير مقتصر في تعبيره الوجداني على المضمون الشعري وحده، بل نراه أحيانًا يصوغ ذلك المضمون صياغةَ الشاعر في وزن وقافية.

ومن هذا القبيل قصيدتان تُنسبان إلى الإمام الغزالي، إحداهما هائية ومطلعها:

ما بال نفسي تطيل شكواها
إلى الورى وهي ترتجي الله

وعدد أبياتها أربعة وستون بيتًا، والأخرى تائية هي التي أتناولها الآن بالعرض والتحليل، ومطلعها:

بنور تجلَّى وجه قدسك دهشتي
وفيك على أن لا خفًا بك حيرتي

وعددُ أبياتها ستة وستون وثلاثمائة بيت. وقد تكون نسبة القصيدتين — أو إحداهما — إلى الإمام الغزالي موضع شك، برغم الخاتمة التي علَّق بها الناشر على القصيدتين، وهو محيي الدين صبري الكردي؛ إذ يقول في تلك الخاتمة: «طبعنا هاتين القصيدتين (التائية والهائية) على نسخة مخطوطة صحيحة مؤرخة بتاريخ خامس عشر ربيع الآخر سنة ٨٨٢ هجرية …» أقول إن نسبة القصيدتين — أو إحداهما — إلى الإمام الغزالي قد تكون موضع شك، لكن هذا يكون أدعى إلى تناولهما بالدرس منه إلى إهمالهما كأن لم يكونَا.

٢

جاء في «المنقذ من الضلال» أن الغزالي حين أراد لنفسه علمًا يقينيًّا «ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب» كعلمه — مثلًا — بأن العشرة أكثر من الثلاثة، «فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشكَّ بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك فيما علمته فلا.» أقول إن الغزالي حين أراد لنفسه علمًا بهذه الدرجة من اليقين، راح يتعقب علومه — كما فعل ديكارت من بعده بخمسة قرون ونصف قرن — فإذا هي إما قائمة على الحس أو قائمة على الضرورة العقلية. وكان الإمام قبل ذاك — وهو لم يزل في أول عهد الصبا — قد تحرر من رابطة التقليد الذي كثيرًا ما يكون هو وحده السندَ الذي يستند إليه أصحابُ العقائد.

فهو الآن يسأل نفسه: أتكون ثقتي بالمحسوسات وبالضروريات العقلية من جنس ثقتي قبل عهد الصبا بما كنت لقنته تلقينًا فقبلته عن تقليد؟ أم أن ركوني إلى العلوم القائمة على الحس، والعلوم القائمة على الضرورة العقلية، مؤتمن، لا غدرَ فيه؟ يقول الإمام: «فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمَّل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكِّك نفسي فيها؟ فانتهى بي طولُ التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا، وأخذ يتسع هذا الشكُّ فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرَّة ذرَّة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا — في مقدار دينار — ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكمُ الحس بأحكامه، ويكذبه حاكمُ العقل …»

هكذا ترتفع ثقةُ الغزالي عن المحسوسات، كما كانت من قبل قد ارتفعت عن التقليد، أفتكون الضروريات العقلية وحدها ملاذنا الأمين، وما هذه الضروريات إلا الأوليات التي بغيرها لا يستقيم تفكيرٌ؛ «كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة.» وكقولنا «النفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثًا قديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا مُحالًا؟»

«فقالت المحسوسات — هكذا يروي الغزالي — بمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذَّبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تجلَّى كذَّب العقل في حكمه، كما تجلَّى حاكم العقل فكذب الحسَّ في حكمه …؟»

جاء هذا في «المنقذ من الضلال»، فاسمع هذا الحوار في القصيدة التائية بين الحس والعقل:

فيا أقرب الأشياء من كل نظرة
لأبعدُ شيء أنت عن كل رؤية
ظهرتَ، فلما أن بَهَرت تجليًّا
بَطَنْتَ بطونًا كاد يقضي بردَّتي
فأوقعتَ بين العقل والحس عندما
خفيت خلافًا لا يزول بصُلحة
إذا ما ادَّعى عقلٌ وجودَك منكِرًا
على الحس ما ينفيه قال له اثبِتِ
وذلك أن الحسَّ ينفيكَ صورةً
يراها ويرضى العقل فيك بحُجةِ
فمن ها هنا منشا الخلاف ويصعب الـ
ـوفاق بخُلفٍ في اقتضاء الجبلةِ
فإن قلت لم أبصرك في كل صورة
أراها أحالتْ ذاك عينُ بصيرتي
وإن قلتُ إني مبصرٌ لك أنكرتْ
مقالي ولم تشهد بذا ليَ مقلتي
تجليتَ مني فيَّ حتى ظهرتَ لي
خفيتَ خفاء دقَّ عن كل فكرةِ

في هذه الأبيات تفرقة واضحة بين الحس والعقل؛ فقد تُنكر العين ما يُثبته العقل بحجته، ثم قد تخفى الحقيقة عن الحس والعقل معًا، فلا هي بالصورة المنظورة، ولا هي بالفكرة المعقولة، ومع ذلك تراها متجلية، حتى إذا ما أراد مدركُها أن يُمسكَها بقيد العقل المنطقي، قَيْدِ المقدمات والنتائج، خَفِيَت خفاءً وبطنت بطونًا يوشك أن يودي بصاحبه إلى التشكك فيما كان قد رآه بعين البصيرة في جلاء باهر، وعندئذٍ تأخذ العقلَ حيرةٌ فلا يدري أهو إزاء حقيقة ماثلة أم أن الأمر كلَّه وهمٌ وخداع؟

تشتت عقلي فيك بعد تجمُّع
كما اجتمعت بلواي بعد تشتُّت

وإذن فلا العقل ولا الحواس أداة لإدراك الحق إلا أن يهتديَا بنور البديهة ترسم أمامهما الطريق، وبغير هذا النور يكون الضلال:

وكم لك داعٍ منك فيك مبصِّر
لعقلك لكن لست تُصغي لدعوة
وكلُّ مريض الجسم يمكن برؤُه
ويعجز أن يشفى مريض البديهة

وإنه لمن الأمور الشائعة أن يُشبه إدراك البديهة بالنور؛ فديكارت يسميه ﺑ «الضياء الروحي» أو ﺑ «النور الفطري»، وكذلك يفعل الغزالي في هذه القصيدة، فالبديهة عنده توقد كالمصباح فتجلو عنه غشاوة الأعراض، وتُضيء له حقيقة جوهره وحقيقة الله:

جَلَتْ شبهة الأعراض عني بديهةٌ
توقد كالمصباح في جوهريتي
رأيتُ بها النور الإلهي لائحًا
وراء ستور للأمور دقيقة
فحققتُ ما قد كنت فيه مشكِّكًا
وعاينت ما قد كان في سرِّ خفية
وأدركت ما المقصود من بدأتي وما الـ
ـمراد بإحيائي وموتي ورجعتي
ولم يبقَ عندي ريبةٌ في الذي استرا
بَ منه أناسٌ في أمور كثيرة
فألقت عصاها النفسُ مني وأيقنت
بأن سَفَرَتْ عن وجه نجمي سَفْرَتي

٣

تلك إذن هي أداة الإدراك الصحيح، فأين نوجه تلك الأداة؟ وماذا ندركه بها؟ الجواب: نوجهها إلى طوية النفس ودخيلة الذات، فترى الحقيقة مرموزًا إليها بأسطر لا تلبث أن يجتمع معناها في جملة تضم أجزاءها في وحدة واحدة، وعندئذٍ يتبين للرائي أن الله قد أودعه صحيفة سرِّه، وأن وجوده ليتحقق إذا ما كشف في نفسه — لنفسه — عن ذلك السرِّ المكنون، وأروع ما ينطوي عليه ذلك السر هو أن موطن الإنسان الحقيقي ليس ها هنا في عالم الحس، برغم أنه قد وُلد فيه ونشأ، وأن حقيقة الإنسان لتظل مبهمة عليه إلا أن يخصَّه الله بحكمة، وهو لا يخصُّ بالحكمة إلا من شمله برحمته، فإذا ما وهب الإنسان حكمة تبينت له معاني الرموز الملغزة التي يراها في نفسه، فإذا تلك الرموز حقائق جلية واضحة تُنير الطريق كأنما هي البرق يلمع في الفلاة فيهتدي به الركب خلال أستار الظلمة المطبقة على الآفاق:

وأقريتني من رمز طُرسي أسطرًا
فتمَّت بها تفصيلَ عقدك جملتي
وأقررتني مني عليَّ بأنني
صحيفة سرٍّ طيُّها فيه نشرتي
وأفشيتَ بي سرِّي إليَّ فأصبحت
وقد أعربتْ — إذ أفصحتْ عنه — عجمتي
وأفهمتني مني بأن ليس موطني
مكانًا به في عالم الحس نشأتي
فأبهمتَ ما أفهمتَ إذ ليس مدركٌ
لذلك إلا من خصصت بحكمة
ومن ذا الذي خصصتَ منك بحكمة
ولم تكُ قد عمَمْتَ منك برحمة؟
فكم أظهرتْ تلك الإشارات خافيًا
وإن عزبت عن فهْم قوم ودقَّت؟
وما لاح ذاك البرق إلا ليهتدي
به الركب لكن ظلمة الجهل أعمت

نعم إن ظلمة الجهل لتُعمي أصحابها حتى ليحسبوا أن لا عالم إلا ما تُدركه الحواس، فما لم يكن الكون كائنًا تحت أنوفهم، أنكروه، وأولى بهم أن يعلموا أن هذه الدار التي يقع عليها البصرُ، هي دار غربة، وحريٌّ بالغريب في غربته أن يستبدَّ به القلق حتى يرتدَّ إلى موطنه الأصيل، وهو عالم الروح والفكر:

ويستبعد الجهالُ كونًا بموطن
إذا كان لا في جنب منبت شعبة
ولو علموا ما عالم العقل منهم
وأنهمُ بالحس في دار غربة

تلك هي حال من لم تنكشف له من النفس أسرارها، وأما من أراد له الله يقظة روحية، فهو على وعي متصل بالسر المكنون، لا فرق في ذلك عنده بين صحو ونوم؛ لأنه في كلتا الحالين حيٌّ يقظان، فلا رقدة النوم تغشى على روحه بالوهن والفتور، ولا يقظة الصحو تكتنفها غفلة عن الحق:

ولكنني مني وفيَّ نواعش
تُحرِّكني في كل سرٍّ وجهرة
فلا رقدة تغدو عليَّ بفترة
ولا يقظة تغدو عليَّ بغفلة

وإن في هذه الوحدة الواعية التي تصل حقيقة ذاته في حياة واحدة لا تحلُّلَ فيها ولا ازدواج، لأقوى تعبير عن جوهره، وإنها لتكفيه مئونة التعبير عن جوهره ذاك باللفظ؛ لأن اللفظ على كل حال كليلٌ عاجز:

يكلُّ لساني عن صفاتي وإنما
يعبر عني أنني ذات وحدة

٤

يقول الإمام الغزالي في «المنقذ من الضلال» عن الطريقة التي اختارها تصوفه، هذه العبارة: «وعلى الجملة، ينتهي الأمر إلى قرب، يكاد يتخيل منه طائفةٌ الحلول، وطائفةٌ الاتحاد، وطائفةٌ الوصول، وكل ذلك خطأ …»

في هذه العبارة القصيرة ذكرٌ لأربعة ألوان من التصوف، يرفض الغزالي ثلاثة منها، ويختار لنفسه الرابع: فهو يرفض الحلول الذي يريد به المتصوفة أن الله يحلُّ في العارفين حلولًا معناه أن يكون وجود العارف بالله هو نفسه وجود الله، وكما رفض الغزالي الحلول كذلك رفض الاتحاد الذي هو في عُرف الصوفية كون كلِّ شيء موجودًا بالله معدومًا بنفسه، فليس لأي شيء وجودٌ خاص يتحد به مع الله، كلَّا فذلك محال، بل إن الشيء من الأشياء أو الحي من الأحياء لا يعد وجودًا من حيث هو فرد قائم بذاته، بل هو موجود من حيث إن الله موجود (وكان الحلاج من القائلين بالحلول، وأبو يزيد البسطامي من القائلين بالاتحاد).

وأمَّا الوصول الذي يرفضه الغزالي أيضًا كما رفض الحلول والاتحاد، فيحتاج إلى قليل من الشرح والتعليق، ذلك لأنه يُفهَم بأحد معنيين: فإما أن يُفهم على أنه وصول لله بمعرفته، وإما أن يُفهَم بمعنى الوصل الذي يصل الذوات في ذات واحدة. يقول ابن عطاء الله السكندري في «الحكم»: «وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به، وإلا فجلَّ ربنا أن يتصل به شيءٌ أو يتصل هو بشيء.» فيقول «الرُّندي» في شرح هذه العبارة ما يأتي: «الوصول إلى الله الذي يشير إليه أهلُ هذه الطريقة هو الوصول إلى العلم الحقيقي بالله تعالى، وهذا هو غاية السالكين، ومنتهى سير السائرين. وأما الوصول المفهوم بين الذوات فهو متعالٍ عنه. يقول الجنيد: «متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير؟ هيهات! هذا ظنٌّ عجيب إلا بما لطف اللطيف من حيث لا درك ولا وهْم ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان»» (شرح ابن عباد الرُّندي على الحكم العطائية، ج٢، ص٤٨).

وأعتقد أن الغزالي حين يرفض طريقة الوصول، فإنما يرفضها حين يفهم الوصول بمعنى الوصول بين الذوات، وأما الوصول بمعنى معرفة الله، فهذا بعينه ما يقبله الغزالي في تصوفه، ويسميه «القرب»؛ فالقرب هو معرفة الله في الدنيا وشهوده في الآخرة. يقول القشيري: «أول رتبة في القرب القرب من طاعته … وقرب الحق سبحانه، ما يخصُّه اليوم به من العرفان، وفي الآخرة ما يكرمه به من الشهود والعيان» (الرسالة القشيرية، ص٤٢). ولعل الإمام الغزالي قد اختار كلمة «القرب» لحالة العرفان التي يجعلها طابعًا لتصوفه ولم يختر كلمة «الوصول» مع أن معرفة الله أحد معنيَيها، لوجود مشتقات الكلمة الأولى في القرآن الكريم: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.

ونعود إلى القصيدة التي نحن الآن بصددها، لنلتمس فيها الأجزاء التي تصف حالةَ القرب، أو حالة معرفة الله، التي هي حالة المتصوف كما يراها وكما يمارسها إمامُنا الغزالي، فنجد القصيدة مليئة بالشواهد.

كقوله:

فيا أقرب الأشياء من كل نظرة
لأبعدُ شيء أنت عن كل رؤية

وقوله:

توحَّشتُ من أبناء نوعي ولم يكن
لشيء سوى أُنسي بقربك وحشتي

وقوله:

وكان بودي لو قبلت تقرُّبي
إليك ولكن لستُ أهلًا لقربة

وقوله:

بعيدة أطلال الديار قريبة
وأعجب شيء بُعدُ دار قريبة

هذه أبيات وردت فيها كلمة «القرب» بلفظها، وفيما يلي أمثلة قليلة من شواهد كثيرة جدًّا وردت في القصيدة، تُشير إلى الحالة العرفانية التي قصد إليها الغزالي بتصوفه.

كقوله:

وناجيتَني في السرِّ مني فأصبحت
وقد طُويت عما سواك طَوِيَّتي

وقوله:

وما وصلتْ نفسي إلى عالم الصفا
بما دُون تحصيل العلوم الجليلة
وتمييزها عن نوعها بمعارف
يروِّجها في عالم البشرية

وقوله:

يموت الفتى بالجهل من قبل موته
ويحيا بروح العلم من بعد ميتة
فما مات حيُّ العلم يومًا ولم يكن
بحيٍّ ممات الجهل مقدار لحظة

وقوله:

وأحييتَ مني ما أماتتْ جهالتي
حياة مُحال أن تُحال بموتتي
ومن حيِيَتْ من موتة الجهل نفسُه
بعلم نجت من قطع كل منية
وكم موجةٍ من بحر علم أثرتَها
لديَّ بريحٍ منك أجرتْ سفينتي
فمرَّت تشقُّ الكون حين مهبِّها
ملجِّجة حتى أفادت معيتي
ومن لم يُحِط علمًا بمعنًى وصورة
له فبصير العين أعمى البصيرة
فزرع ولكن لم يُفد حصد حبِّه
ومخض ولكن لم يُفِد مخض زبدة

٥

لكنَّ في القصيدة أبياتًا قد تشكك في صحة نسبتها إلى الغزالي؛ لدلالتها الظاهرة على تصوف الحلول أو تصوف الاتحاد أو تصوف الوصول، وكلُّها ضروبٌ من التصوف رفضها الغزالي — كما أسلفنا — ومن أمثلة ذلك قوله:

فما فيَّ فضل عنك يخطر فيه لي
سواك فوقتي فيك غير موقَّت

وقوله:

وهل أنا إلا أنت ذاتًا ووحدة
وهل أنت إلا نفس عين هويتي

وقوله:

إذا غبت عني كنتُ عندك حاضرًا
ومن عجبٍ أنْ غيبتي فيك حضرتي
فيا باطنًا ألقاه في كل ظاهر
ويا أولًا ما زال آخر فكرتي
… … … … …
… … … … …
ملأتَ جهاتي الست منك فأنت لي
محيط وأيضًا أنت مركز نقطتي
فصرتُ إذا وجهتُ وجهي مصلِّيًا
فرايض أوقاتي فنفسي كعبتي
فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي
ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي
وحولي طوافي واجبٌ وخلاله
استلامي لركني من مناسك حجتي
وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي
لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي
ولو همَّ مني خاطر بالتفاتة
لما كان لي إلا إليَّ تلفُّتي
ولو لم أؤد الفرض مني إليَّ لم
يصحَّ بوجه لي ولم تبرَ ذمتي
وكنتُ على أني أوحِّد ظاهرًا
ففي باطني قد دِنْتُ بالثنوية

تلك كلُّها شواهد دالة على حلول أو على اتحاد، مما قد يشكك في نسبتها إلى الغزالي، لكننا نستطيع أن نفهمها بالمعنى الذي يصل العارف بالمعروف فتزول دواعي الشك. وها هو ذا الغزالي يصف طريقة التصوف إجمالًا — في المنقذ من الضلال — فيذكر أن «أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله …» فإذا كان أول التصوف استغراق القلب بذكر الله، وآخره الفناء في الله، ثم إذا كان ذلك لا يناقض عنده حالة القرب التي يجعلها طابعًا لتصوفه، كانت الشواهد التي أسلفناها لا تقتضي بالضرورة ألَّا يكون الغزالي هو ناظم القصيدة.

٦

قلت في أول كلمتي إن الصوفي شاعر بأداته الإدراكية — وهي الذوق — أولًا، وبمعينه الذي يستمد منه — وهو النفس — ثانيًا، وبصوره التشبيهية التي تُجسِّد المعاني المجردة ثالثًا. وقد تناولت الجانبين الأولين في القصيدة التائية، وبقيَ أن أسوق مثلًا أو مثلين من القصيدة على قوة التصوير الشعري:

انظر إلى الشاعر وقد قسم نفسه نفسين: نفسًا عليا نفيسة، ونفسًا دنيا هي محطُّ الشهوة، ويريد الشاعر أن يتودد إلى نفسه العليا فرارًا من نفسه الدنيا، فيدور بينه وبينها الحوار التالي:

وقلت لها مُنِّي عليَّ بنظرةٍ
أنال بها من حسن وجهك مُنيتي
ألم تعلمي ما حلَّ بي منك من جوى
وكابدت من أشجان قلب ولوعة
فإن الجبال الشمَّ وهْي رواسخ
لو احتملت بعض الذي بي لدُكَّت
فأحزان قلبي لا تجود بسلوة
وأجفان عيني لا تسحُّ بدمعة
ولولا حنيني لم تحنَّ مطيةٌ
ولولا نواحي لم تَنُحْ وُرْق أيكة
ولولا خطابي لم يقع عينُ عابد
عليَّ لما مني الصبابة أبلت
فلا ماء إلا بعض فيض مدامعي
ولا نار إلا دون أنفاس زفرتي
فقالت: بعيني ما لقيتَ وإنه
ليؤلم قلبي أن تُشاكَ بشوكة
وإني على ما فيَّ من صَلَف البها
لراغبة في الوصل أعظم رغبة
ولكن وشاة السوء فيك كثيرة
وليست مع الواشين تمكن رؤيتي
وأنت فمغرى بالحسان وإنني
لأكره ما بي أن أرى وجه ضرتي
ومن لم يصنِّي صنتُ وجهي ببرقع
وصور فيه صورة دون صورتي
ليمتحن الخطَّاب لي إذ يرونها
أيلهون عني أم يتمون خطبتي
وما هي إلا عبدة لي، جميلة
تظن، وما أفعالها بجميلة
فما كان إلا أن رأى الناس وجهها
فهاموا بها في فجِّ وجه ووجَّة

وانظر إلى هذه الصورة الرائعة التي يصور بها الشاعر خشوعَ الكون كلِّه لعظمة الله تعالى، وفيها يقول:

تأمل صلاة الشمس عند وقوفها
لدى الظهر في وسط السماء بخشية
وإثباتها وقت الزوال بركعة
وإتمامها عند الغروب بسجدة
كذا جملة الأفلاك راكعة بما
جرت سجدةً لله في كل طرفة

وفي القصيدة نواحٍ أخرى كانت تستحق الوقوف عندها قليلًا أو كثيرًا؛ كالصراع بين النفس وشهواتها، وكالعناصر الأفلاطونية السارية فيها، وكالحديث في موسيقية الوجود، والحديث عن الفضيلة بأنها غاية الغايات، وكالحب الإلهي وكون سعادة الإنسان مرهونة به. كذلك كان مما يستحق النظر أن نقارن بين تائية الغزالي هذه وتائية ابن الفارض لكن الوقت محدود، وقدرة الباحث قصيرة المدى.

١  أُلقيت في مهرجان الغزالي بدمشق في شهر مارس من سنة ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤